الخوارج نموذجا ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
كان العرب في الجاهلية يشغلهم أمران أساسيّان هما: رعاية أنعامهم والتنقل في الصحراء بحثا عن الماء والكلأ ومنبت العشب ومساقط المطر، فلا ينزلون في الغالب مكانا، إلا فارقوه الى مكان آخر أكثر خصبا. هذا أولا. والامر الآخر هو ما نشأوا عليه من عادة الغزو طلبا للغنيمة أو طلبا للثأر من قبيلة أخرى. فلا ينفضون عنهم غبارة غارة، إلا وقد أعدّوا أنفسهم لمثلها، أو استعدوا لمواجهة عدو مرتقب، أو طالب ثأر يتربّص بهم. فهم كما قالوا:
يُغــار علينـــا واترين فيُشتفــى بنا إن أُصبنا أو نغير على وتر
قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا فما ينقضي إلا ونحن على شطر
دخل الكثير من هؤلاء الإسلام بعد فتح مكة؛ كان رضوخا لواقع الحال واستسلام المغلوب للغالب. حتى إذا توفرت الفرصة واستشعروا الضعف في المتغلّب عليهم بالقهر، نقضوا عهدهم معه وفتكوا به. وهذا ما حصل بعد وفاة رسول الله، فارتدّ الكثير منهم وعادوا الى ما كان عليه آباؤهم. ثم كانت حروب الردة، فقتل منهم من قتل وعاد من بقي منهم الى حظيرة الاسلام. وجاءت الفتوح الاسلامية لتوظيف الطاقات الحربية عند هؤلاء وما نشأوا عليه من حب للغزو والقتال، لكن بمفاهيم وروح جديدة لا تقوم على العدوان بل على أساس الدفاع المشروع عن النفس. ولم يكن هؤلاء قد تشبعوا بروح الاسلام، وأكثرهم حديثوا عهد بردة. ولكنهم كانوا أبطالا في ساحة الحرب، لا يهابون الموت، إما لإيمانهم – على مافيه من حيرة وقلق في اليقين- بأن موتهم شهادة جائزتها الجنة ورضوان من الله أكبر، أو لأن الموت في ساحة الوغى عزة لهم؛ وقد كانوا في جاهليّتهم يرون الموت على صهوات جيادهم أكرم لهم من الموت على فراش وثير.
وحروب الفتوح بقدر ما اسهمت في توظيف هذه الطاقات والمواهب القتالية، وشغلتهم عن التفكير في الشغب وغزو بعضهم البعض، فتحت من جانب آخر دروبا ومسالك وأخطارا جديدة واجهت المسلمين في الامصار التي فتحوها.
كان فتح بلاد الشام، وفتح العراق وتمصير البصرة والكوفة، في فترة زمنية متقاربة ما بين سنة 14 الى سنة 17 للهجرة.
أما الشام فقد استطاع معاوية أثناء ولايته لها من التمكين لنفسه وضبط شؤون البلاد. وكان ذلك توطئة لقيام الدولة الأموية فيما بعد. وأما العراق فأمره كان مختلفا. فقد عرف هذا البلد حضارات متعددة، واستوطنته شعوب مختلفة في أعراقها وأديانها وعاداتها وتقاليدها. ثم أصبحت كل من البصرة والكوفة معسكرا للمقاتلين المسلمين، ومنطلقا لجيوش الفتح الاسلامي شرقا وغربا. كما شهدت الكوفة اضطرابا منذ عهد عمر. وقد أعيته كما قال وأتعبت ولاته. فقد أظهروا الشكوى والتذمر منهم؛ فاختلف الولاة على الكوفة وهم من كبار الصحابة. ولكنّ التذمر لم ينقطع؛ ثم تحوّل الأمر الى نزاع قبلي بين القيسيّين واليمانيّين. وفي أواخر عهد عثمان انقلب الى صراع و ثورة انتهت بمقتل الخليفة. ثم قام علي بالأمر، فخرج عليه طلحة والزبير مع أم المؤمنين السيّدة عائشة، فكانت فاجعة الجمل. وثار معاوية في الشام يطالب بدم عثمان ويرفض بيعة علي؛ فاضطر الإمام الى التوجه صوب العراق لحسم الموقف عسكريّا مع معاوية بعد فشل السفاراة والوفود بينها. والتقى الجمعان، فكانت فجيعة أخرى، وكارثة عظيمة حلّت بالمسلمين. وانتهت الحرب لا غالب ولا مغلوب. وجلس الطرفان للتفاوض.
وكان ما كان مما لستُ أذكره فظّن خيرا ولا تسأل عن الخبر
ورجحت كفة معاوية. وصاح الخوارج في معسكر علي: لا حكم إلا لله. و أكثر هؤلاء كما يقول محمد أبو زهرة في كتابه تاريخ المذاهب الاسلامية، كانوا من عرب البادية، وقليل منهم من كان من عرب القرى. يعيشون في فقر شديد قبل الاسلام وبعد الاسلام أيضا. لانهم استقروا في باديتهم بلأوائها وشدّتها وصعوبة الحياة فيها. وأصاب الإسلام شغاف قلوبهم مع سذاجة في التفكير وضيق في التصوّر. وأن أغلب هؤلاء كانوا من ربيعة، بينهم وبين مضر إحن وعدوات في الجاهلية. فكانوا ينفرون من قريش ومن حكمهم.
لكن كيف نفهم اصرارهم على وقف القتال والدعوة الى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم نراهم بعد ذلك يعودون ليطلبوا من إمامهم الرجوع عن ذلك و مواصلة القتال حتى يحكم الله بينهم وبين عدوهم. هل كان هؤلا كما وصفهم أبو زهرة مصابون بالهوس واضطراب الأعصاب. أم أن الأمر كما ذهب إليه آخرون، هو عصيان وشغب ومؤامرة يقف وراءها أهل الشام لبث الفرقة والاختلاف في معسكر أهل العراق. وأن البعض من هؤلاء كانوا على صلة بمعاوية في الشام، ينقلون إليه الأخبار ويعملون لصالحه في جيش الإمام علي.
ونضيف الى ما ذكرنا بعض أقوال المؤرخين من المهتمّين بعلم الإجتماع قولهم: البدومن أكثر الناس حبّا للرئاسة والإمرة وأكثرهم نفرة من الطاعة والإنصياع . إن الإمرة في نظر البدو علامة الغلبة، والطاعة علامة المغلوبية، فهم يطيعون شيخهم على سبيل النجدة والنخوة.... والبدويّ لا يسلّم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل وعلى كره منه لأجل الحياء... ويذهب ابن خلدون أيضا الى أن هذه الصفة كانت من الأسباب الرئيسة التي جعلت البدو غير صالحين لحكم البلاد المتحضرة إذ أنها تؤدي الى تعدد الحكام منهم والأمراء.( دراسة في طبيعة المجتمع العراقي. علي الوردي. ص 69 70 )
فإذا كانت البداوة والحضارة على طرفي نقيض، تكون أزمة الخوارج في أوضح وجوهها هو هذا الإنتقال من واقع البداوة الذي كانوا يعيشون فيه الى واقع اجتماعي وحضاري مختلف. فما ذكره ا أبو زهرة مثلا هو صحيح في جانب من جوانبه كون الخوارج أكثرهم من أبناء البادية، لكنّ ظهورهم لم يكن فيها؛ لقد نبتوا بفكرهم في واقع اجتماعي مختلف؛ برزوا في العراق كفرقة بعد حرب صفين، وذلك لم يكن كل شيء. مابين فتح العراق واستقرار الكثير من هؤلاء في الكوفة والبصرة حتى ظهورهم، عقدين من الزمان. اختلطوا خلالها بغيرهم من الإمم الأخرى، سواء كان ذلك أثناء الفتوح وعلاقتهم بالإمم التي فتحوا بلادها، أو من خلال استقراهم في الكوفة حاضنة الخوارج ومركز تواجدهم؛ تتنازعهم في كل ذلك قيم متناقضة من الإيمان بالحريّة والإعتداد بالنفس والإحتكام الى نزعة الغلبة وحدّ السيف التي نشأوا عليها أيام جاهليّتهم، وبين واقع إجتماعي وحضاري مختلف يشعرهم بالغربة ويغذيهم بالقلق واضطراب الشخصيّة؛ فيظهر في شكل تمرد وعصيان وثورات متلاحقة لا تنقطع؛ مبدين في ذلك كله ضروبا من الشجاعة النادرة في مواجة خصومهم في ميدان القتال. يستعذبون الموت وعقيدتهم: وعجلتُ إليك ربّ لترضى!
هؤلاء سجّلوا شهادتهم ومضوا. وشهادات أخرى دوّنها التاريخ في سجلّه الحافل بالدم والدموع. |