في شارعٍ يغص بالمكتبات التي تبيع الكتب والمجلات القديمة والحديثة يتجولعاشقو القراءة جيئة وذهابا بحثا عما لذ وطاب من جديدٍ حافل بالحداثة ومابعدها وقديمٍ ينضح من بين اوراقه المتهرئة نبيذ معرفي ينعش الروح واناثار بعض "العطاس" ، لا كلل ولا ملل بين آخر الطبعات وأولاها.
وحين يداهم رواد شارع المتنبي التعب فهناك استراحتانرئيستان لخدمتهم الاولى عند رأسه المطل على شارع الرشيد وهي " مطعمالاخلاص" ، والاخرى عند نهايته المفتوحة على سوق السراي و"القشلة" العثمانيةوهي "مقهى الشابندر".
بالنسبة للمطعم الذي تفوح منه روائح "الكص" و"التكّة والكباب" و"الجليفراي" - الجيم بثلاث نقاط - وغيرها من الاكلات البغدادية ، فأن زواره في غالبيتهم حسبما اتذكر من الشعراءوالكتاب والمتورطين بتعاطي الثقافة وهو حضور ينعكس جمالا على اجواء وأحاديث المطعم وهذه خصيصة نادرة ولا ريب.
الى ذلك فإن مطعم الاخلاص كان يدار و"يخدم" من قبل رجل"عبقري" اسمه "زاير" الذي يعد عصب الاهتمام بزبائن المطعم. فزاير يستلم الطلبات دون دفتر ولا اوراق .. ثم يحمل على ساعدهالأسمر عشرات من الصحون المعبئة بطلبات مختلفة فضلا عن صحون " العوازة " او الاكل الاضافي ليوزعها على على الطاولات دون ان يخطئ مكانوصاحب الطلب..
والطريف في هذا المطعم طريقة الدفع ، اذ يقف الزبائن وهم كثر امام صاحب المطعم الذي يجلس عادة خلف طاولة كبيرة عند الباب وينتظرون دورهم للدفع. الزبون هنا لا يُسأل أبدا عماذا أكل وكم شيش طلب ، وانما يقوم صاحب المطعم بالكبس على زر جرس امامه على الطاولة فيرن صوته حتى يطل زاير من مكانه ليعلن حساب الزبون، ونادرا ما يخطئ رغم كثرة رواد المطعم المكون من طابقين يصول فيهما زاير ويجول.
ذات مرة كنت استمتع بأدائه في الاعلان عن الحسابات .كان يصيح مع كل رنة جرس : اربعمية وخمسين.. سبعمية.. دينار وربع.. مية وخمسين ثم اذا به يقول : على حسابي !.. والأخيرة تعني ان الزبون صديق عزيز على زاير وليس عليه ان يدفع.. وقد حاول الرجل كثيرا ان يدفع لكن دون جدوى فصاحب المطعم لا يكسر كلمة للعبقري زلير ، خرج الزبون ضاحكا شاكرا.
هذا المطعم لم استمتع في حياتي بأشهى من أكلاته ولا أمتع من الجلسة فيه ولا أجمل من اجواء احاديثه التي يتوزعها الشعر والنثر ودعابة المثقفين.
أما مقهى الشابندر فقد تأسس سنة 1917 بعدما كان مطبعة مشهورة في بغداد، وأصحابها من عائلةعراقية بغدادية أصيلة، عميدها المرحوم (موسى الشابندر) الذي الف كتاباً عن بغداد حمل عنوان "ذكريات بغدادية ، وسرعان ما لاقى المقهى الجديد نجاحاً كبيراً وبات ملاذا يرتاده أهالي محلات "جديد حسن باشا" و"الحيدر خانة". وترتاد المقهى شرائح اجتماعية كثيرة ومتنوعة، اذ يقف عنده المختارون والمحامون والمؤرخون ومنهم مثلاً (فائقتوفيق) و(مظهر العزاوي) و(توفيق الفكيكي) وغيرهم. كما يلتقي عنده عدد من رؤساء العشائر العراقية ومنهم الشيخ (حبيب الخيزران) ، وشيخ (جياد الشعلان) وشيخ (حجي عجة الدلي) و(حسينالمطر) وشيخ (شندل المدلول) وشيخ (جاسب المطشر) وغيرهم وعند المساء يأتي للتسامر فيه بعض المع الأدباء والصحافيين. يبقى ان نذكر أن حفلات للمقام العراقي كانت تقام في ليالي رمضانبحضور قارئ المقام العراقي الرائد (رشيد القندرجي) وكان يخصص ريع الحفلات إلى طلابمدرسة التفيض الأهلية.
ويضيفمقال للكاتب العراقي جلال حسن بان الندوات والاجتماعات كانت تعقد في هذا المقهى، " ففي سنة 1933 انعقدالاجتماع الأول لنقابة عمال الميكانيك، ونقابة عمال الجلود، ومنه انطلقتفي سنة 1948 أكبر تظاهرة وطنية تندد وتحتج على معاهدة (بورتسموث)، بعد أنطوقت شرطة السيارة بداية الجسر (جسر الشهداء حالياً) وشارع الرشيد مما حدابالمتظاهرين إلى اتخاذ مقهى الشابندر نقطة الانطلاق بعد محاصرتهم فيه" وكباقي مقاهي بغداد الراقية يتزين مقهى الشابندر بسماورات نحاسيةمختلفة ، ودلال قهوة و نركيلات وساعات جداريةالقديمة. كما زينت جدران المقهى لوحات بغدادية زيتية وفوتوغرافية تعود إلىالحياة البغدادية في العشرينيات منها صورة كبيرة للملك فيصل الأول في أحداجتماعاته التي تضم أعيان بغداد وصورة للجنرال (خليل باشا) والي بغدادوصورة جثمان الملك غازي محمولاً على أكتاف ضباطالحرس الملكي وصورة نادرة تمثل سمو الشريف شرف الوصي على العرش المعظم يقسم اليمينالقانونية أمام مجلس الأمة ، فضلا عن آيات قرآنية وإهداءات منشخصيات بغدادية وفنانين عراقيين.
ولا شك ان هذه الملامح ، التي ذكرني ببعضها مشكورا مقال السيد حسن ، يمكن ان تعطي أيضا صورة واضحة لاجواء هذا المقهى ، الذي قيل لي انه بحاجة ماسة كي يستفيد عافيته بعدما تدهورت احواله في سنوات النظام السابق بسبب الرقابة الامنية التي فرضها على رواده ، ولم تتحسن حاله في عهد ما بعد سقوطه اذ اضحى مقهى عاديا تصيح جدرانه " يا ويلاه .. يا ويلاه " وهل من يد كريمة تعيدني الى سابق عزي ومجدي".
في فرصة مقبلة سنستذكر معا " دلال الكتب " المرحوم احمد كاظمية الذي كان يدلل على الكتب التي تباع على مكتبات سوق السراي وشارع المتنبي.
احيانا يطرح البعض سواء من رواد شارع المتنبي وسوق السراي أو من اصحاب المكتبات فيهما مجموعات من الكتب لبيعها على المكتبات. هذه المجموعات تسلم عادة الى "أحمد كاظمية" صاحب احدى المكتبات الصغيرة ودلال الكتب المعروف كي يتولى بيعها في مزاده الجميل مقابل أجر معلوم.
وللمرحوم أحمد كاظمية ذي الصوت الجهوري أسلوبه وطريقته في عرض الكتب للمزاد على أصحاب المكتبات ، ونادرا ما كان يسمح لأحد من المارة بالمشاركة في المزاد.. الدلال يقوم أولا بعرض الكتب المعروضة للبيع على المرحومين كاظم الحيدري صاحب مكتبة الحيدري وحسين الفلفلي صاحب مكتبة الزوراء وغيرهما من أصحاب المكتبات في سوق السراي قبل أن يعرضها على مكتبات في شارع المتنبي كالعصرية والأهلية والتربية غيرها ، وخلال هذه العملية قد يعطي أحد اصحاب المكتبات سعرا أوليا للكتب المعروضة للبيع ثم ينطلق المزاد حيث يتجول " كاظمية" على المشاركين حاملا هذه الكتب.. فيضيف الحيدري .. ويزيد الفلفلي .. وتذهب الكتب لمكتبات المتنبي وتعود بسعر أعلى.. يسأل الحيدري عن آخر المزايدين ويجيب كاظمية " على أبو العصرية " فيزيد الحيدري مثلا أو ينسحب. وعندما يصل السعر لمستويات عالية قد يطلب البعض من المشاركين في المزاد من الدلال جلب الكتب مرة اخرى لاعادة النظر فيها واتخاذ قرار الاستمرار في المزاد أم لا.
كاظمية يصيح في المراحل النهائية من المزاد " رح أبيع.. رح أصالح " قبل ان يبشر من رست عليه.
الطريف ان بعض المارة في السوق أو الشارع ممن لا علم لهم بعمل كاظمية يتخيلون أنه معتوه " على قد الحال " ، فيما دلال الكتب لا يابه بتعليقاتهم التي يرد على بعضها بعبارات ضاحكة ، وللشهادة فهو لا يتواني عندما يكون بمزاج طيب عن ترديد بعض الأشعار والحكم وحتى الاغاني الشعبية خلال المزاد.. في ذات مرة سمعته يردد:
مشيناها خطى كتبت علينا ومن كتبت عليه خطى مشاها
وفي بعض المرات يردد كاظمية بعضا من اغاني سليمة مراد أو صديقة الملاية او محمد القبنجي وهكذا.
وحسب ما نقل لي أحد اصحاب المكتبات فإن التنافس بين المشاركين في المزاد يقود أحيانا الى ايقاع بعضهم بالبعض الاخر. مثلا يرى البعض في الكتب التي يستمر الحيدري في الزيادة عليها ، وهو شاعر ومثقف ووراق من الطراز الثقيل ، يرى فيها كتبا قيمة تستحق مواصلة المزاد ما قد يزعج الحيدري الذي يستمر في رفع أسعارها الى حدود تتجاوز قيمتها ثم " يورط " بها الاخرين نكاية بهم لاعتقاده انهم منعوه فرصة شرائها..
ومع ذلك، فانها أيام بلون الخير وعطر المحبة وقد ذهبت مع رموزها وأبطالها ، وأحدهم " أحمد كاظمية " دلال السوق العريق الذي تشرفت مرات ومرات بالاستمتاع بأدائه الرائع.
في شارع المتنبي وسوق السراي ببغداد ظاهرة طريفة ، فالعديد من أصحاب المكتبات لم يقتصروا على استيراد وبيع الكتب بل مارس البعض منهم ، وخاصة ممن توفر لديهم حظ وافر من المعرفة ، طبع ونشر الكتب ، وقد بدا هذا واضحا في " المكتبة العربية " للمرحوم نعمان الاعظمي و " المثنى " لقاسم محمد الرجب و" الأهلية " لشمس الدين الحيدري وغيرها. وعلى سبيل المثال فان المرحوم نعمان الاعظمي (ت 1888 ) كما ينقل الذين عرفوه عن قرب كان يصب اهتمامه على إحياء ما يتعلق بتاريخ العراق لا سيما بغداد فأقدم على نشر كثير من الكتب المهمة كتاريخ بغداد للخطيب البغدادي الذي كان يعد من الكتب المفقودة وكتاب الحوادث الجامعة بإشراف المرحوم العلامة مصطفى جواد ونشر أيضاً كتاب النور السافر في أعيان القرن العاشر للعيدروسي، وكانت أكثر نشراته ببغداد بمطبعة الفرات وصاحبها محمد رشيد الصفار. ومن مطبوعات المكتبة العربية أيضا كتاب "الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناشر" للامام المصلح السيد محمد شكري الالوسي وقد شرحه المرحوم محمد بهجت الاثري. كما طبع الاعظمي ايضا كتاب "أدب الكتاب" لابي بكر محمد بن يحيى الصولي، و"نزهة الانام في محاسن الشام" لابي البقاء عبد الله بن محمد البدري المصري الدمشقي ، وكتاب " الأدب العصري في العراق العربي" لرفائيل بطي. وتؤكد الرويات المنقولة أن نعمان الأعظمي كان يحسن اختيار الكتب التي يتولى طبعها ونشرها ، وكان إلى جانب ما نشره من الكتب القيمة التي اشبع بها رغبته قد نشر كثيراً من القصص المنتزعة من ألف ليلة وليلة أو من كتب أخرى ، مثل قصة المياسة والمقداد وقصة مناجاة موسى وكان ينشر أدعية كثيرة مختلفة أوسعها انتشاراً هو دعاء عرف بـ(عهود السليمانية) وفيه أحجية سبع منجيات، ويحتوي على آية الكرسي ودعاء الاستغاثة لتفريج الكروب وفوائد للقبول والعطف، وهو يحمل تميمة لكل طالب حاجة وفيه اسماء الله الحسنى، وسيف ذو الفقار. ومن أشهر المفكرات وأوسعها انتشاراً في بغداد وبيقة المحافظات العراقية (المفكرة العربية) التي يصدرها نعمان الأعظمي وهي كانت تصدر الى وقت قريب وكان ينظمها ويرتبها أحد خطباء المساجد في بعقوبة واسمه الزيدي، والمفكرة هذه تحتوي على خليط عجيب من الحكم والأمثال والأنواء الجوية وأمور أخرى لا يربطها رابط ولا تدخل تحت حصر كما كانت تحتوي على ذكر مواقيت الصلاة والأعياد الرسمية ووفيات الأئمة والقادة.
رحم الله الاعظمي واقرانه ممن عشقوا الحرف والكلمة ، ورحمنا معهم.
شارع المتنبي .. طقوس يوم الجمعة ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
بداية أود التوضيح أني تركت العراق منفيا في عدد من الدول أواخر السبعينات ، وهي سنون انقطعت فيها عن بغداد وأزقتها وأحيائها ، ومنها محلة جديد حسن باشا التي ينبض فيها شارع المتنبي. وقد اتصل بي بعض المعارف وطلبوا مني الكتابة عن السيد نعيم الشطري ، دلال شارع المتنبي اوائل التسعينات وحتى اليوم ، ونقل لي بعض منهم ذكرياته عن هذا الرجل الذي كان يؤذن لبيع الكتب في نهارات الجمع.
يقول الاستاذ يحيى الاميري المقيم في السويد وهو من رواد الشارع "أجمل ما يعجبني ويشنف أذاني ويزيد بي ّ البهجة ويقربني الى محتويات الشارع صوت، نعيم الشطري، وهو يردد بشكل مستمر بين فينة وأخرى وبنغمات وصوت رخيم جميل :
وخير صديق في الزمان كتاب
ويضيف الأميري قائلا : " هكذا يبدأ مؤذن المتنبي عمله يوم الجمعة حيث للشارع نكهة خاصة بهذا اليوم ... كل جمعة للشارع كرنفال يبدأ مع الصباح إذ يمنع دخول المركبات فيه ويكون فقط للسابلة الذين يكتظ بهم الشارع.
آلاف من الكتب والمجلدات والصحف والمجلات القديمة والحديثة وبمختلف اللغات ،رغم أن المطبوعات الحديثة في تلك الفترة كانت شحيحة ،إذ معلوم انه لا يدخل البلد الصحف والمجلات والكتب الحديثة ألا الشيء القليل الذي لا يشبع من جوع ولا يقي من برد "
لكن لبعض الكتب والمجلات والجرائد الممنوعة القديمة منها أو الحديثة رغم منع تداولها أو بيعها في العراق كان لها سوقها وناسها الخاصون في هذا الشارع ، يعرفها ويأخذ منها حاجته بحذر وخوف يصل حد الهلع ، من المترددين على السوق وعشاق المعرفة والحرية والأخبار الجديدة ، رغم قلتها ".
وعلى ذكر " الممنوع من المطبوعات " نقل لي نجل صاحب المكتبة الاهلية ذات مرة ان عدد الكتب والمجلات الممنوعة في العراق – كان ذلك اواسط السبعينات – بات بالالاف ! ، ولفت الى ان بيع هذه المطبوعات وشراءها يمكن ان يعرض لعقوبات شديدة .
وبحسب ما نقل لي فان عددا كبيرا من اصحاب المكتبات الخاصة باعوا كتبهم في هذا الشارع وعن طريق الشطري أيام الحصار الذي فرض على البلد حين كان ضيق الحال سائدا بين الناس.
ختاما اتمنى للسيد الشطري نهارات جمعة جميلة يقدم فيها ما لذ وطاب من كتب عذاب.. في فرصة قادمة ساسرد شيئا من الذكريات عن المكتبة العصرية للقاموسي وعن حنون الذي كان يبيع الشاي في سوق السراي وشارع المتنبي. اتمنى ان يسمح لي الوقت بذلك
اختلفت الآراء في تاريخ تأسيس المكتبة العصرية في بغداد ، لكن إجماعا يقول انها انشئت خلال العشر الأوائل من القرن الماضي من قبل المرحوم محمود حلمي الذي كان معروفا بتوزيع اغلب المجلات المصرية في العراق.
وقيل ان المكتبة العصرية تنقلت بين بين الباب الصغير لسوق الصياغ المرتبط بسوق السراي ، قبل ان تنتقل الى مكانين في سوق السراي ، ثم انتقلت الى شارع المتنبي مقابل المخبز العسكري قبل ان يستقر بها المقام ببناية المكتبة البغدادية.
وعندما ألمت أزمة مالية بالمرحوم محمود حلمي عام 1964 باع المكتبة العصرية للاديب صادق القاموسي ، فيما ظل حلمي يعمل في المكتبة كموظف فيها خصص له القاموسي مرتبا شهريا لحين وفاته رحمه الله.
وقد بيعت للمكتبة العصرية كثير من المكتبات الخاصة لأدباء ومفكرين ورجال دين عراقيين معروفين ومشهورين، منها مكتبة الشاعر المرحوم جميل صدقي الزهاوي وغيره.
وبحسب كتابات عديدة فقد كان للمكتبة العصرية أيام القاموسي مجلس يؤمه مثقفون ومبدعون بارزون كعباس العزاوي وعبد الرزاق الحسني وطه الهاشمي والعلامة الشيخ احمد الوائلي والشاعر السيد مصطفى جمال الدين والعلامة مصطفى جواد وغيرهم من شخصيات الوزن الثقيل.
والقاموسي ، كشاعر ( صدر ديوانه بعد وفاته باسم "ديوان صادق القاموسي" عام 2004 ) بتحقيق ابن أخيه محمد رضا القاموسي، عكس شخصيته الادبية على مكتبته حتى عدها الكثير واحدة من أكثر المكتبات العراقية نظاما وترتيبا ، حتى أن زائرها كان يسعد بطريقة عرض الكتب فيها وتوزيعها فضلا عن نوعية وندرة الكتب التي كانت تحتويها.
أما مؤسس المكتبة الاول محمود حلمي فقد كانت له عقلية تجارية لامعة ساعدته على أن يكون في مقدمة مستوردي المطبوعات المصرية من كتب ودوريات ومجلات. وقد ساهم في استثمارها وكيله اليهودي اسحاق ، رغم ان هم وغم الأخير كان المال أولا وثانيا وثالثا. وفي لقاء صحفي أجرته بعض المجلات مع حلمي ، كما نقلت صحيفة المدى العراقية ، قال: عندما أعلنت الحرب العالمية الثانية وأرتفع سعر الورق ارتفاعاً فاحشاً سافرت إلى القاهرة ومن هناك شحنت (500) دورة من كتاب (معجم الأدباء) لياقوت الحموي لتباع الدورة الواحدة التي تحوي (20) جزءاً بدينار واحد، وعندما عدت إلى بغداد وجدت هذه النسخ مفقودة فسألت وكيلي وكان يهودياً أسمه اسحق أين دورات معجم الأدباء؟ قال: بعتها فقلت: غير معقول لأن بيعها يحتاج في الأقل خمس سنوات. قال: بعتها وهاك الثمن. فقلت: ماذا (1500) دينار؟ قال: نعم بعتها في الشورجة بالميزان كل دورة بثلاثة دنانير صفقة واحدة بدلاً من أن ننتظر (خمس سنوات) لكي أبيعها بـ(500) دينار، وهكذا ذهبت (500) دورة من هذا الكتاب التراثي النادر بواسطة هذا التاجر اليهودي إلى سوق الشورجة لتصبح أعقاباً للسكائر.
العزيز ياسين الشيخ سليمان حفظك الله ورعاك ، ومعك يا سيدي نحيي الصديق العزيز عبد الحفيظ الذي طالما تلطف بالتعليق على ما يرد في خاطري من افكار ابوح بها لقراء الوراق الكرام. جميلة مداخلتك التي جاءت على طريقة السهل الممتنع ، وفقك الله وأدام لك حسن البصيرة. الحقيقة ليس لي من اضافة على كل من التعليقين ، قدر ما أود تكرار التاكيد على أمر واحد وهو أني لم ارد للسياسة ان تطبع حوارنا هذا فاني لا اتوقع من الرئيس المنتخب أن يغير كثيرا من السياسة الاميركية في الشرق الاوسط ، خاصة مع لحاظ الازمة الاقتصادية التي امسكت بخاصرة العالم ولا اتخيل انه بقادر على تبديد الكثير من الشكوك التي تنتابنا ونحن نتابع الأداء السياسي الاميركي في مناطقنا، لكن وددت التأكيد على حجم التسامح والمصالحة التي تتمتع بها شعوب اخرى في العالم لا تمتلك ما نمتلك نحن المسلمين من مبادئ واسس المصالحة ودعوات للتعايش السلمي والاخوي فيما بيننا. أردت أن اقول إن انتخاب هذا الرئيس المصبوغ بلون افريقيا السمراء جاء بعد سنين طويلة وليست ببعيدة من العنصرية البغيضة التي وضعت امة أوباما في الولايات المتحدة في الدرك الاسفل من طبقات المجتمع حتى خيل أن لا وصول إلى مصالحة مع البيض بعد ان تقطعت بين الفريقين السبل. لكن حركة الحقوق المدنية في جو من ثقافة الاستماع للاخر والتفاعل معه كانت سريعة الى حد أحرقت الكثير من المراحل اللازمة لدمل الجراح.. بل وانتخاب واحد من منبوذي الامس رئيسا للبلاد. وهنا السؤال مرة اخرى : لماذا تتحرك مصالحاتهم بهذه السلاسة والبساطة وتتعثر مصالحاتنا؟ والحقيقة يا اخ ياسين ان تعليقك والمقال الذي تفضل بلفت انتباهنا له السيد عبد الحفيظ يضيئان بعضا من العتمة التي قد يدفعان مشاركين آخرين لاضاءتها أكثر وألف شكر وشكر، ومحبتي لك وقبلاتي لتراب فلسطين
وألف شكر للكريمين الصديقين عبد الحفيظ والشيخ ياسين والف شكر للعزيز مازن الذي اتفهم تماما انفعاله والمه وفقه الله في هندسة علاقاته بعيدا عن الخلل الذي نعاني منه. ولعلي أميل الى ان هناك العديد من المفاصل التي تعاني خللا في منظومة علاقاتنا الاجتماعية ومعظمها بحسب تقديري القاصر يرتبط بموضوعة ثقافة الحوار واسس الحوار السليم ، وما زلت اصر على ان ما في تاريخنا وديننا وبالتالي حضاراتنا الكثير من المفاهيم التي تحتاج الى اعادة قراءة معاصرة ومراجعة صياغاتها كي نتمكن جميعا من استحضارها من جديد في حياتنا التي باتت تعاني من فهم قاصر للتراث وارتماء غير مدروس في احضان الحداثة حتى تاهت الامور واختلط الوهم مع الحقيقة وما عدنا نرى الا عصبيات فكرية وسياسية ، عافنا الله واياكم منها.
ثقافة الحوار في الاسلام: حرّية الاختيار وحق الاختلاف محمد السماك جريدة النهار (لبنان) الأحد، 17 تشرين الثاني / نوفمبر 2002
في الاساس، لا يكون الحوار الا مع الآخر. وتحديداً مع الآخر المختلف. ان هدف الحوار هو شرح وجهة النظر وتبيان المعطيات التي تقوم عليها، وفي الوقت نفسه الانفتاح على الآخر لفهم وجهة نظره ثم للتفاهم معه. ذلك بان التفاهم لا يكون من دون فهم متبادل. والحوار هو الطريق الى استيعاب المعطيات والوقائع المكونة لمواقف الطرفين المتحاورين، ثم الى تفاهمها.
في ثقافتنا الاسلامية، كما يقول ابو الوليد الباجي، أن من اجتهد وأصاب الحق فقد اجر أجرين. أجر الاجتهاد وأجر الاصابة للحق. ومن اجتهد وأخطأ فقد أجر أجراً واحداً لاجتهاده ولم يؤثم على "الخطأ". نفهم من ذلك ان الاجتهاد، كأي عمل فكري انساني، مفتوح على الخطأ والصواب. فهو ليس مقدساً ولا مطلقاً ولا ثابتاً، بل هو انساني، محدود، ومتغير.
وفي ثقافتنا الاسلامية ايضاً ان "رأيي صحيح يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب". نفهم من ذلك ايضاً انه ليس لأحد ان يدعي الحقيقة المطلقة. وليس له ان يخطئ الآخرين لمجرد اقتناعهم برأي مخالف. فالحقيقة نسبية. والبحث عن الحقيقة، حتى من وجهة نظر الاخر المختلف، طريق مباشر من طرق المعرفة. وهو في الوقت نفسه اسمى انواع الحوار.
وفي ثقافتنا الاسلامية كذلك، ان الحوار يتطلب اولاً وقبل كل شيء الاعتراف بوجود الاخر المختلف، واحترام حقه ليس في تبني رأي او موقف او اجتهاد مختلف فحسب، بل احترام حقه في الدفاع عن هذا الرأي او الموقف او الاجتهاد، ثم واجبه في تحمل مسؤولية ما هو مقتنع به.
ولأن الحوار يحتم وجود الآخر، فلا بد من تعريف الآخر. وهو تعريف لا يمكن ان يتم في معزل عن الأنا. ان فهم الآخر، ثم التفاهم معه، لا يتحققان من دون ان تتسع الأنا له. وبالتالي، كلما سما الانسان وترفع عن أنانيته، أوجد في ذاته مكاناً أرحب للآخر. ان الحقيقة ليست في الأنا. انها تتكامل مع الآخر، حتى في نسبيتها. وهي لا تكتمل في اطلاقيتها الا بالله. والحوار مع الآخر اكتشاف للأنا وإضاءة ساطعة على الثغر والنواقص التي لا تخلو منها شخصية انسانية. ولذلك يقول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر: "الآخر هو وسيط بيني وبين نفسي، وهو مفتاح لفهم ذاتي والاحساس بوجودي".
الآخر قد يكون فرداً وقد يكون جماعة. وفي الحالين، قد يكون مؤمناً، وقد يكون كتابياً وقد يكون كافراً. الآخر المؤمن هو للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً. والآخر الكتابي في المجتمع الاسلامي هو في ذمة المسلم * والرسول يقول "من آذى ذمياً فقد آذاني". اما الآخر الكافر، فالعلاقة معه مبنية على قاعدة "لكم دينكم ولي ديني". وفي كل الحالات، فان العلاقة بين المسلم والآخر يختصرها الحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول محمد "المسلم من سلم الناس من يده ولسانه".
يقرر الاسلام الاختلاف كحقيقة انسانية طبيعية، ويتعامل معها على هذا الاساس. {يا أيها الناس إنا خلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} (سورة الحجرات، الآية 13).
خلق الله الناس مختلفين اثنياً واجتماعياً وثقافياً ولغوياً، ولكنهم في الاساس "أمة واحدة" كما جاء في القرآن الكريم: {كان الناس أمة واحدة فاختلفوا} (سورة يونس. الآية 19)، اي ان اختلافاتهم على تعددها لا تلغي الوحدة الانسانية.
تقوم هذه الوحدة على الاختلاف، وليس على التماثل او التطابق. ذلك ان الاختلاف آية من آيات عظمة الله، ومظهر من مظاهر روعة ابداعه في الخلق. يقول القرآن الكريم: {ومن آياته خلق السماوات والأرض وإختلاف ألسنتكم والوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين} (سورة الروم، الآية 22). والقاعدة الاسلامية كما حددها الرسول محمد هي ان {لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى}. وبالتالي فإن الاختلاف العرقي لا يشكل قاعدة لأفضلية ولا لدونية. فهو اختلاف في إطار الأمة الانسانية الواحدة، يحتم احترام الآخر كما هو على الصورة التي خلقه الله عليها.
اذا كان احترام الآخر كما هو لوناً ولساناً (اي اثنياً وثقافياً) يشكل قاعدة من قواعد السلوك الديني في الاسلام، فان احترامه كما هو عقيدة وايماناً هو احترام لمبدأ حرية الاختيار والتزام بقاعدة عدم الاكراه في الدين.
فالقرآن الكريم يقول: {لكل وجهة هو موليها} (سورة البقرة، الآية 148). وفي اشارة واضحة الى تعدد التوجهات يقول ايضاً: {وما بعضهم بتابع قبلة بعض} (سورة البقرة، الآية 145).
ذلك انه مع اختلاف الالسن والألوان، كان من طبيعة رحمة الله اختلاف الشرائع والمناهج، وهو ما اكده القرآن الكريم بقوله: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا. ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما أتاكم. فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} (سورة المائدة، الآية 48). و{الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون} (سورة آل عمران، الآية 141). و{لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} (سورة هود، الآية 118).
أرسى القرآن الكريم قواعد واضحة للاعتراف بالآخر وبوجهة نظره اجلاء للحقيقة، بما في ذلك، بل في مقدمة ذلك، الحقيقة الإلهية.
حوار الله والشيطان
في حوار الله والشيطان، كما ورد في سورة الأعراف، (الايات من 10 الى 24)، وفي سورة الحجرات (الآيات من 15 الى 40) يقول القرآن الكريم: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا الاّ ابليس لم يكن من الساجدين. قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك. قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. قال فاهبط منها فما يكون لك ان تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين. قال انظرني إلى يوم يبعثون. قال إنك من المنظرين. قال فيما أغويتني لأقعدَنّ لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجدُ أكثرهم شاكرين. قال اخرج منها مذءوماً مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين}.
من خلال هذا الحوار الإلهي مع الشيطان، تبرز حقيقة الثواب والعقاب، الخير والشر، الإيمان والكفر. وما كان لصورة هذه الحقيقة ان تكتمل من دون هذا الحوار. وما كان لهذا الحوار ان يقوم من دون وجود الآخر.
وفي حوار الله مع الأنبياء تبرز حقيقة الاعجاز الإلهي: {وإذا قال إبراهيم ربِ أرني كيف تحيِ الموتى؟ قال أولم تؤمن؟ قال بلىَ ولكن ليطمئن قلبي. قال فخذ أربعة من الطير فصُرهُنّ اليك ثم إجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم إدعهن يأتينك سعيا واعلم ان الله عزيز حكيم} (سورة البقرة، الآية 260). وفي حوار الله مع عباده، تبرز حقيقة العدل الإلهي، حيث ورد في الآية الكريمة: {قال ربِ لمَ حشرتني أعمى وقد كُنتُ بصيراً. قال كذلك أتتكَ آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} (سورة طه، الآية 125).
وفي حوار الأنبياء مع الناس، تبرز حقيقة التربية الإلهية، في الآية الأولى من سورة المجادلة: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمع تحاوركما ان الله سميع بصير}. كما تبرز حقيقة الهداية الإلهية: {الم ترَ إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه إن أتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيِ ويميت. قال أنا أحيِ وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فآت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين} (سورة البقرة، الآية 258). وفي حوار الناس مع الناس، تبرز حقيقة الجشع الانساني: {فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفرا} (سورة الكهف، الآية 34). تبين هذه الآيات الكريمة ان الحوار يتطلب وجود تباينات واختلافات في الموقع وفي الفكر وفي الاجتهاد وفي الرؤى. وفي ذلك انعكاس طبيعي للتنوع الذي يعتبر في حدّ ذاته آية من آيات القدرة الإلهية على الخلق ومظهراً من مظاهر عظمته وتجلياته.
ان وحدة الجنس او اللون او اللغة ليست ضرورة حتمية لا يتحقق التفاهم من دونها. لذلك لا بد، من أجل اقامة علاقات مبنية على المحبة والاحترام، من الحوار على قاعدة هذه الاختلافات التي خلقها الله، وارادها ان تكون، والتي يتكشف للعلم انها موجودة حتى في الجينات الوراثية التي تشكل بعناصرها شخصية كل منا وتمايزاتها.
إن للحوار قواعده وآدابه. ولعل من ابرز هذه القواعد والآداب ما ورد في سورة سبأ. كان الرسول محمد يحاور غير المؤمنين شارحاً ومبيناً ومبلغاً. ولكنهم كان يصرون على ان الحق الى جانبهم. فحسم الحوار معهم على قاعدة النص: {انا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} (سورة سبأ، الآية 24). لقد وضع الرسول نفسه في مستوى من يحاور تاركاً الحكم لله، وهو اسمى تعبير عن احترام حرية الآخر في الاختيار، وعن احترام اختياره حتى ولو كان على خطأ. وذهب الى أبعد من ذلك عندما قال القرآن الكريم في الآية التالية مباشرة: {قل لا تُسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون} فكان من آداب الحوار بل من المبالغة في هذه الآداب ان وصف اختياره للحق وهو على حق بأنه اجرام (في نظرهم). ووصف اختيارهم للباطل وهم على باطل بأنه مجرد عمل. ثم ترك الحكم لله: {قل يجمع بيننا ربنا، ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتّاح العليم}. ان احترام حرية الاختيار هنا ليس احتراماً للخطأ. فتسفيه وجهة نظر الآخر ومحاولة اسقاطها ليسا الهدف الذي لا يكون الحوار مجدياً الا اذا تحقق. ان من اهداف الحوار تعريف الآخر على وجهة نظر لا يعرفها، ومحاولة اقناعه بالتي هي احسن بموقف ينكره او يتنكر له. وهو امر يشكل في حد ذاته احد اهم عناصر الاحتكاك الفكري والتكامل الثقافي والتدافع الحضاري بين الناس. ومن دون ذلك يركد الذهن ويفقد التعطش الى المعرفة عودَ الثقاب الذي يلهبه، وتتحول مساحات الفكر الى بحيرات آسنة. وفي ذلك يقول القرآن الكريم: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} (سورة البقرة، الآية 251). ان الاختلاف بين الناس، وما يشكل الاختلاف من تدافع، يشكلان احد اهم موجبات عدم فساد الأرض.
هناك فوارق كثيرة بين علاقة الارادة وعلاقة الفرض. العلاقة الأولى هي نتيجة حوار وثمرة تفاهم، وهي بالتالي فعل ارادي تحقق المحبة والاحترام والثقة. اما العلاقة الثانية فهي حال تنكر لحق الآخر وتجاهل لتمايزاته ولخصائصه، وتجاوز للحوار كوسيلة لفهمه وللتفاهم معه. وهي بالتالي حال مفروضة. وكل ما هو مفروض مرفوض من حيث المبدأ، ومن حيث الأساس، ولذلك فانها لا تحقق سوى البغضاء والكراهية وعدم الثقة.
ارسى مجتمع المدينة المنورة في عهد النبي محمد قاعدة لاقامة نسق تعاوني بين فئات الناس من مؤمنين وأهل كتاب في أمة واحدة. الوثيقة النبوية أقرت اصحاب الآراء على آرائهم وتكفّلت بحمايتهم كما هم. قام مجتمع المدينة على قاعدة نشر الدعوة مع احتضان الاختلاف. وليس مع تجاهله ولا مع محاولة الغائه.
حاور النبي نصارى نجران في بيته في المدينة المنورة وأحسن وفادتهم. وعندما حان وقت صلاتهم، لم يجد النبي اي غضاضة في دعوتهم، كما تذكر رواياتُ ثقة، إلى اداء صلاتهم. ان العقيدة، في الاسلام، تستقر بالفكر اختياراً ولا تُلْصقُ باللسان قهراً واجباراً. والقرآن الكريم يقول {لا اكراه في الدين} (سورة البقرة، الآية 256)، والـ"لا" هنا نافية وليست ناهية. اي انها لا تعني لا تكرهوا الناس في الدين، ولكنها تعني ان الدين لا يكتمل وهو لا يكون أساساً بالاكراه.
على قاعدة هذه السابقة النبوية في دولة المدينة الأولى، فإن الإسلام لا يضيق بتنوع الانتماء العقدي، ولا يؤمن بالنقاء العرقي (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى). فاذا كان التنوع من طبيعة تكوين المجتمع، فان الحوار هو الطريق الوحيد الذي يؤدي بالاختيار الحر وبالمحبة الى الوفاق والتفاهم والوحدة. ذلك ان البديل عن الحوار هو القطيعة والانكفاء على الذات، وتطوير ثقافة الحذر والشك والعداء للآخر.
ان من مقومات الحضارة العربية - الاسلامية احترام الآخر والانفتاح عليه والتكامل معه، وليس تجاهله او الغاؤه او تذويبه. ويشهد تعدد الاقليات الدينية والاثنية في العالم الاسلامي، ومحافظة هذه الأقليات على خصائصها العنصرية، وعلى تراثها العقدي والديني، وعلى لغاتها وثقافاتها الخاصة، على هذه الحقيقة وأصالتها. ان اعتراف الاسلام بالآخر، ومحاورته بالتي هي أحسن وقبوله كما هو، لا يعود بالضرورة الى تسامح المسلمين، بل الى سماحة الاسلام والى جوهر الشريعة الاسلامية.
فالحوار - كالصداقة - لا يولد بالضغط ولا بالترغيب. علينا (كما جاء في وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني بشأن الحوار مع الاسلام) "أن نعمل تدريجياً على تغيير عقلية وذهنية اخوتنا المسيحيين لأن المهم بالنسبة الينا، كما هو مهم بالنسبة للآخرين، محاولة اكتشاف الانسان كما يعيش وكما يأمل ان يكون، ولا يهمنا الماضي بقدر ما يهمنا هذا الانسان المتجه نحو آفاق المستقبل للحصول على عدالة اكثر، وحقيقة اكثر، وحبّ اكثر. هذا هو الرجل الذي يجب ان نعرف. ومع هذا الرجل فقط، يمكن ان نشيد ونبني حواراً اصيلاً وحقيقياً". ويستشهد النص الفاتيكاني بما قاله المستشرق ماسينيون من انه "لكي نفهم الانسان الآخر، يجب ان لا نستولي عليه وندمجه فينا، بل يجب ان نكون ضيوفه".
ان للحوار اهدافاً مختلفة. فهو اما ان يكون وسيلة لتنفيس ازمة ولمنع انفجارها، واما ان يكون سعياً لاستباق وقوع الأزمة ولمنع تكوّن اسبابها، واما ان يكون محاولة لحل ازمة قائمة ولاحتواء مضاعفاتها. في هذه الحالات الثلاث تكون مهمة الحوار هي العمل على:
1- ابراز الجوامع المشتركة في العقيدة والاخلاق والثقافة.
2- تعميق المصالح المشتركة في الانماء والاقتصاد والمصالح.
3- توسيع مجالات التداخل في النشاطات الاجتماعية الاهلية (كالأندية الرياضية والجمعيات الكشفية والمؤسسات التعليمية والاستشفائية).
4- التأكيد على صدقية قيم الاعتدال وتوسيع قاعدتها التربوية.
5- اغناء الثقافة الحوارية التي تقوم على عدم رفض الاخر، والانفتاح على وجهة نظره واحترامها، وعدم التمترس وراء اجتهادات فكرية صدئة من خلال التعامل معها - اي مع هذه الاجتهادات - وكأنها مقدسات ثابتة غير قابلة لاعادة النظر.
التفاهم
ان اي حوار يستلزم من حيث المبدأ تحديداً مسبقاً لأمرين اساسيين: الامر الاول هو التفاهم على ماذا نتحاور، والامر الآخر هو التفاهم لماذا نتحاور. اي انه لا بد من تحديد منطلقات الحوار وقواعده.
ينطلق الحوار من قواعد منطقية وعلمية تعتمد على الحجة والبرهان، ويتوسل الجدال بالتي هي أحسن، والموعظة الحسنة. فالله خاطب موسى بقوله: إذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري، إذهبا الى فرعون انه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر او يخشى. (سورة طه، الآيات 44،43،42). ويأمر بإتباع الحكمة في الدعوة: {ومن أحسنُ قولاً ممن دعا الى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالّتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} (سورة فصلت، الآيتان 33-34).
وتأكيداً لهذا المنهج ينهى الله المؤمنين عن اتباع اساليب السفهاء ومجاراتهم في السب والتسفيه لمعتقدات الآخر: {ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدواً بغير علم} (سورة الانعام، الآية 108). و"لا بد لكي يبدأ الحوار ان يمتلك اطرافه حرية الحركة الفكرية التي ترافقها ثقة الفرد بشخصيته الفكرية المستقلة، فلا ينسحق امام الآخر لما يحس فيه من العظمة والقوة التي يمتلكها الآخر، فتتضاءل ازاء ذلك ثقته بنفسه وبالتالي بفكره وقابليته لأن يكون طرفاً للحوار فيتجمد ويتحول الى صدى للافكار التي يتلقاها من الآخر" (عبد الرحمن حللي - حرية الاعتقاد في القرآن الكريم، المركز الثقافي العربي - المغرب، ،2001 ص94 - 96).
لذلك أمر الله رسوله ان يحقق ذلك ويوفّره لمحاوريه: {قل انما انا بشر مثلكم يوحى اليّ} (سورة الكهف، الآية 110)، {قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضرّاً الا ما شاء الله ولو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مَسّني السوء إنْ أنا الا نذير وبشير لقوم يؤمنون} (سورة الاعراف، الآية 188).
فاذا امتلك اطراف الحوار الحرية الكاملة فأول ما يناقش فيه هو المنهج الفكري - قبل المناقشة في طبيعة الفكر وتفاصيله - في محاولة لتعريفهم بالحقيقة التي غفلوا عنها، وهي ان القضايا الفكرية لا ترتبط بالقضايا الشخصية. فلكل مجاله ولكل أصوله التي ينطلق منها ويمتدّ اليها: {واذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا أوَلَوْ كان آباؤهم لا يعقِلون شيئاً ولا يهتدون} (سورة البقرة، الآية 170).
كما لا بد لكي ينجح الحوار من ان يتم في الاجواء الهادئة ليبتعد التفكير فيها عن الأجواء الانفعالية التي تبتعد بالانسان عن الوقوف مع نفسه وقفة تأمل وتفكير، فإنه قد يخضع للجو الاجتماعي ويستسلم لا شعورياً مما يفقده استقلاله الفكري: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو الا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} (سورة سبأ، الآية 46)، فاعتبر القرآن اتهام النبي بالجنون خاضعاً للجو الانفعالي العدائي لخصومه، لذلك دعاهم الى الانفصال عن هذا الجو والتفكير بانفراد وهدوء (مرجع سابق - عبد الرحمن حللي).
والمنهج القرآني في الحوار يرشد الى انهائه بمهمة وأداء رسالة يبقى اثرها في الضمير، إن لم يظهر أثرها في الفكر، انه اسلوب لا يسيء الى الخصم بل يؤكد حريته واستقلاليته، ويقوده الى موقع المسؤولية ليتحرك الجميع في اطارها وينطلقوا منها ومعها في اكثر من مجال" (انظر: فضل الله (محمد حسين)، الحوار أبعاد وايحاءات ودلالات - مجلة المنطلق: ،16 عدد 105 - ربيع الأول 1414 هـ).
ان في ثقافة الحوار في الاسلام آداباً وقيماً ومنهجاً اخلاقياً يحترم الانسان وحريته في الاختيار، كما يحترم حقه في الاختلاف وفي المجادلة. وفي النتيجة ان "من اهتدى فلنفسه، ومن ضلّ فعليها وما ربك بظلام للعبيد".
* راجع، د. عمر مسقاوي في مقالة له في جريدة "النهار" تاريخ 19/5/2001 حيث يقول في مفهوم الذمية: "والذمة هنا ليست ذمة حماية فوقية كما هو اسلوب الحضارة الغربية المعاصرة، بل هي وعاء الذاكرة الابراهيمية. وتعبير "لهم ما لنا وعليهم ما علينا" هو تكملة مفهوم اهل الذمة. وهذا يعني ان السلطة حين تأخذ بعدها التنظيمي في المفهوم الاسلامي وتنتقل الى صيغة جديدة في مفهومنا الحديث يصبح وعاء الذمة هو الوعاء الوطني. والوعاء الوطني هو الذمة المتبادلة بين الذين هم في اطارها".