البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات لمياء بن غربية

 3  4  5  6  7 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
تتمة المقال     كن أول من يقيّم

 
6-المدية بعد 1830 :
كانت المدن الجزائرية منذ القرن 18م في انحطاط مستمر ، فقدت نشاطها وحضارتها وخلت من عدد كبير من سكانها ، فالجزائر مثلا كانت من أعظم الأمصار في القرن 17  (100000) نسمة ولم يبق فيها إلا 30 ألف نسمة حوالي سنة 1830م ، وافتقرت وهران واقفرت من أهلها وأصبح هؤلاء 900 ن . وكذلك شأن تلمسان منذ استيلاء الأتراك عليها (155) ، أما المدية فإنها مع قلة عدد سكانها (يتراوحون بين 400 و500 ن) فقد حافظت على أهميتها وعلى دورها السياسي والإقتصادي ، فهي عاصمة بايلك التطري ، وهي قاعدة عدد كبير من الأتراك والكلغان ، وهي في طريق تجاري بين الجنوب والشمال .
 
الحملة الفرنسية الأولى على المدية :
من نتائج ثورة جوليت 1830 في فرنسا أن جيشها هنا أصبح يشعر بعدم مبالاة القادة والساسة بشؤونه وأصبح الجزائريون بعد سقوط شارل العاشر           (charles X) يتوقعون انسحاب الفرنسيين من أرضهم ، وتساءل الجنود ما فائدة احتلال الجزائر العاصمة وحدها .
وعين كلوزيل clauzel في سبتمبر 1830 إلى فيفري 1831م ، فكانت سياسته ترمي إلى أهداف ثلاثة :
*بقاء الفرنسيين في الجزائر العاصمة.
*إنشاء إدارة فرنسية للأماكن المحتلة.
*التوغل داخل البلاد حتى يكون للمعمرين قواعد ثابتة لا ينازعهم فيها أحد ، لاسيما وأن الرأي العام الجزائري بدأ يميل ألى المقاومة مثلا :
استمال بومزراق الأتراك ،وهاجم ابنه القوافل الفرنسية عدة مرات.
وهاهو بن مزمون قائد فليسة يعلن عن عدم رضوخه  للفرنسيين.
فقرر كلوزيل clauzel حملة على المدية (التي هي في نفس الوقت حملة استطلاع) ، لماذا ؟ ليتخلى المسلمون عن كل أمل في انسحاب فرنسا من الجزائر ولرفع معنوية الجيوش ولمعاقبة باي المدية الذي كان في نظرهم رمز المقاومة ، وأخيرا لأن المدية تحكم مع البرواقية طريق الجنوب ،فخرج الفرنسيس من الجزائر في 17/11/1830 في 10000 جندي ودخلوا البليدة ونهبوها نهبا وكانت المقاومة شديدة ، ثم استولوا على ثنية مُزايا Mouzai ثم دخلوا المدية في 22/11/1830 فعزلوا بومزراق وعينوا بايا آخر هو مصطفى بن الحاج عمر ، ثم عادوا إلى الجزائر .
وكان سلطان المغرب مولاي عبد الرحمان قد احتل تلمسان وجعل على رأسها مولاي علي ،إلا أن الأهالي ثاروا على السلطان وطردوا ممثله فبعث مولاي عبد الرحمان قائدين للدوائر كانا معتقلين بفاس فجمعا جيوشا ونصبا ممثلين للسلطان العلوي ، أحدهما في مليانة والآخر في المدية ، ولم يطل نفوذ السلطان هنا وعاد برتوزين Berthezene إلى المدية ودخلها في 29 جوان 1831م.
 
عهد الأمير عبد القادر:
كان الأمير بعد تأهبه للمعركة (بعد 1834) يفكر في ضرورة توسيع دولته من الناحية الشرقية بضم التطري والمدية وبالاستيلاء على مليانة حتى يتمكن من محاربة الأجانب .
ففي 1835 دخل مليانة ونصب أخاه الحاج محي الدين الصغير على رأسها ثم فكر في المدية وكان عالما بأهميتها الجغرافية والاستراتيجية (هي في طريق الجزائر والجنوب وهي قاعدة ستنطلق منها غارات على النواحي الشرقية ، وهي حصن يحمي الناحية الغربية) .وكانت نواحي المدية خاضعة لنفوذ ولي من أولياء درقاوة هو :
الحاج موسى الدرقاوي : الذي أعلن الجهاد على النصارى فقدم الى المدية في أفريل 1835 وطلب من سكانها أن يسلموا له يهود المدية وأباضييها فامتنع السكان ، ثم صالحوا هذا الشيخ وسمحوا له بدخول المدية ومنها انطلق على حماره لقتال الفرنسيس (فسمي "بوحمار") ولم يرض الأمير بغيره ليتزعم الجهاد ، ونزل عبد القادر من مليانة في 20 أفريل 1835م واصطدم بالحاج موسى في حوش عمورة على 12 كيلومتر من لربعة بني جندل ، وانهزم الحاج موسى فمكنه هذا النصر من فتح المدية وعين خليفة له بها :محمد بن عيسى البركاني ، وأعدم أنصار الحاج موسى ثم عاد إلى معسكر ، وقبل مغادرته المدية استقبل الأمير مبعوثا فرنسيا وهو القبطان Capitaine St Hippolyte الذي جاء ليهنئه ويسلمه بعض الهدايا .
وتعكر الجو بينه وبين الفرنسيس فكان الأمير يغزو القبائل المبايعة لفرنسا وكان كلوزيل clauzel يغزو القبائل المناصرة لعبد القادر وهكذا عاد كلوزيل مرة أخرى إلى المدية في مارس 1836 ليفرض على السكان الباي "محمد بن حسين" الذي عينته السلطة الفرنسية ، فكان رد فعل الأمي سريعا فهاجم أنصاره المدية واستولوا على المدينة وبعثوا الباي إلى وجدة حيث قتل ، لكن في 7 أفريل 1836 دخل دي ميشال Desmichelas المدية من جديد .
وتطور الوضع شيئا فشيئا وعاد الأمير إلى وادي شلف سنة 1837 ، ثم إلى المدية وألقى القبض على 80 من الكرغلان ، وبعث بهم إلى مليانة ، وفي أثناء إقامته بالمدية ، استقبل الأمير أعيان البليدة ثم نصب بعد ذلك أخاه "الحاج مصطفى" خليفة له على المدية .
ثم زحف أول ديسمبر 1837 إلى أولاد المختار جنوب المدية ، وكان يوجد بهم رجل يدعى "الحاج عبد الله " أتى من المغرب الأقصى وتنبأ وادعى أنه المهدي ، فوقع هذا في قبضة الأمير ، فبعثه إلى سلطان المغرب الذي كان في طلبه ، ولكن خصوم الأمير مثل الدواير والعبيد وناخة وأولاد نايل وأولاد المختار ، لا زالوا يتربصون الفرص واضطر الأمير إلى غزو زناجة جنوب بوغار مدو 3 أيام حتى النصر ، وفي المدية توجه الأمير لمحاربة الزواتنة وهم كرغلان نزلوا وادي الزيتون غرب يسر ثم عاد إلى المدية ، وبهذا استقبل مبعوث الوالي فالي  valée لمباحثة موضوع معاهدة تافنة ، كما استقبل بها "الحاج عيسى الأغواطي" فعينه خليفة على الأغواط ، وكان كلاهما ضد زاوية التيجانيّة عين ماضي ، قبل نهوضه لمحاربة الشيخ التيجاني ، بعث الأمير كرغلان المدية إلى تاقدمت  وكان بتوقع فيهم الميل إلى فرنسا ، وفي طريقه إلى عين ماضي ، اختط حصن تازا في الجنوب الغربي للمدية .
وعندما دخلت حكومة الامير في عصرها الذهبي وبلغت سلطته أقصى ما عرفه ، قرر أن تكون المدية مقر الخليفة ، وعين "البَرْكاني" فيها ، وأصبحت المدية مع تلمسان ومعسكر ومليانة ، عبارة عن جبهة تساير الساحل ، وتقف في وجه العدو . وفي نوفمبر 1839 رجع عبد القادر إلى المدية ليستأنف الحرب ، فكانت المدينة عاصمة دولته ، فتوجه إليها الأعيان والأنصار ، ونشبت الحرب ولعب خليفة مليانة (وهو بن علال ولد سيدي علي مبارك ) وخليفة المدية (وهو البَركاني) دورا هاما مثل تعطيل مواصلات العدو ، وقطع الماء على معسكر والبليدة .
 
الاحتلال الفرنسي للمدية :
قرر الوالي العام فالي valée احتلال المدية وليانة ، فدخل عاصمة التيطري في 17 ماي 1940 ، فوجدها خالية من أهلها الذين كانوا قد غادروها فعززها وحصنها ، وترك بها حامة بقيادة الجنرال "دو فيفي" Duvivier ، إلى أن قدم إليها "بوجو" Bugeaud في 1 أفريل 1841 ، ففر البَركاني إلى الجنوب بعد ما خانه أعوانه وفارقه جنوده (إلى ضواحي شرشال) وفي 1842 الدائرة العسكري بالمدية التي كلفت بالقبض على "زمالة الأمير " (تلك العاصمة المتنقلة في الجنوب) .
ثم كان دخول المعمرين إلى المدية وضواحيها ( في 1847  بلغ عددهم 2322 ن) وأصبحت المدية بعد 1850 تحت الحكم المدني ، فكان يتصرف بشؤونها مندوب مدني ، وبدأت الجاليات الزراعية تنزل بضواحي المدية كـ لودي lodi ودميات Damiette في جانفي 1853 ، وبسطت السلطات الفرنسية نفوذها شيئا فشيئا ، وهكذا قررت في جوان 1854 أن تكون المدية بلدية على رأسها شيخ منتخب ، كما قررت إحداث نيابة العمالة في 1858 ، واستمر عهد الاحتلال .
 
هذا هو تاريخ المدية إلى منتصف القرن 19م ، تاريخ ثغر ممتاز من ثغور المغرب ، لأنه في قلب المغرب الأوسط ، وفي الطريق بين الشمال والجنوب ، وفي الحدود بين أهل الحضر وأهل الوبر ، وفي ناحية خصبة فلا عجب إذا كان الصراع من أجل ضمها عنيفا ، وتاريخها كله من أجل هذا الغاية ....
 
                              
مصادر ومراجع :
العربية :
عبد الرحمان بن خلدون : كتاب العبر ج 7
يحيى بن خلدون : بغية الرواد
أبو عبد الله البكري: كتاب المسالك
 
Leon L’Africain :Description de l’afrique ..tome III
MARMOL : l’afrique tome II page 411
FOURNEL : la Conquête de l’Afrique par les Arabes tome II
REVUE AFRICAINE : Notice sur l’histoire et l’administration du Beylin du Titteri (par Federman et au Capitaine) 1865 et 1867 le Bey Mohamed Ad-Dabbah 1873
P.BOYER : Evolution de l’Algérie Mé-diane de 1830 à 1956 .(1960)
ISMAIL URBAIN : Notice sur l’ancienne province du Titterie
JOURNALE ASIATIQUE : XIII Série pp : 111-112
E.L : Art Médéa (G.Yver) Tome III page 449-500
H GUYON :Le département du Titterie ; son passé ; son histoire.
L.Cortès :Monographie de la Commune de Bédéa .Alger 1909
(brochure)
           
 
                   

28 - ديسمبر - 2007
المدية ، في مرآة التاريخ
ومضات ونبضات من شعر مفدي زكرياء     كن أول من يقيّم

د.مصطفى بن صالح باجو
كلية الشريعة والقانون. مسقط
 
محاضرة ألقيت في قاعة المحاضرات بجامع السلطان الأكبر في مسقط، مساء السبت 14/5/1/2005م، وحضرها بعض السفراء من الدول العربية الشقيقة، بدعوة من السفارة الجزائرية بمسقط، كما شرفها سعادة الشيخ سعيد بن ناصر المسكري الأمين العام لمركز السلطان قابوس للثقافة الإسلامية، والذي تكرم بفتح القاعة ليتم هذا اللقاء العلمي الأدبي.
 
تمهيد:
أصحاب السعادة والفضيلة، السفراء والعلماء، أيتها السيدات الفضليات، الحضور الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،،
تغمرني سعادة عارمة وأنا أتشرف بالمثول أمامكم لنتحاور معا في رحاب الشعر والأدب، ونصل رحما تجمعنا وآصرة تربطنا، ونستذكر تاريخا يشرفنا، وأعلاما كانوا غرة في جبين أمتنا.
تلبية لدعوة كريمة من سعادة سفير الجمهورية الجزائرية بسلطنة عمان المحترم محمد عباد لإقامة نشاط ثقافي بمناسبة يوم العلم الذي تحييه الجزائر في السادس عشر أبريل من كل عام، وإحياء لأحداث الثامن من ماي التي تذكرنا بسقوط أكثر من خمسين ألف شهيد حصدوا برشاش الاستعمار الفرنسي سنة 1945، بمدن شمال شرق الجزائر، في سطيف وقالمة وخراطة، فكانت شرارة التحرير الخالدة، التي انطلقت ليلة الفاتح من نوفمبر سنة 1954، وكللت باستقلال الجزائر يوم الخامس من يوليو سنة 1962، بعد ليل دام قرنا وثلث قرن من الزمان. ونحن اليوم ننعم بشمس الحرية والحمد لله.
لهذه المناسبات التاريخية المجيدة، كانت استجابتي لتقديم صفحة مشرقة عن إسهام الشعر في تاريخ الجزائر الحديث متمثلا في الشاعر الكبير مفدي زكرياء.
 
ولكن قبل البداية، ربما يتساءل بعضكم عن صلة عالم الفقه والشريعة برياض الشعر والأدب، فأسارع إلى الجواب أن الشعر روح اللغة، واللغة وعاء الشريعة، فبينهما وشائج ورحم يجب أن توصل، وحقوق ينبغي أن تؤدى، ومن حُرم نعمة الأدب بخس الشريعة حقها، ولم يحسن عرضها، وربما نفّر الناس منها لما يلبسها من لبوس التزمت والوقار، وينأى بها عن روح التيسيير التي حث عليها محمد البشير، عليه الصلاة والسلام.
 
سادتي الكرام، يدور حديثي إليكم حول شخصية هذا الشاعر الخالد الذي وقع خطو التحرير بألحان شعره، فصدح بها في الدنيا، وكتب الأناشيد الوطنية، و أصبح حقا شاعر وحدة المغرب العربي الكبير، وشاعر الثورة الجزائرية التي عرفت في العالم بثورة المليون ونصف المليون شهيد.
ويُجمع الدارسون أن هناك علاقة تأثير وتأثر بين ثورة التحرير الجزائرية وشاعرها العملاق مُفْدي زكرياء، فالثورة ألهمت شاعرها، والشاعر خلد ثورته في جل قصائده؛ إذ لا نلبث أن نذكر أحدهما حتى نتذكر الآخر.
 
أما الهدف من هذه الورقة فيتلخص في نقاط أساسية، هي:
أولا: التعريف بأعلام المغرب العربي وتقديم صورة منصفة عن إسهامهم الفكري والتاريخي لإخواننا المشارقة، والاستجابة لدعوات مخلصة نسمعها من أهل هذه الأرض الطيبة لإزالة الصورة الغامضة التي انطبعت عن عروبة وإسلام المغرب العربي في أذهان الكثيرين، مما كان له أسبابه التاريخية والجغرافية، ولكن لم تعد لها مبرراتها في عصر العولمة والأنترنت، حيث تيسرت سبل الاتصال والتواصل، وكان واجبا عينيا على أهل كل قطر عربي أن يعرف ويعرّف بباقي أشقائه في أرجاء الوطن الكبير.
ثانيا: دعم مسيرة التواصل الثقافي والعلمي بين جناحي الوطن العربي مشرقه ومغربه، دفعا لجهود المخلصين لتقويم هذا النتاج العلمي والاستفادة منها، وبيان ما له وما عليه بكل موضوعية وإنصاف.
ثالثا: إبراز أحد أوجه المقاومة الوطنية للاستعمار الفرنسي الذي جثم على أرض الجزائر مائة واثنتين وثلاثين سنة كاملة، وسعى لمحو المقومات الشخصية للجزائر العربية المسلمة، وتحليل بعض مضامين هذا النتاج الشعري في أبعاده الفنية والموضوعية.
ولعل من يمن الطالع أن يجمع شهر نوفمبر بين الجزائر وعمان، فيكون منطلقا لعهد جديد، عهد خير وازدهار، يتحقق فيه للشعبين الانطلاق في مسيرة البناء والتقدم لبناء الإنسان الذي يعمر الأوطان وينشر الخير والعدل في كل مكان.
 
من خلال هذه الأهداف الثلاثة ننطلق لنتعرف على الشاعر مُفْدي زكرياء، في لمحة عجلى تترسم منشأه ومرباه، وعوامل نبوغه الشعري، ومضامين شعره، والمحاور الكبرى التي عالجها، مع إشارة إلى بعض خصائصه الفنية ومميزاته الجمالية.
ولا تعدو هذه الورقات أن تكون فتحا للشهية وإشارة متواضعة إلى هذا النبع الثر، والتراث الشعري الذي خلد به زكرياء أمجاد وطنه، وقضى حياته يوظفه لخدمة الحق والخير والعدل، وحداء قافلة الوطن إلى رياض الحرية والاستقلال.
 
وقد تناولت دراسات أكاديمية وبحوث مستفيضة نتاج زكرياء الشعري، ونالت شهادات جامعية عليا، وأقيمت له ندوات عديدة، كما تكرمت رئاسة الجمهورية الجزائرية بتأسيس مؤسسة باسم مُفْدي زكرياء، في أكتوبر سنة 2001، وبمناسبة مرور ربع قرن على رحيله خصصت سنة كاملة لإحياء مآثره، هي سنة 2002، سمتها "سنة مُفْدي زكرياء"، كانت سنة حافلة بالندوات والأنشطة الثقافية إشادة وتنويها بما قدمه هذا الشاعر الكبير لأمته ووطنه .
كما بُرمج إقامة ملتقى دولي بعنوان" الأبعاد الدينية والفلسفية والتربوية لآثار مُفْدي زكرياء" بمدينة غرداية في: 08-09 ماي 2005.
 
أعمال حول مُفْدي زكرياء:
لا تدعي هذه القراءة سبقا ولا إبداعا في تناول شعر زكرياء، بل هي فتح شهية وإشارة إلى معينه وما فيه من روائع خالدات، تناولتها دراسات مستفيضة متخصصة، نذكر من أبرز الأعمال التي تناولت شعر مُفْدي زكرياء، الدراسات الآتية:
 
1-كتاب "مُفْدي زكرياء شاعر النضال والثورة"
يعد هذا الكتاب رائد الدراسات الأكاديمية، والبوابة التي دلف منها الباحثون لهذا الشاعر الكبير، ومن الإنصاف الاعتراف بالفضل لمؤلفه الدكتور محمد ناصر على هذا الجهد العلمي الطيب، لما تميز به من تحليل دقيق لنتاج زكرياء الشعري، من الناحيتين الفنية والموضوعية على حد سواء، ولما نشره من تراث مخطوط لزكرياء لأول مرة يرى النور. وطبع الكتاب طبعة أولى سنة 1984، وثانية 1989.
 
2- شعر الثورة عند مُفْدي زكرياء، دراسة فنية تحليلية.
للدكتور يحي الشيخ صالح، وأصل الكتاب رسالة ماجستير نوقشت بجامعة قسنطينة بالجزائر، سنة 1986م. تناول فيها بالتحليل مضمون شعر زكرياء المتعلق بالثورة الجزائرية.
 
3-شعر مُفْدي زكرياء.دراسة موضوعية وفنية.
للدكتور حواس بري، تناوله في رسالة ماجستير بجامعة عين شمس، بالقاهرة، سنة 1987م.
 
4-مُفْدي زكرياء شاعر مجد ثورة.
للباحث بلقاسم بن عبد الله، تاريخ النشر: الطبعة الأولى 1990، الثانية 2003
والكتاب عبارة عن وثائق ومقابلات وشهادات في حق هذا الشاعر الكبير، الذي لم ينل بعد حقه من التقدير رغم مرور ربع قرن على أفول نجمه عن عالم الأحياء. لكن نجم شعره ظل ماثلا في القلوب والضمائر، يتحدى الزمان والمكان. لما يحوي من خصوبة التجربة الشعرية والصدق والصراحة والجمال التصوير الذي عز أن يجتمع لشاعر مثلما تسنى لزكرياء.
هذا الكتاب ثمرة جهود جادة متواصلة عبر ثلاثين سنة، استهلها بلقاسم بن عبد الله بأول و أهم حوار مطول مع الشاعر مُفْدي زكريا في صيف 1972 ليواصل المشوار بسلسلة من المقابلات و المقالات لإنصاف الشاعر، فجاء كتابه في مائتين وأربعين صحيفة، جمع بين المادة الأدبية و التاريخية، والأسلوب الصحفي المنهجي، وتضمن حوارات و ذكريات وقصائد مخطوطة ومغمورة ووثائق وصورا نادرة.
 
5-مُفْدي زكرياء في ذاكرة الصحافة الوطنية الجزائرية
صدر حديثا عن مؤسسة مُفْدي زكرياء كتاب تحت عنوان كلمات.. "مُفْدي زكرياء في ذاكرة الصحافة الوطنية" للمؤلف محمد عيسي وموسي وهو عبارة عن رحلة في ذاكرة الصحافة الوطنية وذلك بمناسبة سنة حصاد مُفْدي زكرياء. ويقع الكتاب في 345 صفحة من القطع الكبير ويعد رحلة في ذاكرة الصحافة الوطنية مع عينة مختارة محددة امتدادها تسع سنوات من سنة 1985 إلى 1993.
 

8 - فبراير - 2008
مُفدي زكريا ء، كاتب النشيد الوطني
تتمة المحاضرة ..1    كن أول من يقيّم

 
 
فمن هو مُفْدي زكرياء:
الاسم: زكرياء بن سليمان بن يحي بن الشيخ سليمان، ولقب أسرته آل الشيخ.
ولد سنة 1908م. بل ذهب بعضهم إلى تحديده بدقة، وهو يوم الجمعة 12 جمادى الأولى 1326 هـ الموافق 12 يونيه/حزيران 1908م، ببلدة بني يزجن، ولاية غرداية جنوب الجزائر.
لقبَّه زميل دراسته سليمان بو جناح بـ "مُفْدِي" فأصبح لقبه الأدبي الذي اشتهر به.
المسار التاريخي:
بدأ مفدي زكرياء مساره في مسقط رأسه متعلما بكتّاب البلدة، حيث حفظ أجزاء من القرآن ومبادئ العربية والفقه، ثم اصطحبه والده معه وهو ابن سبع سنين إلى مدينة عنابة شمال شرق الجزائر التي كان تاجرا بها، وفيها أتم حفظ القرآن، ثم جعل يتردد بينها وبين مسقط رأسه ولم تنتظم دراسته، حتى سنة 1922 إذ قرر والده إرساله إلى تونس، فالتحق بمدرسة السلام القرآنية، وبعد سنتين انتقل إلى المدرسة الخلدونية، ثم تحول إلى جامع الزيتونة، وأخذ عن علمائها دروس اللغة والبلاغة والأصول، وكان خلال ذلك طالبا ذكيا نجيبا، برزت مواهبه الشعرية مبكرا، وشغف بندوات الشعر والأدب التي كان يعقدها الأديب العربي الكبادي. كما كان يتلقف ما يصل إلى تونس من مجلات شرقية تبعث النخوة والوطنية فيتشربها ويتخذ مواضيعها مجالا للتدرب على الإنشاء والكتابة. نثرا وشعرا. وكان يعرض شعره على أساتذته في البعثة العلمية الميزابية بتونس لتقويمه، حتى انقاد له القريض.
وتعد فترة مكوثه بتونس مرحلة التكوين الأصيل التي وجهته التوجيه الأدبي والسياسي بعد ذلك.
 
وكان للبيئة الإسلامية الأصيلة التي نشأها ولمصادر ثقافته الدينية ولما عاينه من استبداد الاستعمار الفرنسي أكبر الأثر في تشكيل شخصيته الشعرية والمتحدية التي طبعت إنتاجه الأدبي.
 
ثم رجع من تونس إلى الجزائر، وتوجه للعمل التجاري ولكنه لم ينقطع عن مجال الفكر والأدب، وإن لم يكتب له النجاح في المجال التجاري رغم تقلبه في أنواع من النشاط وانطلاقه في مشاريع عديدة كان نصيبه فيها الفشل .
 
وكان من رواد الحركة الوطنية التي تبنت مبدأ الاستقلال، مثل حزب نجم شمال افريقية وحزب الشعب، وقد نظم فيها شعرا وطنيا صادقا، كما كان مؤيدا لجهود جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ولكنه آثر الانضمام إلى الحركات الوطنية الأخرى، حتى جاءت الثورة فكان سباقا إلى رحابها فارتمى فيها ولقي في سبيلها ألوان العذاب، وسجنته السلطات الاستعمارية خمس مرات، دامت في مجموعها عدة سنوات.
 
وكان ضمير ثورة التحرير الحي ورائد قافلتها، يردد الوطنيون أشعاره في ساحات المعارك، وعلى أعواد المشانق، حتى بزغ فجر الحرية، فاستقر بالجزائر في نشاط وفتح مكتبا للتمثيل التجاري، ولكنه كان عاثر الحظ في هذا المجال، ولم تسعفه الظروف للاستقرار، فتوجه إلى تونس سنة 1963 ومكث بها إلى سنة 1969 حيث يمم شطر المغرب واستقر بالدار البيضاء وفتح مدرسة للتعليم الثانوي، وفتح خطا لنقل البضائع.
 
وظل يجمع كما دأب طول حياته بين أعماله التجارية والإدارية وإبداعاته الأدبية، وتردد كثيرا بين أقطار المغرب العربي مشاركا في تظاهراته ونشاطاته الثقافية والسياسية، وشارك بشعره ومناقشاته في جل ملتقيات الفكر الإسلامي بالجزائر .
 
وختم حياته برائعته الخالدة "إلياذة الجزائر" جمع فيها ما تفرق في غيرها، وأبرز فيها لوح الجمال ولوح الجلال، جمال الطبيعة الساحر، وجلال التاريخ الزاخر.
 
وكانت وفاته يوم الأربعاء 02 رمضان 1397هـ الموافق 17 أوت 1977م بتونس وعمره تسعة وستون عاما، ونقل جثمانه إلى الجزائر ودفن بمسقط رأسه في بني يزقن - ولاية غرداية.
 
منابع ثقافة زكرياء:
1- القرآن،
2- التراث العربي الإسلامي،
3- البيئة المحافظة.
4- التحدي الاستعماري لاجتثاث المجتمع الجزائري من ثوابته ومقوماته.
فالمطلع على آثار مُفْدي زكرياء، خاصة منها قصائده الشعرية، يدرك بجلاء أثر المصادر الدينية الإسلامية فيها، خاصة تأثير القرآن الكريم، والسيرة النبوية الشريفة والتاريخ الإسلامي الحافل بالأمجاد والبطولات؛ كما أن آثار مُفْدي الأدبية، لا تخلو من معانٍ فلسفية تتجلى في الفكرة العميقة، والحجة القوية، والنقد الجريء، ناهيك عن الرؤية الشاملة في تناول الموضوعات مما ينم عن عبقرية فلسفية متفردة.
 
إلى جانب هذا فإن آثار مفدي مملوءة بالتوجيهات التربوية؛ فآثاره وشعره بالأخص يعد مدرسة لتربية الأجيال، تبث القيم النبيلة الداعية للتشبث بالأصالة والروح الوطنية، والسعي للذود عن الدين والوطن.

8 - فبراير - 2008
مُفدي زكريا ء، كاتب النشيد الوطني
تتمة المحاضرة...2    كن أول من يقيّم

 
إنتاج مُفدي زكرياء:
 
أولا: الشعر
 
يمكن اختزال مضمون ومعالم شعر زكرياء، أنه كان شعر قضية، إذ لم يكن في كتابته الشعرية لاهيا أو متسليا، ولم ينظم الشعر مضاهاة أو مباهاة، ولكن كان شعره نبض مشاعر، وصدى لأمة ذاقت ألوان العذاب وعرفت أقسى أنواع الاستعمار، إذ احتل الأرض وسعى ليسلب العقل والقلب، ويمسخ الفكر واللسان، ويشوه التاريخ، وبذل في سبيل ذلك كل حيلة واتخذ له ألف وسيلة.
ولكن يقظة الضمير الحر في أبناء الشعب الجزائري حالت دون تحقيق هذه المطامح، فتضافر العلماء والمصلحون، والشعراء والمثقفون، لتحصين الشعب من داء المسخ والفرنجة، وتركيز هويته وأصالته، فتحقق المراد وبزغ فجر الاستقلال.
وانتظم شعر زكرياء في هذا المسار منذ بواكير إنتاجه واستمر وفيا لهذا الخط إلى آخر رمق من حياته. ولم تغيره الظروف المتقلبة والمحن المتتالية عن هدفه المرسوم، بل ظل يلهج بحب الوطن ويشيد بالأمجاد والقيم، وينـزل بشعره حَمما على الظالمين، ويدعو إلى وحدة العرب والمسلمين، حتى وافاه أجله ولحنه الخالد: الأصالة والوطنية، والوحدة والحرية.
 
ويتمثل نتاجه الشعر في الدواوين الآتية:
 
1- اللهب المقدس. صدر سنة 1961
2- تحت ظلال الزيتون. سنة 1965
3- من وحي الأطلس. 1976
4- وإلياذة الجزائر في ألف بيت وبيت 1972.
كتب شاعر الثورة مُفْدي زكرياء رائعته (إلياذة الجزائر) وألقاها لأول مرة في جلسات الملتقى السادس للفكر الإسلامي المنعقد في قصر الأمم بالجزائر العاصمة في شهر جويلية 1972، وفي السنة نفسها صدرت الإلياذة في واحدة وستين مقطوعة (61)، تضم ست مائة وأحد عشر بيتا (611)، وفي السنة الموالية (1973) صدر نصها الكامل في مائة مقطوعة (100)، تضم ألف بيت وبيتا (1001) من الشعر، كتبها الخطاط الأستاذ عبد المجيد غالب، وكتب تقديمها المرحوم الأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم، الذي كان وزيرا للشؤون الدينية حينئذ، وكانت له مساهمة فعالة في ميلاد الإلياذة بما كان ينفح به زكرياء من حقائق التاريخ ليصوغها شعرا نابضا بالحياة، بالاستعانة بالمؤرخ التونسي الكبير عثمان الكعاك.
ثم توالى من بعد، صدور طبعات مصورة طبقا لاصل طبعة سنة 1973، وذلك في السنوات التالية: (1986، 1987، 1992، 1995، 2001 ، 2002).
5- أمجادنا تتكلم. تحقيق مصطفى بن بكير حمودة، وتقديم رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة.
يقع الديوان في أكثر من 300 صفحة يحتوي على تسعة و سبعين قصيدة اختير عنوان الديوان من رائعته عن أمجاد مدينة بجاية بمناسبة الملتقى الثامن للفكر الإسلامي الذي انعقد في بجاية يوم 25 مارس 1974 وضع لها الشاعر عنوانًا هو "أمجادنا تتكلم".
واعتمد المحقق مصادر عدة لتجميع هذه القصائد المتناثرة من مكتبة الشاعر ورفاقه وجهود بعض الباحثين خارج الجزائر.
وقد حظي الديوان بتصدير بقلم فخامة رئيس الجمهورية جاء فيه: «إن إصدار آثار مُفْدي زكرياء، وجعلها في متناول الأجيال لهو واجب يدخل في صميم رعاية أنصع و أشرق ما نقشه المجاهدون والمجاهدات في ذاكرتنا الوطنية عبر العصور، إنها تمثل صفحات فريدة من نوعها في ثبت أمجاد الجزائر والأمة العربية، ذلك لأنها تجمع بين الشموخ والفداء و التألق في الإبداع الشعري والرفعة والسموق في الإباء والجهاد بالفكر الكلمة في سبيل تحرير الوطن»
ولزكرياء بعد هذه الدواوين الخمسة: جانب شعر كثير لا يزال متفرق في الصحافة الجزائرية والتونسية والمغربية، ودواوين معدة للطبع (أو طُبعتْ بعد ذلك) منها:
6- أهازيج الزحف المقدس (أغاني الشعب الجزائري الثائر بلغة الشعب).
7- و"انطلاقة" ديوان المعركة السياسية في الجزائر من عام 1935 ـ 1954.
8- و"الخافق المعذب" من شعر الهوى والشباب، ومحاولات الطفولة التي كتبها الشاعر في صباه.
9- كتب مفدي زكرياء الأناشيد الوطنية، ومنها النشيد الوطني الجزائري، ونشيد العلم الجزائري، ونشيد جيش التحرير الوطني، ونشيد المرأة الجزائرية، وغيرها من الأناشيد.
 
النثر:
 
10- تاريخ الصحافة العربية في الجزائر لمفدي زكرياء جمع وتحقيق د. أحمد حمدي.
تاريخ النشر: الجزائر – 2003
يعتبر نشر هذا الكتاب لبنة جديدة للتعريف بتراث زكرياء النثري المغمور، رغم أهميته، حيث يمكن من خلاله أن نتعرف على جانب آخر من عبقرية مفدي، وهي المتعلقة بالناثر الجاد، وذلك من خلال كتابه "تاريخ الصحافة العربية بالجزائر" والذي سهر على جمعه وتحقيقه وإخراجه في شكل كتاب بعدما كان حلقات إذاعية متسلسلة الأستاذ الدكتور أحمد حمدي.
وتضمن الكتاب رصد ظهور الصحافة العربية بالجزائر، معركة الصحافة الإصلاحية، ونماذج بارزة من هذه الصحف ودورها مثل "الشهاب" لابن باديس، و"المنهاج" لأبي إسحاق اطفيش، و"وادي ميزاب" لأبي اليقظان.
11- كما كتب مُفْدي مسرحية بعنوان "الثورة الكبرى
12- واشترك مع الأديب التونسي الهادي العبيدي في تأليف كتاب الأدب العربي في الجزائر عبر التاريخ (أربعة أجزاء)،
13- وفي كتاب "أنتم الناس أيها الشعراء".
14- كما شارك الأديب التونسي الحبيب شيبوب في تأليف كتاب "صلة الرحم الفكرية بين أقطار المغرب العربي الكبير".
15- وبمشاركة المؤرخ التونسي محمد الصالح المهيدي كتب عن أقطاب الفكر المغربي على الصعيد العالمي. وغيرها من الأعمال المشتركة.
16- ومن أعماله النثرية: نحو مجتمع أفضل،
17- وست سنوات في سجون فرنسا،
18- وحواء المغرب العربي الكبير في معركة التحرير،
19- وقاموس المغرب العربي الكبير (في اللهجات المغربية)
20- وعوائق انبعاث القصة العربية،
21- وقصة اليتيم في يوم العيد،
22- والجزائر بين الماضي والحاضر
23- وأضواء على وادي ميزاب
24- والكتاب الأبيض
 

8 - فبراير - 2008
مُفدي زكريا ء، كاتب النشيد الوطني
تتمة المحاضرة 3    كن أول من يقيّم

موضوعات شعر زكرياء
 
تناول زكرياء في شعره موضوعات أساسية كانت تخدم فكرته وتعالج واقعه، وتلبي طموحاته وما نذر نفسه له من فداء وطنه حتى تحقيق النصر والاستقلال. فكان موضوعه الأساس الوطن، وما حام حوله، وسعى للحفاظ عليه ورفع شأنه وتحقيق عزته وكرامته:
الوطن، الأمجاد، الحرية، الوحدة، الطبيعة، الأخلاق والقيم، محاربة الاستعمار، إنكار التفسخ الخلقي والانحلال.
 
ويمكن تحديد أهم أغراض الشعر عند زكرياء في النقاط الآتية:
1- التغني بالتاريخ والبطولات. والأمجاد، وهو جانب الجلال.
2- الإشادة بالوطن، وما يزخر به من جمال ساحر.
3- السخرية بالمستعمر وتحدي بطشه وجبروته.
4- التقريع والتشهير بالخونة والعملاء الذي يعينون المستعمر على بني جلدتهم.
5- الإشادة بالقيم والأصالة والدعوة للاستمساك بها.
6- التحذير من الانسلاخ والانبهار بالوافد من العادات التي تخالف أصالتها وتنافيها.
يقول في الاعتزاز بمقومات الأصالة:
 
شـربـت العقيدة حتى الثمالهْ فـأسلمتُ وجهي لرب الجلالهْ
ولـولا  الـوفـاء iiلإسـلامنا لـمـا  قرر الشعب يوما مآله
ولـولا  اسـتـقـامة أخلاقنا لما أخلص الشعب يوما نضاله
ولـولا تـحالف شعب iiوربٍّ لـمـا حقق الرب يوما سؤاله
هـو الـديـن يغمر iiأرواحنا بـنور  اليقين ويرسي iiالعداله
إذا  الـشعب أخلف عهد iiالإله وخـان  العقيدة فارقُب iiزواله
 
- الدعوة إلى الوحدة بكل معانيها ودوائرها، على المستوى الوطني، والمغربي، والعربي والإسلامي.
وقد جسد هذه الدعوة في نص دبجه بيده وتلاه على المؤتمر الرابع لطلبة شمال إفريقيا بتونس سنة 1934، سماه "ميثاق التوحيد" وجعله إيديولوجية وعقيدة، محددة في عشرة بنود. مما جاء فيها:
1. «آمنت بالله ربا وبالإسلام دينا، وبالقرآن إماما، وبالكعبة قبلة، وبسيدنا محمد نبيا ورسولا، وبشمال إفريقيا وطنا واحدا لا يتجزأ.
2. أقسم بوحدانية الله أنني أومن بوحدانية شمال إفريقيا وأعمل لها ما دام فيّ قلب خافق ودم دافق ونفس عالق.
3. كل مسلم، بشمال إفريقيا، يؤمن بالله ورسوله ووحدة شماله، هو أخي، وقسيم روحي، فلا أفرق بين تونسي وجزائري ومغربي، وبين مالكي وحنفي وشافعي وإباضي وحنبلي، ولا بين عربي وقبائلي، ولا بين مدني وقروي، ولا بين حضري وآفاقي، بل كلهم إخواني أحبهم وأحترمهم وأدافع عنهم ماداموا يعملون لله والوطن، وإذا خالفت هذا المبدأ فإنني أعتبر نفسي أعظم خائن لدينه ووطنه.
4. وطننا شمال إفريقيا جزء لا يتجزأ من جسم الشرق العربي، نفرح لفرحه ونتألم لألمه، ونتحرك لتحركه، ونسكن لسكونه، تربطنا به إلى الأبد روابط اللغة والعروبة والإسلام»…
إلى آخر البنود العشرة.
 
صلة زكرياء بالمشارقة:
يتضح من نص ميثاق التوحيد الحضور المشرقي القوي في فكر زكرياء، ودعوته للتوحيد تتجه دائما إلى هذا الأفق الرحيب الذي يحتضن العالم العربي والإسلامي قاطبة، وهو بحكم تكوينه الديني والأدبي يظل يعتبر القبلة صوب المشرق، فمنها المنهل وإليها يتجه الأمل.
 
والجدير بالتنويه أن من المحطات البارزة في مسار زكرياء الشعري انتداب جبهة التحرير له سنة 1961 ليمثل الجزائر في مهرجان الشعر العربي بدمشق، فتعرف عليه الشعراء العرب عن كثب، بعدما سمعوا روائع أشعاره من بعيد، وشد الانتباه إليهم بنتاجه المتميز المتقد حماسا ووطنية، وعزة وإباء. وزار في تلك الرحلة عددا من بلدان المشرق كالقاهرة ودمشق وبيروت، والأردن والعراق والسعودية والكويت وقطر. وسجل فيها أحاديث إذاعية ومقابلات صحفية وأمسيات شعرية. ودامت رحلته أربعة أشهر، حقق فيها نجاحا إعلاميا رائعا، كان فيها سفير الجزائر دون أوراق اعتماد.
 
ولكن هذا الصيت الداوي لزكرياء لم يستمر إلا لأمد محدود، إذ تنكر له الأقارب، فكان منطقيا أن ينساه الأباعد، ودارت عجلة الزمان، فأنصفته الأيام، وأعيد له الاعتبار، وعاد باقتدار إلى شرفاته في قصر الأدب العربي الشامخ.
 
ويأسف العارفون بزكرياء من الباحثين المشارقة أن اسمه لا يتردد بين شعراء العرب اللامعين، وإن بدأ يعرف طريقه مؤخرا بجهود فردية موفقة، منها «مقالات الشاعر الكبير فاروق شوشة بجريدة الأهرام، والتي أعاد نشرها في كتابه "الشعر أولا والشعر أخيرا" فتحدث عنه باعتباره رمز الارتفاع عن قيد العرق أو الجنس، إلى سماء النـزعة الوطنية والقومية والإسلامية، منفتحا على أفق إنساني رحب، وقيم سامية للخير والحق والجمال» .
 
 

8 - فبراير - 2008
مُفدي زكريا ء، كاتب النشيد الوطني
تتمة المحاضرة 4    كن أول من يقيّم

خصائص شعر زكرياء:
 
السمة البارزة في شعر زكرياء هي الصدق الشعري وأثر المعاناة الشعورية فيه. السجون والتعذيب، محنة الشعب الجزائري في ظل الاحتلال.
 
ويمكن الإشارة إلى خصائص شعر زكرياء في النقاط الآتية:
1- أنه شعر أصيل حتى النخاع.
2- شعر صادق لأنه نابع من تجربة شعورية ومعاناة قاسية.
3- مستمد من التراث الإسلامي. مشبع بقيمه ومثله متأثر بعظمائه وتاريخه.
4- رائع في رسم الصور الشعرية الحية المؤثرة.
5- بارع في الاقتباس والتضمين. سواء للمفردات أم الأحداث، من القرآن أم من التاريخ.
 
ويمكن اختيار مقطعين من قصيدتين، تجليان هذه الخصائص في شعر غاية الجلاء:
 
الأولى في وصف مدينة قسنطينة، المعروفة تاريخيا باسم سِرْتَا، وهي مدينة محصنة بين الجبال، يحتضنها وادٍ سحيق يجري في سفوح جبالها، وتصل بين أجزاء المدينة جسور عالية بعضها معلقة بحبال من حديد، تعطي المدينة منظرا بديعا يتمازج فيه الجمال والجلال، يقول فيها:
 
وانـزل  بـدارات سرتا مطرقا، iiأدبًا فـبـيـن  أضـلـعها آباؤنا iiالصيد
وامـش الـهـوينا، ففي أحشائها iiأمم وفـي جـوانـحـهـا أسـد iiمعاميد
دم الـصـحـابـة مـعجون بتربتها قـد  خـلـدتـها على الدنيا الأسانيد
تـيـاهـة تـزدهـي عجبا iiبشاهقة مـن  الـجـبـال لـهـا لله iiتوحيد
"وادي الهوا" بالهوى نشوان خاصرها وخـاصـرتـه كـأن الأمر iiمقصود
لـدى  خـريـر من الأمواه iiتحسبها لـحـنـا  مـن الخلد قد غناه iiداوود
الـكـوثـر  العذب يحكيها ويحسدها وحوضها  الحلو مثل الحوض iiمورود
ونـسـمة  مثل أنفاس الحسان سرت لـطـفًا  يراقصها في الروض iiأملود
مرعى  الظبا وعرين الأسد لا iiعجب كـلاهـما في "جبال الوحش" iiموجود
مـنـاظـر  من صنيع الله قد iiملئت سـحـرا وشـعرا بها الخلاق iiمعبود
 
والصورة الثانية صدّر بها رائعته الخالدة "الذبيح الصاعد" التي كتبها متأثرا بمشهد إعدام رفيقه "أحمد زبانا" بالمقصلة في سجن بربروس، فراح يصور مشهد الجنازة عرسا نحو دار الخلود يمتلئ بالأناشيد، لا جنازة تخيم عليها الكآبة والحزن الشديد،
 
قـام يـخـتـال كالمسيح وئيدا يـتـهادى  نشوانَ، يتلو النشيدا
بـاسمَ الثغر، كالملائك، أو iiكالْ طفـل، يـستقبل الصباح iiالجديدا
شـامـخـاً أنـفه، جلالاً iiوتيهاً رافـعـاً  رأسَه، يناجي iiالخلودا
رافـلاً في خلاخل، زغردت iiتمـ لأ مـن لـحنها الفضاء iiالبعيدا!
حـالـمـاً،  كالكليم، كلّمه iiالمج د،  فـشد الحبال يبغي iiالصعودا
وتسامى،  كالروح، في ليلة iiالقد ر،  سلاماً، يشِعُّ في الكون iiعيدا
وامتطى مذبح البطولة معرا جاً ووافـى الـسماءَ يرجو iiالمزيدا
وتـعالى،  مثل المؤذن، iiيتلو… كـلمات  الهدى، ويدعو iiالرقودا
صـرخـة، ترجف العوالم iiمنها ونـداءٌ مـضـى يهز iiالوجودا:
"اشـنقوني، فلست أخشى iiحبالا واصلبوني فلست أخشى iiحديدا"
...
 
يعلق الدكتور محمد ناصر على هذا المقطع قائلا: « وقد وُفق الشاعر كل التوفيق إلى توظيف أدواته الفنية التي تضافرت جميعها على تفجير الإحساس بالموقف في نفس المتلقي، لهذا استغل مفدي –بدافع رؤيوي صادق- كل ما في الألفاظ والكلمات من طاقة إيحائية نغمًا وصورة ومعنى، فقدم بين أعيننا هذه اللوحة الخالدة التي تعدّ من أصدق اللوحات المجسدة لعظمة الثورة التحريرية الجزائرية»

8 - فبراير - 2008
مُفدي زكريا ء، كاتب النشيد الوطني
تتمة المحاضرة 5    كن أول من يقيّم

نماذج شعر زكرياء
 
لعلنا بحاجة إلى أن نسمع لزكرياء أكثر من أن نسمع عنه، وندع مجال التحليل والقراءة النقدية للمتخصصين، ونحاول التملي في بعض عيون شعر زكرياء، والتعرف على أهم القضايا التي تناولها وعالجها. وصرح بمواقفه الواضحة الثابتة أزاءها. مثل الشعر وموقفه من الشعر الحر، ومكانة الثورة في قلوب أبنائه، والدعوة إلى الوحدة، وغيرها من القضايا.
 
رسالة الشعر عند زكرياء:
 
يرى أن الدمع والبكاء لا يجدي إذا لم يصغه قالب شعري صادق يخلده ويبعث به موات القلوب:
 
ومـا الـدمـع بالسلوى إذا هو لم iiيكن تـرقـرَقَ  فـي شعر تردده الورقا
هـو الشعر أسرار القلوب iiتقمصت لـديـه فـأولاها الصراحة iiوالنطقا
هـو الـشعر أبيات النبوغ iiتفجرت بـكـاسـاته  البيضا فناولها iiالخلقا
هـو  الـشعر أنات القلوب iiترددت بـمـزهـره الصداح تخترق iiالأفقا
هو الشعر للإحساس أهدى من القطا وأبصر في بحر العواطف من iiزرقا
 
ويقول عن المنغمسين في مطالب الماديات ومن حُرموا نعمة الشعر:
 
دنـيـاهـمُ دنس الأطماع iiحرمتها والـشـعر كالوحي، أصفانا iiفزكّانا
وإنـنـا  الشعراء الناس، ما iiفتئت أرواحـنـا  تـغمر الإنسان iiإيمانا
رسـالـة الـشعر في الدنيا iiمقدسة لـولا الـنـبـوة كان الشعر قرآنا
فـكـم هـتـكنا بها الأستار مغلقة وكـم  غزونا بها في الغيب iiأكوانا
وكـم جـلـونا بها الأسرار iiمبهمة وكـم  أقـمـنـا بها للعدل iiميزانا
وكم صرعنا بها في الأرض طاغية وكـم رجمنا بها في الإنس iiشيطانا
وكـم حصدنا بها الأصنام iiشاخصة وكـم  بـعـثنا من الأصنام iiإنسانا
وكـم  رفـعـنا بها أعلام iiنهضتنا فـخـلـد  الشعر في الدنيا iiمزايانا
 
رأيه في الشعر الحر:
 
كان وفيا لكل أصيل يمت إلى جذور الأمة وتاريخها، وكان يرفض التجديد الذي يقفز على الثوابت والقواعد، ومن ذلك رفضه للشعر الحر باعتباره سطوا على نظام الشعر الأصيل، لأن النظم هو الذي يحفظ إيقاع الكلام ويعطيه موسيقاه الخاصة، وإذا تفلت منها صار نثرا، ويمكن تعليل رفضه للشعر الحر باعتباره نموذجا لهذا الوافد المتنافي مع شعرنا الأصيل.
فقد أورد بلقاسم بن عبد الله في كتابه "مفدي زكرياء شاعر مجد ثورة" حوارا مع الشاعر حول حياته وإنتاجه الشعري، وموقفه من الشعر القديم والجديد أو الحر والعمودي، وكان رأيه صريحا، إذ قال: «لا يوجد في اعتقادي، وفي مفهوم بني آدم، شعر قديم أو جديد، فإما شعر أو لا شعر، وكفى. وأنا أومن بالأصالة وبصلة الرحم بين المعاني والكلمات، وبالنبض الموسيقي المتجاوب مع نبضات القلب، وما عدا ذلك فسموه إن شئتم نثرا مجنحا، وإن خلا من البيان وأصالة الكلمة، فسموه رطانة ولغوا وهراء، وإذا شذ عن كل ذلك فسموه شعر الخنافيس، أو شعر الهيبي، أو شعر النايلون أو شعر الساندويتش، أو ما شاء لكم الخيال. والموضوع على بساطته يحتاج إلى كثير من الإسهاب، وفي برنامج يُذاع لي حاليا بإذاعة الرباط "الصراع بين الشعر الأصيل والشعر الدخيل" الجواب الكافي". »
 
كما اعتبر هذا الشعر لقيطا لأنه مبتور الصلة بتراثنا العربي الإسلامي، معنى ووزنا:
 
وعـابـثـيـن  أرادو الـشعر مهزلة فـأزعـجـوا  بـرخيص القول iiآذانا
تـنـكـروا لـلـقوافي حين أعجزهم صـوغ  الـقوافي، وضلوا عن iiثنايانا
قـالـوا:  جمود على الأوضاع iiوزنكمُ فـشـعـرنـا الـحر لا يحتاج ميزانا
فـأيـن  مـن جـرس الإيقاع خلطكم مـا الشعر؟ إن لم يكن دوحًا iiوأغصانا
وهـل  أعار رواة الشعر لغوكم وزناً وهـل حـشـوكـمُ بـالحفظ iiأغرانا؟
ومـا الـذي يـصل الأرحام في غدكم إن  كـان مـاضـيـكمُ زورا iiوبهتانا
"رجعى" العروبة لا "عدوى" الدخيل بنا شـتـان  مـا بـين عدواكمُ iiورُجعانا
 
وظل يقرع دعاة الشعر الحر كلما سنحت له فرصة، فهذه واحدة أرسلها في إلياذته منددا بدعاة التقدم الأهوج، القائم على نقض الأصول وعدم التمييز بين الثوابت والمتغيرات:
 
وقـالـوا:  الـتقدم شِعر iiلقيط تـطـيـر الأصالة فيه iiشظايا
تـفـاعـيـله كضمير iiاليهود يـصـوغ  مبانيه خبث النوايا
وقد أصبح الشعر كالجيل خنثى تـذيـب  الميوعة فيه iiالخلايا

8 - فبراير - 2008
مُفدي زكريا ء، كاتب النشيد الوطني
تتمة المحاضرة 6    كن أول من يقيّم

تصوير عظمة الثورة في نفوس أبنائها:
 
يحشد صورا رمزية مكثفة لبيان عظمة هذه الثورة وما حققته من معجزات شبيهة بمعجزات الأنبياء، فيقول:
 
ومـا دلـنـا عن موت من ظن iiأنه "سـلـيمان" منساة على وهمها iiخرَّا
ورثـنا عصى موسى، فجدد iiصنعَها حِجانا، فراحت تلقَف النار لا السحرا
وكـلـم  موسى اللهُ في الطور iiخفيةً وفـي  الأطـلس الجبار كلّمنا iiجهرا
وأنـطـق  عيسى الإنس بعد وفاتهم فألهمنا في الحرب أن نُنطق iiالصخرا
وكـانـت لإبـراهـيـم بردًا iiجهنمٌ فعلمنا  في الخطب أن نمضغ iiالجمرا
وحـدثـنـا  عـن يـوم بدر محمد فـقـمـنا نضاهي في جزائرنا بدرا
تـبـاركـت شهرا بالخوارق طافحا وسبحان  من بالشعب في ليله iiأسرى
 
ونجده يكرر الصورة نفسها في إلياذته عن مناسبة نفمبر إذ يقول:
 
تـأذن ربـك لـيـلـة iiقـدر وألـقى الستار على ألف iiشهر
وقـال  له الشعب: أمرَك ربي وقـال  له الرب: أمرُك iiأمري
ولعلع صوت الرصاص iiيدوّي فـعـاف الـيراع خرافة iiحبر
وتـأبـى المدافع صوغ iiالكلام إذا  لـم يكن من شواظ iiوجمر
وتـأبى  القنابل طبع الحروف إذا لـم تـكن من سبائك iiحُمر
وتأبى الصفائح نشر الصحائ ف مـا  لم تكن بالقرارات iiتسري
ويـأبى الحديد استماع الحديث إذا لـم يكن من روائع iiشعري
نـفـمـبر غيرت فجر iiالحياة وكـنـت  نـفمبر مطلع iiفجر
وذكـرتـنا  في الجزائر iiبدرا فـقـمنا  نضاهي صحابة بدر
 
 
الدعوة إلى الوحدة الكبرى:
 
تشكل قضية الوحدة مرتكزا محوريا في فكر وشعر مفدي زكرياء، وقد ظل ينادي بها ويتغنى بها بإصرار متواصل منذ بواكير إنتاجه الشعري، وظل وفيا لهذا المبدإ الذي اعتنقه ودافع عنه في كل مناسبة، وجسده بنشاطه العملي من توطنه بلدان المغرب العربي، تونس والجزائر والمغرب حتى آخر حياته.
ويعتقد أن توحيد الصف كان السبب الرئيس لتحقيق استقلال الوطن، ولذلك كان يدعو للتمسك به كل من أراد النجاح، ويتجه للأشقاء في فلسطين أن يأخذوا العبرة من هذا الدرس الثمين:
 
نـوفـمبر  جل جلالك iiفينا ألـست الذي بث فينا iiاليقينا
سـبحنا على لجج من iiدمانا وللنصر رحنا نسوق iiالسفينا
ولولا  التحام الصفوف iiوقانا لـكـنـا  سماسرة iiمجرمينا
فـليت  فلسطين تقفو iiخطانا وتطوي كما قد طوينا السنينا
وبـالقدس تهتم لا iiبالكراسي تـمـيـل يسارا بها iiويمينا
 
ويشيد بوحدة الأمة العربية التي تجمعها عوامل الدين واللسان والتاريخ، والآمال والآلام. ويؤكد حقيقة بدهية هي أن الفرقة شقاء وذل وهوان:
يقول في قصيدة ألقاها بالجزائر العاصمة سنة 1932:
 
كـفـانا شقاء من وباء iiشقاقنا وتمزيق مجموع وتشتيت أفراد
فـهـل نـحن إلا أمة iiعربية شـقـيقة أرواح، قسيمة iiأكباد
وهـل  نـحن إلا أمة iiأحمدية مـقـدسة،  غرَّا، سليلة iiأمجاد
 
ويلح على هذا المطلب في مؤتمر تلمسان سنة 1935، قائلا:
 
إن الجزائر في الغرام iiوتونسًا والمغرب الأقصى خلقن سواءَ
نحن  العروبة والشمال iiبلادنا وبـه  نـعـيش أعزة كرماء
أرض  مطهرة تضمّ iiضلوعها مُـهـجًـا هناك زكية iiودماء
بدم الصحابة قد تعطّر iiظهرها قِـدْمًا،  وآوى بطنُها iiالشهدَاءَ
وتـعانقت  فيها البنود iiخوافقًا حـمـراء  تحمل للأنام iiرفاء
شـعـب  أغـرّ وأمة عربية مـا إن تـطـيق مذلة وشقاء

8 - فبراير - 2008
مُفدي زكريا ء، كاتب النشيد الوطني
تتمة المحاضرة7    كن أول من يقيّم

ولا يسعفنا المقام لاستقراء كل نصوصه الشعرية في هذه القضية، ونجتزئ ببعض الإشارات إلى هذا الهم الذي سكن قلبه، والأمل الذي طالما راوده، وكان موقنا بتحققه يوما، وإن رآه البعض ضربا من الأوهام والخيال. ووضع في طريقه سدودا من البحار والجبال.
 
يقول في قصيدته "البردة الوطنية" سنة 1937:
 
تونسٌ والجزائرُ اليوم، والمغـ رِبُ شـعـب لـن يستطيع iiانفصالا
وحـدة أحـكـم الإلـه iiسُداها، مـن  يـرد قـطعها أراد iiمحالا
نـبتت  من أب كريم وأمّ  سميا فـي الـحـيـاة عـمًّـا وخالا
نـصـبـوا بينها حدودا من iiالألـ ـواح، جهلا وخدعة، iiوضلالا
فـاجـعلوا  إن أردتم الكون iiسداً وضعوا البحر بيننا iiوالجبالا
نـحن  روح مزاجه الضاد iiوالديـ ـن، فـلن يستطيع قطّ iiانحلالا
كـلـمـا رمـتـم افتراقا قرُبنا وعـقـدنـا مـحـبة iiواتصالا
 
ويردد الفكرة ذاتها في غير ما قصيدة، منها: قوله:
إن  الـجـزائـر أمـة iiعـربية تـسـعى  إلى استقلالها iiوتجاري
كـفـر الألـى قالوا الشمال ثلاثة ودعـوا  إلـى إذلالـه iiبـالـنار
نصبوا العصي على الحدود سفاهة وسـعـوا  إلـى توزيعه iiلضرار
الـمـغـرب العربي شعب iiواحد مـلء الـعروق دم العروبة iiجاري
لـلـشـرق لا للغرب ولّى iiوجهه فـغـدا لـه سندًا، لخوض iiغمار
 
ويصل المغرب بالمشرق في هذه الدعوة الملحة التي أرسلها في الذكرى الثانية للثورة:
 
رسول  الشرق قل للشرق iiإنا على عهد العروبة سوف نبقى
وإمـا بـالـجـزائر أنكرونا سنخرق وصمة الإجماع iiخرقا
سـيـعترف  الزمان غدًا بأنا سـبـقـنا وثبة الأقدار iiسبقا
وأنـا في الجزائر خير iiشعب عـروبته مدى الأجيال iiوُثقَى
وأن الـوحـدة الكبرى إذا iiما تحررت الجزائر سوف iiتبقى.
 
وبعد استقلال الجزائر يظل وفيا لندائه وغنائه بهذا الحلم الجميل، إذ يقول:
 
ويـا عـروبـةُ مـن أمّ لنا iiوأبٍ هـنـا العروبة دوحات iiوأغصان
هنا  الأصالة في صلب وفي iiرحمٍ هـنـا  القرارات تدبير iiورجحان
هـنـا  فـلسطين تمتد iiانطلاقتها إن كان في العرب أنصار وأعوان
ونـحـن للوحدة الكبرى iiدعامتها إن  كان في العرب تفكير iiوميزان
مـدّوا يـدًا نـبـنِ دنيانا iiموحدة فـمـا اسـتقام بدنيا الخلف بنيان
 
ويستشهد بجبال الأطلس التي تمتد عبر بلدان المغرب الثلاثة، ويتخذها دليلا على وحدة هذه البلاد أرضا وأمة، وتاريخا ومستقبلا،
 
سل الأطلس الفرد عن iiجُرجرا تـعـالـى  يشد السما iiبالثرى
هـو الأطـلـس الأزليّ iiالذي قضى العمر يصنع أسد الشرى
فـيـا  مـن تـردد في iiوحدة بـمـغـربنا  وادعى iiوامترى
أمـا  وحـد الأطلس iiالمغربي مـعـاقـلنا بوثيق iiالعرى؟
أمـا طـوقـتـنـا iiسـلاسيله فـطـوق  تاريخنا iiالأعصرا؟
 
وفي إلياذة الجزائر خصص مقطعا لتأكيد هذه الوحدة الغالية، يقول فيه:
 
تماوج في فاس رجع الصدى مـن  القرويين يغزو iiالمدى
يـسـاجـل زيـتونة iiللسلام مـبـاركـة فـتلبي الندا
هـو  المغرب الأكبر iiالمستمد رسالاته من رسول iiالهدى
ووحـدة  مغربنا اليوم iiخطوٌ إلـى  وحـدة المسلمين iiغدا
بـتـوحيد  بعض نوحد iiكلاًّ وهـل  يـنكر الخبر iiالمبتدا
فـربـمـا  كـان iiمـغربنا مـثـالا قـويـما به iiيُقتدى
وإن  سلك العُرب في iiأمرهم سـواء  الـسبيل مددنا iiاليدا
وقـمـنـا بأرواحنا iiنفتدي ونـحن  الألى أخلصوا iiللفدا
ويستبدلون  بالشعارات الفعل فـاسـتوجبوا العز iiوالسؤددا
 
وقد تملكه اليأس عندما تحطمت هذه الآمال إثر الاستقلال وبدرت بوادر الانشقاق، فعبر عن ذلك بقوله:
 
أنـا  حطّمت مزهري، لا iiتسلني وسـلـوت ابـتسامتي، لا iiتلمني
مـذ  تراءى الشقاق حطمت iiكاسا تي،  على مبسمي، وأحرقت iiدَنّي
مـذ  رأيـت السفين يجرفها iiاليم مُ لـسوء المصير، أغرقت iiسفني
مذ  رأيت الغصون ينعى بها iiالبو م،  تـجـافيتها، وودعت غصني
ورأيـت  الـرؤوس طـافت بها حُم مى الكراسي، ونالها مسّ iiجنّ
فـتخيرت في الرقَى (سورة iiالإخ لاص)، مذ بات غيرها ليس يغني
 

8 - فبراير - 2008
مُفدي زكريا ء، كاتب النشيد الوطني
تتمة المحاضرة8    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم

التنديد بالميوعة والتفسخ والانحلال الخلقي: تخنث هذا الزمان.
 
أقام زكرياء حربا عوانا على دعاة التفسخ والانحلال الذين ازدهرت دعوتهم في السبعينيات من القرن العشرين، ووجدوا لهم آذانا صاغية وانبهارا حير عقلاء المجتمع، فقال فيهم زكرياء ساخرا:
طـبـائـعنا  صالحات iiجليله تـعاف انحلال النفوس iiالذليله
وتـأبـى  رجـولتنا iiالابتذال وأحـلاسـه والشعور iiالطويله
تـخـنـث هذا الزمان iiودبت خنافيس  "هيبي" تشيع iiالرذيله
ونـافـسَ آدم حـوّاءه دلالاً وغنجا،  وذبـح iiفضيله
ولـولا  الـنهود لما كنت iiتفر ق  بـين جميل وبين iiجميله
وشـاع الشذوذ وذاع iiالحشيش وأصـبـح لـلموبقات iiوسيله
وتـقرف  آنافَنا القاذورات فلم تُـجـد فـي صرفها أي حيله
وأرض الجزائر أرض الفحول فـأين  الشهامة أين iiالرجوله؟
ومـن لم يصن حرمات iiالبلاد ويـذرو النفايات قد خان iiجيله
 
ومرة أخرى يتجه إليهم في سخرية جديدة:
 
ومـسـتهترون  أضاعوا iiالثنايا وشـاع تـنـكـرهـم iiللسجايا
وقـالـوا:  الـتـقدم خلع iiالعذا ر، وهتك العفاف، ونشر الخطايا
وجـدل  الـشعور ولبس iiالحليّ وحـمـل الـقلائد مثل iiالصبايا
ويـفتـخرون بشرب iiالخمور وفـي  الكأس ترسب كل iiالبلايا
 
وحذر من الغزو الشيوعي الوافد بلونه القرمزي، وإن تستر بلباس العلم وحمله أصحاب شهادات جامعية مرموقة، فقال:
 
أمـانـاً  من الخطر iiالداهم ومـن  معول قاصف iiهادم
غزا المذهبيون عقل iiالشباب بـمـسـتورَد آفن iiآثم
وزاغـوا بهم دون iiإسلامهم إلـى مـذهب ليس iiبالسالم
ودسّـوا شـيوعية iiكالوباء كـما  يصرف السم للطاعم
فضل الشباب البريء iiانخداعاً برقطاء في جلدها الناعم
وبـث أسـاتذة في iiالشباب رواسـب  مـستعمر غاشم
وقـيـلـ:  دكاترة iiعالمون فـويـل لـمـستهتر iiعالم
 
ويؤكد الحقيقة نفسها في مقطع آخر قائلا:
 
بناةَ الجزائر صونوا iiالشبابا ولا تأمنوا في الشباب الذئابا
ولا تـهـمـلوا أمر iiطلابنا فـقد أصبح العقل فيهم iiيبابا
فكم  شوه المسخ فيهم iiعقولا وكم أمعن المسخ فيهم iiخرابا
وحـرّف  من زاغ iiإسلامَهم وأفـقدهم  وعيهم iiوالصوابا
وأصـبـح تفكيرهم قرمزيا دخـيـلا، وإيمانهم مسترابا
 
 
الاعتداد بالنفس:
يجنح الطموح بالإنسان أحيانا إلى آماد بعيدة، قد يكون أهلا لها، وقد تقصر عن مناه مواهبه وقدراته، بيد أن زكرياء تملكته الثقة بالنفس فمضى بها بعيدا، وقد نحسبه أحيانا قد تجاوز المتعارف عليه في بيئته المحافظة على الأقل، مما يعد إفراطا غير محمود.
 
وربما كان لظروفه التاريخية دافع في تركيز روح التحدي في نفسه، فضلا عن تأثره ببعض الشعراء المرموقين الذين سجل التاريخ افتخارهم بأنفسهم، وفي مقدمتهم أبو الطيب المتنبي، الذي طفح ديوانه بهذه الادعاءات، بل وادعى المعري السبق والإتيان بما لم تستطعه الأوائل. ولكن زكرياء تجاوزهم جميعا بقوله في إلياذته:
 
تـنبأت فيها iiبإلياذتي فآمن بي وبها المتنبي
 
وكان من أواخر شعره قصيدة عيد العرش أهداها للملك الحسن الثاني، ختمها بقوله:
واسمـح للمجد يساجلـه = عمـلاق الشعر وأوحده
 
وظل عمرَه يتحدى، ويهزأ بأدعياء الشعر، وأنهم لا يرقون إلى مقام الفحول، أمثاله، فيقول:
 
ورُضت القوافي الجامحات فأسلمت ونـاديـت عملاق القريض iiفلبّاني
سـهـولـتها تغري البسيط، iiوإنها من العمق تستعصي على كل وزّان
ومـا ذاك إلا أن شـعري من دمي يـفـجره  وعيي وحسّي ووجداني
وشـعـرهمُ بِدع من الخلق iiمشكلٌ ولا رحـمٌ فـيـه لـكعبٍ iiوحسان
تـعـلّقت بالفصحى فأُشربت iiحبها وأرغـمت  فيها أنف من iiيتحداني
إذا كـان لـلـشيطان فضل iiعليهمُ فـشعري وحي لا وساوس iiشيطان

8 - فبراير - 2008
مُفدي زكريا ء، كاتب النشيد الوطني
 3  4  5  6  7