| إلى روح جدتي ... كن أول من يقيّم
سأكتب في ملف الوطن والزمن المتحول صفحات من التأريخ الشخصي هي تاريخ طفولتي وعائلتي والحي والمدينة والجيران والأصدقاء .... وهي تتقاطع ولا بد مع ذاكرة التاريخ العام وموضوع هذا الملف ، لكن وقبل البدء اسمحوا لي بتقديم هذا الإهداء :
إلى روح جدتي التي لا تزال حية فينا ...
هذه شذرات من الذاكرة . ذاكرة موغلة.. موغلة في القدم .. قدم عمري , عمر جدتي , ووالدة جدتي , ووالدة والدة جدتي ... . وأنا أؤمن بأننا متصلون جسدياً !! كما نحن متصلون فكرياً !! كما نحن متصلون عن طريق المتخيلة والذاكرة !! وأنا أؤمن بأننا نعيش في دوائر مغلقة . على هذه الأرض حتماً !! ومن الممكن في أماكن أخرى !!! متصلون برباط خفي لا ندري كنهه حتى الآن !!! وأنا أؤمن حقاً بأن النوع لا يفنى أبداً !! بل يتجدد دائماً حاملاً في شيفرته الوراثية كل المخزون القديم من فكر وفن وتجارب سابقة !! فمن منا لا يحن إلى الماضي البعيد ؟!! إلى زمن البدايات حيث كان الإنسان لا يزال على الفطرة الأولى . كما الطفل الذي ولد حديثاً فهو يولد على الفطرة . ومن ثم تتالى عليه الخطوب والمشاكل إن فردياً أو جماعياً ! وتتراكم السنون بما تحمله معها من حلو ومرّ . ولكن يظل الحنين موجوداً إلى ذلك الزمن الجميل المطبوع في العقل والقلب دائماً وأبداً .
وهذه الأوراق هي جزء من قلبي وعقلي ولم أكتبها كيلا أنساها .. أبداً !! بل كتبتها لكي تساعد الأخرين على التذكر ... فلا يوجد في هذه الحياة أقسى من القلوب المغلقة والعقول المغلقة .. فهي قلوب قاتلة وعقول مميتة .. وإذا كنا نستطيع أن نتذكر الجنة السابقة ونهفو إليها بكل جوارحنا ؟! فلماذا نلعب بالنار بالوقت نفسه ثم نصرخ متألمين عندما نحرق أصابعنا ؟!!
فاطمة سليم العلي
| 21 - فبراير - 2008 | أحاديث الوطن والزمن المتحول |
| مقدمة : كن أول من يقيّم
كانت جدتي تردّد دائماً على مسامعنا بحسرة شديدة أسفها لعدم تمكّنها من تدوين كلّ التجارب التي مرّت في حياتها, لأنّها بكلّ بساطة, كانت أمية لا تعرف القراءة والكتابة. ولكنها كانت ذات ذاكرة قوية؛ فقد كانت تسرد دائماً تجربتها المريرة في الحياة على شكل حكاية, وتؤرّخ على الطريقة العربية حدثاً بحدث آخر. فكانت مثلاً, تقول: وُلد علي_ وهو أخي الكبير _ يوم وفاة "الرسلاني". فإذا لم تكن ابن المنطقة, وتعرف من هو الرسلاني, فإنك ستصاب بالذهول. بالطبع هي كانت تذكراليوم والشهر والساعة لولادة كل واحد تعرفه؛ ابتداءً بإخوتها وأولاد إخوتها وأقاربها وجيرانها وأبنائها, وفيما بعد أولاد أبنائها. ولكن الطريقة الأولى هي الأسهل. فابنة عمتي فاطمة ولدت يوم استقلال لبنان, وفلانة يوم ثورة القاوقجي, وأنا ولدت يوم جمعة برجب!. والشهر العربي كما هو معروف متغير. فإذا أصرّيت عليها تقول: ولدتِ يوم 9 شباط. ومع هذا, فهي عندما تتكلم أو تسرد عفوياً, تقول الأولى دائماً.
وبما أن اليوم هو 9 شباط , فقد خطر ببالي , وأنا أجلس في البيت وحيدة, أن أبدأ بتحقيق هذه الأمنية لجدّتي. فأنا, على الأقل, أعرف القراءة والكتابة, وإن كنت لا أملك كل المعلومات التي كانت تملكها هي. ولكنني سأحاول أن أذكر كل ما كانت تخبرنا به, حفاظاً على وصيتها.
في الحقيقة, إن هذه الفكرة تراودني منذ زمن, ولكنني كنت أؤجّل الأمر يوماَ بعد يوم, ولا أدري السبب . أهي عدم الرغبة بالقيام بذلك في سن مبكرة؟!. فعادةً يكتب ذكرياته من هم كبار في السن, وبعد أن تكتمل أو تنضج تجربتهم في الحياة ! أم أن الأمر يتعلق بثقة زائدة في النفس أو بالذاكرة أو من أنني قادرة على القيام بذلك متى شئت؟! معقول. ولكن بما أن جزءًا من هذه الذكريات يخصّ جدتي ولا يخصني وحدي, أظن أنه يمكنني هكذا بالإمساك من الحبل في منتصفه.
إذاً اليوم 9 شباط 2005 , أي أن عمري أصبح 49 عاماً بالتمام, أي أنني أقترب من نصف قرن من الزمان, وهذا ليس بالقليل . فقد مررت خلالها بالكثير من التجارب المتنوعة. وكلها أعطتني خبرة في هذه الحياة جعلتني أغير نظرتي إلى الأمور : أمور الحياة: نظرتي للناس, للمجتمع , للدين , للعلم , للإنسان بشكل عام . وقد لعب المحيط الذي كنت أعيش فيه دوراً كبيراً في ذلك. فهناك أناس تركوا بصمات كبيرة على شخصيتي مثل والدي وجدتي وهناك أحداث تركت تأثيراً كبيراً عليّ وحوّلتني جذرياً مثل الحرب اللبنانية وهناك ظروف مادية واجتماعية تغيّرت جعلتني أغيّر نظرتي تجاه بعض الناس. وبالرغم من "العقلانية" التي التي أتمتع بها فإنني لا أزال أعتمد كثيراً على حدسي الأوّلي تجاه الأمور.
ولعلّي وأنا أكتب هذه التجربة أكتشف أشياء أخرى جديدة, غير الحنين إلى الماضي والذي هو غريزي بحت لدى الإنسان, أشياء تساعدني على الإستمرار أفضل في حياتي المقبلة أوبالإحرى فيما تبقى منها . | 21 - فبراير - 2008 | أحاديث الوطن والزمن المتحول |
| من طرابلس إلى طرطوس كن أول من يقيّم
أشكر الأستاذ عبد الحفيظ على أغنية المجاهد الخطابي وما أضافه عن تاريخ جدوده وبلاده وتلك الفترة من الزمن وما نلمسه عن بساطة الحياة الريفية ونقائها . وسأتابع في سرد بعض الذكريات التي كنت قد دونتها :
أول شيء أذكره في حياتي هو وجودي على متن مركب فيه الكثير من الناس الذين لا أعرف أحداً منهم الصورة المتبقية في ذهني لسيدة متوسطة العمر تلبس ثياباً بيضاء كالحجاج وتتقيأ على أرض المركب. ثم فيما بعد أنني على طوف خشبي لونه أخضر فاقع وناس تساعدنا على النزول من ذلك الطوف.وقد علمت من جدتي فيما بعد أن هذا حصل أثناء ثورة 1958 ضدّ كميل شمعون وإننا هربنا في ذلك المركب من طرابلس إلى طرطوس بحراً هرباً من المعركة. الشيء الآخر الذي أذكره في نفس العمر تقريباً هو البيت الذي ولدت فيه في منطقة التبانة القديمة. في الحقيقة إنني لا أذكر البيت بل أذكر السلّم المؤدي إليه فهو كان طويلاً ومعتماً وسقفه على شكل قبوة وفي نهايته سفرة عليها صندوق خشبي قديم. والمنظر كما أذكره وكأنني أنظر من أسفل السلم إلى أعلاه بشيء من الرهبة. كما أذكر وفي نفس السن أيضاً مشوار قام به أهلي إلى أحد الحمامات الشعبية في السوق. لا أذكر الكثير من التفاصيل سوى مشهد البلاطة الكبيرة وسط الحمام والنساء الشبه عاريات يذهبن ويجئن ثم الأجران الصغيرة التي كانوا يعبئونها بالماء ليغرفوا منها بالطاسة النحاسية الذي أذكره أنهم وضعوني في أحد تلك الأجران وإنني كدت أموت رعباً وابتدأت بالبكاء لأن الصراصير كانت تملأ المكان ولأنها كانت تدبّ بكثرة على الجدران وكنت أخرج لأهرب فيعيدوني بالقوة لإكمال عملية الاستحمام. ويبدو أن هذه الذكريات مرتبطة كلها بمشاعر من الخوف والقلق من شيء ما والذي لا أزال أحتفظ به حتى الآن تجاه الصراصير مثلاً.
لقد عشنا في منطقة باب التبانة منذ ولادتي وحتى عمر الثامنة ولازلت أذكر تلك المنطقة بأدقّ تفاصيلها( في ذلك العمر أقصد فيما بعد لأننا بقينا نتردد عليها باستمرار). وكان كل أهل والدي وأهل والدتي وأقاربنا جميعاً من الطرفين يعيشون في تلك المنطقة وكان السوق القريب منا وسوق الخضار هما أبعد مكان وصلته جنوباً والبداوي والمنكوبين أبعد مكان شمالاً. إذاً فإن تلك المنطقة كانت عالمي الوحيد حتى فترة معينة من الزمن.
| 24 - فبراير - 2008 | أحاديث الوطن والزمن المتحول |
| طرابلس وباب التبانة كما أذكرها عام 1958 كن أول من يقيّم
باب التبانة منطقة شعبية فقيرة تقع في الطرف الشمالي من طرابلس كان فيها سوق الخضار الرئيسي للبلدة وكذلك سوق القمح. ويمرّ في باب التبانة الشارع الرئيسي العام الذي يربط الطرف الشمالي للمدينة بالطرف الجنوبي عبر منطقة الزاهرية فلطيفة والتل ومن ثم منطقة باب الرمل المخرج الجنوبي للمدينة.
وعلى جانبي هذا الشارع الرئيسي كذلك في الشوارع المتفرعة عنه كانت تقوم محلات تجارية من مختلف الأنواع مما جعل هذه المنطقة القلب النابض للمدينة حتى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 والتي تم خلالها تدمير هذه المنطقة ولم تتمكن بعدها من استعادة دورها السابق حتى يومنا الحاضر.
من هذا الشارع الرئيسي كان يتفرع عدة شوارع فرعية ثلاثة بشكل متوازٍ معه وستة بشكل متعامد وصولاً حتى نهر أبو علي الذي يقطع المدينة من جنوب مدينة زغرتا وحتى يصب في البحر أي من الشرق إلى الغرب فاصلاً منطقة التبانة عن منطقة الزاهرية.
لقد ولدت في إحدى هذه الشوارع الفرعية وكل ما أذكره عن المنزل الذي ولدت فيه هو السلم الطويل الضيق والمعتم والمنتهي إلى سفرة صغيرة وذلك الصندوق الخشبي الموضوع على جنبٍ منها. لم نسكن مطولاً في ذلك المنزل فقد انتقلنا منه إلى شارع آخر قريبٍ في نفس المنطقة ولكنني لا أزال أذكر شكله الخارجي جيداً لأنني بقيت أمرّ من نفس الشارع يومياً في ذهابي وعودتي من وإلى المدرسة فيما بعد. والذي أذكره هي البناية المقابلة لبيتنا فعلى شرفتها المقابلة لنا كان هناك رأس أسد وكان يسكن في المنزل جماعة من آل ضاحي.
لا أدري إذا كانت تسمية شارع تصح على هذه الطرقات الفرعية, فقد كانت ضيقة وأشبه بالأزقة وكانت الأبنية لا ترتفع فيها لأكثر من طابق أو طابقين على الأكثر ولكن وبسبب قربها من بعضها فقد كانت هذه الأزقة معتمة ورطبة على نحو ما وخصوصاً في فصل الشتاء.
وكانت لهذه الشوارع الصغيرة منافذ أو مخارج نحو الشوارع الأخرى وكانت لولبية الشكل تتعرج وتلتوي ثم فجأة تجد نفسك تخرج إلى عالم آخر أكبر وأوسع كانت هذه اللعبة بالنسبة لي كالسحر كنت ولا أزال أحس وأنا أمشي في تلك الأزقة وكأنني أمر في متاهة والأجمل أنني كنت قادرة على الخروج منها بسهولة فبالنسبة لفتاة صغيرة مثلي كان ذلك يعتبر نصراً كبيراً.
أمام منزلنا كان هناك تقاطع لأربعة أزقة واحد عرضي يمتد من أمام المنزل ويمتد إلى أن يصل للطرف الأقصى لمنطقة التبانة من ناحية سوق الخضار والجبانة القديمة وواحد طولي يمتد من الشارع الرئيسي نزولاً حتى سوق الخضار ناحية نهر أبو علي وتسمى حالياً جسر أبو علي. وكان منزلنا القديم يقع بالضبط على هذا التقاطع بين الزقاقين وكان هناك سبيل ماء أمام قهوة كانت تسمى قهوة البظ وكانت هي الأخرى تقع مقابل منزلنا ولها بابان باب جنوبي وباب غربي وكانت هذه القهوة ملتقى لكل رجال وشباب المنطقة وإذا اتجهت منها نزولاً نحو الجبانة القديمة فإنك تجد نفس العمارات القديمة جداً ذات الطابق أو الطابقين(ثلاث طبقات كانت نادرة في تلك الأثناء) وفي الطوابق الأولى لهذه العمارات كانت المحلات التجارية الصغيرة أو الدكاكين منتشرة على الصفين وأشهرها كان محل عبد الحميد شمسين لبيع الخضار والفاكهة ومحل أبو فؤاد لصناعة الحلويات الطرابلسية الشهيرة خصوصاً الفطائر المحلاة بالجوز والقشطة ومحلات الفوال للحمص والفول وكذلك محمصة قديمة جداً للمكسرات أما الباقي فكان يعمل في صناعة الشوالات وأكياس الخيش وكان هناك في نفس الشارع مدرستين واحدة رسمية تعرف باسم البلحة لأنه كان هناك بلحة كبيرة في باحة ملعبها الصيفي وواحدة خاصة تعرف باسم مدرسة أحمد أبو حلقة الخاصة.
| 24 - فبراير - 2008 | أحاديث الوطن والزمن المتحول |
| عصر الخوجاية والتلفزيون وغزل البنات كن أول من يقيّم
ولن أنسى طبعاً "الخوجاية" والتي كانت أول مدرسة إذا صحت التسمية ذهبت إليها في حياتي وكنت في حوالي السنتين ونصف أو ثلاثة من عمري ولا أزال أذكر أنني كنت أمقتها مقتاً شديداً فقد كانت تعاملني على أنني صغيرة ولا يجوز تعليمي. كل ماعليّ فعله هو الجلوس والتكتف والاستماع إليها وهي تدرس باقي الأولاد حفظ القرآن الكريم. وكانوا يطلقون على أمثالي من الطلبة "المستمعين" لقب الذين يذهبون إلى الخوجاية "زرابة" وأكثر ماكنت أحبه في ذلك الزقاق المعتم والمليء ببقايا الخضار والفاكهة المختلطة مع الماء وبقية القاذورات التي كانت تلقى من المنازل القريبة, هو بائع غزل البنات وصاحب الدكان الذي كان يقف بجواره فقد كان الأخير يبيع بالإضافة إلى السمانة قطعتين من البسكويت بداخلهما قطعة من الحلقوم وكان يضع في بعضها طبعاً فرنك أو فرنكين ثم يضعها في مرطبان من الزجاج المعروض في واجهة المحل وكان مجرد علمنا بوجود الفرنكات في قطع البسكويت والحلقوم تغرينا بشرائها على أمل الحصول على الجائزة الذهبية في تلك اللعبة التي كنا نسميها "السحبة" وبالرغم من تنبيهنا من قبل الأهل إلى مضار ذلك لما تحمله الفرنكات المعدنية من أوساخ، كذلك لأننا كنا عندما نأخذ قطع البسكويت كنا نقوم بإدخال أيدينا في المرطبان لانتقاء واحدة منه ويمكنني الآن أن أتخيل عدد الأيدي ومدى نظافتها حتى أصاب بالغثيان ولكن ومع هذا فلم نكن نهتم بمثل هذه الأمور بل كنا نشتري أكثر من قطعة أملاً في الربح وكما أذكر فإن صاحب الدكان كان يغرينا بعرض خاص تقدمة منه بأنه إذا قمنا بشراء ثلاث قطع من البسكويت وكانت "بوش" فإنه كان يمنحنا واحدة إضافية على حسابه ومضمونة بأنها رابحة ذلك إنه كان يغرز فيها دبوساً ليتأكد من أنها تحتوي على قطعة معدنية من النقود ولكن أنت وحظك: فرنك أم فرنكين وكان الفرنكان يعتبران مبلغاً كبيراً بالنسبة لنا في تلك الأيام .
أما بالنسبة لبائع غزل البنات الذي لم يختر الوقوف بجانب دكان بائع السحبة جزافاً فلم يكن المنتَج هو المغري بالنسبة لي بل كانت عملية تصنيعه فقد كانت شيئاً كالسحر بالنسبة لي أن تضع سطراً في الفتحة التي تتوسط تلك الحلة النحاسية الكبيرة فيخرج على أطرافها الغزل الساخن باللون الأحمر أو باللون الأبيض .
كذلك كان هناك فرن صغير في نفس الزقاق اسمه فرن العكاوي وكان أصحابه يسكنون منزلاً فوق الفرن. لا أذكر شيئاً عن شكل بيتنا من الداخل في تلك الأيام ولا عن وضعنا المادي كل ما أعرفه أنني كنت أحصل على ما أريد وكنت دائماً أملك بعض المال في جيوبي( الخرجية) مما كان يمكّنني من شراء ما أريد .
لا أذكر أيضاً شيئاً عن عملية انتقالنا إلى المنزل الجديد فقد قام والدي الذي كان يعمل في مهنة البناء مع خاله بتشييد بناية من ثلاثة طوابق، وكل طابق به شقتان في بساتين باب التبانة (بساتين الليمون والبرتقال) وكانت المنطقة تبعد عن بيتنا السابق حوالي ثلاثة كيلوميترات تقريباً ولم تكن قد شقت لها طريق بعد، وعلى ما أذكر كان هناك حيّ يسمى بحي الزعبية وراءنا وهو آخر ما تم تشييده في تلك المنطقة ومن ثم أخذ بعض الملاكين الجدد كوالدي بشراء أراضي البساتين تلك فقد كانت رخيصة على ما يبدو . وابتدأوا بالبناء عليها وكانت هناك بناية عالية جداً من سبعة طوابق ملاصقة لبنايتنا تسمى بناية البيك وهي في أول الشارع ثم من بعد بنايتنا كان هناك بنايتان ملاصقتان لنا، واحدة لبائع كان يملك دكاناً في آخرالشارع ويدعى عبد الكريم معروف وكان أول من اشترى تلفزيوناً في المنطقة لذلك كان الجميع يذهبون ليتفرجوا على هذا الاختراع السحري العجيب وكانت زوجته تتحمل غلاظات أهل الحي جميعاً وكانت تروى الأخبار العجاب عما كان يحصل في منزلهم من مضايقات وكانت لا تجرؤ على طرد أحد فقد كان ذلك عيباً كبيراً. | 24 - فبراير - 2008 | أحاديث الوطن والزمن المتحول |
| أجبان وألبان كن أول من يقيّم
وكان يسكن في بناية البيك تلك امرأة في الطابق الأول ضخمة جداً وسمراء جداً ولها صدر كبير كبير لم أر مثله في حياتي خصوصاً وقتها وكانت تدعى أم عثمان وكنت أخاف منها لأنها كانت تجلس أمام الباب مباشرة على الشارع تراقب الجميع وكانت دائماً ترضع أحد أطفالها وقد كشفت عن صدرها العملاق وأذكر أنني كنت أركض مسرعة كلما مررت من أمامها وكأنها فزاعة كذلك كان هناك فتىً أعمى في حوالي العاشرة من عمره على ما أذكر كان اسمه رضوان,كان يشحذ في الشارع . كذلك كان يسكن في البناية نفسها رفيقة لي كان اسمها غزوى الأسمر وكان والدها يملك دكاناً في شارع آخر قريب من المنطقة التي نسكن فيها( في الحقيقة كان في المنطقة الوسطى بين البيتين اللذين سكنّاهما) وإذا اتجهت في نفس الخط نزولاً نحو التبانة القديمة فإنك تمر في نفس الشارع على منشرة كبيرة كانت لآل الطواشي وهم أصدقاء لأبي كذلك كان ابنهم منذر صديقاً لأخي الكبير علي وكنا نمر صباحاً ومساءً من أمام المنشرة متعمدين لأن والدي كان دائم الجلوس فيها مع أصدقائه ومن ثم تمر على بقية الدكاكين حتى تصل إلى الملحمة الرئيسية للشارع فكان هناك محل رئيسي لبيع الالبان والأجبان كنا نأخذ معنا إبريقاً من الزجاج أو سطلاً من النحاس فيقوم البائع بتعبئته لنا من الطبوش الرئيسي وهو عبارة عن نصف صندوق خشبي مملوء باللبن وموضوع قطعة من القماش الأبيض الخام على وجهه وكان يوضع أمام الدكان على حافته لكي تنسال المياه منه فيكون أطيب عند أكله أما في الشارع الذي قبل المنشرة وقبل محل عمرالأسمر فكان يقع فرن الموعي وهو فرن صغير كنا نشتري الخبز منه يومياً وكنت أسعد كثيراً عندما كانت جدتي تأخذني معها إلى هناك فقد كانت لا تقبل شراء الخبز إلا بعد أن تنزل إلى أسفل وتطلب من صاحبه أن يأمر الشغيلة بقلب الخبز لها حتى يتحمر جيداً وكنت أقف مدهوشة أمام العمال وهم يقومون بالرق وصف العجين على اللوح الخشبي ومن ثم إدماله إلى بيت النار فقد كان تحوُّل العجين إلى خبز محمّر شهي كالسحر بالنسبة لي. وفي العودة إلى منزلنا الجديد فقد سكنا في البداية في الطابق الأول من البناء وكان لنا خلف المنزل حديقة صغيرة زرعتها جدتي بأنواع كثيرة من الزهور والنباتات وكان والدي مغرماً بالصيد فكنا دائماً نقتني كلاباًً لذلك الغرض كل ما أذكره عن تلك الحديقة أنها كانت معتمة وكئيبة ولم اكن أحب الخروج إليها وفي هذا المنزل ولدت أختي ضياء وكان عمري وقتها أربع سنوات ونصف ومن ثم انتقلنا إلى الطابق الثالث في البناية بعد الانتهاء منها وقام أبي بإسكان عمي الوحيد وعائلته مكاننا في الطابق الأول ثم قام بعدها بتأجير الشقق المتبقية. في الشقة الثانية من أول طابق كان يسكن بيت الريحاوي لفترة ومن ثم آل غزل البنات هكذا كنا نسميهم وفي الطابق الثاني كان يسكن بيت بلح الأهل في شقة وابنتهم فاطمة "أم عوني" في الشقة الثانية أما نحن فكنا نسكن في الشقتين الأخيرتين واحدة كان والدي ووالدتي ونحن نعيش فيها وواحدة لجدتي وعمتي العزباء التي كانت تسكن معنا وقد تعاقب فيما بعد على الشقق أناس كثيرون كأم خضر وهي زوجة صياد من الميناء | 24 - فبراير - 2008 | أحاديث الوطن والزمن المتحول |
| الحرف البسيطة وألعاب الأولاد كن أول من يقيّم
وبما أننا كنا نملك البناية فقد كان سطحها ملكاً لنا بالطبع وقد قام والدي بتشييد غرفتين كبيرتين على السطح كان يستعمل واحدة منها لتربية الحمام الذي كان يعشقه وواحدة كنا نستعملها أحياناً للغسيل وأحياناً للطبخ وسلق البرغل وتدبيس الرمان ورب البندورة .
وكان منظر بساتين الليمون من على بلكون شققنا أو من على السطح جميلاً جداً فقد كان اللون الأخضر يلف المدى المنظور للرؤية حتى تبلغ البحر الذي كنا نراه بوضوح من بيتنا وكانت البساتين مسيجة بسياج شائك له ابواب أمام بيوت النواطير الذين كانوا يقيمون في البساتين لحمايتها وكانوا يربون بداخلها البقر والماعز والغنم وكانوا يبيعوننا الحليب الطازج يومياً يأتون إلى الباب ويكيلونه بمكيال من الألومنيوم . كذلك أذكر أن الناس كلها لم تكن عندها شرفات لتنشر عليها الغسيل فكانوا يقومون بنشر غسيلهم على السياجات التي تحيط ببساتين الليمون أمام المنازل وكان منظراً عجيباً . وأذكر أن سطح بيتنا كان ملاصقاً للطابق الرابع للبناية الملاصقة وكان شباك مطبخ إحدى الشقق يطل على السطح وكانت تسكن الشقة عائلة الضناوي وكانت الأم تتكلم دائماً مع أهلي من خلال حديد الشباك وكان لديها فتاتان جميلتان واحدة اسمها سليمة يحبها شاب في الحي اسمه السيور وكانت قصتهما كقصة قيس وليلى تثير عطف الجميع وتشغل أوقاتهم .
وفي ذلك الشارع أيضاً وبسبب الفقر الشديد كان الشغل الرئيسي للناس هو استخراج الفستق عبيد من القشور لإرساله إلى المحامص أو صناعة الأكياس الورقية من أكياس الإسمنت الفارغة التي كانوا يقومون بعملية تنظيفها في الشارع ومن ثم صنع المادة اللاصقة من العجين وأشياء أخرى ثم كانوا يقومون بلصقها وصناعة الأكياس للتعبئة وأذكر أنني كنت أحسد من كانوا يقومون بهذا العمل فقد كنت أجده مبدعاً لدرجة أنني طلبت مرة من والدي أن يدعنا نعمل بهذه المهنة وكانت هناك مهنة أخرى شائعة كثيراً تلك الأيام وهي لفّ السكاكر والشوكولا بالأوراق لحساب معامل بيعها أو تصنيعها كل هذا كان مدهشاً وساحراً .
أذكر كذلك أن الأولاد كانوا يلعبون في الشارع فلم يكن هناك سيارات إلا فيما ندر. أصلاً السكك كانت مرصوفة بالحجارة فقط ولكنها كانت تمتلئ بالوحول خلال فصل الشتاء وكانت حتى عربات الخيل"الطنبر" تغرز أحياناً بالوحل فيضطر إلى ربطها بعربة أخرى لسحبها وكان هذا من المشاهد المثيرة والمسلية في آن معاً لكل أولاد الحارة .
وكانت الألعاب كثيرة كلعبة السبع طوابق ولعبة الراكيت وعملية صناعة اليويو ونصب المراجيح على أغصان الأشجار وكانت الفتيات يلعبن بصناعة الدمى فقد كنا نقوم بجمع عيدان البوظة ثم نقوم بإلباسها قطعة من القماش التي كنا نحصل عليها من المنزل وكنا نقوم قبلها بإلصاق سدادة قنينة المياه الغازية وكنا نسميها "الكازو" على طرف القصبة مكان الرأس ومن ثم تتم عملية التزيين وكل واحدة تتباهى بدميتها. وعلى ما أذكر أننا كنا نقوم بتقليد الأعمال المنزلية كافة فقد كنا نصنع بيتاً من الحجارة التي نقوم بجمعها ومن ثم نبدأ بحياكة الصوف وكنا نستخدم القصب أو الأقلام بدل السنانير وأية خيوط كنا نتمكن من الحصول عليها. كما كنا نقوم بلف ورق العنب ونضع في داخله الرمل وكذلك كنا نقلد عملية الحنة بإحضارنا حجر أحمر كان موجوداً بكثرة في السقي القريب وكنا نقوم بوضعه بين حجرين أخريين ونطحنه ثم نضيف إليه بعض الماء أو اللعاب إذا لم يتيسر الماء ثم نضعه بعدها على أيدينا بدلاً من الحنة . كذلك كنا ننتقي فتاة من بيننا ونقوم بعمل الماكياج لها بوتسطة عود الثقاب المحروق كبديل عن قلم الكحلة وكانت البوظة الثلجية الملونة بالتوت والفريز أو العلكة أو المصاصة الحمراء اللون كبديل عن أحمر الشفاه ومن ثم نزين شعرها بالورد أو أي زهر متوفر ومن بعدها نقوم بالدق والغناء كنا ندق على أي شيء غطاء علبة تنكية أو أي شيء ممكن أن يصدر صوتاً فلم تكن الدربكة شيئاً متوفراً كلعبة إلا فيما ندر كذلك .
أما الصبيان فكانوا يلعبون بقطع خشبية كانوا يصنعونها على شكل بارودة أو مسدس ويقومون بعمليات قتالية على طريقتهم أو كانوا يصنعون الطائرات الورقية ولكن هذه اللعبة كانت تكلف وقتاً ومالاً لشراء الورق الملون والخيطان وكانت تتطلب مهارة في صنعها فإذا لم تكن خبيراً في صناعتها فإنها لا تستطيع الإقلاع والطيران. كذلك من اللعب المفضلة لدى الصبيان وقتها كانت عربات الرومبيل هكذا كنا نسميها وهي عبارة عن خشبة يثبت بأسفلها دواليب الرومبيل ومن هنا اسمها كذلك كان يثبت بها خشبة مستقيمة على سكل مقود ويقوم الولد بالدوس عليها والتزحلق بشكل سريع على أي سطح أملس أو منحدر أمامه . وكان هناك مواسم لألعاب معينة فمثلاً كان هناك موسم للعبة اللاقوط وهي عبارة عن خمسة أحجار صغيرة تتطلب مهارة خاصة في قذفها وجمعها. وكذلك لعبة الراكيت ولعبة العفريتة. وقد كنا نعتمد بألعابنا على صناعتها بنفسنا وكذلك على تطويرها وتحسينها. فلم نكن نعرف الألعاب الجاهزة بعد.ومن ألعاب المواسم أيضاً كانت المراجيح والشقليبة والدويخة التي كانت تنصب في موسم الأعياد وكانت في بعض الأحيان تترك في الفترة ما بين العيدين الكبير والصغير وكانت تنصب أمام منزلنا في فسحة كبيرة أرجوحة تتسع لحوالي عشرين ولداً على الأقل وكان صاحبها يسمح لنا بالوقوف على حافتها العليا حتى"ننخع" كما كنا نستعمل هذه الكلمة للتعبية عن عملية الدفع القوية لكي نجعلها تحلق أكثر في العالي وأذكر أنني في إحدى المرات طلبت من زميلتي غزوى الأسمر أن نستأجر الأرجوحة لوحدنا وقامت كل واحدة بالوقوف على حافة وأخذنا ندفع بقوة ولم أحسّ إلا وأنا في عيادة الطبيب وهو يقوم بفحصي كان اسمه رياض الشعراني فقد وقعت من المرجوحة مما أدى إلى أضرار في أنفي وفكي العلوي. أذكر جيداً أنني عندما فتحت عيني لأول مرة بعد الإغماء الأول رأيت إحدى قريباتنا وهي تنظر إلي وكان والدي يحملني ورأسي ملقى على كتفه فقالت إنها بخير ولكنها تتغنج ومن ثم أغمي علي من جديد ومن ثم استفقت لأرى كل الحارة تقريباً تقف فوق رأسي . | 24 - فبراير - 2008 | أحاديث الوطن والزمن المتحول |
| تحضير المونة وليالي رمضان كن أول من يقيّم
كذلك أذكر أن أخي الكبير قد حظي بأول لعبة له وكانت بسكلات بثلاثة دواليب قام بإنزالها إلى الشارع ولكنه لم يستطع الركوب عليها بسبب من كثرة المندفعين لتجربتها قبله والأنكى من ذلك إنه كان يقوم بدفعهم وقد كان هذا حدثاً في الحارة.كذلك من ألعابنا المفضلة كانت القفز من على درجات السلم في البناية فقد كنا نتبارى من يستطيع أن يقفز من على عدد أكبر من درجات السلم ولو أدى ذلك بنا إلى فكش أصابعنا أو لوي كاحلنا فلا يهم ذلك طالما أن المتعة كانت موجودة . وكانت أحلى أيام السنة هي نهاية فصل الصيف عندما تقوم جدتي بعمل المونة لفصل الشتاء القادم . وكان هذا معناه نهارات وليالٍ طويلة من اللعب والتسلية فقد كان يتم إحضارالقمح في البداية الذي ينقى حبة حبة ومن ثم يؤخذ إلى السطح الذي كان يشطف وينظف جيداً لكي يفرش القمح المسلوق عليه وما هو أكثر متعة عند الأولاد من اللعب بالماء والصابون وكانت جدتي أثناءها تحضّر الموقدة والحطب البرميل الخاص بالسلق ( الحلة ) وتقوم بوضع القمح في داخله على دفعات وحين ينضج يقومون برفعه من الماء بواسطة مقالي نحاسية كبيرة ويوضع في قفاف من الخوص حتى يصفّى من الماء ومن ثم يفرد على الأرض حتى يجفّ . طبعاً أثناء السلق نقوم بأكل القمح مضيفين إليه السكر والرمان وكانت المتعة تكتمل عندما كنا ننام على السطح لأجل حراسة القمح من تقلبات الطقس المفاجئة كذلك أثناء النهار كانوا يطلبون منا تقليبه بأرجلنا حتى يجفّ جيداً وبسرعة ومن بعد ذلك يؤخذ إلى المطحنة حيث يتحوّل إلى برغل ويعاد إلى السطح من جديد حيث يقومون بفصله إلى برغل ناعم وخشن وإلى النخالة والصريصيرة التي كانوا في صناعة بعض أنواع الكبة الصايمة كما كانوا يصنعونها كبة راهب بدبس الرمان والحامض والثوم ومن بعد سلق القمح تتم عملية صناعة دبس الرمان وكذلك ربّ البندورة وكذلك المربيات على أنواعها والكبيس والمخللات على أنواعها ورصّ الزيتون ولا أدري هل كنا نساعد أكثر أم نزعج أكثر المهم أننا كنا نستمتع كثيراً بهذه المواسم. ومن الأشياء الممتعة التي كنا نسرّ بها كثيراً هي ليلة رأس السنة الهجرية وعيد المولد النبوي فقد كنا نقوم بشراء الكثير من المفرقعات وكنا نقوم بمساعدة الكبار بخلط الرماد مع الكاز ونصنع منه كرات نضعها على حافة البلاكين ومن ثم نقوم بإشعالها ابتهاجاً ومن بعدها نبدأ بإطلاق المفرقعات والأسهم النارية وكانت الناس جميعها تشارك في هذه الاحتفالات الصغيرة. أما الأيام المميزة حقاً فكانت في شهر رمضان فقد كنا نستفيق على السحور بعد أن تكون جدتي قد حضرت لنا الشاي مع القرفة وسندويشات جبنة القشقوان المسخنة والذائبة وكذلك منقوع القمر الدين( مشمش مجفف ومسطوح) بالإضافة للأصناف الأخرى وكنا نأكل أو نتسحّر ومن ثم نذهب للنوم ثانية قبل الذهاب للمدرسة . وبعد الإفطار كنا نجلس حول المنقل إذا كانت الدنيا شتاء, والطقس بارد وكان جدي لأبي- أذكر حبوب السوس التي كان يمضغها لإخفاء رائحة الفم-يقوم بتسليتنا بعمل فأرة من محرمته أو كان يطلب من والدي أو من أخي أن يقرأ له سيرة بني هلال أو عنترة بن شداد أو سيف بن بن ذي يزن . وكنت أستمتع كثيراً بالستماع لهذه السير وإن كنت في عمر لا يسمح لي بفهم معظم ما يرد فيها ( لا ننسى المسحراتي والوداع في رمضان ) وكان جدي يأخذنا إلى المدرسة الأولى التي ذهبنا إليها قبل المدرسة الرسمية وكان عمري ثلاث سنوات وقتها وأخي خمس سنوات وكانت بمثابة مرحلة تحضيرية . كان جدي يأخذنا لتلك المدرسة , وأذكره جيداً وهو ممسك بيدي وبيد أخي ويصعد بنا تلة الشيخ عمران وهي تلة سميت على اسم ذلك الشيخ الولي وكانت المدرسة تقع في الشارع المقابل لضريح الشيخ وكانت أرقى بقليل من الخوجاية السابقة وكنت لا أرتاح للذهاب إليها ولكن لم يكن باليد حيلة . لأنه كان من عادة والدتي أن ترسلنا صيفاً إلى مدرسة وشتاءً إلى مدرسة أخرى بحجة أن نأخذ دروس تقوية صيفية وهذا ما لم نكن نحتاج إليه فقد كنا من التلامذة الشطار . وأذكر إنني ذهبت إلى ثلاث مدارس خاصة قبل أن أصل للسن القانونية التي تسمح لي بالإلتحاق في المدرسة الرسمية وهي ست سنوات وكلها تركت عندي انطباعاً سيئاً . | 24 - فبراير - 2008 | أحاديث الوطن والزمن المتحول |
| وصف منطقة التبانة (1) كن أول من يقيّم
لم أعد أذكر أسماء تلك المدارس ولكنني أتذكر مواقعها على وجه الدقة فالأولى كانت تقع مقابل الشيخ عمران يمكن اسمها العلم والنور باتجاه السيدة والثانية بجانب مدرستي الرسمية والثالثة في حارة الزعبية التي كانت وراء حارتنا تماماً . والذي أذكره عن تلك الحارة هو الشيخ الزعبي والذي كان يقوم برفع بنات الأذنين عندما تلتهبان وقد أخذني جدي مرة إليه عندما التهبتا فأجلسني على الأرض أمامه ووضع إصبعيه أسفل ذقني وحنكي وابتدأ بالضغط لأعلى وبقوة وهو يقرأ القرآن وبالفعل لا أذكر أنني عدت وأصبت بذلك المرض ثانية كذلك كان يقوم بالتشطيب على مرض أبو كعب الذي كان شائعاً جداً في تلك الأيام ( وهو التهاب الغدة النكافية ) وكان يشطب على الخد بقلم الحبر ويكتب آيات من القرآن. وكنت حتى تستطيع الوصول إلى فرن الموعي نزولاً ومحل عمر الأسمر يجب عليك أن تقطع فسحة كبيرة من الأرض كانت خالية من العمران وكانت تمتد من شارعنا الفرعي كذلك من الشارع الرئيسي وبالضبط عند مستشفى نشابة وكانت تلك الأرض مزروعة بالزيتون وكنا نستعملها مع معظم أهل المنطقة كحديقة عامة !! وكان بيت عمتي عزيزة يسكنون في الشارع الذي يقع فيه فرن الموعي . كانوا يسكنون في طابق أرضي وقد توفيت لعمتي أثناءها فتاتان توأم( سناء ووفاء ). وكنا نذهب أنا وأخي علي لنلعب مع أولاد عمتي فقد كانوا أكبر منا : وفي إحدى المرات وبينما كان أخي علي يقطع الشارع صدمته سيارة وحدثت جلبة كبيرة في الشارع نتيجة لذلك لأن السيارات كانت قليلة جداً وبالتالي كان الحادث يعتبر حدثاٍ مهماً وكان والدي كذلك معروفاً جداً في المنطقة لذلك انتشر الخبر بسرعة في كل المنطقة وأذكر أن بعض شباب الحي من أقاربنا هجموا على السائق المسكين وكادوا أن يحطموا له السيارة ولكن تدخل العقلاء حال دون ذلك لأن الجروح كانت سطحية لحسن الحظ . كما أذكر أنه كان هناك دارين للسينما في المنطقة واحدة كانت على جسر نهر أبو علي في نهاية سوق الخضار وكان اسمها سينما ديانا وواحدة أخرى في وسط المنطقة اسمها سينما الأهرام وهذه الأخيرة بناها أبي لآل حبوس وهي لا تزال تعمل حتى اليوم وأنا لا أزال أذكر الأفيش الكبير الذي كانوا يضعون عليه الإعلانات لأجل الفيلم الجديد . كان هذا الأفيش يعلق في الطرف المقابل من الطريق العام على زاوية كبيرة بقرب شركة لبيع مواد البناء وبجانب فرن الجندي الواقع على الطريق العام . وعلى سيرة الطريق العام كان هناك من فرن الجندي نزولاً عدة محلات لا أزال بعضها أو أشهرها محل البيروتي للسمانة فقد كان ذلك المحل يحتوي على كل شيء وكان أشهر ما يبيعه ولم يكن متوفراً في الدكاكين الأخرى الصغيرة الجبنة الضرفية ( أي جبنة الماعز الموضوعة في الضروف أو جلد الماعز) كذلك جبنة الكرافت الصفراء في علبتها الزرقاء الشهيرة وهذا كان اختراعاً جديداً بالنسبة لنا فكنا لا نعرف سوى الجبنة البلدية البيضاء والجبنة الحلوم . | 29 - فبراير - 2008 | أحاديث الوطن والزمن المتحول |
| وصف منطقة التبانة (2) كن أول من يقيّم
وألى جانب البيروتي كان هناك محل لبيت خالة والدي يبيعون فيه اللحمة والمعاليق ( أحشاء البقر والغنم ) . ثم بعد طلعة السيدة ومدخل سوق القمح يبدأ السوق العام أي محلات الألبسة والأحذية والخضار والمخللات والسمانة ( محل المير كان أشهرها ) وكل ما يمكن أن تشتريه من لحوم وأسماك وألبان وأجبان وكل شيء . ونزولاً من مدخل السوق كان يقع دكان صغير جداً لبيع وتصليح الساعات اسمه محل أبو سمير الساعاتي ونزولاً صيدلية الشرق ونزولاً محلات لبيع البذور المخصصة للزراعة والأسمدة الكيماوية ثم تصل إلى سوق الخضار والمدخل الثاني لسوق القمح على ضفة نهر أبو علي الأخرى . أما من فرن الجندي طلوعاً نحو المدخل الشمالي للمدينة فأشهر المحلات بهذا الاتجاه كان محل القلعجية لبيع وتصنيع الحلاوة والطحينة وقد سكنت عمتي سلمى لفترة في منزل كان يقع فوق ذلك المعمل وأذكر أنني كنت صغيرة جداً عندما أحضرتني إلى منزلهم وطلبت من والدتي أن أنام عندهم أنا فرحت في البداية لأنني سألعب مع أولادها فهم من عمري ومن ثم أذكر أنني غفوت واستيقظت لأجد نفسي في مكان غريب فابتدأت بالبكاء وخصوصاً عندما لمست رجلي برجلي عمتي وأحسست بالرغم من نعومتها ( التي لا أزال أذكر ملمسها حتى الآن ) أنني خائفة ولم تفلح معي كل محاولات الإرضاء إلا بصعوبة . ومن بعد محلات القلعجية كان هناك مستشفى صغيرة جداً تسمى مستشفى نشابة ومن بعدها كان الزيتون يملأ الأراضي التي كانت بمعظمها فارغة إلا من بعض الأبنية القديمة . وفي نهاية المنطقة كان هناك طلعة تسمى طلعة القبة وكان الإسفلت فيها ناعماً جداً وكنت أسمعهم يقولون انه من أيام الفرنسيين وبعد أن تقطع الطريق شمالاً توجد منطقة المنكوبين ( كان يسكنها اليونان المهاجرين من المسلمين ) وإذا اتجهت نزولاً بعد تصل لمنطقة البداوي حوالي خمسة كلم. عن التبانة وأذكر أننا كنا نذهب إلى هناك سيراً على الأقدام عندما كنا نريد أن نتنزه لأنه كان هناك بركة ماء واسعة فيها أسماك حمراء كبيرة وحول البركة كان هناك مقهى يقدّم الأراكيل والقهوة والشاي وأذكر أننا في أحد مشاويرنا حصل أن وقعت عروس كانت تتصور هناك في البركة وحصل هرج ومرج لا أنساه . ونزولاً نحو التبانة من جديد وعلى الطرف الثاني من الطريق كانت معظم الأراضي فارغة إلا من أشجار الزيتون وكان العمران يبدأ من حارة الزعبية ومن بعدها حارتنا ثم تصل إلى قلب المنطقة لفروج علي خليل وهذا المحل لا يزال موجوداً حتى الآن أما المعلَم الأشهر في ذلك القسم من الشارع فقد كانت صيدلية الحياة وهي لا تزال تعمل كذلك حتى الآن والذي أذكره أن زوجة صاحب الصيدلية كانت فرنسية ومسنة واسمها كيتي وأذكر كيف كانت ترطن بالأجنبية ولا أزال أذكر هيأتها جيداً وشعرها المصبوغ الأشقر وخصوصاً حركات يديها وهي تتكلم. وفي نفس البناية والبناية التي قبلها كان هناك معمل لصناعة الصابون أعتقد أنه لا يزال يعمل حتى الأن . أما في الشارع الموازي والعامودي مع الشارع العام فقد كان هناك محل الدنون الشهير للحمص والفول وهذا المحل انتقل فيما بعد لمنطقة التل بعد الأحداث وهو من اشهر محلات الحمص والفول حالياً . | 29 - فبراير - 2008 | أحاديث الوطن والزمن المتحول |