شرح الأبيات كن أول من يقيّم
(الشرح ـ باجتهاد، وعذرًا على أي خطإ أو تقصيرـ) في هذه القطعة استهلّ الشاعر بتذكّر زمن الشباب ورونقه والجمال المحيط به، فوصف أرضـًا لينة سهلة يكرمها مطر بفيض عطاياه ومَكرُماته، فتصير خضراء بسبب الكلإ الذي ينبت بعد ذلك الهطول، ذلك الكلأ الذي احتـُبـِسَ في الأرض أعوامًا، فعجَّل بالخروج لاستقبال الحياة ولإبهاج الشاعر. والتعبير:(جاد عيها مسبل هطل) قد يكون دعاءً بالرحمة والرعاية لتلك الأرض؛ نظرًا لطبيعة شبه الجزيرة العربية القاحلة، فالشخص عندما كان يريد أن يدعو بالخير لمكان أو زمان، دعا له بالسقيا، كما نلحظ تشابهًا بين البيت الأول وبيت للأعشى يقول فيه: ما روضة من رياض الحَزن معشبة خضراء جاد عليها مسبل هطل كما أن هذه الأرض يتداركها مطر مطر لينٌ يدوم اليوم واليومين إذا جفَّ ترابها النديّ، فهي عملية متوالية مستمرة لا يلبث أن تجف الأرض حتى تـُبَلـَّل من جديد من سحاب جواد بما يختزنه من ماء فيُسيله قليلا أو كثيرًا على تلك الأرض التي تسيل من أدنى مطر يصيبها، فذلك أدعى لأن تكون محط الأنظار المشغوفة بالجمال، فنتذوق رهافة حس الشاعر ورقته في تصوير العَلاقة الطيبة بين الأرض والسحاب الممطر. لكن هذه العَلاقة ممتدة إلى الأحياء أيضـًا، فالطيور ما أن تجد أرضـًا كهذه الميثاء حتى تحتشد فيها طلبًا لخيراتها، وبسبب كثرة الطيور الواصلة إليها، فإن الواحد منا يسمع لها أصواتـًا متداخلة مبهمة لا يفهم منها شيئـًا ومن الصعب تمايزها، و استخدم الشاعر التشبيه التخييلي بالأداة (كأن)؛ ليقرّب صورة تلك الطيور وأصواتها إلى ذهن القارئ والمتخيل، فيشبّه أصواتها بأصوات الذين يصرمون النخل، وهم كـُثـُر في مواسم الصرم مما يجعل ضجيجهم أكثر، فأحدهم يقول: خذ. والآخر: هات. والبعض يغني فرحًا لهذا الموسم،والبعض الآخر ينادي أن هلموا للغداء، وهكذا تختلط الأصوات ومن الصعب فهمُها. ولا يمكِن أن تكون اللوحة تامة دون التطرق إلى ذكر بعض ما تحويه الأرض، وهنا يخبرنا الشاعر بأن الأرض أنبتت نبات الخـُزامى المعروف برائحته العطرة، وكذلك الحنوة النبات السهلي طيب الرائحة، وهما يكونان بالليل على قمة الروعة، فرائحتهما تكون كرائحة العود الزكيّ ورائحة الأهضام ذلك النوع من الطيب. كل هذا ليتشوَّف القارئ لرؤية هذه الميثاء النادرة على أرض الواقع، ولينمّيَ حواسه الخمس ، فهنا حاسّتا اللمس والشم، وقد سبقهما بالحواس:النظر والسمع والتذوق، وهذه التنمية للحواس تجعل الأرض فعلا جذابة وخيالية يتطلع قارئ النص لتخيُّلها بتلك الصورة التي وصفها الشاعر وكما تزيد من متعته. لكن كبير السن لا يستمتع بالحياة مثل الشاب، فيتعجب الشاعر هاهنا من شخص قد بلغ من الكبر عتيًّا، ويتذكر أماكن اللهو التي قد مضت مع أيامها ولياليها، فأصبحت في قعو الماضي يدفنها الزمن شيئًا فشيئًا، فما الجدوى مِن التذكر إن كان الماضي لا يعود؟ ومن الملاحظ أنه يقصد نفسه لما تقدم به السن، وهو يتحسر على شبابه الذي رحل. وبسبب المطر تكون موضع اجتمع فيه الماء، لكن القوم كانوا يخشون الاستقرار عنده خشية الوحشة والغربة والسباع، والسباع هنا قد تدل أكثر على كثرة عطايا تلك الأرض التي توفر المأوى والغذاء لتلك الحيوانات المفترسة، وبسبب تلك المخافتين (الوحشة والسباع) فإن هذا الماء كثير راكد لا يورَد ولا يُشرب من القوم؛ لذلك أصبح الماء متغيرًا عكرًا قد تغير لونه وطعمه ورائحته. والشاعر يحاول أن يمسك بحبل الحياة ، فيحافظ على نفسه خشية أن تفترسه السباع؛ لذا يبيت الليل يحترس ويتوقى الاقتراب من المنهل، فلربما أتى إليه سبع ليرتوي، و يرى أن همه بفرقة الأحباب ووحشته من دونهم ، والسباعَ التي تصوّت يحول بينه وبين البقاء على قيد الحياة، ولربما قضى عليه همه قبل أن تقضي عليه السباع، ومن المعروف في الأدب أن الأديب يعبر عن سنه بالزمان؛ لذا فإن الفعل (بـِتُّ) كناية عن التقدم في السن والضعف. ومن نداوة تلك الأرض فإن الماء لا يزال يعلوها في بعض الأماكن على هيئة مدالج ـ أي ما بين سعة الحوض وسعة الرَّكِـيّة(وهي البئر قبل أن تـُبنى)ـ، والشاعر يقول: لم يك لي لـبثٌ في تلك الأرض إلا بقدر اطلاعي ونظري فيه وتفقـُّدي إياه ؛لأبحث عن مورد صاف، لكن دون جدوى. ومن هنا انصرف الشاعر إلى ناقته التامة الخلق، لحم وجنتها غليظ، سريعة تقطع الأرض والمسافات الطوال، وهنا كنايةعن همة الشاعر بالرحيل عن هذه الأرض؛ ليفارق الهم فلا بقاء في مكان يسوده الهم والخوف. ومن أولى واجباته قبل البدء بالرحيل تزويد ناقته بالماء الكافي لتقدر على تحمُّل مشقة الترحال، ولكنه لما أحضر الماء لها في غطاء من جلد بالي الأطراف كثير الرقاع ـ والذي يدل على فقره وقلة ماله لما قد أهدره لهوًا في شبابه ـ رأى أن ناقته كرهت شربَ ذاك الماء، وشمّتـه بشفتها الغليظة، ومضتْ ترفع عن الماء بصرها كرهًا وصدًّا عنه. أعرضتْ عن الماء كما يعرض النصارى الصائمين عن الشرب قبل الصبح، وإنهم إنما أعرضوا عن الشرب لأنهم إذا صاموا لم يشربوا ولم يأكلوا ؛ فهم لا يتسحرون، ونلحظ هنا لمحة دينية تعكس ثقافة الشاعر . وإعراض الناقة عن الماء صور لنا مدى تعكـّر وقذارة ذاك الماء الذي أعرضت عنه البهائم، وهو لا يريد تصوير قذارة الماء بقدر ما يريد تصوير عدم ارتياحه وانعدام الصفاء من حياته هناك، رغم كل تلك الجماليات التي سبق ذكرها، وكأنه يصور نفسيته التي تعتلجُ فيها نزوات الهم لفراق الأحبة والخوف من السباع، والحنين إلى الاستقرار، أو نفسيته التي تعرض عن كل بذيء وسيئ. ثم إنه يقصد براحلته بلدًا بعد آخر، ورحلته تكاد تكون شبه دائمة، وناقته لا تكاد تقف حتى تعاود المسير والرحيل من جديد مع صاحبها الرحّالة، حتى وصل الشاعر إلى مكان به أحواض ماء يسمّى ضرسام، فأبركها هناك حيث كانت نهاية رحلته، وكما نعلم فإن العرب كانت تستقر حيث الماء. وبذلك نرى كيف ربط بين جمال طبيعة تلك الميثاء، وبيان ما يعكر صفوها وهو تلك السباع ـ التي قد ترمز إلى أعدائه ـ ، والتي منعتـْه وقومه من ورود المياه ـ التي قد ترمز إلى محبوبته ـ إلى أن تغيـّرتْ، وربما كان المقصد هو أنها صارت عجوز، ثم وجد ملاذه قرب أحواض ضرسام. والشاعر يستخدم شعره كأداة للتعبير عن ما في نفسه بكل أحاسيسها و وجدانها... يتبع،،، |