ابتهال وإزالة إشكال (2) كن أول من يقيّم
بسم اللـه الرحمن الرحيم قضية المنافقين المنافقون :- جلاء شأن المنافقين : أن منهم من كتم الكفر في قلبه ، لكنه في الظاهر مع جماعة المسلمين ، وقائمٌ بشرائع الدين ، ولم يكن من شأنه تأريث نار الفتنة وإثارة نعرات الجاهلية ، ومنهم من كان كالأول في كتمان كفره وإسرار ضغينته وسخيمته ؛ إلا أنه كان يعمل على إضعاف المسلمين وتوهين صفهم بما وسعه طوق الإمكان من دعايةٍ مغرضةٍ ومقالات تثيرُ الشكوكَ وتقلقلُ الإيمانَ الغضَّ في بعض القلوب ، وكلا الفريقين يتحاشى جهده من افتضاح أمره وانكشاف كفره ومكره ، ومنهم من كاد أن يقعَ عند مواقف الامتحان ؛ كالذين انقلبوا مع ابن سلول في أحد ، والذين تخاذلوا عن المضي إلى الجهاد في غزوة تبوك ، والذين أيقظوا الفتنة يوم المريسيع ... الآيات الفاضحة للمنافقين :- ... وقد فضح الله المنافقين في كتابه ، وأنزل من الآيات الكاشفة لما يبطنون من الكفر والحنق على الإسلام ؛ ما لعلهم يرتدعون به عن حمأتهم العفنة ، ويرعوون عن مرعاهم الوبيء ، فيستَوْبِلُون عاقبة أمرهم ، ويستقِرُّ الإيمان في قلوبهم إذا ما علموا أن الله مطلعٌ على نوايا القلوب وخبايا الصدور وما يُدَبَّرُ بِلَيْلٍ ، والآية التي ذكرْتَها هي من هذا القبيل ، فمن البيِّن أنه ليس فيها أمر بقتل المنافقين وإنما هو تخويفٌ وتهديدٌ لهم بأن الله سوف يفضح مساعيهم الخبيثة ، ويسلط عليهم نبيَّه والمؤمنين ، إن لم ينتهوا … ما الدليل على الكف عن قتلهم ? :- … ومع كفرهم وإفسادهم ؛ إلا أنه لم يكن من سبيلٍ أمام النبي r إلا أن يعاملهم بظواهرهم ، فهو وإن كان يعلمهم ، وإن كان بعض الصحابة استنشى منهم ريح النفاق ؛ إلا أن الآخرين من المسلمين والكفار لا يعلمونهم ، وما يرونهم إلا من المسلمين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وسيوفهم بإزاء سيوفهم في سبيل الله تجاهد ، أَوَكان يبقى المنافقون في المدينة مع المسلمين ؛ والمسلمون يعلمون أنهم منافقون كفرة ، ومع ذلك يعاملونهم ويبايعونهم ؛ وتصلهم بهم حبال الحياة وحاجاتها ?! ، ولو أنهم أتوا كبيرة من الزنا أو السرقة أو القذف أو تطاوُلِ أحدهم على النبي r بكلامٍ بذيءٍ ( وسيأتي الكلام على قصة ذي الخويصرة ) = لأقام عليهم النبي r حدود الله ، ولم يكن من ضيرٍ في ذلك لأنهم من جماعة المسلمين ، أَمَّا أن يقتلهم - وهم لم يأتوا بما يستوجب القتل في أعين الناس - فذلك أمر يستوجب التفسير ، فبأي شيء يفسر ?! ، إذًا سيكون نارًا من الشك تأتي على الإيمان الغض في قلوب الحدثاء فتذره هشيمًا ، فلذلك كان من البدهي ألا يأمر الله - عز وجلَّ - نبيَّه r بقتلهم ، فعدم الأمر من الله هو الدليل أصلاً وهو العلة ، والعدم هنا يرجع بالأمر إلى النهي ؛ لأن الأصل في الدماء الحرمة ، لا إلى الإباحة وتَرْكِ الأمرِ إلى اختيار العقل كما قد يتوَهَّمُه قاصرٌ ، وتخيَّل نفسك صحابيًّا - حشرني الله وإياك في زمرتهم - في المدينة النبوية ، هل كنت تجد جموع الصحابة تتحادث وتتحاور في هذا الجدل الدائر بيننا ، وقد أخذ من اهتمامهم ذلك المكان العريض ، أم أن هذا التساؤل لا يكاد يطرح إلا في بعض مواقفَ مُريبةٍ تستفزُّ الغيورين كعمر - رضي الله عنه - ?! ... سد الذريعة حكمة لا علة ( دقيقة مهمة ) :- ... أما كونه سدًّا للذريعة فهذه حكمة لا علة ، أي أنه أمر أشار به العقل بعد ثبوت الحكم ، ولم يكن هو باعثه ، ومن أين عرفنا ذلك ? ؛ مِنْ أَنَّ الأصوليين عند تمثيلهم لسَدِّ الذريعة يقرنون مثال عدم قتل المنافقين بمثال النهي عن سب الطواغيت ، فهل سبق أمرٌ من الله يقضي بسبِّ الطواغيت ? ؛لم يكن هذا ألبتة ، نعم يُبَيَّنُ زَيْفُها وبطلانُ عبادتها ، ولم يُشْرَعْ سَبُّها ، بل نُهِيَ عنه ، وهذا النهي المباشر هو مأخذ الحكم ، بخلاف ما سبق إيضاحه في قضية المنافقين ، فَيُتَنَبَّهُ إلى هذا الفرق ، إذًا فسدُّ الذريعة في كليهما هو حكمة لا علة ، وهذا هو ملحظ الأصوليين الذين أخرجوا سدَّ الذريعة من الأدلة كليَّةً ، وهم كثر ، وليس مقصودهم نفي أنه من الأمور المعتبرة في الشرع رأسًا ، فشنَّع عليهم من لم يفهم فحوى كلامهم ، ومنهم من أدخلها في الأدلة تغافُلاً منه - وليس غفلةً - ؛ لاعتمادِ كُلِّ ما يُمْكِنُ أن يُخَرَّج عليه من الفروع الفقهيَّة على أدلةٍ أخرى غيِره ، وهذه دقيقةٌ مهمَّةٌ ... قصة ذي الخويصرة :- ... أما عن قصة ذي الخويصرة ؛ فأنا لم أفهم وجه إيرادك لها ، أتقصد أن النبيَّ r لم يأمر بقتله أو إقامة حدٍّ ما عليه سدًّا للذريعة ?! ، وذلك بعد غزوة حنين ، والإسلام قد ألقى على الجزيرة بِجِرانه ، ودخل الناس في دين الله أفواجًا ! ، كان في وسع النبي r أن يقيم عليه الحدَّ المناسب - غيرَ مُتَّهِمٍ له بكُفْرٍ ولا نفاقٍ ، بل كما رَجَمَ الزُّناةَ ، وقطعَ يد السارقة - للكبيرة التي اقترفها بتطاوله على حضرته الشريفة ، ولكنه حلم النبي r ورحمته ورأفته وخلقه العظيم الذي لم يكن يحمله على الانتصار لنفسه ، صلى الله عليه وسلم . تلخيص :- ? المنافقون كفار ، إلا من هدى الله قلبه فثبَّتَ إيمانه . ? أن منهم من كان يسعى لتوهين الإسلام ، ومنهم من لم يكن كذلك . ? أنهم جميعا كانوا يحاولون جاهدين التكتم والتستر وعدم البوح والجهر بكفرهم وكراهيتهم للدين . ? أن منهم من كاد يفتضح أمره ، أو لِنَقُلْ : من صدر منه من القول أو الفعل ما يدعو إلى الريبة والشك . ? أن اختلاطهم بالمسلمين ، وتخفِّيهم بزيِّ الدين ؛ كان يبعث الاعتقاد عند معظم الناس من الصحابة والمشركين بإسلامهم . ? أنه لم يكن من سبيلٍ لذلك أمام النبي - صلى الله عليه وسلم – إلا أن يعاملهم بظواهرهم ، وأن يكل بواطنهم إلى الله . ? أن الآيات الفاضحة لهم ، ما كانت إلا تهديدًا ووعيدًا للاتعاظ والازدجار ، وليس فيها ما يأمر بقتلهم . ? أن الأصل في الدماء الحرمة ، ولذلك فإن عدم الأمر دليلاً وحكمًا يرجع إلى النهي كذلك . ? أن سد الذريعة حكمة لا علة ، تطلب بعد ثبوت الحكم ، ولا تكون هي المورثة أو الباعثة له . قصة السارق الذي لم تقطع يده ... كيف تُسوِّي يا أخي بين الخصوصية الزمانية والذاتية ?! ، وما هي الاعتبارات التي أحاطت بالتعدد في العصر الحاضر ?! ، أما يوجد في عصرنا هذا من لديه من القدرة المالية والجسدية ولديه من العدل والرعاية لحقوق الزوجية ومراقبة الله تعالى ما يجعلنا نبيح له التعدد مثلما كان في عصر عمر - رضي الله عنه - سارقون تقطع أيديهم إذ لم يكونوا كصاحبهم في معركة ?! ، أم أنه إلى ما قبل سنة 1900 م كان كل من يعدد الزوجات على ذلك الوصف الحميد المذكور آنفًا ؛ فلم يحتج الفقهاء إلى إيقاف تنفيذه ?! ، لماذا نأخذ الجميع بجريرة الفرد ?! ، إن كنا نحن من سيضع الحكم لا الله فسنجيب على الفور : الشر يعم والخير يخص ، ربما كانت الاعتبارات من جهة المرأة ! ، إن التعدد ينافي كرامتها وتقديرها ! ، أنقول هذا انهزاميَّةً أمام الغربِ ! ، الغربِ الذي نزل بالمرأة إلى الدرك الأسفل ، فأسقطها وهي أجمل ما في الوجود في الأوحال ! ، أوحال الإباحية والشذوذ الجنسي ! ، إن من نسائنا العاقلات من تأذن لزوجها في الزواج بأخرى عند تأخر إنجابها ، وربما كانت هي من تبحث له عن ضرتها ! ، وإن كانت المرأة تأنف أن يكون لها ضرائر ، وتعتبره جرحًا لكرامتها ؛ فقد أوجد الله لها مخرجًا بأن تشترط على زوجها ابتداءً عدم الزواج بغيرها ، وهو شرط صحيح أخذ به الحنابلة ، وهم مَّنْ تَوَسَّع في شروط النكاح ، وكثيرٌ من الفقهاء المعاصرين يرجحون مذهبهم في هذه المسألة ، والحمد لله ... ضابط البعضية ... ثم ما هو ضابط البعضية ? ، أنت تقول : التعدد والسرقة ، وأنا سأقول على تفيئة ذلك : الزنا ، أو لأجامل ابتداءً وأقول : العادة السرية ( فيها قول لبعض الفقهاء الحنفية وأوردها مثالاً على الأرجح ) ، هل نقول : إنها مباحة ؛ لأن شبابنا أصبحوا أمام سيلٍ عارمٍ مفلوت الأرسان لا طاقة لهم به ?! ، وإلى الله المشتكى ، والزواج العرفي زنا ، فهل سنقيم الحد على جميع تلك الأرقام الكبيرة التي هي في تَنَامٍ ?! ، وسيقول آخر : التدخين ( وفيه أيضًا قول ) فهل نُأَثِّم السواد الأعظم من المسلمين بتحريمه ?! ، وسيقول غيره : حلق اللحية ( وفيه أيضًا قول ) ، وسيهتف بنا وبهؤلاء جميعًا هاتفٌ ؛ أين أنتم من ثلاثة الأثافي ?! ؛ ترك الصلاة ( لا أقوال فيه ) ، أنطالب بقتل نصف المسلمين إن لم يكن أكثر لإخلالهم بالصلوات - إذا لم يتوبوا - ?! ... ما هكذا يكون الإصلاح ولا الدعوة ... لا يا أخي ، ما ينبغي لنا أن نعالج القضية على هذا النحو مطلقًا ، الإسلام دين كامل ، دين الأمس واليوم والغد ، والشريعة صالحة لكل زمان ومكان ، وأحكامها الفقهية لا بد أن تُقَرَّ ، ولا يجوز أن يمس حماها ألبتة فضلاً عن أن ينتهك ، مهما يكن عليه العصر من وهاء الدين وتردِّي الفضيلة وانحلال الأخلاق وتفاقم الشرور واستفحال بواعث العصيان ودواعي الفسوق ... الغد المنتظر ... ثم ما الذي تنتظره في العصر بعد الحاضر ? ، أأن تقوم الحكومات الإسلامية ، وتستقيم الشعوب من جديدٍ على شرع الله ، فنبيح إذًا التعدد ونقطع يد السارق ? ، أما أنا فأنتظر وآمل وأرجو وأتمنى أن يكون الناس قديسين أبرارًا ، وأن تغدو العلاقة بين الرجل والمرأة وشيجةً سماويَّةً من نور الملائكة أطهر من ماء السحابة ، ولكن كلا الأمرين لن يتحققا ، وقد يتحققان ، ولكنه أمر في رحم الغيب لا نعلمه ، فهل نوقف أحكام الشريعة ونرجئ البعث أو الميلاد إلى ذلك الميعاد المعدوم أو الموهوم أو المرتقب عند خروج المهدي ? . لا شيء اسمه : مواكبة الإسلام لروح العصر نعم الإسلام يواكب روح العصر ؛ يعني : أنه لا ينبغي لنا أن نقف مُتَخَوِّفين حذرين من مستجدات الحضارة من المخترعات أو النُّظُم أو أنماط الحياة أو التقاليد الاجتماعية المستقلة عن الدين ، لا كما كان يقف بعض المتمشيخة الجامدين في عصور التقليد ؛ فيحرمون على المرأة القراءة والكتابة ، ويحرمون ركوب السيارة ، وسماع المذياع ، ولبس الساعة ، ويحملون عوضا عنها المزولة في جيوبهم ، هذا هو معنى الكلمة لا أكثر ولا أقل . جدل عقيم الدراجة لا تدرج رأسًا ، ولا تجدف حتى ، وليس إقرار الشريعة هو ما سَيُكَلِّفُها مِشْيةَ الْمُسَلْسَلِ ، الأمر لم يعد بيدي ولا بيدك ؛ فنتجادل في إثبات أو نفي التعدد وحَدِّ السرقة ، الأمر بيد عمرو ، بيد الطواغيت ، بيد الأغلال والأرباق ، بيد عصا الراعي الضرير ، هم في غنًى عن كل ما نقوله أو يقوله غيرنا ، نحن نثبت أحكام الله ونصدع بها ، وعلى من يخالفها من الأفراد أو الجماعات الإثم والوزر أمام الله ، وحسبنا نحن أمام الله ذمةٌ بريئةٌ ... إذًا فعلينا أن نعمل جاهدين على إصلاح هذا الوضع المختل الشائه من كل جوانبه ، على تنقية هذه الأجواء المغبرة الملوثة ، على تنوير هذه الظلم الملتاثة ، وأن نبذل حتى الْمُدَّ وشِقَّ التمرة والخردلة من وُسعِنا وطاقتنا وقوتنا في سبيل أوبة الفجر ، بالدعوة إلى الله ، وتقرير توحيده ، وبيان شريعته ، وجلاء ما فيها من محاسن المقاصد ونبيل الغايات ، وأنها هي الطريق الوحيد لسعادة البشرية على هذه الأرض وفي هذه الدنيا ، نعمل ذلك كله وليس علينا – ونحن نرجو أن نكون ممن يأرز إليهم الدين - ولسنا في حاجةٍ من ثَمَّ إلى التملُّقِ بإضفاء الشرعية على هذا الواقع السيء بمثل هذه الأقوال أو بمثل هذا المقص الذي يتحيَّفُ الشريعة ويخرق ثوبها إلى الحد الذي نخشى أن يتَّسع على الراقع . أريدك يا شيخ طه سلفيًّا في فقهك ، سلفيَّتَك في أدبك ولغتك ، ويأخذ الله بالأيادي إلى بر الأمان فيما يعثر فيه العقل والعلم ويضطرب فيه الإيمان واليقين . |