تابع22 كن أول من يقيّم
العصر الحجري القديم لقد تخلفت عن الحضارة الأشولية آثار كثيرة في أوربا وجرينلندة والولايات المتحدة والمكسيك وإفريقية والشرق الأدنى والهند والصين، ويقع تاريخها حوالي عام 75000 ق.م، وهذه المرحلة لم تُصلح من المدية الحجرية إصلاحاً يجعلها أكثر تناسقاً وأحَدَّ طرفا فحسب بل أنتجت إلى جانب ذلك أنواعاً كثيرة من الآلات الخاصة كالمطارق والسندانات والكاشطات والصفائح ورءوس السهام وسنان الرماح والمدي، وفي هذه المرحلة تستطيع أن ترى صورة تدل على مرحلة نشيطة للصناعة البشرية، وإن أقدم عظام وجدت في نياندرتال وتاريخها فيما يظهر هو عام 40000 قبل الميلاد، وهي تشبه البقايا البشرية التي كُشف عنها في بلجيكا وفرنسا وأسبانيا بل وعلى شواطئ بحر جاليلي، حتى لقد صَوَّر العلماء عصراً بأسره من مخلوق النياندرتال ساد أوربا منذ حوالي أربعين ألف عام قبل عصرنا هذا وكان هؤلاء الخلق قصاراً. ثم الموستيرية وتوجد آثارها في القارات كلها مرتبطة ارتباطاً يسترعي النظر ببقايا مخلوق النياندرتال، وذلك في تاريخ يقع على نحو التقريب قبل الميلاد بأربعين ألفا من السنين، والمدية الحجرية نادرة نسبيا بين هذه الآثار كأنما أصبحت عندئذ شيئا عفا عليه الزمان وحلّ محله شيء جديد، أما هذه الآلات الجديدة فقوام الواحدة منها رقيقة واحدة من الصخر، أخف من المدية السابقة وزناً وأرهف حَداً وأحسن شكلا صنعتها أيد طال بها العهد بقواعد الصناعة، فإذا صعدت طبقة من الأرض في طبقات العهد البليستوسيني في جنوب فرنسا وجدت بقايا الثقافة الأورجناسية وتقع حول عام 25000 ق.م، وهي أول المراحل الصناعية بعد عصر الجليد وأولى الثقافات المعروفة لمخلوق كرومانيون، ويظهر أنه قد حل جنس جديد اسمه كرومانيون حول عام 20000 ق.م محل هؤلاء السكان الأقدمين لأوربا، كما تدل الآثار التي كُشف عنها في مغارة بهذا الاسم في منطقة دوردوني في فرنسا الجنوبية، ولقد استخرجت بقايا كثيرة من هذا النمط ترجع إلى العصر نفسه من مواضع مختلفة في فرنسا وسويسرا وألمانيا وويلز، وكلها تدل على قوم ذوي قوة عظيمة وقوام فارع. وتعرف فصيلة كرومانيون كما تعرف فصيلة نياندرتال باسم سكان الكهوف ذلك لأن آثارهم وجدت في الكهوف، وهذه الفصيلة العظيمة إنما جاءت من آسيا الوسطى مارة بإفريقية حتى بلغت أوربا، وأنها شقت طريقها فوق جسور من اليابس يقال أنها كانت عندئذ تربط إفريقيا بإيطاليا وأسبانيا، وأنهم لبثوا عشرات من السنين بل ربما لبثوا قروناً طوالا يقاتلون فصيلة نياندرتال قتالا عنيفاً، ومهما يكن من أمر فقد زال مخلوق نياندرتال عن ظهر الأرض حيث عمرها مخلوق كرومانيون. وهاهنا في هذه المرحلة أضيفت إلى آلات الحجر آلات من العظم مشابك وسندانات وصاقلات الخ، وظهر الفن في نقوش غليظة منحوتة على الصخر أو في رسوم بارزة أغلبها رسوم لنساء عاريات، ثم جاءت في مرحلة متقدمة من مراحل تطور مخلوق كرومانيون ثقافة أخرى هي السُّولَترْيه حول عام 20000 ق.م في فرنسا وأسبانيا وتشيكوسلوفاكيا وبولندة، وهنا أضيفت إلى أسلحة العهد الأورجناسي وأدواته مُدي وصفائح ومثاقب ومناشير ورماح وحراب وصُنِعَتْ كذلك إبَرٌ دقيقة حادة من العظم، وقُدَّت آلات كثيرة من قرن الوعل وقرون الوعل منقوشة أحيانا برسوم أجسام حيوانية أرقى بكثير من الفن في العصر الأورجناسي، وأخيرا عندما بلغ مخلوق كرومانيون ذروة تطوره ظهرت المجدلية التي ظهرت في أرجاء أوربا كلها حول عام 16000 ق.م، وهي تتميز في الصناعة بمجموعة كبيرة منوعة من رقيق الآنية المصنوعة من العاج والعظم والقرن، وهي تبلغ حدها الأقصى في مشابك وإبر متواضعة لكنها تصل حد الكمال في الإتقان، وهذه المرحلة هي التي تميزت في الفن برسوم أَلتَاميرا وهي أدق وأرق ما صنعه مخلوق كرومانيون. وربما كانت الآثار في تونس والجزائر مما يشبه آثار العصر الأورجناسي ويؤيد النظرية القائلة بأن إفريقية هي الأصل في تلك الثقافة أو هي الحد الذي وقف عنده مخلوق كرومانيون، ولقد احتُفِرَت آلات من العصر الحجري القديم في سوريا والهند والصين وسيبيريا وغيرها من أصقاع آسيا ومنغوليا، وكذلك احتُفِرَت هياكل لمخلوق النياندرتال وأحجار صَوَّانية كثيرة من العهدين الموستيري والأورجناسيّ في فلسطين. وكان بين آثار مخلوق النياندرتال قِطَعاً من الفحم وقطعاً من العظم المحترق، فالنار التي صنعها تذهب في القِدَم إلى أربعين ألف عام مضت، وقد أعد مخلوق كرومانيون لنفسه آنية خاصة تمسك الشحم الذي كان يشعله ليستضيء بضوئه، وإذن فالمصباح كذلك له من العمر هذا الزمن الطويل، والراجح أن تكون النار هي التي مكنت الإنسان من اتقاء البرد الناشئ عن الجليد الزاحف، وهي التي أتاحت له النوم في الليل آمنا من الحيوان الذي ارتعد لهذه الأعجوبة ارتعاداً يَعدِل عبادة الإنسان البدائي إياها، وهي التي قهرت الظلام فكانت أول عامل من العوامل التي حَدَّت من الخوف، والتقليل من خوف الإنسان أحد الخيوط الذهبية في نسيج التاريخ الذي ليست كل خيوطه ذهبا، وهي التي أدت أخيرا إلى صهر المعادن والتحام بعضها في بعض، وهي الخطوة الوحيدة الحقيقية التي قَدّمها الإنسان في فنون الصناعة من عهد مخلوق كرومانيون إلى عصر الانقلاب الصناعي. وأوضح آثار خلفها مخلوق العصر الحجري القديم هي قِطَع من فنه، فقد حدث منذ مائة عام تقريباً أن وقع السنيور مارسلينو دي سوتولا على كهف واسع في مزرعته في أَلتَاميرا في شمال أسبانيا، وكان هذا الكهف قد لبث آلاف الأعوام مقفل الباب كأنه صومعة راهب، أقفلته صخور سقطت عليه وأمدتها الطبيعة بملاط من لدنها حين ربطت بعضها ببعض بأعمدة من رواسب، ثم جاء الإنسان فضرب في هذا الموضع بضرباته لينشئ لنفسه كهفاً جديدا فإذا به يكشف بضرباته عن مدخل الكهف بطريق المصادفة، ثم جاء سوتولا ليستطلع الكهف فلحظ على جدرانه علامات غريبة وتخطيطا غامضاً لبَيزُونٍ ضخم وهو ثور بريُّ ناصع الألوان، فلما فُحص السقف وفُحصت الجدران فحصاُ دقيقاً وجدت صور أخرى كثيرة، وجاء الجيولوجيون إلى ألتاميرا وأقروا بإجماع أن الرواسب التي كانت تغطي بعض الرسوم إنما ترجع إلى العصر الحجري الأول من عهد ما قبل التاريخ وترجع إلى الثقافة المجدلية، أي إلى عهد يقع نحو عام 16000 ق.م، وكذلك وجدت رسوماً أحدث تاريخا من هذه بقليل لكنها ما زالت من بقايا العصر الحجري القديم في كهوف كثيرة في فرنسا، وتمثل الرسوم في معظم الحالات صنوفا من الحيوان أوعالاً وماموث وجياداً وخنازير ودببة وغيرها، وربما كانت هذه الصنوف عن مخلوق ذلك العصر طعاما شهيا ولذلك كانت موضع عنايته في صيده، وأحيانا نرى صورة حيوان مطعونا بالسهام قُصد بها أن تكون رسوما سحرية تأتي بالحيوان في قبضة الفنان أو الصائد وبالتالي تأتي به إلى معدته. إن الصيد ضرب من اللهو نستمد فيه اللذة، ومن بعض الذكريات الغامضة الراسخة في دمائنا والتي تعيد لنا تلك الأيام القديمة حيث كان الصيد عند الصائد والمصيد كليهما أمراً تتعلق به الحياة أو الموت، ذلك لأن الصيد لم يكن سبيلاً إلى طلب القوت بل كان كذلك حرباً يراد بها الطمأنينة والسيادة، حرباً لو قَرَنْتَ إليها كل ما عرفه التاريخ المدوَّن من حروب ألفيت هذه الحروب بالقياس إليها بمثابة اللغَط اليسير، وما يزال الإنسان في الغابة يقاتل في سبيل الحياة، لأنه على الرغم من أن الحيوان هناك لا يكاد يهاجمه مختاراً إلا إذا اضطره إلى ذلك الجوع الشديد أو الخوف من الوقوع فريسة لا يجد لنفسه مهرباً يلوذ به، فليس في الغابة قوت يكفي الجميع وأحياناً لا يظفر بطعامه إلا المقاتل أو الذي يستخدم لنفسه حيواناً مقاتلاً. |