مجلس : الأدب العربي

 موضوع النقاش : منتخبات من كتاب الخصائص لابن جني    قيّم
التقييم :
( من قبل 1 أعضاء )
 محمود العسكري 
26 - ديسمبر - 2010
بسم الله الرحمن الرحيم
مُنتَخَبَاتٌ مِّن كِتَابِ ( الْخَصَائِصِ ) لابْنِ جِنِّي
-   كتاب ( الخصائص ) لابن جني - بالياء الخفيفة - غفر الله لنا وله ! ؛= كتابٌ جليل القدر ، رفيع السُّورة ، ذائع الصيت ، مهيب العلم ، بارع البلاغة .
-       طالعته ؛ فاستهترت مليًّا بعبارته الأنيقة الوشي ، الحبيرة الحلة ، المدمجة الحوك ، العتيقة الطراز .
-   فإن كثيرًا من كتب النحو والتصريف تتجافى عنها أذواق الأدباء ؛ لما فيها من كزازة العبارة ، ورداءة البيان ، وسماجة العرض ، وإن كانت أليقَ بالدرس لما فيها من الأقسام الْمُفَصَّلة والمسائل الْمُرَتَّبة .
-   وإن مما فيه مسرحٌ للفكر المتأمِّل ، والنظر المتروِّي ؛= هذه الأسرار المضمرة ، واللطائف الْمُسَتَّرة ، الْمُكْتَنَّة في أعماقِ اللُّغة العربِيَّة ، فهذه العِلَلُ والأقْيِسَة ، وهذه الشُّبَهُ والْحِجَاج ، وهذه الاعتراضات والتوجيهات ، وهذه البراهين والنقوض ، كُلُّ ذلك يُتَحاكم فيه إلى المنطق ، ويُصَار في تراجيحه إلى العقل ، بريئان من الهوى ، نزيهان عن العصبية ، يجمعان دعاوى السماع وطعون القياس على مِنَصَّة القضاء العادل .
-       هي أغوارٌ وأغوارٌ ، من سبرها فِقْهًا ودَرْسًا ؛= كانت صِقالاً لبصيرته ، ونورًا لقريحته ، ورُشْدًا لسليقته .
-       ذلك وأكثر ! ؛ لإنها اللغة التي لا تنسخها الشمس حين تغيب ، ولكنها تشرق معها جديدةً كُلَّ صباحٍ .   
-   فأحببت أن أنقل منتخباتٍ من ديباجاته القيِّمة البليغة ، ومجتنياتٍ من فصوله الدانية الثمار ، التي لم تَشْطَأْ بغصونها إلى المباحث المتينة الغامضة ، فتلك صُعُدٌ من العلم لا تتوَقَّلُ فيها الأراوى والأوعال ! .

 1 

*عرض كافة التعليقات
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
مقدمة الكتاب    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
-   (( هذا ... كتابٌ لم أزل على فارط الحال وتقادم الوقت = ملاحظًا له ، عاكف الفكر عليه ، منجذب الرأي والروية إليه ، وادًّا أن أجد مهملاً أصله به ، أو خللاً أرتقه بعمله، والوقت يزداد بنواديه ضيقًا ، ولا ينهج لي إلى الابتداء طريقًا ، هذا مع إعظامي له ، وإعصامي بالأسباب المنتاطة به ، واعتقادي فيه : أنه من أشرف ما صنف في علم العرب، وأذهبه في طريق القياس والنظر ، وأعوده عليه بالحيطة والصون ، وآخذه له من حصة التوقير والأون ، وأجمعه للأدلة = على ما أودعته هذه اللغة الشريفة من خصائص الحكمة، ونيطت به من علائق الإتقان والصنعة ، فكانت مسافر وجوهه ، ومحاسر أذرعه وسوقه ؛= تصف لي ما اشتملت عليه مشاعره ، وتحي إِلَيَّ بما خيطت عليه أقرابه وشواكله ، وتريني أن تعْرِيد كُلٍّ من الفريقين البصريين والكوفيين عنه ، وتحاميهم طريق الإلمام به ، والخوض في أدنى أوشاله وخلجه ، فضلاً عن اقتحام غماره ولججه ؛= إنما كان لامتناع جانبه وانتشار شعاعه ، وبادي تهاجر قوانينه وأوضاعه ، وذلك أنا لم نر أحدًا من علماء البلدين تعرَّض لعمل أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه ، فأما كتاب أصول أبي بكر فلم يلمم فيه بما نحن عليه إلا حرفًا أو حرفين في أوله ، وقد تُعُلِّق عليه به ، وسنقول في معناه ، على أن أبا الحسن قد كان صَنَّفَ في شَيْءٍ من المقاييس كُتَيِّبًا إذا أنت قرنته بكتابنا هذا = علمت بذاك أنا نبنا عنه فيه ، وكفيناه كلفة التعب به ، وكافأناه على لطيف ما أولاناه من علومه المسوقة إلينا ، المفضية ماء البشر والبشاشة علينا ، حتى دعا ذلك أقوامًا نزرت من معرفة حقائق هذا العلم حظوظهم ، وتأخرت عن إدراكه أقدامهم إلى الطعن عليه ، والقدح في احتجاجاته وعلله ، وسترى ذلك مشروحًا في الفصول بإذن الله تعالى ، ثم إن بعض من يعتادني ، ويلم لقراءة هذا العلم بي ، ممن آنس بصحبته لي ، وأرتضي حال أخذه عني ،= سأل فأطال المسألة ، وأكثر الحفاوة والملاينة ،= أن أمضي الرأي في إنشاء هذا الكتاب ، وأوليه طرفًا من العناية والانصباب ، فجمعت بين ما أعتقده من وجوب ذلك عليَّ ، إلى ما أوثره من إجابة هذا السائل لي ، فبدأت به ، ووضعت يدي فيه ، واستعنت الله على عمله ، واستمددته سبحانه من إرشاده وتوفيقه ، وهو عز اسمه مؤتي ذلك بقدرته وطوله ومشيئته )) .
*محمود العسكري
26 - ديسمبر - 2010
ننتظر    ( من قبل 10 أعضاء )    قيّم
 
أين المنتخب يا أستاذ محمود ؟
*د يحيى
2 - يناير - 2011
اعتذار    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
-   معذرةً أيُّها الأستاذ الكريم على تأخُّري في نشر بطاقات هذا الموضوع ، وكذلك على افتتاحي لعددٍ من المواضيع ولم أبدأ الكتابة فيها حتى الآن ، لكن بمشيئة الله تعالى سأتِمُّها في أقرب فرصةٍ .
*محمود العسكري
3 - يناير - 2011
تعجب    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
لي استفسار هو أقرب إلى التعجب ،
 
لِمَ اخترت مجلس الأدب العربي يا أستاذ محمود الدمنهوري لتنثر فيه منتخباتك من كتابٍ هو أعمق وأدخل في الدرس النحوي من وجوده هنا
 
ولعل المكان المناسب لهذه المنتخبات في مجلس اللغة العربية .
 
أو لعلي لم أتبين مغزى التحديد ، وأريد إيضاحا تتقبله نفسي وأعتذر من سؤالي التعجبي .
 
ثم لك تحيتي وسلامي .
*منصور مهران
12 - يناير - 2011
جواب معطر    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
لك الشكر يا أستاذ على متابعتك واستفسارك ، ولك تحيتي وسلامي بشوقٍ وحرارةٍ .
والمنتخبات التي أردتُّ سَوْقَها إلى هذه الأصيدة = هي فصولٌ مقتضبةٌ من أبواب كتاب (الخصائص) ؛ استسنيتُ بلاغةَ قَلَمِ ابن جِنِّي في صياغتها بأسلوبٍ أدبيٍّ رفيعٍ ، ولذلك اخترْتُ لهذه المنتخبات مجلس الأدب العربي ، وليس في اعتزامي التطرُّق أو التطرُّء إلى مناقشة أبحاثه النحوية والصرفية ؛ فذلك لا ينهض به كاهلٌ ضعيفٌ وغُصْنٌ غضٌّ .
وأنا تأخرت في نشر البطاقات المنتخلة لبعض الشواغل في هذه الآونة ، وسأبعثها متواترةً متى فرغت قريبًا بعون الله .
*محمود العسكري
14 - يناير - 2011
ما يؤمنه علم العربية من الاعتقادات الدينية -أ-    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
باب فيما يؤمنه علم العربية من الاعتقادات الدينية
اعلم أن هذا الباب من أشرف أبواب هذا الكتاب، وأن الانتفاع به ليس إلى غاية، ولا وراءه من نهاية. وذلك أن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد فيها، وحاد عن الطريقة المثلى إليها، فإنما استهواه واستخف حلمه ضعفه في هذه اللغة الكريمة الشريفة، التي خوطب الكافة بها، وعرضت عليها الجنة والنار من حواشيها وأحنائها، وأصل اعتقاد التشبيه لله تعالى بخلقه منها، وجاز عليهم بها وعنها. وذلك أنهم لما سمعوا قول الله - سبحانه، وعلا عما يقول الجاهلون علوا كبيراً - " يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله " وقوله - " عز اسمه - " فإينما تولوا فثم وجه الله " وقوله: " لما خلقت بيدي " وقوله تعالى: " مما عملت أيدينا " وقوله: " ويبقى وجه ربك " وقوله: " ولتصنع على عيني " وقوله: " والسموات مطويات بيمينه " ونحو ذلك من الآيات الجارية هذا المجرى، وقوله في الحديث: خلق الله آدم على صورته، حتى ذهب بعض هؤلاء الجهال في قوله تعالى: " يوم يكشف عن ساق " أنها ساق ربهم - ونعوذ بالله من ضعفة النظر، وفساد المعتبر - ولم يشكوا أن هذه أعضاء له، وإذا كانت أعضاء كان هو لا محالة جسماً معضىً؛ على ما يشاهدون من خلقه، عز وجهه، وعلا قدره، وانحطت سوامى الأقدار والأفكار دونه. ولو كان لهم أنس بهذه اللغة الشريفة أو تصرف فيها، أو مزاولة لها، لحمتهم السعادة بها، ما أصارتهم الشقوة إليه، بالبعد عنها. وسنقول في هذا ونحوه ما يجب مثله. ولذلك ما قال رسول الله صلى اله عليه وسلم لرجل لحن: أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل، فسمي اللحن ضلالاً؛ وقال عليه السلام: رحم الله امرأ أصلح من لسانه، وذلك لما علمه صلى الله عليه وسلم مما يعقب الجهل لذلك من ضد السداد. وزيغ الاعتقاد.
 وطريق ذلك أن هذه اللغة أكثرها جارٍ على المجاز، وقلما يخرج الشيء منها على الحقيقة. وقد قدمنا ذكر ذلك في كتابنا هذا وفي غيره. فلما كانت كذلك، وكان القوم الذين خوطبوا بها أعرف الناس بسعة مذاهبها، وانتشار أنحائها، جرى خطابهم بها مجرى ما يألفونه، ويعتادونه منها، وفهموا أغراض المخاطب لهم بها على حسب عرفهم، وعادتهم في استعمالها. وذلك أهم يقولن: هذا الأمر يصغر في جنب هذا، أي بالإضافة إليه، وقرنه به. فكذلك قوله تعالى: " يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله " أي فيما بيني وبين الله إذا أضفت تفريطي إلى أمره لي ونهيه أياي. وإذا كان أصله اتساعاً جرى بعضه مجرى بعض. وكذلك قوله - صلى اله عليه وسلم -: كل الصيد في جنب الفرا، وجوف الفرا، أي كأنه يصغر بالإضافة إليه وإذا قيس به.
وكذلك قوله - سبحانه -: " فأينما تولوا فثم وجه الله "، إنما هو الاتجاه إلى الله؛ ألا ترى إلى بيت الكتاب:
أستغفر الله ذنبا لست محصيه
 
رب العباد إليه الوجه والعمل
أي الاتجاه. فإن شئت قلت: إن الوجه هنا مصدر محذوف الزيادة، كأنه وضع الفعل موضع الافتعال، كوحده، وقيد الأوابد - في أحد القولين - ونحوهما. وإن شئت قلت: خرج مخرج الاستعارة. وذلك أن وجه الشيء أبدا هو أكرمه وأوضحه، فهو المراد منه، والمقصود إليه. فجرى استعمال هذا في القديم - سبحانه - مجرى العرف فيه والعادة في أمثاله. أي لو كان - تعالى - مما يكون له وجه لكان كل موضع توجه إليه فيه وجها له؛ إلا أنك إذا جعلت الوجه في القول الأول مصدرا كان في المعنى مضافا إلى المفعول دون الفاعل؛ لأن المتوجه إليه مفعول في المعنى فيكون إذاً من باب قوله - عز وجل - " لا يسئم الإنسان من دعاء الخير " و " لقد ظلمك بسؤال نعجتك " ونحو ذلك مما أضيف فيه المصدر إلى المفعول به.
وقوله تعالى " مما عملته أيدينا " إن شئت قلت: لما كان العرف أن يكون أكثر الأعمال باليد جرى هذا مجراه. وإن شئت قلت: الأيدي هنا جمع اليد التي هي القوة، فكأنه قال: مما عملته قوانا، أي القوى التي أعطيناها الأشياء، لا أن له - سبحانه - جسما تحله القوة أو الضعف. ونحوه قولهم في القسم: لعمر الله، إنما هو: وحياة الله، أي والحياة التي آتانيها الله، لا أن القديم سبحانه محل للحياة كسائر الحيوانات. ونسب العمل إلى القدرة وإن كان في الحقيقة للقادر؛ لأن بالقدرة ما يتم له العمل؛ كما يقال: قطعه السيف، وخرقه الرمح. فيضاف الفعل إليهما؛ لأنه إنما كان بهما.
وقوله تعالى: " ولتصنع على عيني " أي تكون مكنوفا برأفتي بك، وكلاءتي لك؛ كما أن من يشاهده الناظر له، والكافل به، أدنى إلى صلاح أموره، وانتظام أحواله، ممن يبعد عمن يدبره، ويلي أمره؛ قال المولد:
شهدوا وغبنا عنهم فتحكموا
 
فينا وليس كغائب من يشهد
وهو باب واسع.
وقوله: " والسماوات مطوياتٌ بيمينه " إن شئت جعلت اليمين هنا الجارحة، فيكون على ما ذهبنا إليه من المجاز والتشبيه، أي حصلت السموات تحت قدرته، حصول ما تحيط اليد به في يمين القابض عليه، وذكرت اليمين هنا دون الشمال لأنها أقوى اليدين، وهو من مواضع ذكر الاشتمال والقوة. وإن شئت جعلت اليمين هنا القوة؛ كقوله:
إذا ما رايةٌ رفعت لمجد
 
تلقاها عرابة باليمـين
أي بقوته وقدرته. ويجوز أن يكون أراد بيد عرابة: اليمنى على ما مضى. وحدثنا أبو علي سنة إحدى وأربعين، قال: في قول الله - جل اسمه - " فراغ عليهم ضرباً باليمين " ثلاثة أقوال: أحدها: باليمين التي هي خلاف الشمال. والاخر باليمين التي هي القوة. والثالث باليمين التي هي قوله: " وتالله لأكيدن أصنامكم " فإن جعلت يمينه من قوله: " مطويات بيمينه " هي الجارجة مجازا وتشبيها كانت الباء هنا ظرفا أي مطويات في يمينه وتحت يمينه. وإن جعلتها القوة لم تكن الباء ظرفا؛ لكنها تكون حرفا، معناه الإلصاق والاستعانة به، على التشبيه بما يستعان به؛ كقولهم: ضرب بالسيف، وقطع بالسكين، وحفر بالفأس. هذا هو المعنى الظاهر، وإن كان غيره جائزا، على التشبيه والسعة.
وقوله في الحديث: خلق الله آدم على صورته، يحتمل الهاء فيه أن تكون راجعة على اسم الله تعالى، وأن تكون راجعة على آدم. فإذا كانت عائدة على اسم الله تعالى كان معناه: على الصورة التي أنشأها الله، وقدرها. فيكون المصور حينئذ مضافا إلى الفاعل، لأنه - سبحانه - هو المصدر لها، لا أن له - عز اسمه - صورة ومثالا؛ كما أن قولهم: لعمر الله، إنما معناه: والحياة التي كانت بالله، والتي آتانيها الله، لا أن له - تعالى - حياة تحله، ولا أنه - عز وجهه - محل للآعراض. وإن جعلتها عائدة على آدم كان معناه: على صورة آدم أي على صورة أمثاله ممن هو مخلوق ومدبر، فيكون هذا حينئذ كقولك في السيد والرئيس: قد خدمته خدمته، أي الخدمة التي تحق لأمثاله، وفي العبد والمبتذل: قد استخدمته استخدامه، أي استخدام أمثاله ممن هو مأمور بالخفوف والتصرف، فيكون إذاً كقوله - عز وجل - " في أي صورة ما شاء ركبك " وكذلك نظائر هذا: هذه سبيله.
*محمود العسكري
15 - يناير - 2011
ما يؤمنه علم العربية من الاعتقادات الدينية ب-    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
فأما قول من طغى به جهله، وغلبت عليه شقوته، حتى قال في قول الله تعالى " يوم يكشف عن ساقٍ ": إنه أراد به عضو القديم، وإنها جوهر كهذه الجواهر الشاغلة للأماكن، وإنها ذات شعر، وكذا وكذا مما تتايعوا في شناعته وركسوا في غوايته فأمر نحمد الله على أن نزهنا عن الإلمام بحراه. وإنما الساق هنا يراد بها شدة الأمر؛ كقولهم: قد قامت الحرب على ساق. ولسنا ندفع من ذلك أن الساق إذا أريدت بها الشدة فإنما هي مشبهة بالساق هذه التي تعلق القدم، وأنه إنما قيل ذلك؛ لأن الساق هي الحاملة للجملة، المنهضة لها. فذكرت هنا لذلك تشبيها وتشنيعا. فأما أن تكون للقديم - تعالى - جارحة: ساق أو غيرها فنعوذ بالله من اعتقاده أو الاجتياز بطواره. وعليه بيت الحماسة:
كشفت لهم عن ساقهـا
 
وبدا من الشر الصراح
وأما قول ابن قيس في صفة الحرب والشدة فيها:
تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي
 
عن خدام العقيلة العذراء
فإنه وجه آخر، وطريق من طرق الشدة غير ما تقدم. وإنما الغرض فيه أن الروع قد بز العقيلة - وهي المرأة الكريمة - حياءها، حتى ابدت عن ساقها؛ للحيرة والهرب؛ كقول الآخر:
لما رايت نـسـاءنـا
 
يفحصن بالمعزاء شدا
وبدت محاسنها التـي
 
تخفى وكان الأمر جدا
وقوله:
إذا أبرز الروع الكعاب فإنهم
 
مصادٌ لمن يأوى إليهم ومعقل
وهو باب. وضده ما أنشده أبو الحسن:
أرفعن أذيال الحقي واربعن
 
مشى حيياتٍ كأن لم يفزعن
إن تمنع اليوم نساء تمنعن
 
 
وأذكر يوما وقد خطر لي خاطر مما نحن بسبيله، فقلت: لو أقام إنسان على خدمة هذا العلم ستين سنة حتى لايحظى منه إلا بهذا الموضع لما كان مغبونا فيه، ولا منتقص الحظ منه، ولا السعادة به.
وذلك قول الله - عز اسمه " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً " ولن يخلو أغفلنا هنا من أن يكون من باب أفعلت الشيء أي صادفته ووافقته كذلك؛ كقوله:
وأهيج الخلصاء من ذات البرق
أي صادفها هائجة النبات وقوله:
فمضى وأخلف من قتيلة موعدا
أي صادفه محلفا، وقوله:
أصم دعاء عاذلتي تحجى
 
بأخرنا وتنسى أولـينـا
أي صادف قوما صما، وقول الآخر:
فأصممت عمرا وأعـمـيتـه
 
عن الجواد والمجد يوم الفخار
أي صادفته أعمى. وحكى الكسائي: دخلت بلدة فأعمرتها، أي وجدتها عامرة، ودخلت بلدة فأخربتها، أي وجدتها خرابا، ونحو ذلك، أو يكون ما قاله الخصم: أن معنى أغفلنا قلبه: منعنا وصددنا، نعوذ بالله من ذلك. فلو كان الأمر على ما ذهبوا إليه منه لوجب أن يكون العطف عليه بالفاء دون الواو، وأن يقال: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه. وذلك أنه كان يكون على هذا الأول علة للثاني، والثاني مسببا عن الأول، ومطاوعا له؛ كقولك: أعطيته فأخذ، وسألته فبذل، لما كان الأخذ مسببا عن العطية، والبذل مسببا عن السؤال. وهذا من مواضع الفاء لا الواو؛ ألا ترى أنك إنما تقول: جذبته فانجذب، ولا تقول: وانجذب، إذا جعلت الثاني مسبباً عن الأول. وتقول: كسرته فانكسر، واستخبرته فأخبر، كله بالفاء. فمجئ قوله تعالى واتبع هواه بالواو ودليل على أن الثاني ليس مسببا عن الأول؛ على ما يعتقده المخالف. وإذا لم يكن عليه كان معنى أغفلنا قلبه عن ذكرنا أي صادفناه غافلا؛ على ما مضى، وإذا صودف غافلا فقد غفل لا محالة. فكأنه - والله أعلم -: ولا تطع من غفل قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا، أي لا تطع من فعل كذا، وفعل كذا.
وإذا صح هذا الموضع ثبت به لنا أصل شريف يعرفه من يعرفه. ولولا ما تعطيه العربية صاحبها من قوة النفس، ودربة الفكر، لكان هذا الموضع ونحوه مجوزا عليه غير مأبوه له.
وأنا أعجب من الشيخين أبوى علي رحمهما الله وقد دوخا هذا الأمر، وجولاه، وامتخضاه وسقياه، ولم يمرر واحد منهما ولا من غيرهما - فيما علمته به - على قربه وسهولة مأخذه.
ولله قطرب ! فإنه قد أحرز عندي أجرا عظيما فيما صنفه من كتابه الصغير في الرد على الملحدين، وعليه عقد أبو علي - رحمه الله - كتابة في تفسير القرآن. وإذا قرأته سقطت عنك الشبهة في هذا الأمر، بإذن الله وعونه.
*محمود العسكري
15 - يناير - 2011
الحقيقة والمجاز وشجاعة العربية - أ -    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
باب في فرق بين الحقيقة والمجاز
الحقيقة: ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة. والمجاز: ما كان بضد ذلك.
وإنما يقع
المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة، وهي: الاتساع، والتوكيد، والتشبيه. فإن عدم هذه الأوصاف كانت الحقيقة البتة.
فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الفرس: هو بحر. فالمعاني الثلاثة موجودة فيه. أما الاتساع فلأنه زاد في أسماء الفرس التي هي فرس وطرف وجواد ونحوها البحر، حتى إنه إن احتيج إليه في شعر أو سجع أو اتساع استعمل استعمال بقية تلك الأسماء؛ لكن لا يفضى إلى ذلك إلا بقرينة تسقط الشبهة. وذلك كأن يقول الشاعر:
علوت مطا جوادك يوم يوم
 
وقد ثمد الجياد فكان بحرا
وكأن يقول الساجع: فرسك هذا إذا سما بغرته كان فجراً، وإذا جرى إلى غايته كان بحراً، ونحو ذلك. ولو عَرِى الكلام من دليل يوضح الحال لم يقع عليه بحر؛ لما فيه من التعجرف في المقال من غير إيضاح ولا بيان. ألا ترى أن لو قال رأيت بحراً وهو يريد الفرس لم يعلم بذلك غرضه، فلم يجز قوله؛ لأنه إلباس، وإلغاز على الناس.
وأما التشبيه فلأن جريه يجر ي في الكثرة مجرى مائه.
أما التوكيد فأنه شبه العرض بالجوهر، وهو أثبت في النفوس منه، والشبه في العرض منتفية عنه؛ ألا ترى أن من الناس من دفع الأعراض، وليس أحد دفع الجواهر.
وكذلك قول الله سبحانه: "وأدخلناه في رحمتنا" هذا هو مجاز. وفيه الأوصاف الثلاثة.
أما السعة فلأنه كأنه زاد في أسماء الجهات والمحال اسماً هو الرحمة.
وأما التشبيه فلأنه شبه الرحمة وإن لم يصح دخولها بما يجوز دخوله. فلذلك وضعها موضعه.
وأما التوكيد فلأنه أخبر عن العرض بما يخبر به عن الجوهر. وهذا تعال بالغرض، وتفخيم منه؛ إذ صير إلى حيز ما يشاهد ويلمس ويعاين؛ ألا ترى إلى قول بعضهم في الترغيب في الجميل: ولو رأيتم المعروف رجلاً لرأيتموه حسنا جميلاً وإنما يرغب فيه بأن ينبه عليه، ويعظم من قدره، بأن يصوره في النفوس على أشرف أحواله، وأنوه صفاته. وذلك بأن يتخيل شخصاً متجسماً لا عرضاً متوهماً. وعليه قوله:
تغلغل حب عثمة في فؤادي
 
فباديه مع الخافـي يسـير
أي فباديه إلى الخافي يسير أي فباديه مضموماً إلى خافيه يسير. وذلك أنه لما وصف الحب بالتغلغل فقد اتسع به؛ ألا ترى أنه يجوز على هذا أن تقول:
شكوت إليها حبها المتغلغلا
 
فما زادها شكواي إلا تدللا
فيصف بالمتغلغل ما ليس في أصل اللغة أن يوصف بالتغلغل، إنما وصف يخص الجواهر لا الأحداث؛ ألا ترى أن المتغلغل في الشيء لا بد أن يتجاوز مكاناً إلى آخر. وذلك تغريغ مكان وشغل مكان. وهذه أوصاف تخص في الحقيقة الأعيان لا الأحداث. فهذا وج الاتساع.
وأما التشبيه فلأنه شبه ما لا ينتقل ولا يزول بما يزول وينتقل. وأما المبالغة والتوكيد فلأنه أخرجه عن ضعف إلى قوة الجوهرية.
وعليه قول الآخر:
قرعت ظنابيب الهوى يوم عـالـج
 
ويوم النقا حتى قسرت الهوى قسرا
وقول الآخر:
ذهوب بأعناق المـئين عـطـاؤه
 
عزوم على الأمر الذي هو فاعله
وقول الآخر:
عمر الرداء إذا تبسم ضاحكا
 
غلقت لضحكته رقاب المال
وقوله:
ووجه كأن الشمس حلت رداءها
 
عليه نقي اللون لـم يتـخـدد
جعل للشمس رداء وهو جوهر، لأنه أبلغ في النور الذي هو العرض. وهذه الاستعارات كلها داخلة تحت المجاز.
فأما قولهم: ملكتُ عبداً، ودخلت داراً، وبنيت حماماً فحقيقي هو ونحوه، لا استعارة فيه ولا مجاز في هذه المفعولات؛ لكن في الأفعال الواصلة إليها مجاز. وسنذكره. ولكن لو قال: بنيت لك في قلبي بيتاً أو ملكت من الجود عبداً خالصاً أو أحللتك من رأيي وثقتي دار صدرق لكان ذلك مجازاً واستعارة؛ لما فيه من الاتساع والتوكيد والتشبيه؛ على ما مضى.
ومن المجاز كثير من باب الشجاعة في اللغة: من الحذوف، والزيادات، والتقديم، والتأخير: والحمل على المعنى، والتحريف.
ألا ترى أنك إذا قلت: بنو فلان يطؤهم الطريق ففيه من السعة إخبارك عما لا يصح وطؤه بما صح وطؤه. فتقول على هذا: أخذنا على الطريق الواطئ لبني فلان، ومررنا بقوم موطوئين بالطريق، و يا طريق طأ بنا بني فلان أي أدنا إليهم. وتقول: بني فلان بيته على سنن المارة؛ رغبة في طئة الطريق بأضيافه له. أفلا ترى إلى وجه الاتساع عن هذا المجاز.
ووجه التشبيه إخبارك عن الطريق بما تخبر به عن سالكيه. فشبهته بهم؛ إذ كان هو المؤدي لهم، فكأنه هم.
وأما التوكيد فلأنك إذا أخبرت عنه بوطئه إياهم كان أبلغ من وطء سالكيه لهم. وذلك أن الطريق مقيم ملازم ، فأفعاله مقيمة معه، وثابتة بثباته. وليس كذلك أهل الطريق، لأنهم قد يحضرون فيه ويغيبون عنه، فأفعالهم أيضاً كذلك حاضرة وقتاً، وغائبة آخر. فأين هذا مما أفعاله ثابتة مستمرة. ولما كان هذا كلاماً الغرض فيه المدح والثناء اختاروا له أقوى اللفظين؛ لأنه يفيد أقوى المعنيين.
وكذلك قوله سبحانه "واسئل القرية التي كنا فيها" فيه المعاني الثلاثة. أما الاتساع فلأنه استعمل لفظ السؤال مع ما لا يصح في الحقيقة سؤاله. وهذا نحو ما مضى؛ ألا تراك تقول: وكم من قرية مسؤولة. وتقول: القرى وتسآلك؛ كقولك: أنت وشأنك. فهذا ونحوه اتساع.
وأما التشبيه فلأنها شبهت بما يصح سؤاله لما كان بها ومؤلفاً لها. وأما التوكيد فلأنه في ظاهر اللفظ إحالة بالسؤال على من ليس من عادته الإجابة. فكأنهم تضمنوا لأبيهم عله السلام أنه إن سأل الجمادات والجبال أنبأته بصحة قولهم. وهذا تناه في تاصحيح الخبر. أي لو سألتها لأنطقها الله بصدقنا، فكيف لو سألت مَن مِن عادته الجواب.
وكيف تصرفت الحال فالاتساع فاش في جميع أجناس شجاعة العربية.
*محمود العسكري
15 - يناير - 2011
الحقيقة والمجاز وشجاعة العربية - ب -    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
باب في أن المجاز إذا كثر لحق بالحقيقة
اعلم أن أكثر اللغة مع تأمله مجاز لا حقيقة. وذلك عامة الأفعال؛ نحو قام زيد، وقعد عمرو، وانطلق بشر، وجاء الصيف وانهزم الشتاء. ألا ترى أن الفعل يفاد منه معنى الجنسية، فقولك : قام زيد، معناه: كان منه القيام أي هذا الجنس من الفعل، ومعلوم أنه لم يكن منه جميع القيام؛ وكيف يكون ذلك وهو جنس والجنس يطبق جميع الماضي وجميع الحاضر وجميع الآتي الكائنات من كل من وجد منه القيام. ومعلوم أنه لا يجتمع لإنسان واحد في وقت واحد ولا في مائة ألف سنة مضاعفة القيام كله الداخل تحت الوهم؛ هذا محال عند كل ذي لب. فإذا كان كذلك علمت أن قام زيد مجاز لا حقيقة، وإنما هو على وضع الكل موضع البعض للاتساع والمبالغة وتشبيه القليل بالكثير. ويدل على انتظام ذلك لجميع جنسه أنك تعلمه في جميع أجزاء ذلك الفعل؛ فتقول:ِ قمت قومة، وقومتين، ومائة قومة، وقياماً حسناً، وقياماً قبيحاً. فأعمالك إياه في جميع أجزائه يدل على أنه موضوع عندهم على صلاحه لتناول جميعها. وإنما يعمل الفعل من المصدر فيما فيه عليه دليل؛ ألا تراك لا تقول: قمت جلوساً، ولا ذهبت مجيئاً، ولا نحو ذلك لما لم تكن فيه دلالة عليه؛ ألا ترى إلى قوله:
لعمري لقد أحببتك الحب كلـه
 
وزدتك حباً لم يكن قبل يعرف
فانتظامه لجميعه يدل على وضعه على اغتراقه واستيعابه وكذلك قول الآخر:
فقد يجمع الله الشتيتين بعدما
 
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
فقوله كل الظن يدل على صحة ما ذهبنا إليه. قال لي أبو علي: قولنا: قام زيد بمنزلة قولنا خرجت فإذا الأسد، ومعناه أن قولهم: خرجت فإذا الأسد تعريفه هنا تعريف الجنس؛ كقولك: الأسد تعريفه هنا تعريف الجنس؛ كقولك: الأسد أشد من الذئب وأنت لا تريد أنك خرجت وجميع الأسد التي يتناولها الوهم على الباب. هذا محال، واعتقاده اختلال. وإنما أردت: خرجت فإذا واحد من هذا الجنس بالباب. فوضعت لفظ الجماعة على الواحد مجازاً؛ لما فيه من الاتساع والتوكيد والتشبيه. أما الاتساع فإنك وضعت اللفظ المعتاد للجماعة على الواحد. وأما التوكيد فلأنك عظمت قدر ذلك الواحد، بأن جئت بلفظه على اللفظ المعتاد للجماعة. وأما التشبيه فلأنك شبهت الواحد بالجماعة؛ لأن كل واحد منها مثله في كونه أسدا.
وإذا كان كذلك فمثله قعد جعفر، وانطلق محمد، وجاء الليل وانصرم النهار. وكذلك أفعال القديم سبحانه؛ نحو خلق الله السماء والأرض وما كان مثله؛ ألا ترى أنه عز اسمه لم يكن منه بذلك خلق أفعالنا، ولو كان حقيقة لا مجازا لكان خالقاً للكفر والعدوان وغيرهما من أفعالنا عز وعلا. وكذلك علم الله قيام زيد مجاز أيضاً؛ لأنه لست الحال التي علم عليها قيام زيد هي الحال التي علم عليها قعود عمرو. ولسنا نثبت له سبحانه علما؛ لأنه عالم بنفسه، إلا أنا مع ذلك نعلم أنه ليست حال علمه بقيام زيد هي حال علمه بجلوس عمرو ونحو ذلك. وكذلك قولك: ضربت عمرا مجاز أيضاً من غير جهة التجوز في الفعل وذلك أنك إنما فعلت بعض الضرب لا جميعه ولكن من جهة أخرى؛ وهو أنك إنما ضربت بعضه لا جميعه؛ ألا تراك تقول: ضربت زيداً ولعلك إنما ضربت يده أو إصبعه أو ناحية من نواحي جسده؛ ولهذا إذا احتاط الإنسان واستظهر جاء ببدل البعض، فقال: ضربت زيداً وجهه أو رأسه. نعم، ثم إنه مع ذلك متجوز؛ ألا تراه قد يقول: ضربت زيداً رأسه، فيبدل للاحتياط وهو إنما ضرب ناحية من رأسه لا رأسه كله. ولهذا مات يحتاط بعضهم في نحو هذا، فيقول: ضربت زيداً جانب وجهه الأيمن أو ضربته أعلى رأسه الأسمق؛ لأن أعلى رأسه قد تختلف أحواله، فيكون بعضه أرفع من بعض.
وبعد فإذا عرف التوكيد لم وقع في الكلام نحو نفسه وعينه وأجمع، وكله وكلهم وكليهما وما أشبه ذلك عرفت منه حال سعة المجاز في هذا الكلام؛ ألا تراك قد تقول: قطع الأمير اللص ويكون القطع له بأمره لا بيده، فإذا قلت: قطع الأمير نفسه اللص رفعت المجاز من جهة الفعل وصرت إلى الحقيقة؛ لكن يبقى عليك التجوز من مكان آخر وهو قولك: اللص وإنما لعله قطع يده أو رجله؛ فإذا احتطت قلت: قطع الأمير نفسه يد اللص أو رجله. وكذلك جاء الجيش أجمع، ولولا أنه قد كان يمكن أن يكون إنما جاء بعضه وإن أطلقت المجيء على جميعه لما كان لقولك: أجمع معنى.
فوقوع التوكيد في هذه اللغة أقوى دليل على شياع المجاز فيها واشتماله عليها؛ حتى إن أهل العربية أفردوا له باباً لعنايتهم به، وكونه مما لا يضاع ولا يهمل مثله؛ كما أفردوا لكل معنى أهمهم باباً؛ كالصفة والعطف والإضافة والنداء والندبة والقسم والجزاء ونحو ذلك.
وبينت منذ قريب لبعض منتحلي هذه الصناعة هذا الموضع أعني ما في ضربت زيداً، وخلق الله ونحو ذلك فلم يفهمه إلا بعد أن بات عليه وراض نفسه فيه واطلع في الموضع الذي أومأت له إليه، فحينئذ ما تصوره، وجرى على مذهبه في أن لم يشكره.
واعلم أن جميع ما أوردناه في سعة المجاز عندهم واستمراره على ألسنتهم يدفع دفع أبي الحسن القياس على حذف المضاف وإن لم يكن حقيقة. أولا يعلم أبو الحسن كثرة المجاز غيره، وسعة استعماله وانتشار مواقعه؛ كقام أخوك وجاء الجيش وضربت زيداً ونحو ذلك، وكل ذلك مجاز لا حقيقة وهو على غاية الانقياد والاطراد. وكذلك أيضاً حذف المضاف مجاز لا حقيقة وهو مع ذلك مستعمل.
فإن احتج أبو الحسن بكثرة هذه المواضع؛ نحو قام زيد وانطلق محمد وجاء القوم ونحو ذلك، قيل له: وكذلك حذف المضاف قد كثر؛ حتى إن في القرآن وهو أفصح الكلام منه أكثر من مائة موضع، بل ثلاثمائة موضع، وفي الشعر منه ما لا أحصيه.
فإن قيل: يجيء من هذا أن تقول: ضربت زيداً وإنما ضربت غلامه وولده.
قيل: هذا الذي شنعت به بعينه جائز؛ ألا تراك تقول: إنما ضربت زيداً بضربك غلامه، وأهنته بإهانتك ولده. وهذا باب إنما يصلحه ويفسده المعرفة به. فإن فهم عنك في قولك: ضربت زيداً أنك إنما أردت بذلك: ضربت غلامه أو أخاه أو نحو ذلك جاز، وإن لم يفهم عنك لم يجز؛ كما أنك إن فهم عنك بقولك: أكلت الطعام أنك أكلت بعضه لم تحتج إلى البدل؛ وإن لم يفهم عنك وأردت إفهام المخاطب إياه لم تجد بداً من البيان، وأن تقول: بعضه أو نصفه أو نحو ذلك. ألا ترى أن الشاعر لما فهم عنه ما أراد بقوله قال:
صبحن من كاظمة الخص الخرب
 
يحملن عباس بن عبد المطـلـب
وإنما أراد: عبد الله بن عباس، ولو لم يكن على الثقة بفهم ذلك لم يجد بداً من البيان. وعلى ذلك قول الآخر:
عليم بما أعيا النطاسي حذيما
أراد: ابن حذيم.
ويدلك على لحاق المجاز بالحقيقة عندهم وسلوكه طريقته في أنفسهم أن العرب قد وكدته كما وكحدت الحقيقة. وذلك قول الفرزدق:
عشية سال المربدان كلاهـمـا
 
سحابة موت بالسيوف الصوارم
وإنما هو مربد واحد؛ فثناه مجازاً لما يتصل به من مجاوره، ثم إنه مع ذلك وكده وإن كان مجازاً. وقد يجوز أن يكون سمى كل واحد من جانبيه مربداً. وقال الآخر:
إذا البيضة الصماء عضت صفيحة
 
بحربائها صاحت صياحاً وصلت
فأكد صاحت وهو مجاز بقوله: صياحا.
وأما قول الله عز وجل: "وكلم الله موسى تكليماً" فليس من باب المجاز في الكلام بل هو حقيقة؛ قال أبو الحسن: خلق الله لموسى كلاماً في الشجرة، فكلم به موسى، وإذا أحثه كان متكلماً به. فأما أن يحدثه في شجرة أو فم أو غيرهما فهو شيء آخر؛ لكن الكلام واقع؛ ألا ترى أن المتكلم منا إنما يستحق هذه الصفة بكونه متكلماً لا غير، لا لأنه أحدثه في آلة نظقه، وإن كان لا يكون متكلماً حتى يحرك به آلات نطقه.
فإن قلت: أرأيت لو أن أحدنا عمل آلة مصوتة وحركها واحتذى بأصواتها أصوات الحروف المقطعة المسموعة في كلامنا أكنت تسميه متكلماً وتسمي تلك الأصوات كلاماً?.
فجوابه ألا تكون تلك الأصوات كلاماً، ولا ذلك المصوت لها متكلماً. وذلك أنه ليس في قوة البشر أن يوردوه بالآلات التي يصنعونها على سمت الحروف المنطوق بها وصورتها في النفس؛ لعجزهم عن ذلك. وإنما يأتون بأصوات فيها الشبه اليسير من حروفنا؛ فلا يستحق لذلك أن تكون كلاماً، ولا أن يكون الناطق بها متكلماً؛ كما أن الذي يصور الحيوان تجسيماً أو ترقيماً لا يسمى خالقاً للحيوان، وإنما يقال مصور وحاك ومشبه. وأما القديم سبحانه فإنه قادر على أحداث الكلام على صورته الحقيقية، وأصواته الحيوانية في الشجرة والهواء، وما أحب سبحانه وشاء. فهذا فرق.
فإن قلت: فقد أحال سيبويه قولنا: أشرب ماء البحر، وهذا منه حظر للمجاز الذي أنت مدع شياعه وانتشاره.
قيل: إنما أحال ذلك على أن المتكلم يريد به الحقيقة، وهذا مستقيم؛ إذ الإنسان الواحد لا يشرب جميع ماء البحر. فأما إن أراد به بضعه ثم أطلق هناك اللفظ يريد به جميعه فلا محالة من جوازه؛ ألا ترى إلى قول الأسود بن يعفر
نزلوا بأنقرة يسيل عـلـيهـم
 
ماء الفرات يجيء من أطواد
فلم يحصل هنا جميعه؛ لأنه قد يمكن أن يكون بعض مائه مختلجاً قبل وصوله إلى أرضهم بشرب أو بسقي زرع ونحوه. فسيبويه إذاً إنما وضع هذه اللفظة في هذا الموضع على أصل وضعها في اللغة من العموم، واجتنب المستعمل فيه من الخصوص.
ومثل توكيد المجاز فيما مضى قولنا: قام زيد قياماً، وجلس عمرو جلوساً، وذهب سعيد ذهاباً، وهو ذلك؛ لأن قولنا: قام زيد ونحو ذلك قد قدمنا الدليل على أنه مجاز. وهو مع ذلك مؤكد بالمصدر. فهذا توكيد المجاز كما ترى. وكذلك أيضاً يكون قوله سبحانه: "وكلم الله موسى تكليماً" ومن هذا الوجه مجازاً على ما مضى.
ومن التوكيد في المجاز قوله تعالى: "وأوتيت من كل شيء" ولم تؤت لحية ولا ذكراً. ووجه هذا عندي أن يكون مما حذفت صفته، حتى كأنه قال: وأوتيت من كل شيء تؤتاه المرأة الملكة؛ ألا ترى أنها لو أوتيت لحية وذكرا لم تكن امرأة أصلاً، ولما قيل فيها: أوتيت، ولقيل أوتى. ومثله قوله تعالى: "الله خالق كل شيء" وهو سبحانه شيء. وهذا مما يستثنيه العقل ببديهته، ولا يحوج إلى التشاغل باستثنائه؛ ألا ترى أن الشيء كائناً ما كان لا يخلق نفسه، كما أن المرأة لا تؤتي لحية ولا ذكرا.
فأما قوله سبحانه: "وفوق كل ذي علم عليم" فحقيقة لا مجاز. وذلك أنه سبحانه ليس عالماً بعلم؛ فهو إذاً العليم الذي فوق ذوي العلوم أجمعين. ولذلك لم يقل: وفوق كل عالم عليم، لأنه عز اسمه عالم، ولا عالم فوقه.
فإن قلت: فليس في شيء مما أوردته من قولك: "وأوتيت من كل شيء" و"خالق كل شيء"، "وفوق كل ذي علم عليم"، اللفظ المعتاد للتوكيد.
قيل: هو وإن لم يأت تابعاً على سمت التوكيد فإنه بمعنى التوكيد البتة؛ ألا ترى أنك إذا قلت: عممت بالضرب جميع القوم ففائدته فائدة قولك: ضربت القوم كلهم. فإذا كان المعنيان واحداً كان ما وراء ذلك غير معتد به ولغواً.
*محمود العسكري
15 - يناير - 2011
أمانة نقلة اللغة وتثبتهم    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
باب في صدق النقلة، وثقة الرواة والحملة
هذا موضع من هذا الأمر، لا يعرف صحته إلا من تصور أحوال السلف فيه تصورهم، ورآهم من الوفور والجلالة بأعيانهم، واعتقد في هذا العلم الكريم ما يجب اعتقاده له، وعلم أنه لم يوفق لاختراعه، وابتداء قوانينه وأوضاعه، إلا البر عند الله سبحانه، الحظيظ بما نوه به، وأعلى شأنه. أو لا يعلم أن أمير المؤمنين عليا - رضى الله عنه - هو البادئه، والمنبه عليه، والمنشئه والمرشد إليه. ثم تحقق ابن عباس، رضى الله عنه به، واكتفال ابي الأسود - رحمه الله - إياه. هذا، بعد تنبيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه، وحضه على الأخذ بالحظ منه، ثم تتالى السلف - رحمهم الله - عليه، واقتفائهم - آخرا على أول - طريقه. ويكفى من بعد ما تعرف حاله، ويتشاهد به من عفة أبي عمرو بن العلاء ومن كان معه، ومجاورا زمانه. حدثنا بعض أصحابنا - يرفعه - قال: قال أبو عمرو بن العلاء - رحمه الله -: مازدت في شعر العرب إلا بيتا واحدا. يعنى مايرويه للأعشى من قوله:
وأنكرتنى وما كان الذى نكـرت
 
من الحوادث إلا الشيب والصلعا
أفلا ترى إلى هذا البدر الطالع الباهر، والبحر الزاخر، الذي هو أبو العلماء وكهفهم، وبدء الرواة وسيفهم، كيف تخلصه من تبعات هذا العلم وتحرجه، وتراجعه فيه إلى الله وتحوبه، حتى أنه لما زاد فيه - على سعته وانبثاقه، وتراميه وانتشاره - بيتا واحدا، وفقه الله للاعتراف به، وجعل ذلك عنوانا على توفيق ذويه وأهليه.
وهذا الأصمعى - وهو صناجة الرواة والنقلة، وإليه محط الأعباء والثقلة، ومنه تجنى الفقر والملح، وهو ريحانة كل مغتبق ومصطبح - كانت مشيخة القراء وأماثلهم تحضره - وهو حدث - لأخذ قراءة نافع عنه. ومعلوم كم قدر ما حذف من اللغة، فلم يثبته، لأنه لم يقو عنده، إذ لم يسمعه. وقد ذكرنا في الباب الذي هذا يليه طرفا منه.
فأما إسفاف من لا علم له، وقول من لا مسكة به: إن الأصمعى كان يزيد في كلام العرب، ويفعل كذا، ويقول كذا، فكلام معفو عنه، غير معبوء به، ولا منقوم من مثله؛ حتى كأنه لم يتأد إليه توقفه عن تفسير القرآن وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحوبه من الكلام في الأنواء.
ويكفيك من ذا خشنة أبى زيد وأبى عبيدة. وهذا أبو حاتم بالأمس، وما كان عليه من الجد والانهماك، والعصمة والاستمساك.
وقال لنا أبو علي - رحمه الله - يكاد يعرف صدق أبى الحسن ضرورة. وذلك أنه كان مع الخليل في بلد واحد فلم يحك عنه حرفا واحدا.
هذا إلى ما يعرف عن عقل الكسائى وعفته، وظلفه ونزاهته؛ حتى إن الرشيد كان يجلسه ومحمد بن الحسن على كرسيين بحضرته، ويأمرهما ألا ينزعجا لنهضته.
وحكى أبو الفضل الرياشي قال: جئت أبا زيد لأقرأ عليه كتابه في النبات، فقال: لا تقرأه علي؛ فإني قد أنسيته.
وحسبنا من هذا حديث سيبويه، وقد حطب بكتابه - وهو ألف ورقة - علما مبتكرا، ووضعا متجاوزا لما يسمع ويرى، قلما تسند إليه حكاية، أو توصل به رواية، إلا الشاذ الفذ الذي لا حفل به ولا قدر. فلولا تحفظ من يليه، ولزومه طريق ما يعنيه، لكثرت الحكايات عنه، ونيطت أسبابها به، لكن أخلد كل إنسان منهم إلى عصمته، وأدرع جلباب ثقته، وحمى جانبه من صدقه وأمانته؛ ما أريد من صون هذا العلم الشريف له به.
فإن قلت: فإنا نجد علماء هذا الشأن من البلدين، والمتحلين به في المصرين، كثيرا ما يهجن بعضهم بعضا، ولا يترك له في ذلك سماء ولا أرضا.
قيل له: هذا أول دليل على كرم هذا الأمر، ونزاهة هذا العلم؛ ألا ترى أنه إذا سبقت إلى أحدهم ظنة، أو توجهت نحوه شبهة، سب بها، وبرئ إلى الله منه لمكانها. ولعل أكثر من يرمى بسقطة في رواية، أو غمز في حكاية، محمى جانب الصدق فيها، برئ عند ذكره من تبعتها؛ لكن أخذت عليه، إما لاعتنان شبهة عرضت له أو لمن أخذ عنه، وإما لأن ثالبه ومتعيبه مقصر عن مغزاه، مغضوض الطرف دون مداه. وقد تعرض الشبه للفريقين وتعترض على كلتا الطريقتين. فلولا أن هذا العلم في نفوس أهله، والمتفيئين بظله، كريم الطرفين، جدد السمتين، لما تسابوا بالهجنة فيه، ولا تنابزوا بالألقاب في تحصين فروجه ونواحيه، ليطووا ثوبه على أعدل غروره ومطاويه.
نعم، وإذا كانت هذه المناقضات والمثقافات موجودة بين السلف القديم، ومن باء فيه بالمنصب والشرف العميم، ممن هم سرج الأنام، والمؤتم بهديهم في الحلال والحرام، ثم لم يكن ذلك قادحا فيما تنازعوا فيه، ولا غاضا منه، ولا عائدا بطرف من أطراف التبعة عليه، جاز مثل ذلك أيضا في علم العرب، الذي لا يخلص جميعه للدين خلوص الكلام والفقه له، ولا يكاد يعدم أهله الأنق به، والارتياح لمحاسنه. ولله أبو العباس أحمد بن يحيى، وتقدمه في نفوس أصحاب الحديث ثقةً وأمانة، وعصمة وحصانة. وهم عيار هذا الشان، وأساس هذا البنيان.
وهذا أبو علي رحمه الله، كأنه بعد معنا، ولم تبن به الحال عنا، كان من تحو به وتأنيه، وتحرجه كثير التوقف فيما يحكيه، دائم الاستظهار لإيراد ما يرويه. فكان تارة يقول: أنشدت لجرير فيما أحسب، وأخرى: قال لي أبو بكر فيما أظن، وأخرى: في غالب ظنى كذا، وأرى أني قد سمعت كذا.
هذا جزء من جملة، وغصن من دوحة، وقطرة من بحر، مما يقال في هذا الأمر. وإنما أنسنا بذكره، ووكلنا الحال فيه، إلى تحقيق ما يضاهيه.
*محمود العسكري
16 - يناير - 2011

 
   أضف تعليقك
 1