البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات أحمد إيبش

 3  4  5  6  7 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
الآريوسية من القرن الرابع إلى القرن السابع    كن أول من يقيّم

لقيت هذه العقيدة أنصاراً كثيرين في الإسكندريّة في أوساط الطبقات الدّنيا وخارجها، أما على صعيد الحكّام فإن الإمبراطور البيزنطي قُنسطنطينوس ابن قُنسطنطين أعلن نفسه آريوسياً.  ومع مجيء العام 359 م حلّت الآريوسية محلّ المسيحية الرّومانية.  وعلى الرّغم من شجبها في مَجمَع القسطنطينيّة عام 381 م، استمرّت هذه العقيدة بالانتشار وبكسب أنصار جُدد، حتى إذا كان القرن الخامس كانت كل أسقفية في العالم المسيحي إما آريوسية أو شاغرة([1]).
ومما تجدر الإشارة إليه، أن مذهب التّوحيد الآريوسي كان متواجداً في نواحي الشام والتّخوم الشمالية للجزيرة العربية، زمن البعثة النّبوية الشريفة وقيام الدّعوة الإسلاميّة بالقرن السّابع الميلادي.  ومن المهم ملاحظة ورود ذكر هذا المذهب في كتاب الرّسول (صلى الله عليه وسلّم) إلى »هِرَقل عظيم الرّوم« (أي الإمبراطور البيزنطي هراكليوس الأول)، الذي يدعوه فيه إلى الإسلام:
»بسم الله الرّحمن الرّحيم، من محمّد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الرّوم، سَلامٌ على من اتّبع الهُدى، أمّا بعدُ: فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلِمْ تَسلمْ، يُؤتِك الله أجرَك مرّتين، فإن تولّيتَ،فإنّ عليك إثمَ الأريسيّين([2]).  ويا أهلَ الكتاب، تعالَوا إلى كلمة سَواء بيننا وبينكُم: ألا نعبُدَ إلا الله، ولا نُشركَ به شيئاً، ولا يتّخذَ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تَولَّوا فقولوا: اشهدوا بأنّا مُسلمون«([3]).
كان دارسو الحديث الشّريف قد حاروا طويلاً بتفسير معنى هذه العبارة »الأريسيّين«، التي ليست سوى إشارة واضحة إلى الآريوسيين أنفسهم.  وفي ذلك الدّليل الدّامغ على إقرار الإسلام بأن دعوة آريوس إنما هي التّعبير الأقرب إلى العقيدة المسيحيّة الأولى([4]).
ومع احتكاك بعض أعلام الأريوسيين بالنُّخبة الإسلامية الأولى، وجدوا تواؤماً واضحاً تماماً مع مذهبهم في ثنايا الدّعوة الإسلاميّة، وفي معارضتها المتشدّدة للغاية للتّثليث واعتباره واحداً من أبلغ ضُروب الشِّرك، بحسب ما جاء في آيات القرآن الكريم (سورة النساء، 171):
{يا أهلَ الكِتابِ لا تَغلُوا في دينِكُم ولا تَقولوا على اللهِ إلاّ الحقّ إنّما المَسيحُ عيسى ابنُ مَريمَ رَسولُ الله وكلمتُه ألقاها إلى مَريمَ ورُوحٌ منهُ فآمِنوا باللهِ ورُسُلِهِ ولا تقولوا ثلاثةٌ انتهُوا خَيراً لكُم إنّما الله إلهٌ واحدٌ سُبحانَهُ أن يكونَ لهُ وَلدٌ لهُ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ وكَفى باللهِ وكيلا}.
*  *  *
وأما تتبّع خيوط العلاقة الجدليّة الكلاميّة ما بين العقيدة المسيحيّة الآريوسيّة والإسلام، فأمر يحتاج - كما أسلفنا - إلى دراسة مطوّلة خاصّة، ترجع إلى المصادر المعاصرة لآريوس ولأستاذه، المكتوبة باليونانية.  وهذا الشأن نراه يخرج - الآن على الأقلّ - عن محاور دراستنا الحاضرة عن »إنجيل بارْنَبا«، لكن هذا لا يمنع أن نعود إليه في وقت غير بعيد، إن شاء الله تعالى ويسَّر.
*  *  *
أما حول مشاكل ترجمات الإنجيل ونسخه المختلفة([5])، فنذكّر هنا أنّ كل من يقرأ الأناجيل ليس يقرأ فحواها الأصلي بنصّه، وإنّما يقرأ ترجمةً له عن اليونانيّة (عن الأصل الشفاهي الآرامي).  هذا ناهيك عن أنه حتى في اللغة الواحدة تتعدّد الترجمات وتتباين فيما بينها: ففي العربية ترجمات كاثوليكيّة، وأخرى إنجيليّة، ومؤخراً صدرت ترجمة مشتركة، لم تُعتمد رسمياً.
وأما إشكاليّات الترجمة، فمن أسطع أمثلتها الخلل في ترجمة عبارة »كيرييه« اليونانيّة kurie، إلى: »يا ربّ«.  وبالرّجوع إلى اللّغة اليونانيّة، نجد أن عبارة  kurioV  »كيريوس« بالمُفرد المذكّر تعني: سيّد، رئيسي، أساسي.  أما الله أو الرّب، ففي اليونانية: QeoV  »ثِيُوس«.  فأنّى تُترجم العبارة بـ »يا ربّ«؟
*  *  *


([1]) راجع:   Baigent, Leigh & Lincoln: op. Cit., pp. 345-6..
     وتعاليم آريوس في القرن الرابع وصلت إلى القبائل الجرمانيّة فدانت بها.  حتى أن إله الجرمان الوثني أودين Odin لبث رمزاً توحيدياً، وفي الرّوسيّة اليوم Один (آدين)  يعني: واحد.
([2]) هكذا ترد العبارة في بعض الأصول القديمة للسيرة النبوية الشريفة، وقد ترد في غيرها بنص: »اليريسيين«، والمؤدّى على أي حال واحد مع اختلاف اللّفظ.
([3]) الجامع الصحيح للبخاري، باب: »كيف كان بدءُ الوحي إلى رسول الله«.
([4]) هذا طبعاً مع الإشارة إلى أن عقيدة آريوس المسيحية برغم تماثلها الكبير مع عقيدة التوحيد الإسلامية، لم تكن متطابقة معها تماماً، ففيما تنفي العقيدة الآريوسية أن يكون يسوع ابن الله، أو أن يكون الله أباً ليسوع، فهي لا تنفي أن يكون الله قد »تبنّاه« (»اتّخذه ولداً« بتعبير القرآن).  ونص القرآن يحرّم هذه النظرة تحريماً قاطعاً في عدد من الآيات: سورة يونس: 68؛ سورة الإسراء: 111؛ سورة الكهف: 4؛ سورة مريم: 88-95، ومن أهمّها طبعاً سورة الإخلاص.
([5]) من الدراسات العربيّة التي صدرت بهذا الشأن كتاب نهاد خيّاطة: »الفرق والمذاهب المسيحيّة منذ البدايات حتى ظهور الإسلام«.  فيه معلومات دقيقة ومفيدة، تتبيّن من خلالها المراحل الطويلة التي مرّ بها تدوين الأناجيل المختلفة، التي تبلغ العشرات، حتى تم تقرير الأربعة القانونيّة المعروفة منها، عبر خمسة مجامع كنسيّة.

3 - نوفمبر - 2007
إنجيل بارنبا: أهو حقاً الإنجيل الصحيح؟
الأناجيل المنحولة، الكنيسة التوحيديّة اليوم، اليهوديّة القرّائيّة    كن أول من يقيّم

الأناجيل المنحولة
يُطلَق هذا الاسم (الأناجيل المَنحولة) على ما يُعرف كُنَسياً باللغة اليونانيّة بعبارة: أپوكريفا Apokruja (مُفردها أپوكريفون)، والتي تعني: السرّيّة أو الخفيّة.  والواقع أن الكتابات المَنحولة تتجاوز الأناجيل إلى التّصانيف التالية: أناجيل - أعمال - رسائل - رؤى.
تعود هذه المَنحولات في مُعظمها إلى القُرون المسيحيّة الأولى، وهي مكتوبة باللغات التي اصطُلح عليها بعبارة (اللغات البيبليّة): كالعبريّة واليونانيّة والآراميّة والحَبَشيّة والقِبطيّة واللاتينيّة والعربيّة.  وهي في مُعظمها نِتاجٌ لشِيَع يهوديّة مُتنصِّرة مختلفة، منها ما يتوافق مع العقيدة المسيحيّة النّيقاويّة ومنها ما لا يتوافق معها أبداً. وسنرى أكبر مثالين على ذلك: »إنجيل بارْنَبا« و»إنجيل مَتّى الآرامي« (أو: الإنجيل حسب العبرانيّين)، ولو أنّ جميع الكنائس تعدّ الأوّل عملاً مزيّفاً متأخّراً لا علاقة له لا بالرّسمي ولا المَنحول (وكلاهما مذكور في قائمة الـ 60 كتاباً).
لكن حَسبُنا الإشارة إلى مثال آخر من الأناجيل المَنحولة (من مجموعة نَجع حْمادي بصعيد مصر التي عُثر عليها عام 1945)، فأحدها يروي على لسان يَسوع أنّه كان »ينظر إليهم من السّماء يصلبون شخصاً آخر، ويهزأ من جهلهم«.  فهذا يدلّ على أنّنا أمام مجموعة من النّصوص التي تُناقض عقيدة نيقية وواقعة الصَّلب وتأليه المَسيح، وليس »إنجيل بارْنَبا« بالتالي الوحيد في ذلك.
أمّا أشهر الأناجيل المَنحولة فيمكن تقسيمها بحسب موضوعاتها: أناجيل طفولة، أناجيل آلام، أناجيل غنوصيّة، نُبذات أناجيل.  والغنوصيّة حركة دينيّة فلسفيّة تقول بأنّ الخلاص يعتمد على المعرفة الكاملة والسّرّيّة لله، وهي حُكرٌ فقط للعارفين، الذين عليهم أن يتجرّدوا من الجسد والمادّة لكي ينصرفوا كليّاً إلى المعرفة والتأمُّل والهذيذ الرّوحي.  وأشهرها اليوم »إنجيل مريَم المَجدليّة«.
- روايات عن ميلاد يَسوع وطفولته وموته: إنجيل يعقوب، إنجيل الطفولة لمتّى، إنجيل نيقوديموس.
- أخبار عن اضطهاد الرُّسُل واستشهادهم: أناجيل بطرُس وبولُس وتوما (إنجيل الحقيقة) وأندراوس وفيلِبّوس ومتّى وإنجيل الحقّ.  ومن أهمّها: »إنجيل يَهوداه« الذي تم نشره للمرة الأولى في العام الماضي 2006 بواسطة National Geographic Society والذي يقدّم رواية مناقضة تماماً حول حقيقة يَهوداه Judas (يوضاس، أو يهوذا الإسخريوطي) وحول أن الصلب وقع عليه وليس على المسيح!
*  *  *
الكنيسة التوحيديّة اليوم
التّوحيديّة Unitarianism في المُصطلح المسيحي: هي العقيدة القائلة بوجود طبيعة واحدة لله، على نقيض عقيدة التّثليث (ثلاثة أقانيم في شخص واحد).  وهي الفلسفة التي قامت عليها الحركة التّوحيديّة المسيحيّة المُعاصرة، ويرى أتباعها أنّها هي الشكل الأصلي للمسيحيّة (بالضبط كما أرّخنا في مقدّمتنا هذه).  ويؤمن المسيحيّون التّوحيديّون بتعاليم يَسوع النّاصري الواردة في العهد الجديد وبعض الكتابات المَسيحيّة الباكرة، ويعدّونه بمثابة المثال المُتّبَع.
ومن خلال تمسّكهم بعقيدة توحيديّة صارمة، يعدّون أن يَسوع كان نبيّاً لله ورجلاً عظيماً، وقد يكون ذا مزايا غير اعتياديّة، إلا أنّه ليس إلهاً أبداً.  ويؤمن التّوحيديّون بسُلطة أدبيّة له لا تمسّ الألوهيّة أبداً.  وهم يتميّزون عن الكاثوليك والپروتِستانت والأرثوذوكس وباقي فروع المسيحيّة بإيمانهم بعقيدة تقوم على اتّباع »ديانة يَسوع«، وليس »ديانة حول يَسوع«، وهم لذلك لا يُصلّون له بل لله كما علّم هو ذاته.  والكنيسة التّوحيديّة مُنتشرة في كثير من بُلدان العالم، إنما لا ندري بأيّ فرع لها في عالمنا العربي، ويؤسفنا انعدام التّواصل معها.
*  *  *
اليهوديّة القَرّائيّة
القَرّائيّة הקראית »هَقرائيت« حركة يهوديّة أسّسها داود بن عَنان في العراق بالقرن الثامن الميلادي، مفهومها المحوري رفض »الشريعة الشّفاهيّة«، المتمثّلة في التّلمود، في مقابل الالتزام الصّارم بالشّريعة النّصّيّة المكتوبة (تَناخ = أسفار توراه ونبيئيم وكتوبيم).  وهذا بخلاف مفهوم اليهوديّة الرّبّانيّة (أو المعياريّة التّلموديّة) Normative Judaism القائلة بأن »الشريعة الشّفاهيّة« تمّ إنزالها على مُوسى النّبي في جبل سيناء إلى جانب »الشّريعة المكتوبة«، وأنها لا تقلّ عنها قُدسيّةً أو أهميّةً في التّشريع.
وتاريخ الحركة القَرّائيّة يبيّن أنها كانت ذات طابع ثوري متحرّر، وفيها أصداء من حركة المعتزلة الإسلاميّة وفلسفتها الكلاميّة، وأوّل ما رفضت النَّزعة الحُلوليّة التي غلبت على اليهوديّة الحاخاميّة من بقايا الصَّادوقيين.  ومنذ قيامها أعلن أصحابها إيمانهم بنبوّة عيسى (عليه السلام) ومحمد (صلى الله عليه وسلم)!  ويُعتقد أن يهود الخَـزَر اعتنقوا يهوديّة قَرّائية، وكان كثير من قرّائي روسيا وپولونيا يروون أن لغتهم هي التُّركيّة.

4 - نوفمبر - 2007
إنجيل بارنبا: أهو حقاً الإنجيل الصحيح؟
هل المسيحيّة والنصرانيّة شيء واحد؟    كن أول من يقيّم

تنـــويـــــه
المسيحيّة والنصرانيّة
لا بدّ لنا من الإشارة هنا إلى معيار لفظي يحمل تعدّداً في وجوهه الدّلاليّة، هو: المسيحيّة.
فمن حيث معناه الاشتقاقي، طبعاً اشتُقّ من اسم المَسيح، وبالتالي يرمز إلى الدّيانة المرتبطة به.  أيّة ديانة؟  هنا المعضلة.
ومن حيث معناه الاصطلاحي، فهو يُطلق اليوم على جميع مذاهب الدّيانات المرتبطة بالمسيح.  وهذا غلط عميم.
أمّا من حيث معناه العُرفي الدّلالي، فهو التّسمية التي أطلقها بولُس في أنطاكية بأواخر أربعينيّات القرن الأوّل على أتباعه (المسيحيين)، بعد نبذ مذهب إخوة يَسوع المؤمنين بالتّوحيد، وبشريعة موسى.
على ذلك، هل المسيحيّة والنّصرانيّة شيء واحد؟
بالطبع لا، فهما مذهبان مختلفان، لا بل مُتصارعان، أوّلهما أيّ النّصرانيّة شاع بأيّام المسيح ذاته، وهو توحيدي صرف.  أمّا الثاني فهو مذهب مُشتقّ مطوّر بحسب رؤية بولُس وهلّينيّته، تمّ إقراره رسميّاً في بيزنطة بالقرن الرابع.
غير أن العبارتين اختلطتا عبر العصور، وصار يعسر التّفريق بينهما على أساس دلالي، فنرجو من القارئ عدم إغفال ذلك.
*  *  *

4 - نوفمبر - 2007
إنجيل بارنبا: أهو حقاً الإنجيل الصحيح؟
للبحث صلة    كن أول من يقيّم

وختاماً..
 
لهذا البحث صلة حول بارْنَبا ذاته مدوّن هذا الإنجيل، ومعطيات جديدة حول سيرة حياته.
مع تفصيل حول التاريخ النصّي والبيبليوغرافي لإنجيله، والبحث في مصداقيّته.
ووصف المخطوطين المعتمدين، وأسلوبنا في دراستهما بعلم النقد النصّي.
 
وهذا ما سنفرد له مجلساً ثانياً ملحقاً بهذا.. إتماماً للفائدة وتكملة لمعطيات البحث.
إنما ننتظر أولاً آراء السّادة سراة الورّاق فيما كتبناه هنا، وبعدها نتابع. 

4 - نوفمبر - 2007
إنجيل بارنبا: أهو حقاً الإنجيل الصحيح؟
شكراً على التعليق    كن أول من يقيّم

حضرة أستاذتنا الكريمة ضياء:
سلاماً وتحية من إسكلة بيروت المحروسة.
أسئلتك وجيهة جداً، والواقع أن عمل الدكتور خليل سعادة (الذي مضى له الآن 99 عاماً بالضبط) قد أدى إلى وسم الموضوع برمّته بغاية الإبهام. فالذي شاع بين الباحثين أن المخطوطة الإسبانية القديمة التي كانت بحوزة الدكتور جورج سيل George Sale ثم ضاعت، قد قام مصطفى دي آراندا (يسميه سعادة: العرندي!) بترجمتها عن المخطوطة الإيطالية المحفوظة في مكتبة البلاط الإمبراطوري في فيينا. هذا غير صحيح على الإطلاق.. النسختان كلاهما لا ريب لدي بأنهما قد ترجمتا عن أصل لاتيني ضاع وعفت آثاره، ولدي ما أثبت به أن هذا الأصل اللاتيني له أصل يوناني سابق، من خلال براهين نصيّة بورود عبارات لفظيّة عددتُها بمثابة الدليل العيني على ما أقول.
لكن تكرار هذه الحيثيات كلها لن يفيد هنا، على اعتبار أنني سأوردها بالتفصيل التام في تتمة مقدمتي التي سأشرع الآن في متابعتها. فأرجو قراءتها وفيها الأجوبة الكاملة على ما تسألين سيدتي.
كما أرجو الانتباه إلى أنه لا وجود لأية مخطوطة من إنجيل بارنبا في مدريد. المخطوطة الإسبانية القديمة التي تعود إلى مطلع القرن السابع عشر (وكانت في إنكلترا) قد ضاعت، ولكن تم قبل حوالي 30 عاماً اكتشاف نسخة عنها تعود إلى القرن الثامن عشر، وعليها أيضاً مقدمة مصطفى دي آراندا (سأنشرها هي الأخرى على أديم الورّاق)، وكان هذا الاكتشاف في مكتبة فيشر The Fisher Library بجامعة سيدني في أوستراليا. حصلت في مطلع العام على نسخة منها وقمت بمقابلتها بدقة على مخطوطة فيينا ذات اللغة الإيطالية.
أما في إسبانيا ذاتها فلا مخطوطات منها كما ذكرت، إنما صدرت عن جامعة آليكانته Universidad de Alicante طبعة عن مخطوطة سيدني الإسبانية (اطلعت عليها أيضاً)، وذكرت تفاصيل ذلك كله في مقدمتي.
أما حول مصداقيّة النص فلقد عقدت فصلاً كاملاً، أرجو قراءته أولاً، والتعليق عليه ثانياً.
وشكراً جزيلاً لك.
 
وسلاماً طيباً إلى أخي الحبيب الأستاذ زهير ظاظا، باحثنا وشاعرنا الأديب.
حباً وكرامة.. بعد أن أقوم بنشر تتمة مقدمتي، سوف أبدأ بانتخاب أمثلة عن مواطن الأخطاء والخلل والنقص في ترجمة سعادة، مع عرض لبعض أهم فقرات إنجيل بارنبا وتفنيد مزاعم التزوير فيه. وثمّة أبحاث موغلة في الاختصاص بالفيلولوجيا وعلم النقد النصي واللسانيات المقارنة وأنطولوجيا التراث الديني، من اليهودية إلى المسيحيّة، ومن أصول التوراة المسوراتيّة والترجوم إلى التوراة السبعينية وترجمة الفولكاته اللاتينية وغوامض أناجيل الأبوكريفا، مع مقارنات الجذور الباليوغرافية للمواد الروائية التاريخية والأسطورية في إنجيل بارنبا، باستقصاء هجداه المدراش وأجداه التلمود.
 
البحث باختصار كان غاية في التعقيد، لكنه وصل إلى نهاية مرضية للغاية كما أراها.. وبتّ اليوم بحاجة ماسّة إلى عرضه على القرّاء والتفاعل مع آرائهم.. لأن هذا البحث إن تم سوف يكون بداية بالغة الأهميّة لأبحاث أخرى ستليه. من نافل القول أن علمي الفيلولوجيا والنقد النصّي يحملان مفاتيح شديدة الأثر في إيضاح مسائل باتت الآن رهن استغلاق دام قروناً طويلة. وصدقني إن النتائج مذهلة، وتعد باستمرارية واعدة ومدهشة للغاية!
 
إذاً، ما علينا الآن إلا المتابعة في المقدمة. وهذا أوان الشروع. هيّا بنا.

5 - نوفمبر - 2007
إنجيل بارنبا: أهو حقاً الإنجيل الصحيح؟
بارنبا الليوي القبرصي.. من هو؟    كن أول من يقيّم

بارْنَبا اللّيوي القبرُصي
أضواء جديدة على سيرة حياته
بارْنَبا، أو كما يدعوه المسيحيّون »القدّيس بَرْنابا«، أحد الشخصيات المحوريّة الباكرة في التاريخ المسيحي، ولو أن سيرة حياته تعرّضت لتهميش كبير، فلم تُقدَّم حوله ولا حول نِزاعه الرّؤيوي العقائدي مع بولُس مُعطيات وافية.  وبديهيّ أن المسيحيّين لا يؤمنون بإنجيله هذا الذي بين يدينا، ويعدّونه منحولاً موضوعاً لا أصل له، رغم أنّه مذكور في وثيقتين مسيحيّتين باكرتين كما سنرى.
مرَدّ ذلك كلّه بالطبع إلى أن المصدر الرّئيسي حول حياته يأتي من خلال ما يرويه لوقا في أعمال الرُّسُل([1])، ولمّا كان لوقا تلميذاً لصيقاً جداً لبولُس فلا ريب أنه لم يكتب إلا ما يوافق معلّمه الأثير.  لذا فالذي جرى أن الافتراق ما بين الرّجلين والذي يؤطّر بداية الانشقاق الجوهري ما بين العقيدتين (بارْنَبا وكنيسة أورشليم التّوحيديّة، وبولُس والكنيسة الأمميّة الهلّينيّة) تمّت التّعمية على حيثيّاته، على يد بولُس ولوقا أوّلاً، ثم على يد أساقفة مجمع نيقية 425 م ومَن تلاهم، بإيعاز من الإمبراطور قُنسطنطين الأول، لأهداف بيّناها آنفاً.
على أيّ حال، يتّضح من أعمال الرُّسُل أن اسمه الأصلي كان »يُوسيف« (في الأناجيل اليونانيّة البيزنطيّة يرد: »يُوسيس« IwshV).  كان مولده في جزيرة قبرُص لأسرة ليويّة([2]) في زمن نجهله، إنما نقدّر أنّه نحو مطلع التّقويم الميلادي، ربما بُعيده بيسير.  ووفاته كانت في سَلاميس بشرقيّ قُبرُص في عام 61 م (ظنّاً)، وبها دير مشهور باسمه إلى اليوم.
من المرجّح جداً أنّ يُوسيف (بالعربيّة يوسف) كان في حوالي عام 30 م مع شاؤول الطَّرسوسي (بولُس) في مدرسة الرّابي جَمليئيل الأوّل גמליאל بالقُدس يتلقّيان أحكام الشّريعة اليهوديّة.  وهنا نذكّر أن كليهما - والمسيح ذاته وتلامذته أجمع - كانوا من اليهود.  هذه حقيقة تختلط في أذهان الكثيرين.
والأمر الذي تنبغي الإشارة إليه هو أن قريبة يُوسيف بالقُدس كانت مريَم أمّ يوحنّا المُلقّب مَرقُس، كاتب أحد الأناجيل الأربعة([3])، وهو أصغر من بارْنَبا ولم يعاصر المسيح (انظر أعمال الرُّسُل - 12: 12).  ويرد ذلك في رسالة بولس إلى أهل كولوسّي (4: 10)، لكن التّراجمة نقلوه مُجملاً: »مَرقُس ابن عمّ بَرنابا« (أو: ابن أخته).  ولوقا يذكر أن بارْنَبا كان »رجلاً صالحاً ممتلئاً من الرُّوح القُدُس ومن الإيمان« (أعمال - 11: 24).
لا ترد في الأناجيل أيّة إشارة إلى مُبتدأ دخوله في الدّين المسيحي، لكنّه حاز شهرته عندما باع الأرض التي يمتلكها في قبرُص، ووهب أمواله لتلاميذ المسيح في كنيسة أورشليم بالقُدس (بدلالة تامّة الوضوح على دخوله في مذهب الإبيونيّين)، فلذا أطلقوا عليه اسماً جديداً باللغة الآراميّة هو: »بار - نَبا« בר־נבא، وفُسِّر ذلك في الأناجيل اليونانيّة بأنّ معناه هو: »ابن التّعزية« uioV  paraklhsewV ، »أوْيُوس پاراكليسِيُوس«، أو: »ابن الفَرَج«([4]) (أعمال - 4: 36)، ولفظه باللغة اليونانيّة: BarnabaV »بارناباس«.  ثمّ عُدَّ »نبيّاً«، بالمعنى المسيحي الباكر لهذه العبارة (أعمال - 13: 1؛ 15: 32).
*  *  *


([1]) رغم أن أعمال الرُّسُل تأتي في جميع ترجمات الأناجيل وطبعاتها مُغفلة من اسم مؤلّفها، فالمتّفق عليه أن كاتبها لوقا صاحب أحد الأناجيل الأربعة وتلميذ بولُس الأثير.  هذا ما يتّفق عليه مؤرّخو المسيحيّة الأوائل، ويؤيّده إهداؤه إلى ثاوفيلوس على غرار إنجيل لوقا وتشابه اللغة.  كتبه بعد فراغه 64 م من إنجيله، وقبل 70 م (أي بعد وفاة بارْنَبا).
([2]) أي نسبةً لسبط ليوي לוי من أسباط بني إسرائيل الاثني عشر، وهو المختص فيهم بالحبريّة العظمى، ومنه ينحدر النبيّان موسى وهارون، عليهما السّلام.
([3]) من المهمّ جداً ملاحظة أن الأناجيل النّيقاويّة الأربعة (القانونيّة) ما كان كَتَبتها (خلا يوحنّا) مُعاصرين للمسيح، على اعتبار أن متّى - كما ينصّ باحثو المسيحيّة - شخص آخر غير متّى العشّار التّلميذ (راجع كتابنا »تطوّر الإنجيل« ص 24).  أمّا لوقا ومَرقُس فكانا من تلاميذ بولُس، القائم بإعادة صياغة العقيدة المسيحيّة وفق منظوره اللاهوتي والفلسفي الهلّيني.  لكن لنلاحظ: فيما بقي لوقا على إخلاصه وتأثّره التامّين ببولس (وهو وثني الأصل ليس يهودياً)، التزم يوحنّا مَرقُس جانباً مغايراً جداً في إنجيله (فهو لا يسمّي فيه المسيح بالرّبّ)، وآثر في إشكاليته الشهيرة ترك بولس وعاد مع قريبه بارْنَبا.  فماذا كانت عقيدة الرّجلين: إنها عقيدة »كنيسة أورشليم« التّوحيديّة (دامت 30-135 م)، التي عبّر بارْنَبا عنها بكل جلاء بوثيقته الباكرة هذه التي أمامنا.
([4]) والتفسيران مغلوطان كلاهما، فمعنى الاسم في الآراميّة واضح لا يلزمه تأويل، وهو: ابن النُّبوّة.  ففي الآراميّة: נביותא »نبيّوتا« النبـوّة، والنسبة إليها: נבייא »نبيّويا« نَبويّ.
 

5 - نوفمبر - 2007
إنجيل بارنبا: أهو حقاً الإنجيل الصحيح؟
تتمّة سيرة حياته، ومعرفته ببولس    كن أول من يقيّم

من خلال ذلك نلاحظ أن سيرته في أعمال الرُّسُل تبدأ مُبتسرة بغير مقدّمات منطقيّة، بحيث يبدو أنه لم يُدرك المسيح، بل ليُعدّ ظهوره في مرحلة »الرُّسُل« وفي النّشاط التّبشيري الذي رافقه به بولس!  لكن ما يلفت الانتباه بشدّة: كيف يكون ابن قريبته الأصغر منه (مَرقُس) كاتباً لأحد الأناجيل القانونيّة، وهو لا إنجيل له؟!  هذا أمر يُجافي المنطق تماماً..  سنرى لاحقاً أن مخططاً منهجياً أُعدّ لطَمسه([1])، مع جميع الإبيونيّين والنّاصريين ممّن خالفوا عقيدة التّثليث الهلّينيّة.
*  *  *
تتمّة سيرة بارْنَبا تندرج في إطار رحلاته التّبشيريّة مع بولس: لمّا عاد بولُس (شاؤول الطَّرسوسي) إلى القُدس حوالي 37 م، قادماً من دمشق بعد حادثة إيمانه بالمسيح، رفض تلاميذ المسيح تقبّله وخشوا منه، لأنّه كان يهوديّاً فَريسيّاً متشدّداً يضطهد رفاقهم، فتقدّم بارْنَبا إلى التّعريف به وضَمِنَه لهم (أعمال - 9: 27).  يدلّ ذلك أنه كان متنصّراً إبيونيّاً قبْل إيمان بولس بالمسيح، فإذا كان بولس قام برحلته إلى دمشق في حدود عام 34 م، يقتضي ذلك حتماً أن بارْنَبا كان إيمانه ببعثة المسيح سابقاً بأعوام، وهذا ما يجعلنا نعتقد على وجه اليقين بأنه أدركه وعرفه، كما يروي في إنجيله هذا الذي بين أيدينا (وغُمِط ذلك).
في الأعوام التالية، سُرعان ما يُضحى بارْنَبا واحداً من أوائل رُسُل كنيسة أنطاكية ومعلّميها (أعمال - 13: 1)، فلقد دعا ازدهارها إلى أنّ رُسُل أورشليم وأخويّتها قاموا بإرسال بارْنَبا إليها لإدارة الحركة المسيحيّة فيها، فوجد أن العمل كبير جداً وشاقّ، فمضى إلى طَرسوس لاستصحاب بولُس كيما يؤازره.  فتوجّه معه بولس إلى أنطاكية، وعمل معه سنة كاملة (أعمال - 11: 25، 26).  وفي نهاية العام 44 م يتمّ إرسال الاثنين إلى القُدس ومعهما الهبات التي قدّمتها كنيسة أنطاكية لفُقراء (إبيونيم) كنيسة أورشليم (11: 28-30).  بعد مدّة قصيرة عادا وبصُحبتهما يوحنّا مَرقُس، وعُيّنا موفَدين إلى آسيا الصّغرى، فزارا قبرُص 46 م وبعض كبريات المدن في پامفيليا وپيسيديا وليقونيا (13: 14).
عندما اعتنق سرجيوس پاولوس حاكم پافوس الدّين المسيحي، بدأ بولُس يكتسب أسبقيّة على بارْنَبا، عند النقطة التي استُبدل فيها اسمه العبري »شاؤول« باسمه الرّوماني »پاولوس« Paulus (13: 9)، فبدلاً من ذكر »بارْنَبا وشاؤول« بدأت تظهر عبارة »بولُس وبارْنَبا«.  فقط في المقاطع 14: 14 و 15: 12، 25 يحتلّ بارْنَبا الصّدارة، بسبب أنه كان ذا علاقة أقوى بكنيسة القُدس من بولُس.  ويتّخذ بولس مظهر الموفَد الواعظ، إذ عدّه أهل لِسْترة بمثابة »هِرمِس« Hermes، وعدّوا بارْنَبا بمثابة »زيوس« Zeus (14: 12).
لدى عودتهما من رحلتهما التّبشيريّة الأولى إلى أنطاكية، أُوفِدا مجدّداً إلى القُدس 48 م للتّباحث مع كنيستها حول علاقة الأمميّين بالكنيسة (أعمال - 15: 2، غَلاطية - 2: 1) بمجمع أورشليم 49 أو 50 م.  وحسب الرّسالة إلى أهل غَلاطية 2: 9-10 أُبرم اتفاقٌ ما بين بارْنَبا وبولس من جهة، وبين يعقوب وبطرُس ويوحنّا من جهة أخرى، بأن الأوّلين يبشّران في المستقبل بين الوثنيين، دون أن ينسيا فُقراء القُدس (وهم الإبيونيم).  فلمّا تمّ ذلك عادا أدراجهما إلى أنطاكية ومعهما إقرار المجلس القاضي بالسّماح للوثنيين الأمميّين بدخول الكنيسة.


([1]) حتى في الأوساط المسيحيّة المستنيرة بدأت تظهر دراسات تتمحور على هذه الفكرة حرفيّاً: لماذا تمّ كل التّعتيم على دور بارْنَبا في إنشاء الكنيسة الرّسوليّة الباكرة؟  ومن بين أهمّ هذه الدراسات نذكر:
   Dr. Brend Kollmann: Joseph Barnabas, Life and Legacy.

5 - نوفمبر - 2007
إنجيل بارنبا: أهو حقاً الإنجيل الصحيح؟
الخلاف بين بارنبا وبولس، ونهاية بارنبا    كن أول من يقيّم

الخلاف بين بارنبا وبولس بعد المَجمَع:
بعد أن عادا إلى أنطاكية وأمضيا فيها بعض الوقت (15: 35) يطلب بولس إلى بارْنَبا أن يصطحبه في رحلة أخرى (15: 36).  فرغب بارْنَبا أن يصحب ابن قريبته يوحنّا مَرقُس، لكن بولس رفض على اعتبار أنّ هذا الأخير كان بارحهما في الرّحلة السّابقة عند پامفيليا، »فوقع بينهما نِزاعٌ شديد  paroxusmoV، حتى فارق أحدهما الآخر.  فاستصحب بارْنَبا مَرقُس وأبحر إلى قبرُص، وأمّا بولُس فاختار سيلاس ومضى فطاف سورية وكيليكيا« (15: 37-40).
من الواضح تماماً أن لوقا - بدوافع مُبرّرة - لم يشأ الخوض في تفاصيل هذا النِّزاع، وآثر إيراده على محمل التّمويه بأنه كان مجرّد خلاف شكلي، غير أننا نجزم أنه كان أكبر من ذلك.. كان نِزاعاً رؤيَوياً عقائديّاً يؤطّر تنامي الشّرخ الذي بدأ ينشأ بين كنيسة أورشليم التّوحيديّة، التي قوامها »الإخوة« المتنصّرون اليهود (ومنهم إخوة المسيح ذاته: يعقوب وشمعون ويَهوداه)، وبين الكنيسة الأمميّة ذات الصّبغة الهلّينيّة، التي أُلبست فيما بعد بمجمع نيقية رداءَ التّثليث.
بعد ذلك لا يورد لوقا أيّ ذكر لبارْنَبا في أعمال الرُّسُل، إنما في رسالة بولُس إلى أهل غَلاطية (2: 1-13) يُفهم المزيد عن حضوره »مَجمَع أورشليم« (عام 49 أو 50 م) حول ختان الأمميّين.  ويتّضح بجَلاء التزامه بمذهب »المتنصّرين اليهود« المناوئين لبولُس.  كتب بولُس يقول: »لمّا قدم بطرُس إلى أنطاكية قاومتُه وجهاً لوجه لأنّه كان يستحقّ اللّوم: ذلك أنّه قبل أن يقدم قومٌ من صَحب يَعقوب ]البار[ كان يؤاكل الوثنيّين، فلمّا قدموا توارى وتنحّى خوفاً من أهل الخِتان، فجاراه سائر اليهود في ريائه، حتى أنّ بارْنَبا انقادَ أيضاً إلى ريائهم«.
وقبل ذلك زمنيّاً، يروي بولس عنه في رسالته الأولى إلى أهل كورِنثوس (9: 6) ما يدلّ على أنّه كان ما يزال يتابع مهمّته كموفَد مُبشِّر.  إنما ما يذكره عنه في رسالته الأخرى أعلاه، يضع الحدّ الجازم والواضح تماماً على الخلاف الرُّؤيوي العقائدي الجذري الفاصل بينهما: إبيونيّة بارْنَبا وهلّينيّة بولُس.
ولمّا ذكر بولُس تلميذه مَرقُس، في رسالته إلى أهل كولوسّي (4: 10) كتب يقول: »يُسلِّم عليكُم أرِسطَرخُس صاحبي في الأسر، ومَرقُس ابن عَمّ بارْنَبا، وقد تلقّيتُم بعض الإفادات عنه، فإذا قَدِم إليكُم فرَحِّبوا به«.
ومن خلال رسالة بولُس إلى »أهل غَلاطية«، يلوحُ افتراضٌ أنّ أهل هذه المدينة كانوا يتبعون إنجيلاً تتعارض تعاليمه مع تعاليمه.  فهل كان هذا إنجيل بارْنَبا ذاته، أم إنجيل بطرُس؟!  نذكّر هنا بمعارضة بولُس الحادّة لبطرُس إبّان قُدومه إلى أنطاكية، وكذلك ننوّه إلى أنّه أيضاً قد غُمِط دوره في الأناجيل الإزائيّة (متّى مثلاً) على نحو غير مفهوم أبداً، برغم تهليله ليَسوع وتبشير يَسوع له بأنّه »الصّخرة« Petra التي يبني عليها كنيسته، والتّعمية التامّة لاحقاً على إنجيله.
*  *  *
في الختام، يعود بارْنَبا إلى قبرُص، وذُكر أنّه رُجم عام 61 م حتى الموت في مدينة سَلاميس على يد اليهود.  وعند رُفاته بُني (لاحقاً) ديرٌ سُمّي باسمه، وتمّ تكريسه قدّيساً حامياً لجزيرة قبرُص (يُحتفَل بعيده في 11 يونيو).  مع ذلك، تبقى ملابسات وفاته غامضة، وتعود روايتها بالإجمال إلى حلم رآه مُطران قبرُص في القرن الخامس وإلى »أعمال بارْنَبا« المَنحولة، كما سنرى.
*  *  *

5 - نوفمبر - 2007
إنجيل بارنبا: أهو حقاً الإنجيل الصحيح؟
بين دعوة المسيح ودعوة بولس.. أين يقع بارنبا؟    كن أول من يقيّم

قُصارى القول: إنّ ثورة المسيح (عليه السلام) على اليهوديّة الهيكليّة الفَريسيّة (التي أفرزت التّلمود فيما بعد)، قد بالغ بها بولُس كثيراً (رغم أصله اليهودي وتمذهُبه بالفَريسيّة)، فشنّ حرباً ضارية حتى على شريعة موسى التّوحيديّة وعلى الوصايا العشر، وفي مقدّمها الختان والسّبت وتحريم لحم الخنزير، وشرع بكلّ ما أوتيه من حجّة وبيان يُجابه هذه الشّريعة، لصالح الثّقافة والفكر الهلّيني المسيطر على مناخ شرقيّ حوض المتوسّط آنذاك.  أمّا رؤياه في ذلك فكانت: تصدير الدّين اليهودي بصيغته المسيحيّة المعدّلة ورؤاها التّجريديّة (بدلاً من التشخيصيّة اليهوديّة القديمة) إلى أفق أوروپا الواسع المُنفتح المتحرّر الغنيّ، تحت إطار »الأمميّة«.
مع ذلك، لم تلقَ دعوة بولُس نجاحاً تامّاً آنذاك ولقي حتفه 67 م.  بل كان عليها الانتظار حتى بواكير القرن الرّابع، حينما تنكّهت روما هذا الدّين المشرقي المُهليَن، فوجدت فيه أداتها اللاهوتيّة لقَولبة ديانتها الوثنيّة المُتهالكة وبعثها بقالب جديد، هذه المرّة بنكهة يولينيّة رومانيّة: »أنسَنَة الله وتأليه البَشَر«.
*  *  *
وإذا حاولنا إجمال مآل دعوة الدّين المسيحي، من المسيح (عليه السلام) إلى بولُس، ثم أساقفة نيقية (وعلى رأسهم أثَناسيوس) ضمن معايير القولبة: إلغاء السَّبت واستبداله بالأحد (يوم الشّمس)، الاحتفال بميلاد المسيح 25 ديسمبر عيد زيوس Zeus الشّمس، إعادة صياغة الأناجيل، وإخفاء أكثرها (بالعشرات أو المئات)، نجد أننا بحاجة ماسّة إلى دراسة مفصّلة تفيض عن بحثنا الحاضر.  إنما نفهم مدى إعجاب روما (ثم بيزنطة) بشخصية بولُس (اليهودي العرقيّة - الهلّيني الثّقافة - الرّوماني الانتماء) وإيثاره على جميع دُعاة الكنيسة الباكرة.
ومن نافل القول أن أهمّ مرحلة في تاريخ المسيحيّة هي الثّلاثة قُرون الأولى منها، وهي التي تمّت فيها التّحوّلات الجذريّة الكُبرى التي عصفت بكيانها تماماً، وحوّلتها من دعوة توحيديّة ذات منشأ كتابي راسخ (في توراة([1]) موسى الأولى) إلى دين مركّب بين اليهوديّة الهلّينيّة والفكر اليوناني (خصوصاً الأفلاطونيّة الحديثة)، ونكهة اللاهوت الوثني الرّوماني الحُلولي التعدّدي.
والغريب أن روما، بعدما كانت موئل الوثنيّة ومُنطلق جيوش الغزو التي استبدّت بالشرق ثلاثة قرون ونصف، أضحت بشكل عجيب لافت للنّظر عُقر دار هذا الدّين الذي أمعنت في اضطهاده ثلاثة قرون، وكانت شريكةً كاملة مع اليهود الحاخاميّين (الهيكليّين) بأيدٍ ملوّثة بالدّماء، في عملية صَلب نبيّ هذا الدّين (كما شُبِّه لهم).. ولهذا قاموا في ختام القرن الأول([2]) بتكييف إنجيل متّى لينفي عن ممثّلهم الحاكم الرّوماني »التّقي« (ييلاطُس) وصمة دم المسيح!
*  *  *
يبقى سؤالٌ هامّ وصارخ ومُلِحّ للغاية:
نعم نجحت مساعي بولُس وقُنسطنطين وأثَناسيوس في خاتمة الأمر، وأنكفأت كنيسة أورشليم التّوحيديّة، المُنادية بنَصرانيّة مُتوافقة ومُتوائمة مع شريعة موسى. وتقطّعت بالتالي روابطها مع الدّين الختامي المُنتظَر (الإسلام)، ومع بِشارة المسيح بالـ »المُعزّي الآتي«.. فهل كان انكفاؤها تاماً وقطعيّاً ناجزاً؟
الجواب: إلاّ من بَصيصٍ خافتٍ أضاء نورُه بعد قرون، وإن طالت.
إنّه »إنجيل بارْنَبا«.. الذي يستعيد ألَقهُ اليوم!
*  *  *


([1]) دوماً عندما نذكر التّوراة في دراستنا هذه نعني بها التّوراة الأولى الصّحيحة التي لم يتطرّق إليها النّقل والتحريف.  ولكن هذه التّوراة الأولى لا وجود لها اليوم.
([2]) حول ذلك راجع الدّراسة القيّمة التي كتبها الباحث الأكاديمي جون إينوك پاول  J.E. Powell المتخصّص بلسانيّات اللغة اليونانيّة القديمة: The Evolution of the Gospel، والصادرة في جامعة ييل Yale في عام 1994.  وكنّا ترجمنا هذه الدراسة وعلّقنا عليها نصّيّاً، بعنوان: »تطوّر الإنجيل«، صدرت بدمشق 2003.

5 - نوفمبر - 2007
إنجيل بارنبا: أهو حقاً الإنجيل الصحيح؟
التاريخ النصّي والبيبليوغرافي لإنجيل بارنبا    كن أول من يقيّم

إنجيل بارْنَبا«
تاريخه النّصّي والبيبليوغرافي
في عدّة مراسيم كَنَسيّة كان يتمّ تحريم بعض الأناجيل، كأمر البابا داماسوس الأول 366 م، ومجلس الكنائس الغربيّة 382 م، والبابا إينوسان 465 م.  لكنّ أقدم إشارة تُسمّي »الإنجيل حسب بارْنَبا« ترد في وثيقتين مسيحيّتين باكرتين، هما قائمتان بالأناجيل المَنحولة المحرّمة كنسياً: الأولى »مرسوم البابا جيلاسيوس« Decretum Gelasianum، من أواخر القرن الخامس (تولّى منصبه عام 492 م)، والثانية »قائمة الستّين كتاباً« من القرن السّابع (تضمّ الكتب القانونيّة والأپوكريفا، ومنها إنجيل بارْنَبا ورسالته). ولذا فإن ثمّة ثغرةً زمنيّة ما بينهما والقرن السّادس عشر الذي تعود إليه المخطوطتان الحاليّتان، فعلامَ يدلّ هذا الأمر؟
يدلّ أولاً: على أن القرون التي أعقبت مَجْمَعي نيقية (325 م) وخَلقيدونية (451 م) مارست فيهما الإمبراطوريّة البيزنطيّة - وهي القوة السّياسيّة والعسكريّة الكبرى في آسيا الصّغرى وشرقي المتوسط آنذاك - هَيمَنة دينيّة تعسّفيّة عنيفة جداً، فكانت تُعامِل كل فئة قوميّة إثنيّة أو مذهبيّة تناقض مذهبها (الملكي الأرثوذوكسي) بمنتهى الاضطهاد والتّعذيب.  وكنّا ذكرنا آنفاً ما طال أبناء المذاهب السّريانيّة بتهمة انتمائهم إلى العقيدة اليعقوبية »المونوفيزيّة« (المؤمنة بطبيعة واحدة للمسيح)، التي حرّمها مجمع خَلقيدونية (بأيام مَرقيانوس).
فغنيّ عن القول أن جميع ما طالته يد بيزنطة من وثائق ومخطوطات دينيّة تخالف عقيدتها النّيقاويّة التّثليثيّة، كان مصيره واضحاً ومعروفاً: الحرق!  والله وحده يعلم كم نسخة تمّ إحراقها من »إنجيل بارْنَبا«، ومن »إنجيل متّى الآرامي« (الأصلي القديم، لا إنجيل متّى القانوني الذي عملت فيه أيدي روما أواخر القرن الأول تحويراً وتعديلاً)، وهذا الإنجيل هو الكتاب الوحيد الذي يعترف به مذهب »الإبيونيّين« التّوحيدي، وله اسمٌ مُوازٍ آخر: »الإنجيل حسب العبرانيّين«، وهو أصلٌ نصرانيّ توحيديّ صرف (انظر تعريف الإبيونيّة في الخاتمة).
ثانياً: لا يعني ذلك أن إنجيل بارْنَبا قد بادَ إلى الأبد، أبداً.. فإنّ يد القدر أعادته إلى الظهور ثانية في أواخر القرن السّادس عشر (في المخطوطتين اللتين نقدّم وصفهما أدناه)، ويعود الفضل في ظهوره إلى الرّاهب اللاتيني الإيطالي فراتيلّو (الأخ) »مارينو«  Fratello Marino، كما سيلي بيانه في مقدّمة المخطوطة الإسپانيّة التي صدّرنا بها المتن المترجم لإنجيل بارْنَبا.
فهل وصَلَنا الإنجيل - برغم الثّغرة المذكورة - كاملاً تامّاً ودقيقاً؟ 
هذا طبعاً أمرٌ لا يمكن جزمه 100 %، إذا أخذنا بعين الاعتبار كونه قد تُرجم عدّة مرّات (من النصّ الشّفاهي الآرامي، إلى متنه الأول اليوناني، ثمّ اللاتيني، ومنها إلى الإيطاليّة والإسپانيّة).  لا ريب أن هذا يمكن أن يترك هَناتٍ على حرفيّة المتن، ولكن عندما يتدخّل علم »النّقد النصّي« فإنّ بوسعه إقامة ميزان عالي الدّقة لضبط معايير النصّ، حتى ترتفع موثوقيّته إلى الحدّ الكافي.
ناهيك عن أنّنا لن نفقد الأمل في العثور يوماً ما - إن شاء الله العليّ القدير - على نسخة أقدم منه (باليونانيّة أو السّريانيّة أو القبطيّة)، ساعتها سيكون من دواعي سرورنا أن نقارن مدى الدّقّة التي توصّلنا إليها اليوم.. ويأتيك بالأخبار مَن لم تزوّدِ!
كذلك، فمن دواعي أملنا الكبير العثور يوماً ما على نسخة من »إنجيل متّى الآرامي« الضائع، الذي نرى حقاً أنّه يمثّل لإنجيل بارْنَبا أصلاً عقائديّاً يتماشى معه خطوة بخطوة ومعياراً بمعيار.  لا ريب لدينا بأنّنا سنشهد بينهما تطابقاً مذهلاً على صعيد التّركيب النصّي والمحتوى الفكري الثيولوجي.  فقناعتنا باتت كبيرة الآن أن »إنجيل بارْنَبا« يجسّد نتاجاً صافياً من القرن الأوّل لـ »كنيسة أورشليم« التّوحيديّة الأولى، ولمذهب »الإبيونيّة« التّوحيدي النّابع منها مُباشرة.
ويكفي أن نلاحظ أن الكتابين كليهما أُدرجا في »قائمة الستّين كتاباً«، بأنّهما مَنحولان ممنوعان تُحـرّم السّلطات الدّينيّة الرّوميّة قراءتهما.  هذا المنع بالذّات هو شهادة لهما بـأن فيهما قديماً ما يُناقض التّثليث اليوليني والنّيقاوي، وها هو ذا النّصّ الذي ننشره اليوم يشهد بقوّة على ما نقول.  غير أنّه وإن بدا بمظهر يتوازى ويتوائم مع عقيدة الإسـلام، فهذا لا يعني أبداً أنّه كان نتاجاً لها!  لن نطلب من أحدٍ أن يصدّقنا الآن، قبل أن يقرأ متن النصّ وحُجَجه العلميّة.

5 - نوفمبر - 2007
إنجيل بارنبا: أهو حقاً الإنجيل الصحيح؟
 3  4  5  6  7