قال الدكتور محمد العلمي في المبحث الذي عنونه بـ (قبض مفاعيلن في حشو الطويل) من كتابه "عروض الشعر العربي – قراءة نقدية توثيقية" :
"جعل الخليل القبض في مفاعيلن في حشو الطويل صالحا ، واعتبره أصلح من كفها. وهو عند المعري مكروه. واعتبر أنه "قل ما تسلم قصيدة جاهلية بنيت على الطويل من أن يستعمل فيها قبض السباعي ، أما امرؤ القيس فكثير الاستعمال له ، وأما النابغة وزهير وأعشى قيس فيستعملون ذلك دون الملك الضليل". وسيتضح من الجدول الإحصائي صدق قول المعري، ذلك أن امرأ القيس استعمله 84 مرة، والنابغة 22 مرة، وزهيرا 40 مرة، والأعشى 32 مرة.
"واعتبره إبراهيم أنيس "صورة نادرة لا تستريح إليها الآذان، وقد رويت في بعض أبيات الشعر القديم، ولكنا لا نكاد نراها في شعر حديث، فقد رويت في معلقة امرئ القيس عشر مرات ... وجاءت هذه الصورة في معلقة زهير أربع مرات ... وفي معلقة طرفة ثمان مرات. ومع هذا فنحن نشعر بثقل هذه الصورة في حشو البيت، ولعل انحرافا في رواية المعلقات هو الذي جاءنا بتلك الحالات التي رويت في شعر الجاهليين".
"وعلى كراهة المعري للقبض في حشو الطويل فإنه يخاطب امرأ القيس في رسالة الغفران بقوله: "وبعض المعلمين ينشد قولك:
من السيل والغُثاء فلكةُ مغزلِ
فيشدد الثاء. فيقول (أي امرؤ القيس): إن هذا لجهول... وهذا البائس أراد أن يصحح الزنة فأفسد اللفظ". فهو هنا ينكر على المعلمين والرواة تشديد ثاء (الغُثاء) هروبا من قبض مفاعيلن وتصحيحا للزنة، ويعتبر عملهم إفسادا للغة". انتهى كلام العلمي.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن الأن : هل كانت غرائز الشعراء في الجاهلية وصدر الإسلام لا تحس بهذا النقص في (مفاعيلن)، أم أنها أحست به ولكن قبلته بشرط ؟
والظاهر أن الاحتمال في عدم إحساسها بالنقص في مفاعيلن غير وارد ، ذلك أن الزحاف لكي يعد سائغا فلا بد أن يكثر استعماله. وهذا زحاف القبض في (فعولن) في معلقة امرئ القيس تبلغ نسبته 43% ، بينما بلغ زحاف القبض في (مفاعيلن) في المعلقة ذاتها نسبة أقل بكثير وهي 9% . فهذا الفارق يدل على ظهور إحساس بالنقص في (مفاعيلن) المقبوضة، وهو ما لا تجده في (فعولن) عند قبضها أيضا ، فكان من الطبيعي أن يُحسّ به. ثم هنالك إحصائية أخرى أجراها العلمي وبيّن فيها عدد مرات قبض مفاعيلن في حشو الطويل عند كل واحد من الشعراء الجاهليين والإسلاميين ، وقد عدت إليها في كتابه وجمعت عدد المرات التي ورد فيها هذا الزحاف ثم قسمتها على مجموع أبيات الطويل (حسب إحصائها في الموسوعة الشعرية) فكانت نسبته نحو 11% و 4% عند الشعراء الجاهليين والإسلاميين على التوالي. والفارق بين الفئتين واضح ، وهو يشير إلى انخفاض ملموس في نسبة هذا الزحاف الذي يلاحظ أنها وصلت فيه إلى ما يقرب من الصفر في العصر العباسي وما تلاه من العصور إلى اليوم .
وأما الشرط الذي صارت به الذائقة تقبل قبض مفاعيلن في الحشو ، فهو اعتماد السبب المزاحف على الوتد قبله حين يكون ساكن هذا الوتد أحد الصوائت الطويلة، وهي الألف والواو والياء اللاتي للمد. ومن شأن هذه الحروف التي يمتد فيها الصوت بلا عائق يمنع مرور الهواء، أن تعمل على تعويض النقص الناجم عن زحاف السبب الذي يليها ، وتقلل من أثره بهذا الكم الذي لا يتيحه إلا أمثال هذه الأصوات . ولذلك تتبعنا خاصية المد هذه عند أشباه الصوائت وهي الواو والياء نصفي المد، وكذلك الصوامت الغنّاء وهي الميم والنون، ثم المنحرفة وهي اللام.
وأحصيت نسبة تكرار هذه الأصوات على ساكن الوتد في مفاعيلن المقبوضة فوجدتها في الشعر الجاهلي والإسلامي ، إلى انتهاء عهد الأمويين ، قد بلغت نحو 96% و 98% على التوالي. وأما ما تبقى ، وهو ضئيل، فكان لصوامت لا مد فيها بحيث تشعر بالثقل واضحا فيها. وفيما يلي تفصيل هذه النسب:
نوع الصوت .......... نسبته عند الجاهليين ..... نسبته عند الإسلاميين
1-أصوات المد ............ 73% ..................... 82%
2- نصفا المد ............ 9% .................... 8%
3- الصوامت الغناء
والمنحرفة ............ 14% ..................... 8%
4- الصوامت الأخرى... 4% ..................... 2%
إذن ، فبهذه الأصوات تغلب القدماء على الثقل في قبض مفاعيلن في حشو الطويل، وبهذا البحث اللغوي نحاول تفسير هذه الظاهرة ، لا بتعليقها على شماعة الفساد في الرواية ، كما رأينا عند أحد كبار علمائنا اللغويين. |