سراب 2     ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
رأي الوراق :     
ومرت الأيام ونحن نراه يرسم، مر الزمن بسرعة يحاول اختطاف شبابه وكان هو قد شرب من إكسير الحياة... كان كلما غربت الشمس ذكر أخاه الذي مات بين يديه، ذكر فتوته ونضرته فبكى ذكراه وتنهد، وكلما بدت له السهى ارتسمت في مخيلته أمه التي تركها، فتفيض عيناه أسى، ويبكي نفسه التي حرمت حنانها وعطفها ، ثم يعود ليرسم، فلم يترك سهلا من سهول اللغة إلا وطئه ولم يترك بحرا إلا خاضه ولا شكلا إلا صوره بقلمه ذاك، ولم يكن أبدا ليحصي كم أفنت يداه من أقلام فكل ما كان يعرفه ، أن لديه نجاحا ليرسمه وذكرا ليخلده ووطنا ليعود إليه ، ولوحة استعصى عليه رسمها.... ولعله عاد إلى بيته وأصحابه، وإلى مدينته التي هجرها، ومع ذلك ، لم أرد له أن يرحل ! لقد كنت واثقة بانتمائه إلى النهر الذي قضى وقتا طويلا على ضفته ، وإلى الأحراش التي طاف بها كثيرا والتي لم أفهم علاقة لها به، لقد حسبته مسكينا بشخصية فريدة ، يتيما معدوما ليس له رزق إلا في لوحاته التي رسمها وكتاباته التي لم أقرأها ، لكنه في الحقيقة كان غير ذلك !!؟ ولا أزال أذكر يوم التقى بصياد عجوز، يوم احتكت روحاهما لأول مرة، ويوم كتب للقائهما الخلود على لوحة !! كان هو رساما ، يرسم الحروف والأرواح، ويصور الأجساد والأشباح، وكان الآخر شيخا غزى رأسه الشيب وجرّعته الحياة كل الكؤوس والأقداح، ولعله أراد أن يرسم له جسدا غير هذا الذي بات يرهقه، أو أن يكتب له قصة أجمل من التي يعيشها، إلا أنه يومها أهداه كتابا وانصرف، كل ما قاله له أنه واثق من أنه سيعجبه ثم اختفى، وذهب إلى المجهول مثلما أتى منه، ولعل فتانا استغرب هذا ، ولربما تعجب من أن يلتقي صيادان على ضفة واحدة، وأن يحمل أحدهما كتابا والآخر قلما ، إلا أنه لم يتطلع إلى ما في الكتاب كما فعلت...لقد كان ماهرا في لعبة الكلمات !! كانت كل الكتب في نظره رواية، وكانت الفصول أياما وليالي، وكانت الأحرف بين أنامله على اختلافها ملامس ناي وأوتار عود، وكان هو عازفا على أوتار الحياة ! ولا أدري كيف انجرفتُ أخطّ كلماته، وكيف انقدتُ لسلطانه وصرتُ راويه، كما لا أصدق أني أخذتُ غيثاره لأعزف عليه، ولا أني غنيتُ أشعاره بينما تركني هو أكتب خطابه ورحل، إلا أني على ثقة من أنه لن يهتم بشظايا أسطورته التي ترك، ولا حتى بأوتاره المهترئة من الصدأ ، فقط لأنه كان خائنا ، وكان أخلف من عرقوب نفسه !! ومع هذا ، لم أكن الوحيدة المنخدعة بظله الدقيق، ولا بوجهه الشاحب، فقد كانت الأزهار والأشجار والأحجار تذكر نغمه، وكانت الرياح والأمطار تعيد لحنه، ذلك لأنه كان علما بين النكرات، ولأنه كان الوحيد الذي أدرك سر الوجود، ولأنه أول من داس على هذه الأرض دون أن يؤلمها، وآخر من خانها ومزق أوصالها، وكان حبيبها الذي قتلها ببينه ... كان أديبا شق أديم الأوراق شقا، وجاسوسا محترفا ولصا، فقد أخذ أرضنا بخضرها وأرواح ساكنيها، ونقل معه الجبال التي كانت تحيطها، والنهر الذي كان يروي عطشها، فكتب بها قصته التي أراد وأخذها معه في كتب الرحلات، وترك العجوز التي آوته في بيتها والصياد الذي أعطاه كتابه وكل من رسم وما رسم، ليذهب لا كي يعود وإنما ليغادر مانعا إياي إنها روايته، تاركا هذه الفجوة الكبيرة في كبد الخطاب.. ولو كانت الأعاصير مانعته لما غادر في ذلك اليوم العاصف إلا أنها لم تكن أبدا لتثنيه عن هدفه، كما لم تكن الرياح لتهزه فقد كانت تميل عنه وتعرض كلما اصطدمت بطيفه، وتتراجع فور رؤيتها أول كتائب جيشه، وبالرغم من أنه أرق من أن يدوس زهرة إلا أن الرياح كانت تهابه ،وكانت لا تجرؤ على اقتحام عالمه المجهول، فأدغاله خطيرة وأسواره حصينة وقلاعه متينة بأحجار من عبث...ومع أن العبث شيمة من شيمه إلا أنه لم يكن ليضعفه ، لقد كان جزء من متاهة أفكاره !! ولا أعتقد إلا أنه ترك لأمطار ذلك اليوم أن تنسخ أثره، ولنجوم ليلتها أن ترثي أديمه وتواسيه في نكبته، غير أنه نسي أن يأخذ معه النرجس الذي غرسه على ضفة النهر، ونسي البصلات التي لا تزال تعيد حكايته في كل عام، والأيام التي تفوح بعبقه وبعطره...وكان أهون على أرضنا لو ترك لها أشواكا لتكرهه أو رمالا لتنساه ، إلا أن بغضه كان كنسيانه مستحيلا، فقد كان الوحيد الذي عني بأدق تفاصيلها، والذي صور كل مواقفها ، و صار جزءا من روحها وذرة من ذراتها ، ليخونها وينشر حكايتها ويرحل من دون رجعة !! - سترحل ..؟ قالت النسائم متعلقة بذلك المعطف الطويل، متمسكة بذلك الرداء الذي أخذ يتماوج متسربا شيئا فشيئا من بين أناملها كأنه لا يريد إيلامها ... - ما الرحيل بالأمر المريع ... خلقت لأهاجر مع الطيور !.. وكان على وشك أن يبسط جناحيه لما ارتمت على شبحه ... - وهل ستعود ..؟ ولم يقل شيئا ، وكانت تعلم أنه لن يفعل ، إلا أن النسيم لم يسلم بهذا ، وأخذت الرياح تعصف بشدة تحاول انتزاعه من قراره ، فألقت الطبيعة عنها رقتها وارتدت عنفوانها ، بينما تمسك هو بمعطفه وسار يحاربها ، وما يحارب فيها إلا طفله المتمرد، وأثيره المدلل، وقلبه المنكسر بين أضلاعه ... وأيقنت مدينتنا أنها لن تصده، وعلمتْ أنها لن تراه مجددا فبكتْ كما لم تبك من قبل، وغرقت الأزقة التي رسم فيها فتاته وسيده، والجذوع التي استند عليها وهو يخط إلياذته، ومع هذا لم ينمح أثره، ولا أزال أشتم رائحته بين الأحراش... وبالرغم من أنه لم يكتب لحكايته نهاية ولا لأثره عنوانا، إلا أن اسمه ظل يتردد مع الصدى وشدو الطيور، كما لا تزال روحه منسكبة مع قطرات الندى على شفاه الورود، فلعله كان على ورقي أنانيا إلا أنه كان رحّالة وإنسانا ... - تمت - * في الأخير تقبلي مني أستاذتي خالص تحياتي وسلامي |