المدح... كن أول من يقيّم
1. المدح: يُظنّ أنّ المدحَ تأخر في الوجود عن فنون الشعر الأخرى، وقد كان المدح في بادئ الأمر فخرًا كله؛ لأن أساس الطبيعة البدوية فضيلة ُ الاعتماد على النفس، ثم برز المدح للتكسب كما كان مع الأعشى بعد أن كان طبيعيًّا مع زهير بن أبي سُلمى، ثم جاء المدحُ النبوي، وفي العصر الأموي أكثرَ الشعراءُ من المدح، وإذا انتقلنا إلى شعراء الأندلس لاستطلاع أحوال هذا الفن عندهم، رأيْنا أنهم كإخوانهم المشارقة قد نظموا المدائح وأكثروا منها، وغالبًا ما كانت موجَّهة إلى الأمراء في الأندلس تتناول جانبين: جانب تـُذكر فيه الصفات التقليدية التي يطيب للعربي أن يوصَفَ بها، كصفات المروءة والوفاء والكرم والشجاعة وما أشبه ذلك. وجانب يدور حول انتصارات الممدوحين ووصف جيوشهم ومعاركهم، والشعراء يتأنـَّقون في المدح وصياغته الفنية، وينوّعون في أساليبها بين الجزالة والفخامة والرقة والسهولة داخلين في هذا الفن دون مقدماتٍ، ومنهم من يستهل بموضوعات قد تتصل بالغزل أو وصف الطبيعة أو الخمر، وقد اخترتُ قصيدة لحُسّانة التميمية في مدح الحكم متسمة بعمق الشكوى التي تمس الشغاف من امرأة كسيرة الجناح حديثةِ فقدِ العائل مغلـّفة ًبغلالةٍ رقيقةٍ من نسيج المديح في قولها: إني إليك أبا العاصي مُوَجَّعَة ٌ | | أبا الحُسين، سقتـْه الواكِفَ الدِّيَمُ | قدْ كنتُ أرتـَعُ في نـُعْماهُ عاكِفة ً | | فاليومَ آوي إلى نـُعْماكَ يا حَكَمُ | أنتَ الإمامُ الذي انقادَ الأنامُ له | | ومَلـَّكَتـْه مقاليدَ النـُّهى الأممُ | لا شيءَ أخشى إذا ما كنتَ لي كَنـَفـًا | | آوي إليه ولا يعرو ليَ العَدَمُ | لا زلتَ بالعِزة القعْساء مُرْتـَدِيًا | | حتى تـَذلَّ إليك العربُ والعجَمُ | معاني المفردات: موجَّعَة: راثية ناعية .....، الواكف: المطر المُنهَلّ......، الدِّيَم: جمع ديمة: المطر يطول زمانه في سكون، وربما قصِد منها السحب......، عاكفة: لازمة ومُقيمة.....، مقاليد: مفردها مِقلاد: الخزانة أو المفتاح.....، النهى: العقول.....، كـَنـَفـًا: صوْنـًا وحفظـًا.....، يعرو لي: يلمّ بي ويصيبني.....، العدَم: الفقر.....، القعْساء: الثابتة الراكزة. ويبدو لنا من هذه الأبيات أن حُسّانة محسنة في عرضِ شكايتها، وفي غزو مقام العدالة من الحَكـَم؛ فقد جعلتْ منه مأوًى وعائلاً بعد أنْ فقدتْ أباها، وحزنتْ لموتِه السحبُ التي صارت تنهمر دموعًا، وقد كانت في رغدٍ من العيش عنده، واليوم تلجأ إلى حمى الحَكـَم، وقد رأى الدكتور مصطفى الشكعه أنّ في البيت الثاني مَسْحة من قول الحطيئة لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في مصراعه المشهور: فاغفِرْ عليكَ سلامُ الله يا عمَرُ ثم إن حسانة تصف الحَكمَ بالإمام بعد أن كانت قد بدأتْ بلقبه المشهور"أبي العاصي" ثم باسمه "حَكم" وهكذا كي تستعطف فيه صفته بين الناس و شخصَه ثم مكانته السياسية، فهو الأمير الذي رضخ الناس لأوامره، وسلـَّمَتـْه الأممُ خزائن العقول ومفاتيحها، فأصبح ذا عقلٍ راجحٍ لا يُجاريه على ذلك أي فرد، وقد رأى الدكتور مصطفى الشكعه أن حسانة هدفت في هذا البيت إلى سمة شعريةٍ أمويةٍ مشرقيةٍ حرّكت في قلب الحَكم حنينـًا إلى مواطن المجد في حلقات أجداده في رحاب الخلافة المروانية، ولا شك أنها ذكرتـْه بقول جرير في عمِّ جده سليمان بن عبد الملك: اللهُ أعْطاكمْ مِنْ علمِه بكمُ حُكـْمًا وما بعدَ حُكمِ اللهِ تعقيبُ وهي لا تخشى شيئـًا إنْ كان الحَكم حاميها ، وإذ ذاك لن يصيبها فقر، وتمضي في مدح الحَكم بن هشام حتى تصف عزته وشرفه الثابتين، لاسيَّما إن كان الحَكم يرتديهما، فهنا عمدتْ إلى الاستعارة المكنية؛ إذ شبهتِ العزة بالثوب الذي يُرتدى، وحذِف المشبه به وأبقي على لازمة من لوازمه في كلمة "مرتديًا" لتبين مدى ملازمة العزة للحكم وقربها منه مما يجعل الأمم جمعاء خاضعة لأمره ذليلة في حضرته، ومجمل الأبيات تذكر القارئ بميمية الفرزدق التي قالها في زين العابدين علي بن الحسين بن عليّ رضي الله عنهم التي مطلعها: هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأتـَه والبيتُ يعرفـُه والحِلُّ والحَرَمُ وشعرُ حُسانة صورة لقرينه في المشرق وامتدادٌ له معنـًى وموضوعًا وأسلوبًا. |