كل الناس أفقه من عمر! ( من قبل 4 أعضاء ) قيّم
بسم الله الرحمن الرحيم كل الناس أفقه من عمر... نعم... قالها عمر –رضي الله عنه- ولكن في موقفٍ مختلف.. قالها حين كان يومًا على المنبر وطلب من الناس أن لا يغالوا في مهور النساء، ولما نزل قالت له امرأة من قريش: نهيتَ الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم؟ قال: نعم. فقالت: أما سمعت قول الله تعالى: ((وآتيتم إحداهن قنطارا)) ( القنطار: المال الكثير). فقال: اللهم غفرانك، كل الناس أفقه من عمر. ثم رجع فصعد المنبر، وقال: يا أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا في مهور النساء، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب فليفعل. صحيح أن هذه الحادثة تدل على أن عمر قد غاب عنه ذلك الحكم القرآني.. وما يضيره في ذلك؟ بل إن هذا أمر جِبِلّي في حياة الناس، حتى ولو كانوا من العباقرة الأفذاذ... وهب أن ذلك تكرر مرات ذوات العدد.. فماذا في الأمر؟ فلو أنّ عمر لن يُخطئ وأن عثمان لن يُخطئ أو أي واحد من الصحابة لن يُخطئ لما كان هناك من حاجة لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان حين جهّز جيش الْعُسرة " ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم " فهذا يعني أنه يمكن أن يفعل خطأً..والرسول صلى الله ليه وسلم يقول:" كل بني آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون" [ عن أنس، بلوغ المرام] لكن الذي لم يغب عن عمر منذ أن تولّى الخلافة هو تعويده للناس أن يقولوا الحق، لا يخشون في الله لومة لائم ولا حتى "درّة عمر" كما يُقال.. وما فعلته المرأة حين اعترضت عليه لخير دليل على ذلك، وأعظم وأكرم بما فعل حين صعد المنبر ثانية وتراجع عن قوله السابق.. فلله درك يا أمير المؤمنين.. وحادثة أخرى لا تقل أهميّة عن الأولى، فقد جاءت إلى عمر بُرود من اليمن، ففرقها على النّاس بُرْدًا بُردًا..ثم صعد المنبر يخطب وعليه حُلّة نها فقال: اسمعوا رحمكم الله. فقام إليه سلمان، فقال: والله لا نسمع، والله لا نسمع. فقال: ولِمَ يا عبد الله؟ فقال: يا عمر!تفضّلت علينا بالدّنيا، فرّقتَ علينا بُرْدًا بُرْدًا، وخرجتَ تخطب في حُلّة منها؟ فقال: أينَ عبد الله بنُ عمر؟ فقال: ها أنذا يا أمير المؤمنين! قال: لِمَن أحد هذين البُردين اللذين علي؟ قال: لي. فقال لسلمان: عجلتَ عليّ يا أبا عبد الله، إني كنتُ غسلتُ ثوبي الْخَلِقَ، فاسْتعرْتُ ثوب عبد الله. قال: أما الآن فقل: نسمع ونُطع [ الطبري 5:24]. ولا يقدح في كون عمر خليفة المسلمين وأمير المؤمنين أن يُراجَع في مرة أو مرتين أو أكثر أو أن يغيب عنه أمر... وإلا لما كانت الشورى بين المؤمنين .. فكيف يُلجأ إلى الشورى إن كان كل ما يراه الأمير مبتوتًا في صحته، ولا يغيب عنه شيء... وهذا ما جعل عمر مطمئنًا في ولايته.. فهب أنه قد غاب عنه أمر أو أمور.. فلا ضير ما دام إلى جواره أعوانه ووزراؤه يذكرونه وينبهونه ويسألهم إن اقتضى الأمر سؤالهم.. وكثيرة تلك الحالات التي كان يسأل فيها إخوانه ولا سيّما حبيبه وأخاه وأبا زوجته أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ومع الاعتراف والإشادة بصفاته الفردية فإن عدله وزهده وفتوحاته وكل حسن جميل لديه يوم خلافته كان بهم... وهذا المعنى يتضح بدقة من رد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لمن سأله في عهد خلافته عن كون الأمور في عهده ليست كما كانت في عهد أبي بكر وعمر فقال: كانوا أمراء على مثلي وأنا أمير على أمثالكم!!. من جهة أخرى ليس من الضروري التذكير بأن قولة عمر : "كل الناس أفقه من عمر" هي عبارة تُحْسب له لا عليه.. فهي تدل على تواضعه واعترافه بفضل الآخرين.. وتشجيع الناس على تحري أقواله ومراجعته فيما يرون أنها غير صحيحة أو مخالفة للأولى... وهو من هو في موقعه ذاك. ويترتب على خير من ولي أمور الناس بعد عصر الخلافة الراشدة أن يبذل ويجهد كثيرًا حتى يبلغ أقل من مدّه أو نصف مده..وما هو ببالغ.. وأمر آخر، فقد ورد أن عمر كرر العبارة نفسها حين التقى فتًى في الطريق يحمل ماءً فاستسقاه عمر؛ فأضاف الفتى إلى الماء عسلاً، وقدمه لعمر، فقال عمر: لا أشربه وحين سأله الفتى عن السبب قال له: أنسيت قول الله تعالى " أَذهبتم طيباتكم في حياتكم الدّنيا". فقال لفتى: هذه لست لك ولا لأحد من المسلمين يا أمير المؤمنين.. هي في حق الكفار.. فقال عمر " كل الناس أفقه من عمر. ومع أن روايات عديدة تروي احتجاج عمر بالآية الكريمة، إلا أنه لا توجد أي واحدة منها تحدّث أو يُفهم منها أن عمر كان يجهل مدلول الآية؛ وإنما كان يُفهم منها حرص عمر على التقشف وعدم التلذذ بالطيبات.. فقد ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: رأى عمر بن الخطاب لحمًا معلّقاً في يدي فقال: ما هذا يا جابر؟ قال: اشتهيت لحمًا فاشتريتُه. فقال عمر: أَوَ كلما اشتهيت اشتريت يا جابر؟ ما تخاف الآية: ( أَذهبتم طيباتكم في حياتكم الدّنيا) ؟. [ الرياض النّضرة2/47]. تُرى لو فهم جابر أن عمر لا يعرف مدلول الآية ولا يعلم أنها تعني الكفار.. أما كان يرد عليه، ويجلي له الحق الغائب.. والقصتان التاليتان تبينان بوضوح صحة ما ذكرناه .. الأولى:قدم أبو موسى في وفد البصرة على عمر قال: فقالوا: كنّا ندخل كلَّ يوم وله خُبَزٌ ثلاث، فربما وافقناها مأدومة بزيت، وربما وافقناها بسمن، وربّما وافقناها بالّلبن، وربما وافقناها بالقدائد (أي اللحموم المجففة) اليابسة قد دُقت ثم أُغْلي بها، وربما وافقنا اللحم الغريض (الطري) وهو قليل. فقال لنا يومًا: أيها القوم، إني والله لقد أرى تعذيركم وكراهيتكم طعامي، وإني والله لوشئت لكنت أطيبكم طعامًا، وأرفغكم (أرفهكم) عيشًا، أما والله لو شئت لدعوت بصلاء (شواء) وصِناب (خردل) وصلائق (خبز رقاق)، وكراكر وأسنمة وأفلاذ (الْكِرْكِرة: زَور البعير، والسنام : أعلاه، أفلاذ: قطع من الكبد، وكل ذلك من أطايب ما يؤكل من الإبل)، ولكني سمعتُ اللهَ جلّ ثناؤه عيّر قومًا بأمر فعلوه فقال: ( أذهبْتم طيّباتكم في حياتكم الدّنيا واسْتمتعتم بها). [ ابن سعد 1/200، وسراج الملوك 109 و الفائق 2/18] الثانية:كان حفص بن أبي العاص يحضر طعام عمر فكان لا يأكل. فقال له عمر: ما يمنعك من طعامنا؟ قال: إنّ طعامك جَشبٌ غليظ، وإني راجع إلى طعامٍ ليّن قد صُنع لي فأصيب منه. قال: أتراني أعجز أن آمر بصغار المِعزى‘ فيُلقى عنها شعرها، وآمر بلُباب البُر، ثم آمر به فيُخبز خُبزًا رقاقًا، وآمر بصاع من زبيب فيُقْذَف في سُعْن ( قُربة تُقطع من نصفها) حتى إذا صار مثل عين الحجل صبّ عليه الماء، فيصبح كأنّه دم غزال، فآكل هذا وأشرب هذا؟ فقال: إني لأراك عالمًا بطيب العيش. فقال: والّذي نفسي بيده لولا أن تنتقص حسناتي لشاركتكم في لين عيشكم، لكنني أسْتبقي طيّباتي لأني سمعتُ اللهَ تعالى يقول عن أقوام: (أذهبْتم طيّباتكم في حياتكم الدّنيا واسْتمتعتم بها) [ ابن سعد 1/201]. فمن الواضح أنه غير مطلوب من المرء إلا أن يقرأ ما سبق ليعلم أن عمر كان يعلم أن الآية لا تشمل المؤمنين، وإنما هي للكفار، انظر –مثلاً- إلى عبارته" والّذي نفسي بيده لولا أن تنتقص حسناتي لشاركتكم في لين عيشكم" فالمسألة هي خشية انتقاص الحسنات لا الخوف من أنه مشمول بالآية فيحرم بتاتًا من طيبات الآخرة..وأن ما كان منه لا يعدو كونه ضربًا من ضروب الزهد والتقشف والاقتداء بحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم. ويتضح ذلك جليًا حين نجد أن عمر كان يُحدث من يخاطبهم بتلك الآية بما رأى بأم عينه وشاهد بنفسه حين دخل على حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم..يقول: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير قال : فجلست ، فإذا عليه إزاره ، وليس عليه غيره ، وإذا الحصير قد أثر في جنبه ، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع ، وقرظ في ناحية في الغرفة ، وإذا إهاب معلق ، فابتدرت عيناي ، فقال : ما يبكيك يا ابن الخطاب ؟ فقال : يا نبي الله وما لي لا أبكي ! وهذا الحصير قد أثر في جنبك وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى ، وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار ، وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزانتك . قال : يا ابن الخطاب أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟. [صحيح الترغيب والترهيب]. |