-بَيْنَا أَنَا أَنظُرُ فِي دَفَاتِرَ قَدِيمَةٍ طَالَ فِي الْقِمَطْرِ ثَوَاؤُهَا ؛= إِذْ عَثَرْتُ على مقالاتٍ كتبْتُها في أُخْرَيَات المرحلة الثانوية أو لِوَاذِهَا ، منها مقالةٌ تُرْجِم لها بهذا العنوان : مِيلادُ الْجَزِيرَةِ ، فتذكَّرْتُ قصَّة هذه المقالة : أني اعتزمْتُ وَقْتَذَاكَ أن أُلَخِّصَ سِيَرَةَ الشَّيْخِ / مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الوَهَّابِ - رحمه الله ، وغفر الله له ! - ومَاجَرَيَاتِ الأَحْدَاثِ الَّتِي واكَبَت دَّعْوَتَهُ = في روايةٍ أدبيَّةٍ ، وجمعْتُ من المراجع التاريخية ما أسْعَفَني ، ورَسَمْتُ خِطَّةً ، وارتدتُّ منهجًا ، ونصَبْتُ أهدافًا ، ثم إني خرجْتُ من كُلِّ ذلك صِفْر اليدين ؛ إلا بهذه المقالة التي أردتُّها مقدِّمة بين يَدَيِ الرواية ، وتناهبَتْني بعدها الشَّواغِلُ الْمُشْتَجِرَة .
-ولأني نوَّهْتُ في طليعة موضوع (( في سبيل النهضة - 2 )) بأمر العقيدة ، ولأني لا أجِدُ في الأوقات العزيزةِ فُسْحَةً لأسْتَطْرِدَ في تفاصيلِ الموضوعِ على طِبَاقِ الْمُشْتَهَى ،= فقد آنسْتُ أن نَّشْرَ هَذِه الكَلِمَةِ الْمُطَوَّلَةِ : عَزَاءٌ وَسُلْوَانٌ .
-وَلَقَدْ وَجَدتُّ فاتحةً سَجْعِيَّةً مُتَحَرِّمَةً بِفِنَائِها ، فلم أشأْ أنْ أُفَرِّقَ بين وَدِيدٍ وَوَدِيدٍ .
-الحمدُ للهِ الَّذي اتَّخذ إبراهيم خليلاً ، وآوى محمَّدًا من محبَّته ظِلاًّ ظليلاً ، وسقى أولياءه من كؤوس مودته عَذْبًا سلسبيلاً ، وألبسهم من حرير أُنسِهِ ثوْبًا قشيبًا جميلاً ، وعقد على هاماتهم المرفوعة من جواهر لُطْفِه وقُرْبِه إكليلاً ، له - جَلَّ وَعَزَّ - تُنضَى ركائِبُ الحمدِ وتُرْهَقُ وَخْدًا وذَمِيلاً ، وتَخُبُّ نجائب الشُّكْر إلى جَنَاب قُدْسه بُكْرةً وأصيلاً .
-وأفضلُ الصلاةِ والسلامِ على من فاق الأنبياءَ رِفْعةً وتفضيلاً ، واختصَّ بالمقامِ المحمودِ تشريفًا وتبجيلاً ، حُمَّل من رِسالةِ الإسلام عِبْئًا ثقيلاً ، وأُخِيضَ مَأْقِطًا زَلِيقًا بأفذاذ الرجال زَلِيلاً ، فَنَهَدَ إلى أهاضيب الضلال فذلَّلَها تَذْلِيلاً ، وإلى رؤوس الشرك فقَتَّلَهُم تقتيلاً ، ونَكَّلَ بهم تنكِيلاً ، وأوردهم بأْسُه من سوء العاقبة مرْعًى وَبِيلاً .
-كان إلى مناهل الفضائل رائِدًا ودليلاً ، ثانِيًا عِنَانَ القُلُوبِ بوَعْظِه البديعِ الأُسْلُوبِ إلى توحيدِ عَلاَّمِ الغُيُوبِ مُسْتَمِيلاً ، مُشِيدًا من مَّكارِمَ الأخلاقِ بِمَكارمِ الأخلاق طَلَلاً دَاثِرًا وَرَسْمًا مُّحِيلاً .
-صلَّى الله عليه وعلى تابعيه جِيلاً فَجِيلاً ، من بَذَلُوا لله الْفُلُوسَ والنُّفُوسْ فغَدَوْا بعدَ المهانةِ والبُوسْ أمْنَعَ جَنابًا وأعَزَّ قَبِيلاً ، صلى الله وسلم عليهم مَّا أَوْسَعَ النَّسِيمُ الأَغْصَانَ تَجْمِيشًا وَتَقْبِيلاً ، وما امْتَلأتْ آذانُ الرِّياضِ من البلابل ترْنِيمًا وتَرْتِيلاً ، إلى يومِ لَفْظِ الأرضِ وَدَائِعَهَا ، وعَرْضِ النُّفوسِ في سُوقِ الحسابِ بضائِعَها ، ولا يُظْلَمُون فَتِيلاً .
-غَبَرَ على الناسِ زَمَنٌ ليسَ بالقليلِ في هذه الأرْضِ القَفْرِ اليَبَابِ وَهُمْ حَيْرَى في مَهَامِهِ الشِّرْكِ والضَّلالِ والْجَهْل ؛ مِثْلَما هُمْ حَيْرَى بين جبالها ووهادها وهضابها ووديانها ، لا يطمئِنُّ بِهِمْ مقامٌ إِلا وأَوْعَزَ لَهُمُ الْعَوَزُ : أن ينتجِعُوا غيرَه يكونُ أوْفَرَ أمواهًا وأخْصَبَ كَلأً .
-بيوتٌ متناثرةٌ على أديم هذه الجزيرة ، وقُرًى مُتباعدةٌ تُرْهَقُ فيما بينها الإبل ، هِيَ مُتباعدةٌ مثلَ تباعُدِ قُلُوبِ قاطنيها ، فليس ثَمَّ بين بلدٍ وبلدٍ وشيجةٌ من التآلف والتوَادِّ ، اللهُمَّ أن تكون وشيجةٌ مُصْطَنَعَةٌ اضطرتهم إليها ضرورةٌ مَّا ، لكنَّها أشبهُ بسحابةِ الصَّيْفِ لا يَطُولُ في السماء ثواؤُها ؛ بَلْ دَأْبُهَا في السماء دَأْبُهُم في الأرْضِ : أن لا يطمَئِنُّ بِهِم مَّكانٌ ، فإذا هِيَ عَمَّا قليلٍ تَقَشَّعُ ، فتسقطُ الأقنعةُ ، ويَبْدُو ما في القلوب من نار الوغر والوحر أشدَّ ما يكونُ اضطرامًا واحْتِدَامًا ، نارٌ لا مُؤَرِّثَ لها ، هي لَمْ تَنطَفِئْ أصْلاً ، كانت تَّحْجُبُها غِلالَةٌ مَِّن الدُّخَانِ فَقَطْ .
خارَ اللهُ لهذهِ الجزيرةِ أن تخرُجَ منْ أحشاءِ الظُّلْمةِ إلى عالَمِ النورِ ، فاختارَ رَجُلاً كانَ المصباحَ المنيرَ ، وكانَ اليدَ التي امتدَّتْ لتنقِذَ الغارقينَ في بحارِ الشِّرْكِ والجهلِ ، والتي أوقفَتْ رَحَى الحربِ الدائرَةِ في كُلِّ بُقْعَةٍ على هذه الجزيرة ؛ فإذا هي جزيرةُ النورِ والتوحيدِ والْمَحَبَّةِ والتلاحُمِ ، لقدِ استنارتِ العقولُ ، وطارتْ عنها خفافيشُ الجهالةِ إلى غيرِ مآبٍ ، وطهُرَتِ القلوبُ ، ومازجها الْحُبُّ ، وسُلَّتْ منها السخائم ، فالجميعُ وإن شطَّتْ ديارُهم أهْلٌ ، لا يخشى أحدٌ من أحدٍ غائلةً ، ولا يتربَّصُ مَرْءٌ بِمَرْءٍ كيدًا ، لقد نَعِمَ الجميعُ بالحرية بعد أن رسفوا في أغلالِ العبوديَّةِ زَمَنًا ، فما ثَمَّ رأسٌ لغيرِ الله تُحْنَى ، أو دَمٌ لسواه يُرَاقُ .