ألواح ساكرومونتِه كن أول من يقيّم
حضرة السيّدة ضياء المحترمة:.
لك أولاً تحية كبيرة جداً لسببين:
أولهما أني البارحة بدأت بالاطلاع، ولو سريعاً على تحفتك الرائعة: "البنت التي تبلبلت"، هذا نتاج أدبي فلسفي رائع للـ autobiographie وما أثارني فيه تحديداً هو أنني ما برحت منذ عام 1985 وحتى اللحظة الحاضرة أدوّن جميع خواطري وأفكاري وانطباعاتي في دفاتر مذكرات هي في الحقيقة عصارة روحي وعمري.. كم هو شائق هذا الصنف الأدبي الممتع. فيه تزدحم مشاعر الألم، الفرح، الشوق، الحب، الثورة، الغضب، الطموح.. الإنسان عندما يناقش نفسه على أديم صفحاته يدخل في عالم سحري تذوب فيه المجاملة، ينعدم الرياء، وتتألٌّق الحقيقة. فيه الضعف ضعف والقوة قوة.. لا أحد آخر يقرأ فنحاول التأثير فيه بأساليب التملّق والنفاق! ألاحظتِ كيف أن ثلاثية: (الرّوح – القلم – الورق) تخلق صيغة إنسانية جديدة، تجعل الورق ينطق والعين تسمع؟
بوركتِ، أعدتِنا إلى لحظات تفتّق الروح وتساميها إلى ألق الحياة وفورة العاطفة. ليتني أقوى يوماً على نشر مذكراتي.. لكن هل لي جرأتك؟؟ واهمٌ من يظن!
ثانيهما: يمتعني كثيراً جداً أن أقرأ نقاشاً في الصميم على بحثي الأقرب إلى نفسي: "إنجيل بارنبا"، فهلمّ أجيبك على أسئلتك الهامّة والذكية.
الألواح التي ذكرتيها في قرطبة والمكتوبة بالقشتالية ليست على الإطلاق تضم إنجيل بارنبا، بل تعرف بألواح ساكرومونتِه Los Platos de Sacromonte والرأي السائد أنها تضم نصوصاً ابتدعها بعض الأندلسيين المواركة Moriscos في محاكاة نصوص الأناجيل القديمة، بحيث يبدو فيها ما يدلّ على ذكر النبي القادم (سيدنا محمد)، وذلك من باب الانتقام من ملوك قشتالة وآراغون الذين هزموا مسلمي إسبانيا وأخرجوهم من الأندلس بسقوط غرناطة عام 1492 م بقيادة فرديناندو وإيزابيلا. وهذا الأمر أشرت إليه في مقدمتي، وقلت إن هؤلاء المواركة الباقين في إسبانيا بعد سقوط الأندلس باتوا يُعرفون باسم "موديخارِس" Mudéjares (أي المدجّنين).
هذه القضية (وإن كانت لا علاقة لها البتّة بإنجيل بارنبا) تتشابه تماماً مع قضيّة الرسائل المنحولة الملفقة على ماري ستيوارت ملكة سكوتلندا بغية تجريمها وحرمانها كنسياً.
كذلك أشرت في مقدمتي إلى أن كنيسة ميلانو رغبت للإفلات من هيمنة الفاتيكان إلى ترتيب جملة من الوثائق تثبت أن بارنبا الرسول هو الذي أسّسها مباشرة. وبذلك حصلت على استقلالها الناجز (حتى اليوم) من الكنيسة الرسولية الفاتيكانية، مثلها مثل كنيسة قبرص، التي ذكرت كيف جرى تأسيسها بناء على حلم آنثيميوس، وتم بناء دير كبير في سالاميس قرب فاماغوستا، في القسم التركي الشمالي من جزيرة قبرص. ولقد قمت في عام 2003 بزيارة المنطقة، وركبتُ باخرة كبيرة تسمّى بكل فخر: Salamis Glory.
على ذلك أقول: سيرة حياة بارنبا برمّتها وتراثه المكتوب، وإنجيله، وتمسّكه الدائم بإنجيل متى (الآرامي القديم) تم التعتيم عليها، وأبقي دوره بمثابة واحد من الرّسل الـ 72، لا التلاميذ الـ 12، وعُدّ بمثابة المعاون لبولس، رغم أنه سبقه بدخول عقيدة المسيح (النصرانيّة) وكان إلى جانب متّى الرّسول الشاهدين الأولين على دين النصرانية الأول הנוצרית فيما كان بولس عرّاب الدين (المسيحي) المُهليَن الحلولي المشيحاني، بصيغته التثليثية الهلّينيّة التجريديّة، بدلاً من تشخيصيّة الإبيونيّة وتوحيدها.
لا ريب أن المسألة برمّتها شائكة للغاية وتختلط فيها المفاهيم والمعايير والتراتبيّة الكرونولوجيّة. لقد كان البحث فيها تعذيباً روحيّاً كبيراً، أي بسبب المشقّة، وضرورة العودة إلى الأصول القديمة بجمهرة مرعبة من اللغات. أما الحصيلة، فحبّ متألق للمسيح، النبي الإنسان، الموحّد، المتفاني في إشراق الرّوح والنّفس.. بما يجد له المرء أصداء حقيقيّة في فلسفة الزّوهار (البهاء) وشفافيّة الإسينيين فلاسفة قمران ونسّاكه (لاحظي في إنجيل بارنبا التبجيل المطلق للفريسيين الأحقاء، ومنهم الأسينيون لا ريب لدي)
الحلقة التالية التي لم أكتبها بعد هي علاقة البنوّة التي ربطت بين إبيونيي أورشليم والأسينيين، ثم كيف هاجر الإبيونيم إلى شرق الأردن قبيل سقوط القدس الثاني (على يد تيطوس الرّوماني) عام 70 م. ومن أهم مفاتيح هذا المبحث الكشف عن حقيقة هويّة نيقوديموس، وما هو في رأيي إلا "نقديمون بن جوريون"، الشخصيّة الصوفيّة الإصلاحيّة، الذي اشتهر بأعمال برّه، وأفلح كثيراً في ترويض نقمة الرّومان على المدينة المقدّسة. دعكِ من اسمه اليوناني "نيقوديموس" فهذا ليس أكثر من ترجمة حسب الموضة السائدة في المشرق آنذاك، وكانت اليونانيّة آنذاك بمثابة الإنكليزية اليوم.
ثم علي المتابعة بذكر عودة بقايا الإسينيين إلى الدخول في الإبيونيّة، وهجرتهم إلى الجزيرة لاحقاً.
أما حول مخطوطة سيدني ونقص 80 فصلاً منها، فقد ذكرت ذلك في مقدمتي أعلاه، وقلت إن بها من الأدلّة العينيّة النصّيّة ما ينفي كونها مترجمة عن نسخة فيينا الإيطالية نفياً تاماً وقطعياً ناجزاً. ومن أهمّ هذه الفوارق النصيّة ذكر أن بطرس التلميذ كان على علم بعملية "تحوّل المسيح" وتقمّصه لشخص يهوداه (يهوذا) الإسخريوطي، عند قدوم الجنود إلى دار نيقوديموس في جنينة جَتسيماني، وعند الصلب على جبل الجلجلة. لهذا الأمر تداعيات كبيرة جداً، وخاصة عندما نسقطه على نص "إنجيل يهوداه" الذي نشرته مؤخراً في العام الماضي الجمعية الجغرافيّة الوطنيّة The National Geographic Society ولم ينقله إلى العربية أحد إلى اليوم (كنت أنوي ذلك، والآن لست أدري).
ما أكثر تداعيات هذا البحث وما أعقدها، وكم يلزم لها من علوم لهوتيّة ولغات ومعرفة بالنقد النّصّي والفيلولوجيا. ورغم أنني أحطت بذلك بشكل عميق للغاية فإنني جنحت إلى الإحجام عن المتابعة (رغم أنني أنجزت ترجمة الإنجيل برمّته، مع تعليقاته الكاملة ومادته النقدية).. قائلاً في نفسي: وفيم هذا العناء كله، إن لم أجد من يتفاعل معه ويناقشه؟ (وهذا كله أقوله ولم أقدّم لكم بعد النص كاملاً، والمقدمة التي نشرتها أعلاه لا تعدو طرقاً خفيفاً على باب هذا الموضوع الخلافي الهائل).
فكانت أن أطللتِ سيدتي بلمستك الطرابلسيّة السحرية، فأيقظتِ في النفس أملاً كاد يخبو وطيفاً بدأ يتلاشى.
لك مزيد الشكر والتقدير يا أستاذتنا الكريمة.
أحمد
|