وزن الدوبيت لدى العروضيين كن أول من يقيّم
وزن الدّوبيت
استقرّت كتب العروض الحديثة على تفعيل الدوبيت على:
فعْلن متَفاعلن فعولن فعِلن
والذي يبدو أنهم أخذوه عن الحاشية الكبرى للدمنهوري (بعد 1230هـ). مع أنه تفعيل ابن المرحّل المالقي السبتي (-699هـ)، الذي يقول: "وقد اخترعْتُ هذه الميزان وأحكمتُها، وهو اختراعٌ نبيلٌ لم نُسْبق إليه، وجريتُ فيه على طريقة العروضيين".
ويكمن الخلل هنا في تأبّي التفاعيل الخليلية على قبول زحافات هذا البحر الغريب عنها. فمتفاعلن؛ ربما صارت إلى (متفاعيلن أو متفاعيلُ) وربما صارت إلى (مفعولاتن أو مفعولاتُ). في حين لا تقبل (فعولن) الزحاف الخليلي (فعولُ) على الإطلاق.
وربما كان ابن الفرخان، وهو من علماء القرن السادس الهجري، من أوائل العروضيين المعروفين الذين حاولوا تفعيل الدوبيت، حيث جعله من (مكفوف الرجز):
مستفعِلُ مستفعِلُ مستفعِلُ مُسْ
مجيزاً أن تتحول (مستفعلُ الثانية فقط!) إلى (فاعلاتُ) زحافاً!!
وتعد المصنفات الفارسية الدوبيت ضرباً من الهزج العربي!! فتزنه على:
مفعولُ مفاعلن مفاعيلن فاعْ
مفعولُ مفاعيلُ مفاعيلن فاعْ
متعسفين له أسوأ العلل، لضبطه على هذه الأفاعيل.
ومثل ذلك قطّعه الزنجاني (- بعد660 هـ) كما يلي:
مفعولُ مفاعلن فعولن فعْلن
واقترب حازم القرطاجني (-684 هـ) من روح الدوبيت بتفعيله على جزء ثماني، أتبعوه بما يُناسبه من السباعيات، وجعلوا السباعيَّ التاليَ له ناقصاً عن سابقه:
مستفعِلَتُن مستفعلن مستعِلن
ليكونَ كل واحد من الأجزاء أخفّ مما قبله، وهو المستطابُ في الذوق، والأحسن في الوضع، مراعياً كما يقول طريقةَ الخليل في تفعيل البحور.
وكان ابن سعيد الأندلسي (-685 هـ) قد قال في الدبيتي: إنهم "استنبطوا وزنه من الرجز"، وأنّ "فيه متحركٌ وساكنٌ زائد على الرجز المُثلث المسمى بالمشطور".
واختار أبو إسحاق التلمساني (-699هـ)، وهو الأقرب إلى روح الدوبيت، التفعيل:
فعِلن فعِلن مستفعلن مستفعلن
مشيراً إلى أنه بحر مركّب من تفعيلتين، وشطره مثمّن، كالطويل والمديد والبسيط!! مدّعياً أن (فعِلن) الأولى لا ترد إلاّ مضمَرة (فعْلن)، وأن العروض (مستفعلن) لا ترد إلاّ مطوية (مستعلن)!! وهذا ما اختاره عبد الصاحب المختار من المحدَثين، دون إشارة إلى مصدره.
إلاّ أنّ من المُحْدثين مَنْ أتى بتفعيلٍ مختلفٍ تماماً للدّبيتي. فقد تخبّطَ د.كمال أبو ديب في تحليله لهذا الوزن تخبُّطاً شديداً، دون أن يخرج من ذلك بطائل. معتبراً وزنَ الدبيتي ليس إلاّ تحقيقاً فعلياً للإمكانية النظرية التالية:
فا فا فا علن فا فا علن فا فا علن !!
ونظراً إلى أنّ هذا الوزنَ يساوي: (تن مستفعلن مستفعلن مستفعلن) فهو على ذلك ليس إلا تطوّراً عن بحر الرجز كما يقول(!!).
ومرةً أخرى، يجعلُه تطوراً عن بحر الخبب، حيث يحدث فيه تبادلٌ بين (فعِْلن وفعولُ وفاعلُ) كما يقول(!) مثل:
فعْلن فعِلن فعولُ فعْلن فعْلن
ولسنا بحاجة إلى القول؛ إن هذا ليس من الخبب في شيء.
وفي محاولةٍ مُخْفِقَةٍ، تكلَّف الشيخ جلال الحنفي قَسْرَ هذا البحر ليضمَّه إلى بحر الرمل، فقال: "هذا نمطٌ من الرمل نشَأَ من جرّاء خَرْمٍ أُحدثَ في وزنه الأول (يقصد فاعِلاتن الأولى)فبقيَ من تفاعيله ما صار وزناً مُتميِّزاً عن نظائره سمَّيناه مُخلّعَ الرمل"(!!) "وإن أدّى التّخليع إلى اختلالِ التفعيلة الأولى في كلٍّ من صدرِهِ وعجُزِه"(!!). هكذا:
فعْلن فاعلاتن * فاعلاتن فاعلن
والحنفي بهذا؛ يُقطِّع -أوّلاً- أوصالَ الدبيتي، فيُمزِّقَه إلى شطرين غير متناسبين، ويجعلُ من (الخَرْم) -ثانياً- علّةً ملازمةً له بقيّة عمره.
كما قَسَرَ د.أحمد مستجير الدبيتي على الدخول في حظيرة البحر الطويل لديه، فاعتبر تفعيلاتِه الأصليّةَ مُركَّبةً من تفعيلات البحر المهمل:
مفعولاتُ مفعولاتُ مفعولاتُ
مساوياً بذلك أصلَ الدبيتي لدى أبي ديب والحنفي كما رأينا، ووفقاً لواقع الدبيتي؛ فإنه لا يرد بمثل هذه التفاعيل على الإطلاق، ولا بدَّ من مزاحفتها إلزامياً لكي يتطابق هذا الوزنُ مع الدبيتي.
ومن أعجب ما رأيت؛ أن يستدلّ علي حميد خضير على أن "الدوبيت من الرجز"(!!) بإمكانية تقطيعه هكذا:
مستفعلتن مفاعلن مستفْعلْ
معتبرًا (مستفعلتن) تفعيلةً رجزيةً(!!) منقولةً عن (مستفعلاتن)!! وواضح أن هذه التفعيلة هي من وَضْع القرطاجني كما مرّ، ولا علاقة لها بالرجز من قريب ولا بعيد.
وقد عاد في مكان آخر فقال: "والدوبيت مأخوذٌ عن المتدارك"!! "بدليل أننا يمكن تقسيمه [كذا] على الشكل التالي:
فعْلن فعِلن فعولُ فعْلن فعِلن
وعاد مرّة أخرى فعدّه من مخلّع البسيط(!!) بزيادة (فعِلن) إلى آخره هكذا:
مستفعلُ(!) فاعلن فعولن (فعِلن)
مخطئاً العروضيين جعْلَهم الدبيتي مجزوءاً، لأن مجزوءَه عنده هو (مخلعُ البسيط) عينَه(!!) هكذا:
مستفعلُ(!) فاعلن فعولن!! ???
ويتضح من كيفية تفعيل هذا البحر، وأمثلَتِهم عليه، وتعليقاتِهم عليها بالصِّحَّة أو القَبول، وبالمطابقة أو المخالفة، أنهم يرونه وزناً جامداً وإيقاعاً رتيباً قلّما يصيبه الزحاف (أو التغيير) الذي يتيح للشاعر حريةً أكبرَ في النظم والحركة والاختيار.
وواضح أيضاً مدى التخبُّطِ في إصرارهم على حصر هذا الوزن ضمن تفاعيل الخليل من جهة، ثم شموسه وتأبيه على قبول هذه التفاعيل وزحافاتها من جهة أخرى، ذلك أن أَيّاً من طرق التفعيل السابقة لا تفي بمتطلبات تلك التفاعيل من الزحاف على الإطلاق. ولا عجب؛ فالبحرُ دخيلٌ على الشعر العربي، ويحمل روحاً غريبةً عنه.
ولذلك كان لابد في دراسته من اتّباع طريقةٍ مختلفةٍ عن دراسة بحور الشعر العربي الأخرى، وإنْ أدّى ذلك إلى مخالفته قواعدَ العروض العربي بعض الشيء.
|