البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات أحمد إيبش

 2  3  4  5  6 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
ما هو الكتاب المقدّس؟ وما هي الأناجيل القانونية؟    كن أول من يقيّم

ما هو »الإنجيل«؟
تاريخه وأقسامه المختلفة
يتألف »الكتاب المقدّس« لدى المسيحيين ممّا يسمّى لديهم: »العهد القديم« و»العهد الجديد«.  أمّا الأول فيحتوي على أسفار اليهود التي يقدّسها المسيحيون أيضاً، وهي مكتوبة أصلاً باللغة العبرية.  بينما يضمّ الثاني ما يقدّسه المسيحيون وحدهم من نصوص، كُتبت أصلاً باللغة اليونانية.
و »العهد القديم« يتألف من ثلاثة أقسام([1])، هي على التوالي:
أسـفار »توراه« תורה (أي الشريعة)، 5 أسفار: التّكوين، الخـُروج، اللّيويين، العَدَد، التّثنية - وجميعها يُنسب إلى موسى النّبي عليه السلام).  وأسفار »نبيئيم« נביאים أي الأنبياء (ومنها أسفار ذات محتوى تاريخي)، وهي 21: يشوع، القضاة، صموئيل الأول والثاني، سفرا الملوك الأول والثاني، يَشَعياه، يِرمياه، يْحَزَقئيل، هُوشَع، يُوئيل، عاموس، عُوبَدياه، يُوناه، ميخايا، ناحوم، حَبَقّوق، صَفَنياه، حَجّاي، زكريّا، مَلاخيا.  ثم الأسفار التاريخية والأدبية »كتوبيم« כתובים (المدوّنات) 13 سفراً: أخبار الأيام الأول والثاني، المزامير، أيّوب، الأمثال، راعوت، نشيد الأنشاد، الجامعة، مراثي يِرمْياه، سفر إستير، دانيئيل، عِزرا، نِحِمْياه.
وإطلاق المسيحيين على أسفار اليهود هذه مُجتمعةً تسمية »العهد القديم«، يحمل في المفهوم اللاهوتي المسيحي معني الميثاق الذي حدّد العلاقة الخاصّة بين الله و»شعبه المختار«.  ويقابل ذلك المصطلح »العهد الجديد«، وهو الذي جرى - في المفهوم اللاهوتي المسيحي - بين الله والعالم أجمع، من خلال موت المسيح يَسوع على الصّليب ليفتدي البشر (بحسب اعتقادهم).
أما »العهد الجديد«، الذي هو الجزء الخاص حصراً بالمسيحيين من »الكتاب المقدّس«، فيتألّف من أربعة أسفار تسمّى »الأناجيل«([2])، ويليها سفر »أعمال الرُّسُل«، ثم »الرّسائل« (ومجموعها واحد وعشرون رسالة، ثلاث عشرة منها بقلم بولس الرّسول)، وأخيراً سفر »رؤيا يوحنّا اللاهوتي« الموجّه هو أيضاً على شكل رسالة من »يوحنّا إلى السّبع الكنائس التي في آسيا« (أي في بلاد الأناضول، والتّسميّة يونانيّة Anatolh تعني المشرق).


([1]) يُصطلح على اختصارها بالعبريّة: תנ״ך »تَناخ«، وهي الحروف الأولى من أسماء هذه الأقسام، أما الخاء فهي مقلوبة عن كاف، وهما في العبرية حرف واحد مزدوج.
([2]) الإنجيل كلمة يونانية: Euaggelion »إواجّليون«، ومعناها »البشـارة«.  دخلت اللغة اللاتينية: Evangelium (وكذلك في الألمانية)، ومنها في الفرنسية Évangile.
 

3 - نوفمبر - 2007
إنجيل بارنبا: أهو حقاً الإنجيل الصحيح؟
الأناجيل القانونيّة الأربعة    كن أول من يقيّم

والأناجيل الأربعة من »العهد الجديد« تحمل أسماء اثنين من تلاميذ يسوع هما متّى ويوحنّا، واثنين من معاوني بولس الرّسول هما مَرقُس ولوقا([1]).  وموضوع هذه الأناجيل الأربعة هو سيرة يسوع، يضاف إليها سفر »أعمال الرُّسُل« الذي يتحدّث عن أحوال تلاميذ يسوع وأفعالهم من بعده.  والواضح أن سفر »أعمال الرُّسُل« جاء من القلم نفسه الذي صدر عنه إنجيل لوقا، وهو الموجّه على شكل رسالة إلى »العزيز ثاوفيلُس«، كما هو الواقع بالنّسبة إلى سفر »أعمال الرُّسُل« حيث المقدّمة تقول: »الكلام الأول أنشأتُه يا ثاوفيلُس عن جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويُعلّم به، إلى اليوم الذي ارتفع فيه«.  ثم ينتقل الكلام إلى ما حصل لرُسُل يسوع من بعده.
والرّأي السّائد بين علماء »العهد الجديد« اليوم، أن كتابة الأناجيل الأربعة ابتدأت قبل عام 70 للميلاد بقليل، وانتهت مع نهاية القرن الميلادي الأول أو بداية الثاني.  ومن الباحثين من يعتبر أن إنجيل متّى هو أقدم الأناجيل الأربعة، وأنّ من ضمن محتويات إنجيل يوحنّا ما هو أقدم من إنجيل مرقس، ممّا يعني أن نصّاً بدائياً من إنجيل يوحنّا كُتب أصلاً قبل إنجيل مرقس، ثم أُعيدت كتابة هذا الإنجيل مع إضافات إليه في وقت لاحق([2]).  وأيضاً ينفرد إنجيل يوحنّا بمقطع هامّ للغاية ومتميّز عمّا في باقي الأناجيل، عند ذكره »المُعَزّي« פרקליטא (فَرَقليطا) الآتي (أصحاح 15-16)، فيشهد (بلسان يسوع) على شفيع مُنتظر تالٍ.
لكن يبقى هنا سؤال محوري: هل من دليل على أن الذين كتبوا الأناجيل الأربعة - على افتراض أنهم كانوا حقاً متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا - اعتمدوا على مصادر ما([3])، سابقة لهذه الأناجيل؟
1 -  من الملاحظ عن الأناجيل الأربعة، أن ثلاثة منها - إنجيل متّى، ومرقس، ولوقا - تتحدّث عن يسوع بشكل إزائي متّسق، على عكس الإنجيل الرابع - إنجيل يوحنّا - الذي يختلف جذرياً عنها في حديثه عن يسوع (وسنرى سبب ذلك في إنجيل بارْنَبا).
2 -  كذلك فإن المعلومات الأساسية التي يوفّرها إنجيل مرقس عن يسوع، واردة أيضاً في إنجيلَي متّى ولوقا، وذلك إلى جانب معلومات أخرى لا يأتي مرقس على ذكرها.  هذا يعني أن إنجيل مرقس لم يكن إلا واحداً من المصادر التي اعتمد عليها متّى ولوقا في كتابة إنجيليهما.
3 -  من المعلومات الإضافية الواردة في إنجيلي متّى ولوقا، ما هو مشترك بينهما، ومنها ما هو خاص بإنجيل واحد دون الآخر.  وهذا يعني أن متّى ولوقا استقيا بعض معلوماتهما من مصدر مشترك، وبعضها الآخر من مصادر مختلفة.
4 -  من المعلومات الواردة في إنجيل لوقا وحده من بين الأناجيل الإزائيّة الثلاثة ما يرد أيضاً في إنجيل يوحنّا، لكن بكلمات أخرى.  وهذا يعني أن المصدر الخاص بلوقا، والذي أخذ عنه يوحنّا أيضاً، كان مكتوباً بلغة غير يونانية لا بدّ أنها كانت آرامية، فنقل كلّ منهما مقاطع من هذا المصدر إلى اليونانية بأسلوبه الخاص.  أو أن هذا المصدر كان موجوداً في أصله الآرامي، وكذلك في ترجمة يونانيّة، فاستخدم واحد منهما (يوحنّا) الأصل، والآخر (لوقا) الترجمة اليونانية المتوفّرة له.
5 -  قصّة ولادة يسوع التي يوردها لوقا ولا يوردها يوحنّا، تأتي من مصدر استخدمه لوقا ولم يستخدمه يوحنّا.  أو لعلّها كانت جزءاً من المصدر المشترك بينهما، استخدمه لوقا وأهمله يوحنّا لسبب ما.


([1]) علماً أن هناك من الباحثين المسيحيين أنفسهم من يشكّك بكون هؤلاء الأربعة هم من كتبوا الأناجيل المنسوبة إليهم بالفعل، ويضعون عدّة افتراضات لا مجال لبحثها هنا.
([2]) راجع: البحث عن يسوع، لكمال الصليبي، دار الشروق، عمّان 1999، ص 13.
([3]) هذا الأمر إن تمّ تبيانه، من شأنه تقديم حقائق حاسمة عن طبيعة يسوع ودعوته.

3 - نوفمبر - 2007
إنجيل بارنبا: أهو حقاً الإنجيل الصحيح؟
الأناجيل الأربعة، مقاربات نصية    كن أول من يقيّم

من خلال هذه الملاحظات، اصطلح الباحثون على الاستنتاجات التالية، مع اختلافهم وتباينهم الواضح عليها([1]):
أولاً:  أن كلاً من متّى ولوقا استخدم إنجيل مرقس مصدراً في كتابة إنجيله.  ولو أن ثمّة دراسات حديثة (J.E. Powell) تفترض أن إنجيل متّى أقدمها.
ثانياً:  أن متّى ولوقا اشتركا في استخدام مصدر آخر، ربما كان مكتوباً باليونانية أصلاً، وربما كان مصدراً يونانياً مترجماً عن أصل آرامي، فنقلا عنه حرفياً بالطريقة ذاتها تقريباً.  وقد درج المختصّون على تسمية هذا المصدر Q من العبارة الألمانية: Quelle  بمعنى »المصدر«.
ثالثاً:  أن متّى استخدم مصدراً لم يستخدمه لوقا ولا يوحنّا، لعلّه يكون إنجيلاً قديماً لبطرس، ضاعت آثاره بعد عصر متّى.
رابعاً:  أن يوحنّا ولوقا استخدما مصدراً آراميّاً لم يستخدمه متّى.  فنقل يوحنّا عن الأصل الآرامي منه، ولوقا عن ترجمة يونانيّة له، لكونه غير متمكّن من الآرامية، كما يبدو.
خامساً:  أن لوقا نقل قصّة ولادة يسوع، كما هي واردة في إنجيله، من مصدر لم يستخدمه متّى، إذ أن متّى يورد قصّة ولادة يسوع بشكل آخر.  وقد يكون هذا المصدر هو ذاته المصدر الآرامي الذي أخذ عنه كل من يوحنّا ولوقا، إلا أن لوقا شاء أن ينقل قصّة ولادة يسوع عن هذا المصدر، في حين أحجم يوحنّا عن ذلك، لسبب نجهله.
*  *  *
ويُجمع الباحثون أيضاً على كون رسائل بولس - وهي التي كُتبت بيده، معظمها على الأقل - هي أقدم من أي الأناجيل (ولهذه النقطة أهميّة بالغة جداً عندما نقوم بتقاطع بينها وبين مُعطيات إنجيل بارْنَبا)، نظراً إلى أن بولس توفي في العام 67 م تقريباً.  والرأي السّائد بشأن هذه الرّسائل هو أن تلك الموجّهة منها إلى أهل رومية (أي روما، وهي رسالة واحدة)، وإلى أهل غلاطية (أيضاً رسالة واحدة)، وإلى أهل كورنثوس (رسالتان)، لا شك في أقدميّتها.
أما ما تبقّى منها (الرّسائل إلى أهل إفسُس، وفيلبي، والرّسالتان إلى أهل تسالونيكي، والرّسالتان إلى تيموثاوس، والرّسالتان الموجّهتان واحدة إلى تيطُس، والثانية إلى فليمون)، فمن محتوياتها ما هو أصيل، ومنها ما قد يكون مُضافاً إلى الأصل لاحقاً عن طريق التّحرير.
أما بقيّة »الرّسائل« من »العهد الجديد«، فاثنتان منها منسوبتان إلى أخوين من إخوة يسوع (واحدة إلى أخيه يعقوب، والأخرى إلى أخيه يَهوداه)، واثنتان إلى تلميذه بطرس، وثلاث إلى تلميذه يوحنّا، وواحدة موجّهة إلى »العبرانيين« من دون ذكر لاسم صاحبها. وللباحثين شكوك بأن الرّسائل المنسوبة إلى يعقوب ويهوذا وبطرس ويوحنّا، قد جاءت بالفعل من أقلامهم.
وأمّا »إنجيل بارْنَبا«، الذي يعدّه المسيحيّون قدّيساً من التّلاميذ - لا الرُّسل الاثني عشر - فيعتبرون أنّه: إمّا غير موجود أصلاً.  أو أن المذكور منه في وثيقتين مسيحيّتين قديمتين هو مجرّد نصّ »أپوكريفا« (إنجيل منحول غير مقبول كنسيّاً) لم يصلنا أبداً، وأنّه ليس هذا النّصّ الذي أمامنا الآن ذاته.
*  *  *


([1]) راجع: كمال الصليبي، المرجع المذكور، ص 110.

3 - نوفمبر - 2007
إنجيل بارنبا: أهو حقاً الإنجيل الصحيح؟
أصول التثليث في المسيحية    كن أول من يقيّم

أصول التّثليث في المسيحيّة
يقرّر دستور الإيمان المسيحي (الپوليني) الذي أقرّته كنيسة روما العامّة، بناءً على قرار مجمع نيقية المسكوني للأساقفة عام 325 م، أن:
 »يسوع المسيح (هو) ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدّهور، نورٌ من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر، الذي به كان كل شيء، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من الرُّوح القُدُس ومن مريم العذراء، وتأنَّس، وصُلب عنّا على عهد بيلاطس البُنطي، وتألّم، وقُبر، وقام في اليوم الثالث«([1]).
تلك هي عبارة دستور إيمان المسيحيين بالمسيح بحرفيتها([2])، ويعتقد الجمهور الأكبر بأن الله واحد ذو أقانيـم ثلاثة، والأقنـوم لفظة يونانية eikoinon  تعبّر عن »الكيان« upostasiV (إيپوستاسيس)، والأقانيـم الثلاثة هي: شخص الآب، الخالق لكل شيء والمالك والضابط للكل، وشخص ابنه المولود منه أزلاً المساوي لأبيه في الألوهية والرُّبوبية لأنه منه، وشخص الروح القُدُس([3]). 
وهذه الأقانيم الثلاثة متّحدة في الجوهر والإرادة والمشيئة، إلا أن هذا لا يعني أنها شخص واحد، بل هم أشخاص ثلاثة، كل واحد منهم إله كامل في ذاته غير الآخر، فالآب إله كامل، والابن إله كامل غير الآب، وروح القُدُس أيضاً إله كامل غير الآب والابن، ولكن مجموع الثلاثة لا يشكّل ثلاث آلهة كما هو مقتضى الحساب، بل يشكّل إلهاً واحداً.  ويتم الإجماع على أن هذا المبدأ لا سبيل لإدراكه وفهمه بالعقل، وهو يسمّى »سرّ التثليث« trinity.
ثم يعتقدون أن الأقنوم الثاني لله، أي أقنوم الابن، هو الذي تجسّد وصار إنساناً حقيقياً، بكل ما في الإنسانية من معنى، وهوالمسيح المولود من مريم العذراء، فالمسيح في اعتقادهم إله إنسان، أي هو بشر حقيقي مثلنا تماماً تعرُض له أعراض الضعف والاحتياج البشرية جميعها، وهو في عين الحال إله قادر كامل الألوهية.  ويسمّون هذا بـ »سرّ التجسّد« incarnation.
وهكذا، فالمسيح حسب تفسير قانون الإيمان المسيحي الذي تقرّر في مجمع خلقيدونية عام 451 م (وهو المجمع المسكوني الخامس)، هو شخص واحد ذو طبيعتين: طبيعة إنسانية (ناسوت)، وطبيعة إلهية (لاهوت)، فهو إله بشر في آن واحد.  وفي هذا المجمع قام حوالي 500-600 أسقف بإقرار عقيدة مجمع نيقية، من حيث مساواة الكلمة أو الابن مع الآب في الذّات والجوهر([4]).
هذه كانت عقيدة جمهور المسيحيين، أي: الرّوم الكاثوليك (اللاتين) أو الكنيسة الغربيّة التي توجد رئاستها في روما، والرّوم الأرثوذوكس، أي الكنيسة الشّرقية اليونانيّة التي كانت توجد رئاستها في القسطنطينية (والتي انفصلت عن الكنيسة الغربية عام 879 م)، واليروتستانت بفرقهم المختلفة من أنگليكان ولوثريين وإنجيليين وغيرهم..  الذين خرجوا من ضمن الكنيستين السابقتين في القرن السادس عشر الميلادي وما تلاه.
لكن هناك طائفتين قديمتين من المسيحيين لم تعترفا أبداً بقرار مجمع خلقيدونية المذكور، الذي نصّ على أن المسيح شخص واحد في طبيعتين، وهما: »النساطرة« أتباع نسطوريوس، و»اليعاقبة« أتباع يعقوب البرادعي.


([1]) سوسنة سليمان في العقائد والأديان، لنوفل نوفل، ص 137؛ التوحيد في الأناجيل الأربعة وفي رسائل القديسين بولس ويوحنا: لسعد رستم، ص 15-32؛ الفرق والمذاهب المسيحية منذ البدايات حتى ظهور الإسلام: لنهاد خيّاطة، ص 84.
([2]) ننبّه القارئ إلى أن هذا هنا عرض إجمالي إلى ما آلت إليه العقيدة المسيحيّة من بعد »إعادة صياغتها أوروپياً« في عدّة مراحل كان أولها على يد بولُس، ثم آلت إلى بيزنطة وما تمّ في مجامعها الكنسيّة.  على أن نعود لمناقشة النّصرانيّة الأولى كما يبيّنها لنا بارْنَبا.
([3]) والكاثوليك يعدّون الروح الروح القُدُس منبثقاً من الآب والابن كليهما، في حين يعدّه الروم الأرثوذوكس منبثقاً من الآب فقط، أما الپروتستانت فلا يتعرّضون لشيء من ذلك كلّه، بل يكتفون بالقول بألوهية الروح القُدُس، وأنه أقنوم الذات الإلهية الثالث.
([4]) راجع: أوسابيوس القيصري: تاريخ الكنيسة؛ رستم وخيّاطة: المصدران المذكوران.

3 - نوفمبر - 2007
إنجيل بارنبا: أهو حقاً الإنجيل الصحيح؟
عقيدتا النساطرة واليعاقبة    كن أول من يقيّم

أما »النَّساطرة« Nestorians، وهم أقلّية تتوطن حالياً شمال غرب إيران وجنوب شرق تركيا وشمال العراق وشمال سورية، وعدداً من المناطق الأخرى (ويسمّون كذلك بالآشوريين) فهم يميّزون في المسيح بين شخصين: شخص عيسى البشر المولود من مريم العذراء، الذي هو إنسان بشر محض، وشخص الإله الابن، أو ابن الله الذي هو إله كامل، المتّحد بعيسى الإنسان، فالذي ولد من مريم العذراء هو عيسى الإنسان وليس الله.
ولذلك رفض النّساطرة عبارة »مريم والدة الإله«، كما أن الذي صُلب في اعتقادهم وتألّم ومات، لم يكن الله الابن، بل عيسى الإنسان البشر.  والحاصل أن المسيح - في اعتقادهم - شخصيتان متمايزتان ولكل شخصية منهما طبيعتها الخاصة: البشريّة المحضة لعيسى النّاصري المولود من مريم العذراء، والإلهيّة المحضة لابن الله المتحد بعيسى في اعتقادهم.
وعلى النقيض من ذلك تماماً رأيُ الطائفة الأخرى، وهم »اليعاقبة« Jacobites، الذين يرون أن عيسى المسيح شخص واحد فقط، لا شخصان.  وليس هذا فحسب، بل إنّ هذا الشخص الواحد ذو طبيعة واحدة أيضاً، ولذا يُسمّون أيضاً بـ »المونوفيزيين« monophysites، أي القائلين بالطبيعة الواحدة للمسيح.  فاعتقادهم هو أن: أُقنوم الابن من الله تجسّد من روح القدس ومريم العذراء، فصيّر هذا الجسد معه واحداً وحدة ذاتية جوهرية، أي صار الله (الابن) المتجسّد، طبيعة واحدة من أصل طبيعتين ومشيئة واحدة وشخصاً واحداً. 
وبعبارة أخرى: المركز المسيِّر والطبيعة الحقيقية لعيسى المسيح الذي وُلد من مريَم هي الألوهيّة المحضة، فهو الله عينُه، أما بشريّته فهي مجرد لباسٍ فانٍ في إلهيّته.  فلذلك يُعدّ الله لديهم هو بذاته الذي وُلد من مريَم العذراء، لذا فهي والدة الإله (كما يرون)، والله نفسه هو الذي عُذِّب وتألّم وصُلب ومات، ثم قام بعد ثلاثة أيام من قبره حيّاً!
والحاصل أن الفرق المسيحية جميعاً تتّفق على أن المسيح بشرٌ وإلهٌ في الوقت ذاته.  وإنما تختلف عن بعضها في مدى تأكيدها وإبرازها لأحد الجانبين الإلهيّ والبشريّ في المسيح، فاليعاقبة يؤكّدون الجانب الإلهي أكثر، وبنقيضهم النّساطرة الذين يُبرزون أكثر الجانب البشري، في حين يطرح الجمهور الأعظم رؤيةً متوازية ومتعادلة للجانبين الإلهي والبشري، دون ترجيح أيٍّ منهما على الآخر.

3 - نوفمبر - 2007
إنجيل بارنبا: أهو حقاً الإنجيل الصحيح؟
تأليه المسيح في المذاهب المسيحية    كن أول من يقيّم

تأليه المسيح في المذاهب المسيحيّة
يقرّ جُلّ مؤرخي المسيحية (مثل أوسابيوس القيصري) أن الاعتقاد بألوهيّة المسيح لم يغدُ عقيدة مستقرّة سائدة بين المسيحيّين، إلا بعد انقضاء عهد الحواريّين والتّلاميذ الأوائل للمسيح، أي بعد انقضاء قرن على الأقل على رفع المسيح.  أما قبل ذلك - في القرن الأول - فكانت مذاهب النّاس في المسيح لا تزال مُتضاربة، فاليهود الحاخاميّون المعاصرون له أبغضوه وأنكروا رسالته من الأساس، وعدّوه ساحراً ودجّالاً (حاشاه من ذلك)، وصرفوا جهودهم لمحاربة أتباعه والقضاء على دعوته.  وفي المقابل، آمن به عدد من يهود فلسطين، ورأوا فيه »المَشِيَّح« המשיח المُبشَّر به في أسفارهم، ومن هؤلاء الحَواريّون (التّلاميذ).
كما وُجد في القرن الأول وما بعده يهودٌ تشبّعوا بأفكار الفلسـفة الهيلّينية (اليونانية)، لا سيما الأفلاطونية الحديثة منها، فنظروا للمسيح ولارتباطه بالله بمنظار ما كانوا مُشــبعين به من تلك الفلسـفة حول الإلهيات، وما تُعلّمه حول مفهوم »اللّوجوس« Logos  (باليونانية: LogoV)، أي العقـل الكلّي »الكلمـة« الذي ترى فيه أول ما فاض عن المبدأ الأول أي الله، فاللّوجوس هو الوسيط بين الله في وحدته وبسـاطته وبين العـالم المتكثّر.  فطابقوا بين المسـيح واللوجوس، ورأوا فيه مخلوقاً لله، فلم يقولوا بألوهيته ولا ساووه مع الآب في الجوهر.
وأخيراً، كان هناك المؤمنون الجدد من الأمميين (غير اليهود، وغالباً المُراد الهلّينيّون اليونان)، وغالبهم آمن بدعوة التلاميذ بعد رفع المسيح، وهؤلاء كانوا متشبّعين بثقافة عصرهم الوثنية الهيلينيّة، التي تنظر للعظماء من أباطرة أو قادة فاتحين أو فلاسفة عظام، على أنهم أنصاف آلهة أو أبناء آلهة هبطت لعالم الدنيا، وتجسّدت لخلاص بني الإنسان وهدايتهم.
فصار كثير منهم ينظرون لشخصية المسيح بالمنظار نفسه، خاصّة أنه كان يُعبَّر عن المسيح في لغة الأناجيل بابن الله، فأخذوا هذه البُنوّة على معناها الحرفي لوجود نظير لذلك في ثقافتهم الوثنية، ورأوا فيه ابن الله الحقيقي الذي كان إلهاً فتجسّد، ونزل لعالم البشر لخلاصهم.
لاقت هذه العقيدة رواجاً لدى جمهور العامّة، الذين يُعجبهم الغُلوّ في رفع مقام من يقدّسونه ويؤمنون به، ويرون ذلك من كمال الإيمان به والمحبّة له.  كما لعبت عدّة عوامل سياسية وثقافية واجتماعية لصالح الاتجاه الوثني الأخير في النّظر لشخصية المسيح، فَسادَ وانتشر وشيئاً فشيئاً صار هو الأصل، وصارت مخالفته هرطقة وخيانة لحقيقة المسيح!  وصار الموحّدون فئات ضئيلة تتعرّض للاضطهاد، ويُنظر إليها على أنها بدعيّة ضالّة تستوجب الطرد والمحاربة.
ومن الأمثلة على العوامل السياسية التي لعبت دوراً في ترجيح هذه الصّيغة الوثنية لتأليه المسيح، المناخ السّياسي الذي حدا بالإمبراطور البيزنطي قُنسْطنطين الأول Constantine I (274-337 م) إلى اعتناق الديانة المسيحيّة عام 313 م، وتفشّي الاضطراب السّياسي والإداري في عصره وصراع المسيحيّة والوثنيّة، فهذا ما جعله يعمد إلى اعتناق المسيحيّة وإعلانها ديانة رسميّة للدّولة، لما لها من دور في تكييف مشاعر النّاس نحو الدّعة والمسالمة، وطاعة الحاكم ورئيس الكنيسة على اعتباره نائباً للإله »النّصف بشري«، حسب النّكهة الرُّومية الهلّينية.
وإلاّ، فما هو السّبب في أن الدّين المسيحي (بصيغته اليولينيّة التّثليثيّة) قد فشل في تحقيق ذاته فشلاً ذريعاً طوال القرون الثلاثة الأولى لقيامه؟  وكيف يمكن لنا مقارنة ذلك بانتصار الدّعوة الإسلاميّة منذ بداياتها الأولى (فتح مكّة 8 هـ)، وكسرها - في غُضون عقود يسيرة - أعظم إمبراطوريّتين آنذاك (بيزنطة وفارس)، حتى دالَ لها العالم القديم من الصّين شرقاً إلى الأطلسي غرباً؟!

3 - نوفمبر - 2007
إنجيل بارنبا: أهو حقاً الإنجيل الصحيح؟
عوامل ثقافية    كن أول من يقيّم

أما العوامل الثّقافية، فلا أدلّ عليها من أن الدّيانات الوثنيّة الغربيّة لدى اليونان والرُّومان، كانت ديانات تعدّدية تؤمن بتعدّد الآلهة وانقسام شخصياتها، على نقيض الدّيانتين المشرقيتين التوحيديتين آنذاك: اليهوديّة والنَّصرانيّة([1]).  فإنّ أوروبا تقبّلت المسيحيّة بعدما أُضفيَت عليها صِبغتُها الثقافية وغَدَت نسخة أوروبيّة معدّلة تُوائم تراثها الفكري.  ومَن يقارن مفهوم الله في منظور التّثليث المسيحي، فبإمكانه أن يعثر على ظلال له في مفهوم زيوس  Zeusأبي الآلهة الإغريقي، أو جوپيتر Jupiter أبي الآلهة الرّوماني (من حيث الشكل على الأقل).
ومن العوامل اللّغوية أيضاً، إشكاليّات ترجمة الإنجيل الأول، من لغته الشّفهية الأصليّة (الآراميّة) إلى لغته المكتوبة الأولى (يونانيّة أواخر العهـود الكلاسيكية)، فإلى اللغات الأخرى، وأولها لاتينيّة روما.  فمن أســـطع الأمثلة على هذه الإشـكاليات، التقلقل في ترجمة عبارة kurie »كيرييه« اليونانية إلى: »يا ربّ« بدلاً من »يا سيّد«، كما سنفصّل بذكره أدناه.
*  *  *
 


([1]) حتى الديانات الوثنية في المشرق كانت توحيدية إجمالاً، كعبادة البعل وأدونيس وداجون.  فيبدو أن المشرق الذي أفرز التوحيد على الدوام، في الديانات الوثنية، حتى ما تلاها من ديانات سماوية توحيدية، قد قوبل بديانات تعدّدية من الطرف الآخر للبحر المتوسط.  فلا وجه لاستبعاد عقيدة التثليث عن دائرة هذه التعدّدية، ولو أن الأمر صار يتعلّق هنا بديانة سماوية ذات وحي واتصال بجوهر الديانة السماوية السابقة لها!

3 - نوفمبر - 2007
إنجيل بارنبا: أهو حقاً الإنجيل الصحيح؟
مذاهب التوحيد المسيحي عبر التاريخ    كن أول من يقيّم

مذاهب التّوحيد المسيحي عبر التاريخ
أثبتت التّواريخ المدوّنة والوثائق المكتوبة، أنه وُجدت ولا تزال، أعداد من المسيحيّين الذين أنكروا تأليه المسيح عليه السّلام، ورفضوا عقيدة التجسّد والتّثليث، وأكّدوا تفرّد الله الآب وحده بالألوهيّة والرُُّبوبيّة والأزليّة، وأن المسيح عليه السّلام بشر مخلوق.
ولقد ذكرت المصادر التاريخيّة المسيحيّة، المختصّة بتاريخ الكنيسة، أسماء عدّة فرق في القرون المسيحيّة الثلاثة الأولى، كانت تنكر التّثليث والتجسّد وتأليه المسيح، وهي: فرقة الإبيونيين، وفرقة الكارينثيانيين، وفرقة الباسيليديين، وفرقة الكارپوقراطيين، وفرقة الهيپسيستاريين، وفرقة الغنوصيين.
وأما أشهر الشخصيات المسيحيّة التوحيديّة في التاريخ، فهي:
بولس السُّميساطي: كان بطريرك أنطاكية 260 م، آمن ببشرية المسيح، ووافقه على مذهبه التوحيدي الخالص كثيرون، عُرفوا بالبوليقانيين.  كان يفتتح صلواته ببسملة سريانيّة لافتة جداً للنّظر:  בשם  אלהא  רחמנא  מרחמנא، »بْشيْم أللّوهو رَحْمُونو مْرَحّمُونو« = {بسم الله الرَّحمَن الرَّحيْم}. (نرجو الانتباه إلى أن قراءة هذه العبارة ينبغي أن تراعي الرسم الكتابي السرياني، لا العبري، وقلنا إننا عانينا من عدم وجود حروف السرطو في نظام Windows).
الأسقُف لوقيانوس الأنطاكي (الشهيد): أستاذ آريوس، مات شهيداً في نيقوميديا عاصمة الإمبراطورية الشرقية عام 312 م.
ديودوروس أسقُف طَرسوس: من أعلام المدرسة الأنطاكيّة في اللاهوت المسيحي، توفي حوالي عام 390 م.
يوسيبيوس النّيقوميدي: أسقُف بيروت ثم نيقوميديا، كان واحداً من أتباع لوقيانوس الأنطاكي وصديقاً لآريوس ومن أتباعه، توفي حوالي 452 م.
وأما الحديث عن آريوس ومذهبه التّوحيدي المسيحي، فيستلزم منا حقيقةً إفراد فصل خاص له (بل وكتاب)، نظراً للأهمية البالغة للعلاقة الجدلية لمذهبه مع العقيدة الإسلاميّة.  ولكن قبل البحث عن آريوس ومذهبه، أواخر القرن الثالث وأوائل الرابع للميلاد، نعود هنا للتّذكير بمذهب الوحدانية اليعقوبي: المونوفيزيّة monophysitism، الذي شاع فيما بعد بالقرن الخامس وحُرِّم في مجمع خلقيدونية المسكوني عام 451 م، والقائل بوجود طبيعة واحدة للمسيح.
ومن الهامّ ذكره هنا، أن إقرار عقيدة المسيح الأقنوم (الشّخص) الواحد في طبيعتين: ناسوتيّة ولاهوتيّة، والذي تمّ في مَجمَع خَلقيدونية، إنما كان على إثر جدل واسع حول هذه النقطة([1]).  ولقد أسفر قرار ذلك المجمع عن انشقاق بعض الكنائس الشرقيّة عن كنيسة روما اللاتينية، كالكنيسة القبطيّة التي رفضت القرار وقالت بالمسيح الشخص الواحد ذي الطبيعة الواحدة فقط.  واتفق مع الأقباط في هذا المُعتقَد اليعاقبة في بلاد الشام والجزيرة الفُراتية (وهم السّريان الأرثوذوكس)، وطائفة من الأرمَن هم أتباع الكنيسة الغريغوريّة الأرمَنيّة.
يضاف إلى ذلك، انشقاق النّساطرة إثر انعقاد مجمع إفسُس قبل عشرين عاماً من مجمع خَلقيدونية، الذي حكم بوجود »اتّحاد جوهري بين الطبيعتين في المسيح، وأن الإله والإنسان في المسيح هما واحد، وبأن مريَم والدة الإله«.  فقد رفض البطريرك الكبير نسطوريوس بطريرك القسطنطينيّة هذه العقيدة، لأنه كان يؤكّد على التّمايز بين أقنوم الإله وأقنوم الإنسان في السيد المسيح، وبالتالي فقد ميّز نسطوريوس بين أقنومين في المسيح، وليس فقط بين طبيعتين.
ولذلك، فقد كان مذهبه على النّقيض تماماً من مذهب الأقباط واليعاقبة، وكان بالتالي كل من المذهبين يكفِّر الآخر ويلعنه ويتبرّأ منه.  هذا، وقد انحاز إلى نسطوريوس في عقيدته هذه كثير من مسيحيّي المشرق، الذين عُرفوا بالنَّساطرة، أو بطائفة الآشوريّين أو الكَلدان.
*  *  *


([1]) لكثرة هذه الأبحاث وتضارب الآراء في مفاهيم عقيدة طبيعة المسيح، نشأ عنها عِلمٌ قائم بذاته عُرف باسم »الكريستولوجيا«  Christology، أي علم طبيعة المسيح.

3 - نوفمبر - 2007
إنجيل بارنبا: أهو حقاً الإنجيل الصحيح؟
مآل مذاهب التوحيد المسيحي تحت سيطرة بيزنظة    كن أول من يقيّم

قُصارى القول: نستخلص ممّا تقدّم أن الشكل الحالي لعقيدة تأليه المسيح في المذاهب المسيحيّة الرّسمية، قد بدأ نشوءه في روما بأواخر القرن الميلادي الأول، ثم أخذ شكله النهائي في القرن الرابع الميلادي في مجمع نيْقية المسكوني المُنعقد عام 325 م، وليس قبل ذلك على الإطلاق.
أمّا عقيدة النّصرانيّة الأولى([1]) (كالإبيونيّة والنّاصريّة)، فسُرعان ما عَفَت آثارها وتلاشَت بعد رفع المسيح (عليه السلام) وموت تلامذته.  وأمّا الموحّدون المسيحيّون في القرون التالية (بخاصّة الأريانيّين أو الأريوسيّين أتباع آريوس) فقد حُوربوا بعد مجمع خَلقيدونية في القرن الخامس عام 451 م، وشنَّت عليهم الدّولة البيزنطيّة حرباً ضارية، ثمّ انحسروا واقتصر وجودهم على أطراف الولايات البيزنطيّة في كيليكيا وسورية والعراق وبعض تخوم فارس. 
ثم من المفارقات العجيبة، أن يضحي هؤلاء أغراباً في أوطانهم، في حين تعود الدّيانة المسيحيّة إلى الشرق بنسختيها الأوروپيتين المعدّلتين (الشرقية والغربية) فتسيطر هاتان النسختان وتصبحان المرجعيّة الرّسميّة الوحيدة لهذه الدّيانة، في الشرق والغرب على حدّ سواء!
ومن أخبار الاضطهاد البيزنطي لأتباع الكنائس غير الملكيّة البيزنطيّة، أنّه في أيام الإمبراطور يوستينوس الثاني Justinus II (565-578 م) أمر البطريرك يُوانّيس سخولاستيكوس بإقفال أديرة السّريان في سورية وكيليكيا وكَپادوقيا، وبهدم كنائسهم وطرد أساقفتهم وحبسهم، وبحرق رعاياهم بتهمة انتمائهم إلى العقيدة اليعقوبية »المونوفيزيّة« (المؤمنة بطبيعة واحدة للمسيح)، التي كان حرّمها مجمع خَلقيدونية 451 م (في أيام الإمبراطور مَرقيانوس Marcianus 450-457 م).  أما الإمبراطور هِراكليوس Heraclius »هِرَقْل« (610-641 م) فقد أمر بصلم آذانهم وجدع أنوفهم ونهب بيوتهم.
ويذكر سريان سورية إلى اليوم الحاضر بالتّواتر الشفهي فظائع البيزنطيّين في تعذيبهم وتقتيلهم وحرق تراثهم المخطوط الثّمين، بما في ذلك آدابهم ونصوصهم الدّينية القديمة النّادرة!  وثمّة شهادة ثمينة للغاية - تُكتب بماء الذّهب - تركها لنا بطريرك أنطاكية »ميخائيل السّرياني« (1166-1199 م) في تاريخه (نشره بالفرنسية جان باتيست شابو J.B. Chabot، باريس 1899-1914)([2]):
»فعندما اطلّع الله المنتقمُ الجبّار على طغيان هؤلاء الرّوم الذين كانت يدهم هي العُليا في كل مكان، والذين جعلوا ينهبون كنائسنا وأديرتنا ويعذّبوننا بغير رحمة، قيّض الله إلى التّخوم الجنوبية بني إسماعيل ]أي العرب المُسلمين[ ليخلّصونا من أيديهم..  وكان من حُسن طالعنا ومصلحتنا أن نتحرّر من جَبروتهم وطُغيانهم واضطهادهم وتعنّتهم، التي عانينا منها التّباريح، فنعمنا أخيراً بالسّلام والأمان«.
وكان أُسقفٌ نسطوريّ كتب بعد حوالي 15 سنة من فتح الشام([3])، يُشيد بتسامح الفاتحين: »إن طَيّاً ]أي العرب في الأدب السّرياني[ الذين منحهم الله علينا السّلطة، قد صاروا أسيادنا، لكنهم مع ذلك بادروا إلى حماية عقيدتنا، واحترام قساوستنا وقدّيسينا، وكانوا يقدّمون إلى كنائسنا وأديرتنا العطايا«.
*  *  *
 


([1]) هذا هو أصل ديانة المسيح (عليه السلام)، وسنرى مصادرها وعلى رأسها إنجيل بارْنَبا.
([2]) راجع:
  Jean-Batiste Chabot: Chronique de Michel le Syrien, Patriarche Jacobite de l’Antioche, 1166-1199, Paris, Leroux, 1899-1914, tome ii, p. 412.
([3]) راجع:                         M.J. de Goeje: Mémoire sur la Conquête de la Syrie, Leiden 1900, p. 106.

3 - نوفمبر - 2007
إنجيل بارنبا: أهو حقاً الإنجيل الصحيح؟
التوحيد المسيحي بين الآريوسية والإسلام    كن أول من يقيّم

التوحيد المسيحي
بين الآريوسيّة والإسلام
نعود هنا إلى القرن الرابع الميلادي، لتتبّع مسألة مذهب الآريوسيّة (أو كما تُعرف بالأريانيّة)، وإسقاطاتها الجدليّة الدّراماتيكية على الخلاف الكلامي ما بين التّثليث المسيحي والتّوحيد الإسلامي.
لا مِراء أن آريوس Arius (250-336 م) المولود في ليبيا، وأسقُف كنيسة بوكاليس Baucalis في الإسكندرية، يُعدّ أشهر أعلام التوحيد المسيحي على الإطلاق في جميع العصور.  ومنذ بدء انتشار أفكاره اللاهوتية، صار له ألوف الأتباع الذين عُرفوا بالآريوسيّين، وبقي مذهبهم التّوحيدي حيّاً لفترات طويلة.  وأضحى آريوس رمزاً للتوحيد، حتى أنّ كلّ من جاء بعده وأنكر التّثليث وُصم بأنه آريوسي أو أرياني، نسبةً إلى مذهبه المعروف بالأريانية Arianism([1]).
تتلمذ آريوس على لوقيانوس الأنطاكي، الذي كان يرفض ألوهيّة المسيح، فكان أن استُشهد دون عقيدته التي تناقض تعاليم بولس([2]).  وكان آريوس طويل القامة نحيلاً، مكتئب المظهر وتبدو على محيّاه آثار التقشّف وشَظف العيش، وكان معروفاً أنه من الزُّهّاد كما يُستدلّ من ملبسه، وهو جلباب قصير من غير كمّين تحت ملحفة يستخدمها كعباءة.  وكان أسلوبه في الحديث ظريفاً وحُججه مقنعة، وكان له من بين رجال الدّين عدد كبير من المؤيّدين([3]).
يُعدُّ آريوس، من وجهة النّظر الأرثوذُكسية([4])، هرطقيّاً أو زنديقاً شكّل خطراً على العقيدة المسيحيّة طوال عشرة القرون الأولى من تاريخ المسيحيّة.  ويقوم خلافه مع الكنيسة على أطروحة واحدة، هي أن يسوع كائنٌ فان ليس إلهياً بأي معنى، وليس بأي معنى شيئاً آخر سوى معلّم يُوحى إليه([5]).
تنصّ عقيدة التوحيد المسيحي التي تبنّاها آريوس، على أن »الله واحدٌ فَردٌ غير مولود، لا يشاركه شيء في ذاته تعالى.  فكل ما كان خارجاً عن الله الأحَد إنما هو مخلوق من لا شيء، وبإرادة الله ومشيئته«.  وهذا يعني أن المسيح (عليه السلام)، ضمن هذا التّعريف، بشرٌ مخلوق.
غير أن آريوس لم يخرج ببدعة جديدة في هذا التوجّه الذي يصرّ على بشريّة المسيح (عليه السلام)، فقد سبقه إلى ذلك بطريرك أنطاكية بولُس السُّميساطي، ولقد عُرفت مدرسة أنطاكية التي أسّسها لوقيانوس([6]) الأنطاكي بميولها النّقدية التي نظرت إلى المسيح لا باعتباره إلهاً، بل مخلوقاً أُنعم عليه بقوى إلهية.  وكانت هذه المدرسة هي الأساس الفكري والعقائدي الذي استمدّ منه آريوس طُروحه([7]).


([1]) راجع:
 Encyclop. Britannica (Macrop.), “Unitarians” (ed. 1981), vol. 18, p. 860.  
([2]) حول ذلك راجع: عيسى يبشّر بالإسلام، لمحمد عطاء الرّحيم، ترجمة فهمي شمّا، دمشق 1990، ص 128-129.  وراجع: الفرق والمذاهب المسيحية منذ البدايات حتى ظهور الإسلام، لنهاد خيّاطة، دار الأوائل، دمشق 2002، ص 81.
([3]) راجع: قصة الحضارة، لوِلّ ديورانت، 11: 392.  وراجع: الأحناف، دراسة في الفكر التوحيدي في المنطقة العربية قبل الإسلام، لعماد الصبّاغ، دار الحصاد، دمشق 1998، ص 106.  وحول حياة آريوس راجع:
Encyclopaedia Britannica (Micropaedia), (ed. 1981): “Arius”, vol. I, p. 518.
([4]) وتوازيها في ذلك طبعاً الكنيسة الكاثوليكيّة والمارونيّة، حيث يتردّد فيها دوماً الحديث عن »البدع الآريوسيّة الخطيرة والهرطقة الآريوسيّة«.
([5]) راجع: خياطة، المصدر المذكور والصفحة ذاتها.  وراجع:
Baigent, Leigh, & Lincoln: The Holy Blood and the Holy Grail, pp. 279-83.
([6]) ثمّة مؤشرات تدلّ على أنه »لُقمان الحكيم« المذكور في قُرآننا الكريم.  وباطّراح (os) من اسمه اليوناني نلاحظ: لوقيان - لُقيان (والعربيّة تعاف توارد حرفي علّة). 
([7]) راجع: ج. لورتس: تاريخ الكنيسة الفرنسية، باريس 1955، ص 67.

3 - نوفمبر - 2007
إنجيل بارنبا: أهو حقاً الإنجيل الصحيح؟
 2  3  4  5  6