البحث في المجالس موضوعات تعليقات في
البحث المتقدم البحث في لسان العرب إرشادات البحث

تعليقات ثائر صالح

 1  2  3 
تعليقاتتاريخ النشرمواضيع
مقالة الدكتور علي القاسمي    كن أول من يقيّم

د. علي القاسمي
انقراض اللغة العربية خلال القَرن الحالي
(الجزء الأول) 
 
.        فتوى جديدة: العربية ليست مقدّسة، ولم يضمن الله حفظها.
.        3000 لغة تموت هذا القرن ومنها العربية، طبقاً لليونسكو.
.        سياسات الدول العربية تحقّق نجاحاً باهراً في القضاء على اللغة العربية.
 
مؤتمر عالمي ينعى العربية:
        نظّم المجلس العربي للطفولة والتنمية مؤتمراً عالمياً حول " لغة الطفل العربي في عصر العولمة" في مقر جامعة الدول العربية في المدّة من 17 ـ 19/2/2007م، شارك فيه أكثر من 500 باحث ينتمون إلى 19 دولة عربية وإلى عدد من الدول الأخرى. وهدف المؤتمر هو تدارس كيفية تنمية اللغة العربية لدى أطفالنا لتكون وسيلة فاعلة في اكتسابهم المعرفة، وتواصلهم مع تراثهم ومجتمعهم، وتعزيز هويتهم وانتمائهم، وبلورة الذات، ولتكون منطلقاً للتنمية البشرية ولغة مشتركة للأقطار العربية تساعد على تعاونها ووحدتها، كما أوضح الدكتور محمود كامل الناقة، عضو اللجنة العلمية للمؤتمر.
 
        بَيد أنّ البحوث التي قدّمها، إلى هذا المؤتمر، كبارُ العلماء في اللسانيات، والتربية، وعلم الاجتماع، والطب النفسي، ، كانت بمثابة رثائيات رائعة للغة العربية، وبكائيات بليغة ذُرِفت على موتها المؤكَّد القريب.
 
        وإذا كان بعض القرّاء الكرام (إذا كان هناك مَن يقرأ هذا المقال) يرى في ما سأنقله عن المؤتمر شيئاً من الكُفر أو ما يُشبه الكُفر، فإن " ناقل الكُفر ليس بكافر"، كما يقول المثل.
 
العربية ليست مقدّسة ولم يضمن اللهُ حفظها:
        يشعر كثير منا ـ نحن المسلمين ـ بأن اللغة العربية التي يبلغ عمرها ألفي عام تقريباً والتي أنزل الله القرآن بها، هي لغة مقدّسة ولا يمكن أن تنقرض كبقية اللغات. ويستدلّ هؤلاء المتفائلون على بقاء اللغة العربية بقوله تعالى في سورة الحِجر: ﴿ إنّا نحن نزّلنا الذكرَ وإنّا له لحافظون﴾.
 
        ولكن المفاجأة الصارخة هي أن هذا المؤتمر أفتى بعدم قدسية اللغة العربية. وقد وردت هذه الفتوى في البحث القيم الذي قّدمه في الجلسة الأولى للمؤتمر فضيلة مفتي الديار المصرية الشيخ الدكتور علي جمعة، الذي أوضح أن القرآن الكريم لا يشتمل على جميع اللغة  العربية من جذورٍ وتراكيبَ ومعانٍ، وإنما على نسبة ضئيلة منها (أقل من 30%  من الجذور العربية، مثلاً) وأن تلك النسبة الصغيرة في سياقاتها ودلالاتها المحددة هي التي تستمد قدسيتها من القرآن الكريم، وأمّا غالبية اللغة العربية، فليست مقدّسة، ولهذا فهي عرضة للتغيير ، وطبعاً للانقراض كذلك.
 
        وتكرّم اللغوي السعودي الدكتور أحمد محمد الضبيب (مدير جامعة الرياض سابقاً وعضو مجلس الشورى السعودي والمجامع العربية في بغداد ودمشق والرباط والقاهرة حالياً، ومن المؤمنين بضرورة تعريب التعليم العالي ولكنه لم يتمكن من تعريب التعليم في الجامعة أثناء توليه إدارتها) ـ تكرّم هذا الأستاذ الفاضل بتفسير الآية التي أوردناها سابقاً ﴿ إنّا نحن نزّلنا الذكرَ وإنّا له لحافظون﴾، فأوضح أن الله سبحانه وتعالى لم يتعهّد بحفظ اللغة العربية أو ضمان بقائها، وإنما ضمن حفظ       " الذِّكر" (وهو القرآن الكريم). ولهذا فإن اللغة العربية يمكن أن تنقرض ويبقى الذِّكر الحكيم بشريعته. وضرب مثلاً لذلك بانقراض اللغة العربية في إيران بعد أن كانت لغة البلاد الرسمية والثقافة فيها، وبقي القرآن الكريم في تلك البلاد. والمثل ينطبق على إسبانيا كذلك، فقد انقرضت اللغة العربية هناك وبقي ثمة مسلمون يهتدون بالقرآن.
 
اللغات تضعف وتموت كما يموت البشر:
        يقول علماء اللسانيات إنه يوجد في الوقت الحاضر ما بين 5000 و6000 لغة (طبقاً لنوعية التصنيف واحتساب اللهجات أو عدمه). وتشير الإحصائيات العلمية أن ما بين 250 و 300 لغة تنقرض سنوياً بفعل سرعة التواصل والميل إلى استعمال اللغات العالمية الأكثر فاعلية. وهذا ما يسميه بعضهم بالغزو الثقافي أو اللغوي. وبعملية حسابية بسيطة، يتبيّن لنا أن القرن الميلادي الحالي سيشهد اندثار حوالي ثلاثة آلاف لغة، أي نصف لغات العالم.
 
وقد أكدت منظمة اليونسكو ذلك فقد " أسفر أحد تقارير اليونسكو الأخيرة عن أنّ عدداً من لغات العالم مهدّدة بالانقراض، ومن بينها اللغة العربية"، كما ورد في مداخلة اللغوي المصري الدكتور رشدي طعيمة، المعروف بتديّنه ودماثة خلقه. ولكي يُعزز الدكتور طعيمة أقواله ويضفي عليها المصداقية، أشهر في وجه المؤتمرين كتاباً ألّفه اللساني البريطاني ديفيد كريستال بعنوان " موت اللغة "
(David Crystal, The Death of Language) صدر عن مطبعة جامعة كمبرج. ويعدّد هذا الكتاب تسعة شروط لموت اللغة. وجميع هذه الشروط تنطبق على اللغة العربية في وضعها الراهن، وفي مقدمتها شرط انتشار لغة الغالب في بلاد المغلوب وحلولها محلّ لغته التي هي من مقوِّمات الأُمّة. وهذا مبدأ معروف في علم الاجتماع أرساه المرحوم ابن خلدون في "المقدِّمة" بقوله: إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده ... إن الأمّة إذا غُلِبت وصارت في ملك غيرها، أسرع إليها الفناء."
 
لعنة الازدواجية اللغوية:
        تعني الازدواجية اللغوية وجود مستويَين للغة الواحدة: أحداهما مستوى اللغة الفصيحة أو المشتركة الذي يُستخدَم في المناسبات الرسمية والكتابة والأدب والتعليم والإدارة،  والآخر مستوى اللغة العامية أو اللهجات الدارجة الذي يُستعمل في الحياة اليومية وفي المحادثات في المنزل والشارع. وكان أوّل من بحث هذه الظاهرة اللغوية في العصر الحديث اللغوي الأمريكي تشارلز فرغيسون Charles Ferguson ونشر بحثه عنها عام 1959 في مجلة " اللغة " الأمريكية "Language". وأكد هذا اللغوي أن الازدواجية ظاهرة موجودة في جميع اللغات الكبرى. فالانجليزية في بريطانيا، مثلاً، لها لهجات متعددة في ويلز واستكلندة وإيرلندة الشمالية وحتى لهجة الكوكني في لندن، إضافة إلى لهجات الإنجليزية خارج بريطانيا كاللهجة الكندية والأمريكية والاسترالية والنيوزلندية والجنوب أفريقية إلخ. وكذلك الحال بالنسبة للغات الفرنسية والألمانية والإسبانية وغيرهما.
 
        ولكن اللغويين لا يتوقعون أن تحلّ لهجات اللغات الإنجليزية والألمانية والفرنسية والإسبانية محلّ هذه اللغات في حين يتوقعون أن تحلّ، في المستقبل القريب، اللهجاتُ المصرية والعراقية والمغربية إلخ. محلَ اللغة العربية الفصيحة التي ستنقرض كما انقرضت اللغة اللاتينية في أوربا واستُعيض عنها بلهجاتها الإيطالية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية إلخ. التي صارت لغات مستقلّة.
 
        ونسأل لنتعلّم: وما هو الفرق بين الازدواجية في اللغة العربية والازدواجية في بقية اللغات العالمية? فيأتينا الجواب من العارفين بالقول: إن الفرق هو في الكم وليس في الكيف، بمعنى أن الفارق بين اللهجات الإنجليزية وبين اللغة الإنجليزية الفصيحة، مثلاً، هو فارق ضئيل جداً لا يحول دون الفهم، على حين أن الفارق بين اللغة العربية الفصحى ولهجاتها فارق كبير جداً. ونسأل لنستفيد: وكيف أصبح الفارق بين تلك اللغات العالمية ولهجاتها ضئيلاً? يجيب العارفون بأن الدول الغربية اتبعت ـ وتتبع دائماً ـ سياسات لغوية تفرض استخدام اللغة الفصيحة المشتركة في التعليم والإعلام والإدارة والتجارة وجميع مجالات الحياة، فيعتاد المواطنون على سماعها وقراءتها فيتمكنون منها وتقترب لغتهم الدارجة من اللغة الفصيحة. وفي فرنسا، مثلاً، يوجد فانون يعاقب مَن يُخطئ باللغة الفرنسية في الإذاعة أو التلفزة أو المدرسة، لأنه يُفسد لغة الأطفال وغيرهم.
 
        وقد ذكر كثير من الباحثين في المؤتمر أن السياسات اللغوية للدول العربية تميل إلى تفضيل اللهجات العامية واللغات الأجنبية في مجالات الحياة المختلفة كالإعلام والتعليم، وتشجّع العاميّة في الإذاعة والتلفزة ولا تمنعها أو تقلل منها. (وكاتب هذا المقال يرى أنه لا توجد سياسات لغوية مُعلَنة في الأقطار العربية، ما عدا ما ورد في دساتيرها من أن العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، ولكن ليس ثمة قوانين أو أنظمة لتفعيل ذلك). ويرى أولئك الباحثون أن هذه السياسات اللغوية للدول العربية تجعل لغة الكتاب العربية الفصيحة لغة غريبة نادرة الاستعمال يصعب استيعابها فلا يُقبل المواطنون على القراءة. وأدى ذلك، إضافة إلى أسباب أخرى كانتشار الأمية، إلى انخفاض نسبة القراءة وانحسار المعرفة في المجتمعات العربية. إذ تشير الإحصائيات إلى أن معدّل القراءة في إسرائيل هو 40 كتاباً للفرد الواحد (طبعاً باللغة العبرية، وهي لغة ميّتة تحييها دولة إسرائيل)، وفي معظم الدول الغربية 35 كتاباً للفرد، وفي السنغال 4 كتب للفرد، وفي بلادنا كتاب واحد لكل 80 فرداً (طبعاً باللغة العربية، وهي لغة حيّة تُميتها الدول العربية)، كما ورد في بحث الدكتور عبد الله الدنان من سوريا.
 
لعنة الثنائية اللغوية:
        تعني الثنائية اللغوية توافر لغتين في البلاد الواحدة، أو تحدُّث الفرد بلغتين مختلفتين، هما، بوجه عام، اللغة القومية ولغة أجنبية، أو اللغة القومية ولغة وطنية أخرى. ويتفق هذا المؤتمر على أن تعلّم اللغات الأجنبية ضرورة يستدعيها الانفتاح على الثقافات الأخرى أخذاً وعطاء والتعاون معها في سبيل خير الإنسانية. ولكن المؤتمر يؤكّد، من ناحية أخرى، أن إيجاد مجتمع المعرفة اللازم لتحقيق التنمية البشرية لا يمكن أن يتم إلا باكتساب المعارف والعلوم باللغة القومية التي تساعد على تعميم المعرفة العلمية والتقنية على نطاق واسع. فاللغة هي وعاء الفكر وهي الحاضنة له بدرجاته المتنوعة وصولاً إلى الإبداع، وهي وسيلة التواصل بين أفراد المجتمع ومؤسساته المختلفة وتبادل المعلومات والأفكار بينها. فهي كالعُملة في التبادل التجاري. وكلّما كانت العملة قوية وموحدة في البلاد، أصبح التبادل التجاري أيسر وأكثر نشاطاً.
 
 
(نقلاً عن موقع كيكا على الإنترنت، ويمكن الرجوع إلى الرابط وهو:
 
 

18 - مارس - 2007
الثنائية اللغوية وخطر زوال اللغة العربية?
الجزء الثاني    كن أول من يقيّم

د. علي القاسمي
انقراض اللغة العربية خلال القَرن الحالي
(الجزء الثاني) 
 
 
وقد قُدّمت بحوث في المؤتمر عن تجارب بلدان بلغت شأواً رفيعاً من التقدم والرقي بفضل نشر المعرفة بلغتها القومية. فقد ذُكِر أن اليابان استسلمت في الحرب العالمية الثانية تحت وطأة القنابل الذريّة الأمريكية، ففرض الأمريكيون شروطهم المجحفة على اليابان المستسلمة، مثل تغيير الدستور، حلّ الجيش، نزع السلاح، إلخ. وقد قبلت اليابان جميع تلك الشروط باستثناء شرط واحد هو التخلي عن لغتها القومية في التعليم، فكانت اللغة اليابانية منطلق نهضتها العلمية والصناعية الجديدة.
 
 وقدم الدكتور يوسف عبد الفتاح، الاستاذ بجامعة هانكوك للدراسات الأجنبية في كوريا الجنوبية دراسة عن كيفية اعتماد اللغة الكورية أساساً للتنمية البشرية (للتذكير: تحتل كوريا الرتبة 26 في تقرير التنمية البشرية 2006 للأمم المتحدة، وللمقارنة فإن ألمانيا تحتل الرتبة 21، ومعظم الدول العربية تحتل بجدارة الرتب ما بعد 120). وأشار الباحث إلى أن التعليم، في مختلف مراحله ومتنوّع تخصّصاته، يتم باللغة الكورية الفصيحة، مع العلم أن اللغة الكورية كانت قد مُنعت في المدارس الكورية وحلّت محلها اليابانية أثناء الاحتلال الياباني لكوريا الذي انتهى في الحرب العالمية الثانية. وتوجد في كوريا حالياً 110 قنوات تلفزيونية كلّها خاصة إلا قناة حكومية واحدة، " وجميعها تبثّ باللغة الكورية الفصحى السليمة " (طبقاً للسياسة اللغوية للدولة وتحت مراقبتها). ومن الطرائف التي ذكرها الباحث أنه عند وصوله أوّل مرّة إلى كوريا لم يعرف طريقه، لأن جميع اللافتات وأسماء المحلات بالكورية فقط والنادر منها، كلافتات السفارات والفنادق الكبرى، يضيف الاسم بالحروف الأجنبية الصغيرة تحت الحروف الكورية الكبيرة. وعندما سأل زميلاً له عن ذلك، أجابه فائلاً: إذا أردت أن تقرأ الأسماء بالإنجليزية فارحل إلى إنجلترا. وعندما ذهب إلى عيادة طبيب كان عليه أن يصطحب مترجماً. وسأل الأستاذُ المترجمَ: لماذا لا يتحدث الطبيب اللغة الإنجليزية? قال المترجم: وماذا سأفعل أنا? 
 
        إن الثنائية اللغوية في بلداننا تشكّل صراعاً غير متكافئ بين لغة قومية تلقى من أهلها أصناف الاحتقار والإهمال والتهميش، بل والتدمير، وبين لغة عالمية وافدة    " بكل سطوتها الثقافية وسلطتها الاقتصادية وهيمنتها الدولية، كما قال الشاعر المغربي الدكتور مصطفى الشليح في المؤتمر، فتلقى هذه اللغة الأجنبية الترحيب والتعظيم في بلداننا، وثمة " عوامل أخرى تشجّع على بسط نفوذ هذه اللغة (الوافدة)، تتهيأ بإرادة جهات مسئولة في مجتمعنا العربي" كما قال اللغوي السعودي الدكتور أحمد محمد المعتوق.
 
        وأدانت معظمُ بحوث المؤتمر الوضعَ اللغوي في بلداننا، فأشارت إلى أن أبناء النخبة يتعلّمون في مدارس أجنبية أو مدارس خاصة، ذات مناهج أمريكية أو بريطانية أو فرنسية أو إسبانية أو إيطالية، إلخ، وهي إن علّمت اللغة العربية فلا تخصّص لها أكثر من ساعتين في الأسبوع، ما ينتج عنه تفاوت ثقافي طبقي يهدّد السلم الاجتماعي. ومن ناحية أخرى فإن العلوم والتقنيات في الجامعات والمعاهد العليا تُدرَّس باللغة الأجنبية، الإنجليزية في بلدان المشرق والفرنسية في البلدان المغاربية. وأبناؤنا لا يجيدون اللغة العربية ولا اللغة الأجنبية. وإذا كانت اللغة وعاء الفكر، فإن الطالب العربي لا يحمل وعاءً سليماً بل ينوء تحت عدد من الأوعية المثقوبة التي لا تحتفظ بالمعارف والعلوم، ناهيك بعدم تمكّنه من تمثّل تلك المعارف والعلوم أو الإبداع فيها.
 
        ولقد ذكر باحث مصري أن إحدى رياض الأطفال الأجنبية أضافت اللغة العربية إلى منهجها، فاحتجّ أولياء الأمور لدى مديرها قائلين إنهم أرسلوا أولادهم إليه ليعلّمهم الإنجليزية وليس العربية. وتشكّت أستاذة جامعية من إحدى الدول المغاربية تشارك في المؤتمر من أن ابنتها التي تبلغ الخامسة من العمر وتتعلّم العربية والفرنسية في روض الأطفال ، ترفض مراجعة دروس اللغة العربية معها وتقول لها بالفرنسية: " ماما، أنا أكره العربية، لنقرأ الفرنسية." وقال مشارك آخر في المؤتمر من إحدى الدول المشرقية إن أبناءه الذين يتعلّمون في مدرسة أجنبية لا يفهمون العربية وهو مضطر إلى التحدث معهم في منزله باللغة الإنجليزية. وصرّح أحد المشاركين من دولة خليجية أنه عند عودته إلى منزله في المساء لا يفهم أطفاله الصغار فهم يتحدّثون بإحدى اللهجات الهندية، لأن المربّية هندية والخادمة هندية والسائق هندي، والإنجليزية الهندية هي السائدة في الأسواق والفنادق والمطاعم والمطارات وجلّ الأمكنة في البلاد. وأحيانا يضطر إلى استقدام مربيّة سيرلانكية بدل الهندية، فتتبلبل لغة أطفاله.
 
        وبيّن الدكتور أحمد عكاشة، رئيس الجمعية الدولية للطب النفسي، في مداخلته في المؤتمر أن التعدد اللغوي في الطفولة قد يسبب اضطرابات نطقية ونفسية وعقلية. وأن الأطفال العرب الذين يتلقّون تعليمهم في مدارس أجنبية أو بمناهج أجنبية يميلون إلى الشعور بالنقص واحتقار الأهل والشعور بالاغتراب الثقافي في بلدانهم، وأن هذا النوع من الاغتراب هو من أهم أسباب هجرة الأدمغة من بلداننا إلى الغرب.
 
مؤشّرات دولية إلى انقراض اللغة العربية: 
        كنا قد ذكرنا في مقال سابق عنوانه " العربية لم تعُدْ لغة عالمية" أن منظمة الأمم المتحدة في نيويورك تتجه إلى إلغاء العربية من بين اللغات العالمية الرسمية في المنظمة وهي: الإنجليزية، الإسبانية، الفرنسية، الروسية، الصينية، العربية؛ وذلك لثلاثة أسباب:
1)      عدم استعمال ممثلي الدول "العربية" اللغة العربية في الأمم المتحدة، فهم يستعملون الإنجليزية أو الفرنسية.
2)      عدم وجود مترجمين عرب أكفاء يجيدون اللغة العربية.
3)      عدم وفاء معظم الدول العربية بالتزاماتها المتعلّقة بدفع نفقات استعمال العربية في المنظمة.
 
وفي هذا المؤتمر، أوضح المفكّر التونسي الدكتور عبد السلام المسدّي ( سفير تونس ووزير التعليم العالي والبحث العلمي سابقاً، ومن المؤمنين بضرورة تعريب التعليم العالي، لكنه لم يتمكّن من تعريب التعليم العالي أثناء توليه الوزارة) أن ضغوط الدول الكبرى على اليونسكو جعلتها تُعلن مؤخّراً أن الحقوق اللغوية تنحصر في ثلاثة:
ـ الحق في لغة الأم (وليس اللغة الأم)
ـ الحق في لغة التواصل في المجتمع
ـ الحق في لغة المعرفة.
        وتعني هذه الحقوق بالنسبة إلى بلداننا ما يأتي:
ـ لغة الأم: اللهجة العامية أو إحدى اللغات الوطنية غير العربية مثل الدنكا في السودان، والسريانية في سوريا، والأمازيغية في الجزائر والمغرب.
ـ لغة التواصل: اللهجة العربية الدارجة
ـ لغة المعرفة العالمية: الإنجليزية (أو الفرنسية في بعض البلدان)
 
وهكذا، فالعربية الفصيحة المشتركة بين بلداننا لا مكان لها هنا بتاتاً ولا تشكّل حقاً لغوياً لأي فرد. وسيكون إعلان اليونسكو هذا ورقة ضغط إضافية بيد الدول الكبرى التي تسعى إلى إلغاء أية وسيلة تفاهم مشتركة بين بلداننا قد تشكّل أساساً لاتحاد عربي من أي نوع، طبقاً لبعض المشاركين في المؤتمر (أما  نحن فلا نرى ضرورة وجود لغة مشتركة لقيام اتحاد بين الدول، فقد يقوم على أسس غير لغوية، كما هو الحال في الاتحاد الأوربي الذي يستخدم برلمانه في ستراسبورغ 9 لغات أوربية وتستنفد نفقات الترجمة حوالي 5% من ميزانية الاتحاد).
        ومن ناحية أخرى، فقد اتُخِذ عدد من الإجراءات العملية مثل إلغاء تدريس اللغة العربية في بعض الجامعات الأمريكية والاستعاضة عنها باللهجات العربية مثل الشامية والمصرية والمغربية والعراقية، إلخ. وكان امتحان البكالوريا الثانوية في فرنسا يسمح للطالب باختيار لغة ثانية كالإنجليزية والألمانية والإسبانية والعربية. وابتداءً من سنة 1995، لم تعد العربية من بين هذه اللغات واستُعيض عنها بعدد من اللهجات العربية. وظل عرب 48 في إسرائيل، من مسيحيين ومسلمين، يحرصون على تعليم العربية في مدارسهم لتكون وسيلة للتعبير عن هويتهم وانتمائهم لشعبهم الفلسطيني العربي، ولكن إسرائيل اتّبعت سياسات إهمال اللغة العربية وتهميشها في الحيز المدرسي وتهجينها بالمصطلحات والتعبيرات العبرية والإنجليزية، كما أوضحت الباحثة الأستاذة جنان عبده المشاركة في المؤتمر من حيفا.
 
انقراض الحضارة أم انقراض اللغة?
        بعد أن سعدتُ بالعودة من المؤتمر إلى مقر إقامتي في شاطئ الهرهورة في المغرب، خرجتُ صباح اليوم التالي لأتمشّى مع جاري المفكّر الدكتور عبد الكبير الخطيبي. اغتنمتُ الفرصة لأستطلع رأيه في الموضوع، فسألته: هل ترى أن اللغة العربية ستنقرض? أجابني: هذا خطأ؛ مَن قال بذلك? ثم واصل كلامه قائلاً: إن الحضارة العربية الإسلامية برمّتها تسير حثيثاً نحو هاوية الاندثار، بكل ما فيها من طرائق التفكير والتعبير. وقد ناقش هذا الموضوع جماعة من الزملاء التقوا في منزلي، الأسبوع الماضي، بمناسبة زيارة الشاعر أدونيس لمعرض الكتاب في الدار البيضاء، وقد أجمعوا على ذلك الرأي.
        وعندما بدت أمارات الخيبة على وجهي، استخدم الدكتور الخطيبي، التشبية والاستعارة، ربما ليساعدني على الفهم، فقال: أنا أقول لك إن الرجل ميّت، وأنتَ تقول لي إن لسانه لا يتحرّك.
 
خاتمة:
        حاولتُ أن أنقل ما دار في المؤتمر، بأمانة ولكن بإيجاز شديد؛ وأن لا أبدي وجهة نظري إلا لماما، لكي أترك للقارئ الكريم تكوين الرأي في الوضع اللغوي، ونتائجه، وما الذي ينبغي فعله.
 
 (نقلا عن موقع كيكا على الإنترنت)

18 - مارس - 2007
الثنائية اللغوية وخطر زوال اللغة العربية?
العامية والفصحى    كن أول من يقيّم

أود أن أشكر الأستاذ عبد الحفيظ لاقتباسه هذه الدراسة الثمينة حول العلاقة بين العربية المغربية والأمازيغية، وأهمية الحفاظ على اللغات المحلية، لأنها الوعاء الثقافي لشعب أو جزء منه.
لست متخصصاً في الألسنيات، وبودي أن أتعلم من أساتذتنا الأفاضل الذين نذروا حياتهم لهذا الحقل الهام من حقول المعرفة. لكن لي رؤيتي المتواضعة – رؤية الهاوي المحب للألسنيات، ولغتيه المحكية والفصحى – في هذا الشأن، وأود إطلاعكم عليها، وأود لو أقرأ رأي المتخصصين في الأمر.
أعتقد أن الثنائية اللغوية عندنا لها خصوصية، فهي مختلفة عن حالة اللاتينية مع الإيطالية مثلاً، أو اللغات الألمانية المختلفة مع الألمانية "العليا" كما تسمى. فالعربية الفصحى، هي لغة الشعر والدين حتى قبل ظهور الإسلام، وكانت قبائل العرب تستعمل لهجاتها (لغاتها?) الخاصة بها، لكنها تقرض الشعر بهذه اللغة المعروفة للقبائل الأخرى، وقد جاء القرآن الكريم بهذه اللغة الفصحى السامية، فتعززت مكانتها. هذا من جانب، ومن جانب آخر، كانت للشعوب التي قطنت الدول التي امتد إليها الإسلام لغاتها الخاصة بها، من الآراميات في المشرق العربي، إلى القبطية في مصر، حتى الأمازيغية في المغرب العربي. وبتأثير العربية الفصحى التي دخلت مع الإسلام أخذت اللغات المحلية بالتأقلم مع الوضع الجديد، وبالتطور وفقه، فظهرت الإزدواجية اللغوية التي نراها اليوم.
والدليل على أن اللغات المحكية هي لغات مستقلة عن العربية، هو أنها مليئة بمفردات وتعابير وحتى قواعد اللغات الأصلية التي تطورت منها، ولا يسعني هنا سوى الكلام عن لغات المشرق العربي لجهلي باللغات القبطية والأمازيغية. وأصدق مثال هو لغات بلاد الشام التي يمكن اعتبارها سريانية الأصل، ولغة العراق ولهجاتها المتعددة التي نمت من آراميات بلاد الرافدين. ولا أعتقد أن الأمر معكوساً (أي أن لغات القبائل العربية التي انتقلت للعيش في الأمصار تأثرت بلغات سكانها إلى هذا الحد). وكان الناس في هذا البلد يتحدثون بلغتهم لغاية فترات متأخرة (خذوا مثلاً ملاحظات و"شكاوى" النحويين الأوائل من "عجمة" لسان أهل البلد، وتحدثهم النبطية مثلاً، والمقصود بالنبطية هو الآرامية، لأن الآرامية النبطية هي لغة الأنباط، وهم عرب).
وهناك مشكلتان برأيي في هذا الجانب: الأولى هي إهمال دراسة هذه اللغات المحلية بشكل كامل، فهي لم تدون، ولم تستنبط قواعدها، ولم توضع لها قواميس (إلا في أغراض محدودة، ومنتقاة). المشكلة الثانية هي تدريس العربية الفصحى، وانحسارها إلى مواقع ثانوية مقابل اللغات العالمية كالأنكليزية أو الفرنسية، خاصة في مجال العلوم الطبيعية والتطبيقية والإتصالات، بالتالي تضاءل عدد من يجيدونها، وبدرجة أهم تناقص عدد من يستعملونها فعلاً.

20 - مارس - 2007
الثنائية اللغوية وخطر زوال اللغة العربية?
ما هي مقومات اللغة?    كن أول من يقيّم

أود أن أستفسر، ما هي الشروط التي يجب أن تتوافر في لغة ما، كي تعتبر لغة مستقلة، قائمة بذاتها?
أرى أننا بصدد ظاهرة غاية في التعقيد، هي اللغة الفصحى والعاميات، والعلاقة بينها. لا أزال أعتبر العامية العراقية (فهذه أعرفها أفضل من غيرها) لغة خاصة، ولها لهجات محلية مختلفة. وأضرب لكم مثالاً آخر، هو لغة اليهود العراقيين الذين سكنوا أرض الرافدين 2700 سنة. وكان اليهود في العراق يتحدثون بلغة بابل الآرامية، التي أصبح اسمها عندهم التلمودية (نسبة إلى التلمود البابلي المكتوب بها)، وهي شقيقة اللغة البابلية المتأخرة، والمندائية لغة الصابئة المندائيين. لكن لغتهم وبمرور الزمن تطورت إلى ما نعرفه الآن، وهي قريبة جداً إلى لغة أهل الموصل (مع اختلاف في المفردات التي تنبع من الإختلاف الديني وتمايز العادات النابعة من ذلك)، ويقول بعض الكتاب أن لهجة بغداد الأصلية مماثلة للهجة الموصل في الأصل، لكنها تغيرت في القرن التاسع عشر الميلادي بسبب توطين قبائل من البادية فيها بعد أن كاد الطاعون والكوليرا أن يقضيان على سكان بغداد الأصليين تماماً. ما يهمنا هنا هو هذا التغير في لغة اليهود الذي جاء بتأثير من العربية الفصحى، وهي قريبة جداً من الآراميات في مفرداتها وبعض قواعدها كما هو معروف. هذا يعني أن اللهجات العامية قد تطورت من لغات سابقة، بتأثير قوي من اللغة العربية الفصحى، ولا يسعني أن استنتج بأن الأمر قد جاء بصورة معكوسة، كأن أخذت القبائل العربية التي قدمت مع الفتح الإسلامي لسان أهل البلاد الأصليين، لأن العربية هي لغة الحكام، ولغة الدين السائد، ولغة العلم والثقافة. في نفس الوقت حافظت الجماعات الدينية والعرقية على لغاتها الأصلية (مختلف اللهجات السريانية عند المسيحيين، والمندائية عند الصابئة لمبرردات دينية واضحة، واللغات الأصلية كالكردية والفارسية عند الأقوام غير السامية، لمبررات إثنية هذه المرة).
وقد يقول قائل ما دامت هذه اللغات العامية قد تطورت بتأثير من العربية الفصحى، فلماذا لا نعتبرها لهجات عربية (أو أنها أصبحت لهجات عربية)? هذا سؤال اوجهه للأساتذة المتخصصين باللسانيات. لكن لن يغير من حالة الثنائية اللغوية، وضرورة تحديد العلاقة السليمة والتوازن بين الفصحى والعامية، ولمصلحة اللغتين.

22 - مارس - 2007
الثنائية اللغوية وخطر زوال اللغة العربية?
إشتفان أُركين    كن أول من يقيّم

إشتفان أُركين:
مذكرات بُركة
 
في 22 آذار 1972 انهمر المطر طوال النهار، وأنا تكونت في مكان لطيف للغاية. سوف احدده بالضبط: في بودابست (عاصمة المجر)، المنطقة الثالثة عشرة، أمام المنزل رقم 7 في شارع درافا، حيث انخسف الرصيف.
عشت هناك. داس الكثيرون عليّ، ثم شرعوا في شتمي وتلويث سمعتي وقول كلمات خشنة في حقي وهم ينظرون إلى الخلف نحوي. كنت بركة ليومين، تحملت الإهانات من دون اعتراض. كما هو معروف أشرقت الشمس في الرابع والعشرين. آه، كم عجيب هو هذا الوجود! نشفتُ، عندما أصبح الجو جميلاً!
ماذا أكتب بعد? هل قمت بدوري بشكل جيد? هل تصرفت بغباء? أكانوا ينتظرون مني شيئاً أخر في شارع درافا رقم 7? ما عاد الأمر مهماً الآن، لكن من الحسن معرفة ذلك لأن البرك ستولد من بعدي أيضاً هناك. نحن نعيش حياة قصيرة، أيامنا معدودة، وبينما كنت هناك في الأسفل، نمى جيل متعطش للعمل، جلّه برك حالمة، طموحة لأن تكبر، واعدة، كلها أخذت تستجوبني وتلحّ، ما هي التوقعات في هذا الخسف الذي يعد بالكثير.
أما أنا فكنت بركة ليومين لا غير، وعلى أساس ذلك لا أستطيع سوى قول هذا: في الحقيقة والواقع وبرغم حدة الكلام، ورغم الريح العاصف في شارع درافا، ورغم شروق الشمس على الدوام حتى عندما لا يكون لزوم لذلك، فالأمور لا تنتهي إلى المجاري على الأقل... إيه، ما أجمل الحفر والمطبات! انكسار الأنابيب! انخساف الأسفلت في الشوارع! أنه لشيء عظيم في هذه الأيام! يا شباب، لو تسمعون نصيحتي، هيّا! هلمّوا إلى شارع درافا!
 
(ترجمة ثائر صالح)
 
إشتفان أُركين (1912-1979) كاتب مجري معروف، اشتهر بأعماله المسرحية وبقصصه القصيرة، وقد ابتكر ما أسماه بقصص الدقيقة الواحدة، كناية عن قصرها الشديد.
 

24 - مايو - 2007
القصة القصيرة
إشتفان أُركين-2    كن أول من يقيّم

إشتفان أُركين:
 
طريقة الإستعمال
 
القصص المرفقة كتابات كاملة القيمة رغم قصرها. فائدتها أنها توفر الوقت للإنسان؛ لأنها لا تتطلب منه تركيزاً يدوم لأسابيع أو أشهر.
يمكن قراءة قصص الدقيقة الواحدة أثناء سلق البيض، أو إنتظار رفع السماعة على الطرف الثاني (وإذا ما كان الخط مشغولاً).
المزاج السيء والوضع العصبي المتوتر ليسا عائقاً. يمكن قراءتها وقوفاً أو جلوساً، في الريح أو المطر أو في الحافلة الشديدة الزحام. يمكن الإستمتاع بالكثير منها أثناء السير!
من المهم الإنتباه إلى عناوينها. المؤلف ابتغى الإختصار، لذلك لم يزودها عناوين فارغة.  يرجى الإنتباه إلى رقم الترام قبل الصعود. وعنوان هذه القصص مهم بالدرجة نفسها.
بالطبع هذا لا يعني أن قراءة العناوين كافية. العنوان أولاً، ثم النص: هذه طريقة الإستعمال الصحيحة الوحيدة التي يجب اتباعها.
تحذير! من لا يفهم شيئاً ما، عليه أن يقرأ الكتابة المعنية مرة أخرى. وإن لم يفهمها مع ذلك، فالخطأ يكمن في القصة.
لا يوجد بشر أغبياء، بل قصص الدقيقة الواحدة سيئة فقط!
 
 
1967
 
(ترجمة: ثائر صالح)

24 - مايو - 2007
القصة القصيرة
جيغموند موريتس: الكرايتسارات السبعة    كن أول من يقيّم

Móricz Zsigmond: Hét krajcár
 
الكرايتسارات السبعة - الجزء الأول
 
 
حسناً فعلت الآلهة عندما قضت بأن للفقير الحق في القهقهة.
لا تسمع البكاء والعويل فقط من الكوخ الحقير، بل ما يكفي من القهقهة الصادرة من القلب أيضاً. لا بل الصدق أن الفقير كثيراً ما يضحك عندما يتطلب الموقف البكاء.
أعرف هذا العالم جيداً. فقد خبر ذلك الجيل من عائلة شوش الذي ينتمي إليه أبي أيضاً، الحالة الأكثر شدة من العوز كذلك. في ذلك الوقت كان أبي يعمل بالأجرة اليومية في ورشة ميكانيك. وهو لا يتبجح بتلك الأيام، ولا غيره. لكنها حقيقة حدثت.
وكذلك حقيقة أنه حتى في حياتي المقبلة لن اقهقه بقدر ما قهقهت في تلك الأعوام القليلة من سنوات طفولتي.
كيف اقهقه عندما لا أجد أمي المرحة بوجنتيها الحمراوين، التي كانت تضحك بحلاوة إلى أن يطفر الدمع من عينيها، ويخنقها السعال لفرط الضحك...
وحتى هي لم تضحك أبداً كما ضحكت ذات مرة، عندما جمعنا في عصر  أحد الأيام سبعة كرايتسارات[1]. بحثنا سوية ووجدناها. ثلاثة وجدناها في درج من أدراج ماكنة الخياطة، وواحد في الخزانة، والباقي وجدناه بصعوبة.
الكرايتسارات الثلاثة وجدتها أمي بنفسها، فأعتقدت بوجود المزيد منها في الدرج، إذ اعتادت الخياطة بالأجر، وكانت تضع هناك ما يدفعون عادة. بالنسبة إليّ، كان درج ماكنة الخياطة منجماً للكنوز، وما كان على سوى أدسّ يدي فيه حتى "تفتح يا سمسم".
وتعجبت كثيراً عندما بحثت أمي هناك، نبشت بين الأبر والمقص وقطع الشريط والخيوط والأزرار وكل شيء، وفجأة قالت بسهو:
-       اختبأت!
-       ما هي?
-       القطع النقدية - قالت أمي بضحكة رنانة.
سحبت الدرج.
-       تعال يا ولدي، لنبحث عن الأشرار. الكرايتسارات الخبيثة اللعوب.
جلست على عقبيها، ووضعت الدرج على الأرض وكأنها تخشى من طيران النقود، ثم قلبته دفعة واحدة، كما لو كان المرء يصطاد فراشة بقبعته.
ما كان من الممكن عندئذ الإمتناع عن القهقهة.
-       ها هي في الداخل - تضاحكت ولم تتعجل في رفع الدرج -، لو كانت قطعة واحدة فقط، فعليها أن تكون هنا.
جلستُ على عقبيّ، وترصدتُ، هل تظهر قطعة نقود لامعة في مكان ما?
لم يتحرك أي شيء. في الواقع لم نكن نؤمن بوجود شيء منها هناك.
تلاقت نظراتنا وضحكنا للمزحة الطفولية.
مددت يدي لألمس ظهر الدرج المقلوب.
-       شش – أفزعتني أمي – بهدوء، فقد تهرب. أنت لا تعلم بعد، فالكرايتسارات كالحيوانات الماهرة. انها تعدو بسرعة، وتتدحرج. أما كيف تتدحرج...
تمددنا ذات اليمين وذات اليسار. لقد خبرنا سرعة تدحرج الكرايتسار. عندما نهضنا، مددت يدي مجدداً لأقلب الدرج.
-       ياي.. – صاحت عليّ أمي مجدداً وأنا ارتعت، سحبت أصابعي كما لو أنها مسّت فرناً ساخناً - احذر، أيها العاق الصغير. كيف تمهد لها الطريق. وما دامت تحت الدرج فهي تحت رحمتنا. اتركها هناك لبعض الوقت. هل تدري? أريد أن أغسل الملابس، ولكي أغسل الملابس، أنا بحاجة إلى الصابون، ولذلك أنا بحاجة إلى سبعة كرايتسارات، فالصابون لا يبيعونه بأقل من سبعة كرايتسارات، عندي الآن ثلاثة، وأحتاج لأربعة أُخرى، وهذه موجودة هنا في هذا البيت الصغير: تسكن فيه، لكنها لا تحب أن يزعجوها، لأنها لو زعلت، عندئذ تذهب بحيث لن نراها ثانية. احذر اذن، لأن النقود حساسة جداً، عليك التعامل معها، مثل الأوانس الراقيات... آها، هل تحفظ شعراً يمكننا به استدراجها لتخرج من قوقعتها?
كم ضحكنا خلال هذه الدردشة? لا أدري. لكن عملية استدراج الحلزون كانت غريبة جداً.
 
عمو كرايتسار اخرج لنا
بيتك يحترق اخرج هنا[2]
 
عندئذ قلبت البيت.
وجدنا تحته ألف نوع من الأوساخ، أما النقود فلم تكن بينها. نبشتها أُمي بوجه متجهم وشفتين مشدودتين، من دون جدوى.
-       من المؤسف – قالت – أننا لا نملك منضدة. لو قلبنا الدرج على مضدة لكان ذلك أكثر احتراماً، ولوجدنا النقود هناك.
جمعت الأغراض ووضعتها في الدرج. خلالها كانت أُمي تفكر. عصرت دماغها لتتذكر، ألم تضع يوماً في مكان ما بعض النقود، فنسيتها?
لكن شيئاً كان يوخز جنبي[3].

24 - مايو - 2007
القصة القصيرة
الكرايتسارات السبعة - 2    كن أول من يقيّم

الكرايتسارات السبعة - الجزء الثاني
 
 
-       أُمي العزيزة، أعرف مكاناً يوجد فيه كرايتسار واحد.
-       أين يا ولدي? لنبحث عنه قبل أن يذوب كالثلج.
-       كان في الخزانة الزجاجية، في درجها.
-       آه أيها الولد التعيس، لو ذكرت ذلك من قبل، فقد لا نجده في مكانه الآن.
نهضنا، وذهبنا صوب الخزانة الزجاجية التي ليس فيها زجاج منذ زمن. لكن الكرايتسار كان في الدرج، إذ كنت أعرف بوجوده. لثلاثة أيام كنت أتهيأ لسرقته، لكني ما جرؤت. كنت أود شراء بعض الحلوى به، لو أنني تجرأت على ذلك أيضاً.
-       إذن، أصبح عندنا أربعة كرايتسارات. لا تحزن يا ولدي، لدينا الآن النصف الكبير من المبلغ. نحتاج إلى ثلاثة فقط. ثم لو كان العثور على هذا الكرايتسار قد استغرق ساعة واحدة، فالعثور على الثلاثة الباقية لن يدوم حتى المساء. تعال بسرعة علّنا نجد كرايتساراً في كل درج من الأدراج الباقية.
لكن لو كان في كل درج كرايتسار واحد، لأصبح المبلغ أكثر من المطلوب. والخزانة الشائخة كانت تخدم في شبابها في مكانٍ توافر فيه ما كان يمكن تخزينه. لكن عندنا ما كان لليتيمة من حمل ثقيل، فالخزانة ليست مريضة ينخرها السوس ناقصة الأسنان دونما سبب.
أمي كانت تلقي موعظة قصيرة عند فتح كل درج جديد.
-       هذا الدرج غنياً ... كان. هذا لم يكن له أي شيء. أما هذا فكان يعيش بالدَيْن. أنت يا متسول يا سيئ يا مسلول، أما عندك كرايتسار? آها، لن يكون عند هذا، فهو يخزن فقرنا. أما أنت، فعسى ألاّ يعطيك الله، لم أطلب منك إلا الآن فقط فما أعطيت. هذا يمتلك أكثر من الباقين، أنظر ...
صاحت ضاحكة عندما سحبت الدرج الأخير الذي ما كان له قعر.
علّقته على رقبتي، ثم جلسنا على الأرض لفرط الضحك.
-       انتظر – قالت فجأة – سنحصل على النقود فوراً. سأجدها في ملابس أبيك.
في الحائط دُقّت مسامير، على هذه المسامير تعلقت الملابس. ولعجب العجاب، ظهر كرايتسار واحد حالما دست أُمي يدها في الجيب الأول.
لم تصدق ما رأته عيناها إلا بصعوبة.
-       هاهو – صاحت – هذا هو. كم أصبح عندنا الآن? لا نستطيع حتى عدّها. واحد إثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة... خمسة. ينقصنا إثنان فقط. هه، إثنان لا شيء. حيثما توجد خمسة كرايتسارات، يمكن أن نجد كرايتسارين.
فتشت كل الجيوب بهمّة كبيرة، لكن للأسف دون طائل. لم تعثر على شيء. حتى أحسن الطرائف لم تستدرج كرايتساراً واحداً.
عند ذلك توهجت وجنتا أُمي كزهرتين حمراوين كبيرتين من الإثارة. ما كان يُسمح لها بالعمل، لأنها كانت تمرض على التو. بالطبع، هذا كان عملاً آخر، إذ لا يمكن منع أحد من البحث عن المال.
جاء وقت العشاء، ومضى. وسرعان ما اقترب المساء. يحتاج أبي قميصاً نظيفاً ليوم الغد، لكن لا يمكن غسل الملابس. أما ماء بئر البرية فلا يزيل الأوساخ الزيتية من القميص.
وقتها ضربت أُمي جبينها بكفها:
-       آه، كم أنا غبية! لم أفتش جيبي بعد. وما دمت قد تذكرت ذلك، لأدس يدي في جيبي.
بحثت، وهاكم تفضلوا، وجدت في جيبها كرايتساراً. السادس.
-       دعني أرى جيوبك أيضاً. علَّني أجد هناك شيئاً.
جيوبي! هه. يمكن ذلك. ما كان فيها أي شيء.
غربت الشمس، وكنا هناك مع ستة كرايتسارات، ناقصة، وكأنها غير موجودة. ما كان اليهود يبيعون بالدين، أما الجيران فكانوا فقراء مثلنا، ثم أننا لن نذهب لنقترض كرايتساراً واحداً.
ما كان بالإمكان عمل شيء سوى أن نضحك على بؤسنا من أعماق القلب.
عندئذ جاء متسول. سأل بصوتٍ عالٍ باكٍ.
كادت أُمي أن تفقد صوابها لكثرة ما ضحكت.
-       دعك من هذا أيها الرجل الطيب – قالت – طوال ظهر اليوم لم أعمل شيئاً، ينقصني كرايتسار واحد من قيمة نصف رطل من الصابون.
حدّق المتسول، وكان رجلاً عجوزاً صالحاً، حدّق في وجهها.
-       كرايتسار واحد? سألها.
-       بلى.
-       أعطيك أنا.
-       هذا ما ينقصنا، حسنة من متسول.
-       دعي عنك هذا يا بنيتي، لا ينقصني القرش. ما ينقصني هو شيء واحد، حفنة تراب، بها يستوي كل شيء.
أعطاني الكرايتسار في يدي، وانصرف.
-       الحمد لله - قالت أُمي – أسرع إذن.
لكنها توقفت لبرهة، ثم ضحكت ضحكة عالية، عالية.
-       اكتمل المال في الوقت المناسب، تأخر الوقت ولا يمكنني غسل الملابس، حلّ المساء، ثم ما عاد عندي زيتٌ للمصباح. اختنقت من شدة الضحك. أختناق مرير قاتل، وحيث وقفتُ تحتها لأسندها عندما دفنت وجهها بكفيها، اندلق على يدي شيء ساخن. دماً كان، دمها الغالي. دم أمي التي كانت تستطيع الضحك على نحوٍ ما كان ليقدر عليه سوى القليل من الفقراء.
 
1908
 
 
جيغموند موريتس (1879-1942): أحد أهم الكتاب الروائيين المجريين في القرن العشرين.
(ترجمة ثائر صالح)

24 - مايو - 2007
القصة القصيرة
هوامش    كن أول من يقيّم

1  مفردها كرايتسار، وهو وحدة نقدية نمساوية صغيرة من النحاس كالقرش أو الفلس، وأصل الكلمة ألماني هو كرويتسر، وهو عملة عليها نقش الصليب.
2  تحوير لترديدة أطفال شعبية لإخراج الحلزون من قوقعته، أشبه بالترديدة الشعبية العراقية: زَلَنْطَح، زَلَنْطَح طلّع قرونك وأنطح. والزَلَنْطَح هو الحلزون.
3  تعبير مجري شائع، هو وخز الضمير.

24 - مايو - 2007
القصة القصيرة
قصة مجرية    كن أول من يقيّم

جيغموند موريتس: الدموع في أعين الرجال
 
ترجمة: ثائر صالح
 
قَدِما من نفس القرية، من مكان ما في تخوم ترانسلفانيا، لكنهما كانا "مُقنزحين" في نفس الوقت، كما هو الحال مع باقي شعب السَيْكَيين. كانا مرحين على الدوام، رائقي المزاج، ووقفا في الصف بجنب بعضهما البعض دوماً، إلى أن أصبح لهما اسماً واحداً في آخر الأمر، وسمع منتسبو الفيلق كله بخبرهما، وكان اسم أحدهما شامو كِش، والثاني يوشكا شامو، لكنهما سوية كانا يوشكا شامو كِش.
- يا أخي – قال شامو كش –، بدأت أحس بالجوع.
وقتها لم يتذوقا الطعام ليومين. لم يكن لديهما أي شيء على الإطلاق. أرسلوهما إلى حواجز الأسلاك الشائكة، وكان هناك خلفهما مرج كبير، ولم يتسلل عبره بعض الجنود زاحفين إلا خلال الليل، وحتى هؤلاء لم يجلبوا إليهما سوى العتاد دون الزاد.
- ماذا سنأكل، أخي? - قال يوشكا شامو.
- ما لديك?
- عندي ماء.
- أما أنا فلدي الملح.
- لكن هذا شيء عظيم، لنطبخ حساء.
- من ماذا?
- من العشب.
- وهل سيكون هذا الحساء جيداً?
- بالتأكيد.
- تمهل، لن يكون جيداً. سأطهي حساء الحمّيض، هذا أحسن.
- لكن ما عندنا حمّيض.
- نقطف شيئاً منه. لابد من وجوده في هذا المرج الواسع. ما أن تخرج أمي هناك في القرية، إلا وتجلب منه طبخة على الفور.
- هذا رائع إذن.
حتى أنهما ضحكا لذلك. غير أنهما عبثاً زحفا على بطنيهما في المرج الذي سحقته البساطير، لم يجدا حمّيضة واحدة تستحق أن توضع في القدر.
- إذن، يا أخي، سأذهب خلف الأسلاك الشائكة، لم يطأ العشب هناك أحد، فلا يزال نضراً، سأجد هناك شيئاً منه...
- أذهب معك.
- لا تأتي، فلو بقي هناك واحد منا، لا يذهب معه الآخر من أجل حفنة حميض!
- أتعلم ماذا، سأذهب أنا في هذه الحالة.
- أتريد أن تأكل الحقل من أمامي? أعرفك أنا.
وبهذا انسل شامو كش تحت الأسلاك الشائكة على الفور.
زحف إلى الأمام ببطء، مثل الخلد الكبير السمين. كان يتحسس كل ورقة من أوراق الحشيش، يتشممها، تذوق كل عشب بري، لكنه لم يعثر على شيء مما اعتادت امه تجميعه في البلد، أعشاب طرية حلوة؛ غير أمه كانت بعيدة وكذلك البلد العزيز.
زحف وزحف، وتقدم زحفاً أكثر فأكثر، طاب له الزحف ببطء في الكلأ الأخضر، بنعومة وبصمت، متشبثاً بأصابعه خافضاً رأسه في العشب العالي الذي حان وقت حشّه بالمنجل.
لم تكن مواقع الروس بعيدة حقاً. كان خندق الرماة الروس على مبعدة مائة متر عنه فحسب، لكن توجد في الوسط شجيرات كثيفة الأغصان، وعشب عالٍ بحيث لا يراه أحد حتى لو وقف على ركبتيه. شامو كش تقدم إلى الأمام وتقدم. لم يعرف لِمَ يمضي، وإلى أين، انزلق كما الحلزون، حتى أنه لم يفتح عينيه إلا بالنزر اليسير، ولم تتبين العين تقدمه، سوى ما رآه هو، عندما انحنت سيقان الأعشاب النحيفة المنتصبة تنوء تحت ثقل جسده.
فجأة مسّ أذنه صوت خشخشة غريب.
للوهلة الأولى تنصت بفزع، ثم طفق يضحك بصوت خفيض، كي لا يصدر صوتاً.
سمع شخيراً.
ما العمل الآن?
من الذي ينام بهذه الطمأنينة تحت قبة السماء الواسعة? لو يرفع عينيه لا يرى سوى السماء الزرقاء الغامقة. تطفو فيها غيوم بيضاء في جهة الشرق. يا إلهي، كيف يستطيع الرجل النوم في الغربة هذه، بين الأعادي... الجسم يطلب حقه من الراحة. أما كيف يخلد المرء إلى النوم في بيته، عندما ينجز العمل اليومي، وكيف يتمدد على القش الناعم الذي حشي به الفراش، فلا يعرف ما الحياة حتى الصباح... إلا في منتصف الليل، عندما تبدأ الخيول بالزنخرة، فيتنبه ويقوم بواجبه وهو نصف نائم: يضع أمام الخيل علفاً طازجاً... ثم كيف يعتاد الإنسان على كل ذلك? أما الآن، فتكاد أجفانه تنطبق من النعاس، لكنه لا يقوى على النوم... وكأن فيضاً من النعاس قد شعّ من ذلك الرجل النائم بعمق وهدوء، ليغمره هو أيضاً، فتتلاصق أهدابه بعسلٍ حلوٍ كثيف، وليملأ جبهته بخدر لذيذ فيكاد يتوسد برأسه كومة تراب ناعم حفرها خلد، حتى ينسى كل شيء؛ كل ما يتعلق بهذه العالم وأوجاعه والتعب والجوع المخدّر، ويستسلم لأغلى إغفاءة...
لكن الآخر خطر فجأة في باله: صاحبه يوشكا شامو الذي ينتظره خلف السلك الشائك وينتظر الوريقات الطرية التي يمكن تجهيز الحساء منها.
طار كل نعاسٍ من جفونه على التو... حياته ليست مهمة، فقد مات آخرون كثيرون، بالآلاف وبعشرات الآلاف أيضاً، ولا أحد يعلم كم الذين ماتوا منذ الخليقة حتى اليوم، وبعد الآن سيموت الجميع يوما ما.. لكن يوشكا شامو ينتظر الوريقات الطرية.
فكر شامو كش عميقاً.
حفز في داخله كل حبه للحياة وتقدم زاحفاً، كالضب.
أمامه الجندي الروسي نائم هناك على العشب، متمدد بثيابه الخضراء، وقد انزلقت القبعة عن رأسه، وهطل شعره البني الأشقر الطويل على جبينه المتعرق الحار. فمه مفتوح قليلاً، ووجهه وديع مسالم وهو نائم على كومة من الحشائش. سقط السلاح من يده، وهذا جراب الخبز إلى جانبه، كان نائماً مثل الرضيع الذي تحتضنه أمه، سعيداً ومطمئناً للحماية الأمومية. لا يعبأ بما قد يحصل له، فقد يُقتل غيلة، أو يقتل تقبيلاً، قبل أن يستيقض... هذا الروسي، علام اتكل?.. تموج الأرض المقدسة تحته، تكاد ترى نبضها الدافئ يتماهى مع تنفس البطل الروسي المنتظم الهادئ.
لمعت عينا شامو كش. صفا بصره، راقب، تفحص كم عميق هو نوم المسكوفي هذا.
ثم مد يده، وبيده حربة البندقية الحادة المدببة..
عندما لم تفصله سوى سنتمترات عن جسد الروسي، عن صدره المنكشف المشعر أحمر البشرة الملتهث، توقف... كما لو من توقف هو ذاته الحديد الصلب، القاتل القاسي، كما لو تردد، ارتعش تحت تأثير فكرة جميلة وعادلة ما. ثم تراجع، وتحول إلى اليد الثانية.
أمسك شامو كش بيده العارية بندقية الروسي الطويلة، ورفعها من العشب... ياله من كائن مطيع
هذا السلاح، هذا الجهاز، عندما لا يرتبط بروح الإنسان الحية. كان الموت الروسي في القبضة المجرية... والآن تراخت القبضة وانفتحت، وامتدت اليد المجرية: التقطت جراب الخبز الأسمر...
ما كان بحاجة إلى سواه.
جال ببصره على الرجل الضخم المحمر النائم مرة ثانية. لم يعد شاباً، برزت شعرات لحيته البنية الشقراء الطويلة المتفرقة في وجهه، كانت تقاسيمه متعبة، مثل ملامح الآباء الذين طحنتهم معارك الحياة.
- نم، يا أخ – دمدم شامو كش مع نفسه؛ ولبس البندقية والجراب في عنقه وأخذ يزحف عائداً.
سمع شخرة، فاعتراه الفزع. فزع بشدة: لو يفيق عاثر الحظ، يصبح لزاماً قتله.
ترقب بصمت، مثل دودة الحنطة التي تتظاهر بالموت عند أدنى حركة، ولا تنطلق لسبيلها إلا بعد برهة...
هكذا انطلق هو أيضاً لسبيله، عائداً فوق نفس العشب الذي وطئه... وكيف لا يمكن التعرف إلى دوس الأرنب على الثلج، أقدام زوجي الأرانب، زوج يافع إلى الأمام يتبعه زوج ناضج خلفه. أو خطو الثعلب، كيفما يخبب بغير انتظام، ماسحاً بذيله الثلج الطري.. طريق الإنسان أثقل وطأة، يكسر العشب الحي ويحفر خندقاً في المرج المعشوشب.
عندما انسل تحت السلك، وجد يوشكا شامو في مكمنهما. كان جالساً، نام وهو جالس. نام، مثل المسكوفي، ولم يستيقظ.
من ينام يعرض نفسه إلى عقوبة شديدة: الضرب بالسوط، أو الربط على عمود، وفي أيام الخطر طلقة في الرأس... لكن كيف أخلد هذا الآخر إلى النوم... لم يقدر المسكين على انتظار العشب الطري اللذيذ.
 

6 - يوليو - 2007
القصة القصيرة
 1  2  3