في الطب النبوي كن أول من يقيّم
سبق و أن عرّفت بالمستشرق الفرنسي " لوسيان لوكليرد Lucien Leclerc " مترجم كتاب { الجامع لمفردات الأدوية و الأغذية } لمؤلفه إبن البيطار ، تحت عنوان : Ibn Al Baytar ـ Traité des simples , و اعتمدت على كتابه القيم { تاريخ الطب العربي Histoire de la méecine arabe } في جانب مهم من ترجمة حياة إبن البيطار. و أعود إلى اعتماد هذ المرجع الهام في تقديمي لملف { الطب النبوي } ، دون أن ننسى أن صاحبه طبيب و مستشرق فرنسي ، يحاول في بعض مقولاته أن يرجع بعض ما جاء من هدي نبوي في استعمال الأغذية و الأدوية إلى علاقات شخصية بين النبي محمد صلى الله عليه و سلم و بعض الأطباء العرب المعاصرين له . و ليس من المعقول أن ننتظر عكس هذا من مستشرق عاش في القرن التاسع عشر ، مع أن الأطباء الأوائل ،قبل لوكليرك هذا بقرون و دهور ، و على رأسهم أبقراط و جالينوس ، يرون أن صناعة الطب أصلها وحي و إلهام من الله تبارك و تعالى إلى من يختار من عباده . يقول إبن أبي أصيبعة في كتابه طبقات الأطباء ، عن جالينوس في تفسيره لكتاب الإيمان لأبقراط أنه قال :" و أما نحن ، فالأصوب عندنا و الأولى أن نقول أن الله تبارك و تعالى خلق صناعة الطب و ألهمها الناس ، و ذلك أنه لا يمكن في مثل هذا العلم الجليل أن يدركه عقل الإنسان ، لكن الله تبارك و تعالى هو الخالق الذي هو بالحقيقة فقط يمكنه خلقه "... فكيف بالنسبة لأشرف خلق الله ، و هو الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، كما أخبرنا رب العزة .
إلا أن كتاب { تاريخ الطب العربي } هذا يبقى مرجعا هاما يسحق التقدير . و هذه كلمة وجيزة في حقه :
من الأعمال الجليلة التي تستحق الذكر و التنويه ، في ميدان التعريف بالطب العربي عامة و الطب النبوي خاصة ، ما قامت به وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية المغربية ، سنة 1980 ، و بأمر من ملك المغرب ، جلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه ، بإعادتها لطبع كتاب { تاريخ الطب العربي } للدكتور لوسيان لوكليرك [ طبعة 1876] .
و مما جاء في تقديم طبعة هذا الكتاب ، للدكتور أحمد رمزي وزير الأوقاف و الشؤون الإسلامية قوله ـ الأصل فرنسي ، و الترجمة لي ـ :
" بإعادة طبع هذا المؤلف ، نضع رهن إشارة الباحثين و الأطباء و الدارسين ، و سيلة فعالة للعمل ... لقد بقي تاريخ الطب العربي غير معروف بما فيه الكفاية من طرف العموم. و بقيت أصوله و إبداعاته و إسهاماته ، حتى في ذاكرة المحيط العلمي من باب المستحيل ، و مع ذلك فقد ساد هذا الطب و لعدة قرون المعرفة الطبية العالمية ، و اتخـِد كأساس للطب الغربي في عصر النهضة .
" نعرف الآن هذه الحقائق . و يبقى أن نقدمها طبا لمعيير البحث و التاريخ . و إننا لنترك للدكتور لوسيان لوكليرك هذه المهمة ، لأنه عرف كيف يقدم في مؤفه هذا ، الحجج التاريخية بوثائق و مصادر مفهرسة [ بيبليوغرافية ] بعد أن أفرزها بغربال العالم الملاحظ المختص .
" نتمنى أن يسد هذا المؤلف الفراغ الهائل الذي نجده في مكتباتنا عن هذه المادة ، و أن يشجع على أعمال أكثر تخصصا على ضوء الوثائق المكتشفة منذ ذال الوقت " . { الرباط في 20 ىمايو 1980 .
...........................................
نبذة عن تاريخ الطب :
كان للعرب طرق قديمة و وسائل بدائية في العلاج ، إكتسبوها من خبراتهم المباشرة ، و جاءهم بعضها نتيجة أسفارهم التجارية و تعاملهم مع جيرانهم من الأمم المعاصرة لهم .
كان الطب في العصر الجاهلي و عند جميع الأمم ، مزيجا من الطقوس و الأدعية و القرابين لإخراج الأرواح الشريرة المسببة للأمراض و إزالة السحر المسلط عليهم ، مع اللجوء في كثير من الحالات إلى استعمال الأدوية التي تعرف الإنسان على خصائصها الطبية آنذاك.
لم يحفظ التاريخ المكتوب عن العرب معلومات دقيقة عن ممارساتهم الطبية في العصر الجاهلي . و لما جاء الإسلام حرم الدين الجديد العلاج بكل ما هو حرام من أقوال و أفعال ، و أولى نبي الإسلام ، محمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم ، عناية خاصة بهذا الجانب من حياة المسلمين ، حفظها التاريخ في شكل أحاديث طبية ، تشمل أقوال و أفعال رسول الله في ميدان الطب ، لأنه كان قدوة لأصحابه و عترته و عشيرته ، يرجون إليه في كل ما يتعلق بتعاليم دينهم الجديد في أمور دينهم و دنياهم ، و يعملون بأقواله و أفعاله في حياته و بعد مماته .
إنتقل محمد نبي الإسلام إلى جوار ربه ، سنة 11 هجرية [ 632 بعد الميلاد ] ، و ترك للمسلمين كتاب الله و سنة رسوله و ما اتفق عليه جمهور أئمة الإسلام ، ليهتدوا بها في حياتهم و ينالوا بها رضى الله و رسوله في الدنيا و الآخرة .
و بحلول عصر الخلفاء الراشدين و من بعدهم من الأمويين و العباسيين ، إنتشرت الفتوحات الإسلامية ، و نشطت ترجمة علوم اليونان و الهند و فارس إلى اللغة العربية ، و صار طلب العلم من الباقيات الصالحات و جهادا في سبيل الله ، و خير زاد في الدنيا و الآخرة . لذا كرس جمع من المسلمين حياتهم لدراسة علم الطب و مزاولة مهنته ، و الفوا فيه كتبا أحيت تراث الأمم الغابرة ، و بقيت مؤلفاتهم العربية مرجعا عالميا لعلم الطب حتى القرن السابع عشر ، حيث كان وقتها كتاب { القانون لإبن سينا } كتابا مدرسيا بجامعتيْ " مونبيليه " و " لوفان " ، و كتاب أبي القاسم الزهراوي ، و هو من أطباء الأندلس ، تتناقله أيدي الجراحين في كل من إيطاليا و فرنسا .
و بعد هجومات المغول و التثار و الصليبيين و ما ألحقوه من أضرار كان لها أثرها الوخيم في تقدم العرب ، بقيت أوروبا تعيش في الجهل و المرض لقلة أطبائها ، إلى أن ظهر الطب الحديث بين ظهرانيها فأحدث ثورة ما زالت قائمة حتى عصرنا هذا .
[ يتبع ] |