مجلس : دوحة الشعر

 موضوع النقاش : طفل خورفكان    قيّم
التقييم :
( من قبل 3 أعضاء )
 زهير 
22 - فبراير - 2012
بكل الحزن والأسى أنعى إلى أصدقاء الوراق صديقنا الغالي الشاعر الباحث والصاحب الطيب الأستاذ أحمد راشد ثاني، الذي وافته المنية ظهر يوم الأثنين 20/2/ 2012 وهو على أبواب الخمسين من عمره، وكنت قبل أيام أقرأ روايته الأخيرة (ورقة السرير) التي كتبها يصف فيها مرض أمه ووفاتها في العام الماضي وما خلفه فراقها في نفسه من عذاب وضنى، وكنت قد ذهبت أمس الثلاثاء لتقديم واجب العزاء لعائلته في خورفكان بصحبة صديقنا الأستاذ عبد الله السريحي وكتبت هذه الأبيات قبيل الانطلاق
وأنشرها هنا في الوراق ليكون هذا الملف تذكارا لأحمد، نجمع فيه كل ما يكتب عنه في الصحف سائلين المولى عز وجل أن يتغمده برحمته ويغفر لنا وله ويدخله فسيح جنانه.
 
رجـع الـطـفل طفل iiخورْفكّان قـبـرُه  جـنـب أمـه عاشقان
يـتـمـاهـى  عليه أحمد iiنهرا وأعـاصـيـر خلف راشد iiثاني
بـنـتَ  عبود عاد غصنك غضا لـم  يـطـوّلْ فراقه iiالأقحواني
وحـكـايـاه عن وداعك iiسارت لـتـغـطـي  قبريكما بالأغاني
لـم تـكن (وَرْقة السرير) iiلتكفي كـل  ذاك الـهـيـاج iiوالخفقان
وصـخـور  الـطفولة iiاحتملتها فـوق أمـواج شـاعـر iiفـنان
ونـجـوم نـسـبـنـه للندامى وعـيـون  مـن أعين iiالفرسان
قـد  عـرفت الملتاع قلبا iiوفكرا وشـبـابـا مـوشـحا iiبالجمان
كـيـفـما  كنت في الحياة iiقريبا أو  بـعـيدا من اجتراح iiالزمان
أنـت أنـت المغضن الجرح باق فـي  حـواكـيـر شعره iiالفتان
أنـت  يـا مـن شد السماء iiإليه مـمـسـكـا شعر شمسها iiببنان
كـيـف  كانت على رمالك iiتغفو كـيـف  أسـهرتها مع iiالكروان
كـيـف شقت ثيابها كيف iiعامت كـيـف أخـرجتها من iiالمرجان
كيف خاضت حرب النوافذ والأب واب فـي سـجـنها مع iiالسجان
يـشـهـد  الورد أنه كان iiعمرا كـالـنواقيس  في دجى iiالرهبان
وأنـا الـيـوم مـثلما قلت عنها وعـلـى حـافـة الهواء iiأراني


*عرض كافة التعليقات
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
روابط عن الفقيد    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
*زهير
22 - فبراير - 2012
تعزية    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
لله ما أعطى ، ولله ما أخذ ، وكل شيء عنده بقدر ، فاصبر واحتسب ، أحسن الله عزاءك ، وغفر لميتك ، ونور مرقده ، وجعل العمل الصالح جليسه وأنيسه ، والمصطفى شفيعه ، والكوثر مشربه ، والجنة داره ، وألهم أهله الصبر الجميل ، وختم لنا جميعًا بالخاتمة الحسنى ، آمين .
*محمود العسكري
23 - فبراير - 2012
وداعاً أيها الموجة (إلى أحمد راشد ثاني)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
سامر أبو هواش
 
الطريق جميلة من خورفكان إلى دبي. في البداية يلوح لنا المحيط، ثم يختفي لتحلّ محله الجبال والوديان. عبد الحليم حافظ يغنّي: "أنا كل ما قول التوبة". بين دمعة وأخرى يحلّل لنا أحد الأصدقاء ما حاول بليغ حمدي فعله في هذه اللازمة اللحنية أو تلك. لا أريد لهذه الجبال أن تنتهي. ولا الأغنية. مؤلم أن يكون اليوم التالي جميلاً إلى هذا الحدّ، مسالماً إلى هذا الحدّ، دافئاً ومضيئاً: "وحشاني عيونو السودا... ومدوّبني الحنين".
الطريق بين الجبال تصعد وتهبط، وعرة أحياناً، وناعمة أحياناً أخرى، كلازمات الأغنية. أحتاج إليك لكي تحلّل لي هذه الجبال. أحاول أن أتذكّر قصيدة عامية لك أمضينا سهرات وسهرات وأنا أطلب منك كلّ مرة أن تعيدها عليّ، وكلّ مرة كنت تعيدها بشغف أكبر ونفس مختلف: لا أتذكّر سوى بدايتها ونهايتها، الباقي يظلّ ضائعاً في تلك الأماسي الضائعة: "أربع حمايم ع راس الجبل راحوا... تعبوا... ومن كتر التعب طاحوا".
وهل تذكر كم غنينا "سرّ حبي" لأبي بكر سالم؟ وذلك الانتباه في كلّ تفاصيل جسدك، ولا سيما في عينيك، وأنت تعيد المقاطع المفضّلة عندك فيها: "لا تعذّبني وإلا سرت وتركت المكلا... لك إذا ما فيك معروف".
 
 
***
بالأمس واريناك الثرى.
كان ليلٌ وبرد. وكان إكرامك دفنك.
وكم كنتَ تحبّ الليل وتكره البرد. "نحن أبناء الصيف والحرّ، إذا هبّت نسمة علينا نمرض"، كنت تقول لي، ثم تختم: "إنه برد الصحراء!"، وكأنّها حقيقة راسخة، ومؤسفة في حدّ ذاتها، "متى سينتهي هذا الشتاء؟".
 
***
 
الوجوه تحملق في تلك الحفرة الأعمق من كلّ الحفر.
نعرف أنها لن تقول شيئاً، ومع ذلك بقينا نحملق. بعضنا حاول أن يقترب أكثر، أن يقف على أطراف الحفرة. ليرى فحسب؟ بدونا كمن نقف حول سرير مرضك؟ كأننا نعوّض لحظات وداع لم نعشها. لحظات يكون بمقدورك أن تقول فيها شيئاً، ولو بإيماءة أو نظرة. "ألا يبدو أطول قامة؟"، يقول أحد الأصدقاء. "كانت تعلو وجهه ابتسامة الرضى"، يقول آخر. "أساطير"، يحسم ثالث. ونتوقّف قبل أن نفرط في التعليق على هذا النصّ، نصّ الموت، الأكثر امتناعاً على التعليق بين كلّ النصوص، المقفل على المناورات الكلامية والعاطفية. الأكثر نهائية وحسماً. كيف نعلّق فقط على نقطة في آخر الجملة. نقطة كبيرة إلى درجة أنها، في تلك اللحظات، تبدو أنها تمحو كلّ ما سبقها. وكل ما يمكن أن يأتي بعدها.
 
***
 
واريناك الثرى. كأننا نقول: خبّأناك عن الحياة.
 
***
 
لا أذكر أننا تكلمنا كثيراً على الموت. يروي لي صديق جالسك في مكانك المفضّل للكتابة وللقاء نوع آخر من المجالسين والأصدقاء، ذلك "الكوفي شوب" في فندق الدانا، أنك ذات مرة كدت تجلس على أحد الكراسي فبادرك قائلاً: "لا تجلس على هذا الكرسيّ، فمنذ عام كان يجلس عليه أحدهم وتوفي، ثم جلس عليه آخر بعد شهرين عليه وتوفيّ، وتبعه ثالث بعد بضعة أشهر". أتخيّل رنة ضحكتك بعد هذه "السالفة". أن ترى الموت في كرسيّ مجاور يعني ببساطة أن تقصيه إلى أبعد نقطة ممكنة التي هي أقرب نقطة ممكنة. يكفي ألا نجلس على كرسيّ معين لنراوغ الموت، لنجعله حكاية، طرفة، "سالفة" تروى لا أكثر، ثم يصرف كإبعاد فكرة مزعجة بإيماة يد.
لا أذكر كذلك أننا تكلمنا كثيراً بشأن الحياة، بالمعنى المباشر أو التأملي أو الفلسفي أو حتى بمعنى التذمّر والشكوى. لكنك كنت تكرّر كثيراً حلمك بالتقاعد، "خلاص كافي... يتقاعد المرء... يجلس ويكتب..."، كنت تقول، فالتقاعد من الوظيفة هو بداية أخرى لحياة الكتابة.
أما "الثقافة"، أيضاً بمعناها المباشر أو "الثقيل" الوطأة، فلماماً ما تكلمنا عليها. كنت تحبّ الحكايات، االطرف أو النوادر، وإذا حضرت "الثقافة" بيننا فمن هذه الزاوية فحسب. "هل تعرف ماذا حصل مع الكاتب الفلاني حين جاء إلى هنا؟ هذا يا سيدي...". وتبدأ بسرد "سالفة" لابدّ من أن يليها الوافر من الضحك، أو أن تقترب منه على الأقلّ، جنباً إلى جنب التعليق المرير الساخر أحياناً على وضاعة بعض المشتغلين بالثقافة العربية. السخرية كبلسم ضدّ كلّ شيء، ولاسيما ضدّ أن نصدّق ما نقوله نحن أنفسنا عن أنفسنا، أو الآخرين، أو الكتابة أو الحياة.
 
***
 
أما حين نتكلم على الشعر فالأمر مختلف تماماً. تصمت. تسمع باهتمام تام. تلتمع عيناك، وفي بعض الأحيان يكون قلبك ممتلئاً بما كتبت توّاً فلا تطيق صبراً وتسارع إلى قراءته بنفسك، لأنك لا تحبّ تلك اللحظات الثقيلة التي ينكبّ فيها الآخر بصمت على أوراقك، بينما أنت تنتظر فحسب. لا تطلب في الغالب مديحاً أو نقداً أو ما شابه. في مثل هذه الحالات يبدو وكأنك تبوح بسرّ شخصي، أو تروي حكاية أخرى. ربما مغامرة. وتريد أن تعرف وقع ذلك على من يقرأ أو يستمع. تلك اللحظات تكاد لا تنفصل عن لحظة كتابة القصيدة نفسها. عن فرحة كتابتها بالأحرى. بعد ذلك، في اليوم التالي أو اللقاء التالي، لا تأتي البتة على ذكر تلك القصيدة، ولا في أيّ يوم آخر. تضعها في مكان ما وتحاول أن تنساها قبل أن تقرّر في يوم ما أنه آن أوان العودة إليها وإجراء ما يلزم من تعديلات عليها، ربطاً بنصّ أكبر وأكثر اكتمالاً تعمل عليه ويشكّل شاغلك الحالي.
 
***
بالأمس، أيها الصديق، أكرمناك بدفنك.
فجأة، في طريق العودة، تصدمني الفكرة، الإحساس: إننا في اليوم الأول لموتك. ألا يشبه هذا قولنا: إنه اليوم الأول من حياة فلان أو فلانة. أليس من روزنامة للموت كما للحياة. اليوم الأول: شيء يمكن أن تلمسه، تحيط به، تحدّده، قبل أن يغدو الموت كتلة صمّاء من الأيام المتراكمة. ومع ذلك لا يختلف مثل هذا الموت عن المجزرة. قاصف، قاس، وعبثيّ كالمجزرة تماماً. حين يرحل فجأة قريب منك، حين تدفن فجأة قريباً منك، تشعر أنك شاركت بدفن جماعي، ويغدو مكان دفنك أشبه بمقبرة جماعية. كم كنتَ كثيراً يا أحمد!
 
 
***
 
كثير كنت كالأمواج، لا كالموج. أسألك يوماً وأنا أقرأ مخطوط أحد آخر أعمالك: "لماذا تجمع موجة على أمواج؟ لمَ لا تجمعها على موج؟"، تبتسم بظفر وفرح سريين: "لقد تقصّدت ذلك... أمواج تمنحني ذلك الإحساس بالوفرة والاتساع... كلمة موج ضيقة ومقفلة... أعرف أنها تبدو ثقيلة في بعض المواضع، لكنني أريدها كذلك... أمواج أجمل من موج". لم أفهم ذلك الإحساس بالوفرة والشساعة والاتساع في كلمة "أمواج" إلا هناك في خورفكان. هناك حيث المحيط لا البحر، لكنني لا أحسبك كنت تحبّ كلمة محيط، ربما لأنه أكثر شساعة ووحشية ومجهولاً مما يحتمل قلبك أو نظرك. كان دائماً البحر، كاحتضان، ودائماً أمواج البحر، كاحتضان لا ينتهي.
 
***
 
أما أنت يا صديقي فلم تكن إلا موجة مفردة، يتيمة، وحيدة، حنونة ودائمة الحنين، مادة ذراعها وقلبها إلى تلك الأمواج المتبدّدة، الغائبة، الراحلة، وإلى تلك الجبال المقضومة بذلك الإحساس الفاجع بالغياب. كان قاسياً أحياناً ذلك اليأس المتسرّب منك، لا من الحياة، بل من أوهام الحياة التي نصنعها بأنفسنا ونغذّيها بأوهام أخرى حتى نضيّع أثر الأوهام الأصلية. كان قاسياً وضوحك، صرامة نظرتك إلى الحياة وإلى الكتابة التي غدت في النهاية كلّ شيء لأنه الزمن الذي تعرفه أفضل مني والذي لن ينتظر. ثمة قصيدة على الطاولة، ثمة نصّ، ثمة حلم بنص وقصيدة، ثمة انتظار لحلم بنص وقصيدة. لا تملك الموجة ترف الانتظار أو التأجيل. قصير وعابر هو عمر الموجة،. لعلها كانت الحقيقة الأكثر نصوعاً بالنسبة إليك، وأنت تقفز من نصّ إلى نصّ ومن قصيدة إلى أخرى.
 
***
 
الأشجار ليست عارية. من بعيد يختفي جذع شجرة وأغصانها. تبدو الوريقات معلّقة وحدها في الهواء. عبد الحليم حافظ يغني. "ولا قادر طول غيبتكو يا بوي... يشرب من بحر تاني يا عين". تلك الوريقات ستظلّ معلقة هكذا في الهواء. ربما تطير. ربما تتحول طيوراً على الشرفات. ربما تسقط، لكنها لن تبلغ الأرض يوماً.
*زهير
28 - فبراير - 2012
تعزية حارة    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
تعزيتي الحارة لأستاذنا زهير في صديقه الفقيد الكريم، و "إنا لله وإنا إليه راجعون".
وأقول: هنيئا له، فقد غادر الظلم بأشكال المتعددة، واستراح في حمى الغفور الرحيم.
وأنقل:
" ليس من مات فاستراح بميْتٍ          إنما الميْتُ ميّتُ الأحياءِ"
"عَزَائي مِنَ الظُّلاَّمِ إنْ مِتُّ قَبْلَهُمْ        عُمُومُ المنايا مَا لها مَنْ تُجَامِلُهْ"
أنا شخصيا أفضل الموت على الحياة كلما أشاهد ما تنتكب به سورية ولا يأبه لشعبها أحد. 
 
حمد راشد ثاني الذي سرقه شقيقه الليل
جريدة الحياة الأحد, 26 فبراير 2012
022612b‭.jpg
 
عبده وازن
 
مات الشاعر أحمد راشد ثاني على «الحافة» مثلما عاش أعوامه كلّها على «الحافة»، غير آبه للأخطار التي طالما أحدقت به. إنها حافة الوجود التي تطلّ على الحياة من جهة وعلى الموت من جهة أخرى، الحافة التي تفصل بين البحر والجبل أو الصحراء في بلدته «خورفكان» في شمال الإمارات، الحافة التي تفصل أيضاً بين عالمه الأول الذي يفيض براءة وصفاء، وعالمه الثاني الذي صنعته القصيدة، بصفتها طريقة حياة وكتابة في آن واحد. رحل أحمد راشد ثاني قبل أن يكمل الخمسين، كانت تنقصه أشهر قليلة ليجتاز أزمة منتصف العمر التي كان بدأها أصلاً باكراً في الثلاثين ربّما، تبعاً لحياته التي لم تشبه يوماً ما نسمّيه الحياة. فهذا الشاعر الذي أدرك، على غرار الشاعر الفرنسي بودلير، أنّه دفع من رحم أمه إلى هذا العالم وليداً «مطروداً»، خامرته لعنة الشعراء المحذوفين والمهمّشين والصعاليك، الذين لم يملكوا سوى «بصيص الألم»، كما يعبّر، ولم يتركوا وراءهم سوى قصائدهم وميراث من المآسي الصغيرة والخيبات والهزائم.
كان أحمد راشد ثاني في حال من التواصل الدائم مع ماضيه الذي غادره بالجسد وليس بالروح. ظلّ مشدوداً إلى «الحوش» وإلى شجرة «الشريشة» وإلى خورفكان، البلدة التي تتوسّط البحر والجبل الصحراوي. أما الشجرة هذه، الشريشة، التي لا تنبت إلا في الصحراء، فكانت أشبه بـ «البوصلة» التي كان يعتمدها حيثما رحل أو سافر أو تشرّد. إنها شجرة الطفولة التي كثيراً ما لاذ إلى أفيائها، في أوقات الشدّة والغربة. إنها وليـدة البـحر والـجـبل، البحـر الـذي ركـب والـده البحّـار أمواجه والجبل الذي ولدت أمّه في كنفه، هي «سليلة المزارعين، سكان الجبال»، كما يقول. ولا غرابة أن يتراوح شعر أحمد راشد ثاني بين هذين القطبين المتواجهين، البحر في ما يعني من سفر وانعتاق، والجبل في ما يضـمر من براءة وقسوة... ومثل هذين، البحر والجبل، كان أحمد راشد شاعر الرحيل وشاعر الإقامة.
عندما علمت أن شاعر «دم الشمعة» أصبح باحثاً رصيناً، شغوفاً بالتراث الإماراتي، لم أصدّق. فهو شاعر مفطور على الصعلكة، ولكن الصعلكة الجميلة، مجبول بهاجس الترحّل أو الترحال... «تحت كلّ طاولة تنتظرني قدماي كي نخرج» يقول أحمد. وإذا خرج فهو يعلم أنّ العودة هي ضرب من ضروب الخروج والصعلكة وليست رجوعاً إلى الوراء. ترى أليس هو مَن قال: «إلى أين أرجع والبيت عاصفتي»؟ لكنّ الخروج لم يعنِ له يوماً إلا هروباً إلى الأمام أو كما يقول «فراراً وافر الوحشة»، إنه الخروج من سجن إلى سجن رحب، من غرفة إلى صحراء، قد تكون مدينة أو بلاداً. والشاعر يعلم علم اليقين أنّه غدا «كمن ينتظر قطاراً في هذه الصحراء»، وسواء أطلق القطار صفيره أم لا، فـ «القطارات تتصادم في رأسي»، يقول.
لم يكن أحمد راشد ثاني مقلاً في شعره، لكنه لم يكن مغزاراً، وقد كتب أعمالاً مسرحية ونصوصاً نثرية. ولعلّه بدا في ما كتب من قصائد، على اختلاف أنواعها وفنونها، كأنّه يكتب قصيدة واحدة، متقطّعة، زمناً ومراحل، هي قصيدة حياته في ما تخفي من مآسٍ وآلام وآمال وأحلام وخيبات وأسئلة. كأنّ أحمد راشد ثاني شاء أن يكتب لنفــسه سيرة من خلال الشعر أو في قلب هذا الشعر وفي صميمه. وقد بدا شعره ذا منحى ذاتي بيّن، ليس من خلال الحضور الطاغي لـ «الأنا» المسحوقة والرومنطيقية أحياناً فحسب، وإنّما عبر النَفَس الوجودي الذي يســـم قصائده، والذي يجعل من الذات مرآة للعالم الداخلي والعالم الخارجي في الحين عينه. وعندما كان يخرج عن مساق هذه الأنا – الذات فهو كان يحيل المشهد الذي يبصره سواء بعينه أم بخياله، مشهداً ذاتياً، مضفياً عليه ظلّه الشفاف والكامد. «لماذا تفضل الأمواج/ الانتحار/ على الحياة في البحر؟»، يسأل الشاعر من غير أن ينتظر جواباً لأنّه يعلم أنّ هذا الانتحار يشبه رغبته في الارتماء الدائم في بحر الحياة التي تشبه الموت.
عاش أحمد راشد ثاني حياته أيضاً كأنها قصيدة مفتوحة على الحياة نفسها، الحياة بما تعني من مغامرة دائمة ومخاطرة ومواجهة وكشف أو اكتشاف. كان يحلو له مراراً أن يتمثل حياة الشعراء الصعاليك، القدامى والمحدثين، فكان يزور المدن «الغريبة»، يتنزه على أرصفتها، يتنقل بين حاناتها، مطفئاً في ليلها وحشته المرّة، التي كانت ترافقه دوماً. حتى النهار كان «ميتاً» في نظره، كما يقول، ويضيف: «ها أنا أدفنه في الكأس»... وكم كان يحلو له أن يتصعلك في القاهرة وبيروت ودمشق، كما في بعض المدن الأوروبية، علاوة على ليل الفنادق في أبو ظبي ودبي، وفق ما يعترف. وكان الفندق، في هذا القبيل معلماً من معالم حياته الهاربة إلى الأمام أو إلى الوراء، لا فرق. لكنّه كان دوماً على يقين أو ربّما إيمان، أنّه، مهما استبدّت به الظروف، يمكنه «من هناك» أن ينادي على جبال خورفكان، فتهب لملاقاته، كما يعبّر في إحدى قصائده.
كان أحمد راشد ثاني، شاعراً فطرياً ومثقفاً في آن، قارئاً نهماً، يطارد الكتب والصحف بنهم، يطلع على الجديد أياً يكن... لكنّ فطريته العظيمة كانت تطحن كلّ ما كان يأخذ من هنا وهناك وكلّ ما يؤثّر فيه أو يتأثر به. ولعلّها هي التي ساعدته في صنع صوته الخاص وكتابة قصيدته الخاصة. هذه القصيدة المشرعة على شعريات عدّة والمغلقة على نفسها، على شعريّتها ولغتها. هكذا لم يشبه أحمد راشد ثاني إلا نفسه، لم يشبه أحداً من شعراء جيله في العالم العربي ولم يشبهه أحد من هؤلاء الشعراء الذين جايلوه وصنعوا معاً تياراً أو موجة.
وكم كان يحلو له أن يتحدث عن العلاقة التي جمعته بالشاعر محمد الماغوط الذي احتضنه في بداياته أيام كان الماغوط يقيم في الشارقة ويشرف على الملحق الثقافي فيها، وكان ينشر قصائده ويشجعه على التحرر من ربقة الشروط المسبقة. وعندما كتب عنه مرة الشاعر أنسي الحاج مرحّباً بصوته فرح كثيراً وشعر بأنّ هذا الترحاب يحمل تحية من مجلة «شعر» التي يتمثّل شعراءها في وجدانه. كان أحمد شاعراً عبثياً وساخراً، طفلاً، «شـريـراً» في أحـيـان، ولكــن في المعنى الجميل للشر، لا يداهن ولا يحابي، ينتقد بقسوة، وينفعل ثم يهدأ. وكان يغيظه كثيراً «المديح» المجاني الذي يكيله النقاد العرب للأدب الإماراتي، كيفما اتفق، طمعاً بمال أو هبات... كان أحمد راشد ثاني يهبّ منفعلاً وكان يلذع بكلامه العدائي، لكنّه سرعان ما كان يهدأ ويعتذر. كان شخصاً حقيقياً، لم يسع يوماً نحو منصب أو مجد أو ثروة. كان يكتفي براتبه حتى وإن لم يكن يكفيه، هو الفوضوي بامتياز، الذي لم يعرف كيف ينظّم حياته حتى خلال زواجه. وقبل بضعة أشهر من رحيله، احترق منزله وشاهد بعينيه مكتبته وكتـبه وأوراقـه تحتـرق وتـستـحيل رمـاداً. وقـيل إنّ حـزنـاً عمـيقاً حـلّ به، بعـدما خسر ثروته الوحيدة.
بعد هذا الحريق، جاء الليل وأخذ أحمد راشد ثاني، كما يعبّر عنوان ديوان له صدر عام 2007، لكنه حتماً لم يخف هذا الليل الذي خطفه، هو الذي قال: «الليل أخي بالرضاعة».
 
 
*ياسين الشيخ سليمان
29 - فبراير - 2012
شكرا لكم أستاذي    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
شكرا لكم أستاذنا وحبيبنا ياسين الشيخ سليمان على تعزيتكم الطيبة، والمعذرة على التأخر في الرد، فاوقاتي في العمل هذه الأيام موقوفة كلها على الإعداد للإصدار الجديد للموسوعة الشعرية والذي سيطلق في موقع على الشبكة يوم 28/3/ 2012م بمناسبة انطلاق فعاليات معرض أبوظبي للكتاب. رحم الله موتانا وموتاكم وأسكنهم فسيح جناته وتغمدهم بواسع رحمته.
*زهير
21 - مارس - 2012

 
   أضف تعليقك