المفاضلة بين قوس الرجل وقوس اليد ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
المفاضلة بين قوس اليد وقوس الرجل: فصل من كتاب الفروسية لابن القيم، نقلته من موقع المكتبة الشاملة قال: وأصحاب قوس اليد يذمونها فيقولون لا ينبغي لعاقل أن يرمي بها ولا أن يعتمد عليها ويذكرون ما فيها من الغرر والعيوب والتكلف والإبطاء وشدة المؤنة بالحمل وأنها تخون وقت الكفاح ولا يتمكن المحارب بها من أكثر من سهم واحد ثم يخالطه عدوه قالوا فصاحبها ضعيف النكاية لا يملك إلا سهما واحدا ثم هو أسير مملوك وصاحبها لا يمكنه حمل الترس مع القوس ولا الدرقة وإنما يرمي من خلف جدار السور وخلف حجر يكون مستورا به فإن رمى في براح من الأرض فلا بد له من رجلين مترسين يمسكان عليه حتى يرمي وأين من يرمي من شق في جدار السور إلى من يبرز في البراح والفضاء يرمي (0/429) نظره وذلك لا يرمي إلا قطعة يسيرة أمامه وأربابها يفضلونها ويذكرون فوائدها ونكايتها في الحصون والمعاقل وتأثيرها ما لا يؤثره قوس اليد فصل النزاع بين الطائفتين وفصل النزاع بين الطائفتين أن قوس اليد أنفع في وقت مصافة الجيوش وملاقاة العدو في الصحراء وأما قوس الرجل فأنفع وقت حصار القلاع والحصون وأنكى من قوس اليد وقد يكون الرمي بها من داخل الحصون وأيضا إلى العدو الجامع أنفع له وأنكى فيه فلهذه موضع ولهذه موضع وقوس اليد أعم نفعا وعلى الرمي بها أكثر الأمم وأهلها هم الرماة على الحقيقة فصل في أنفع القسي وأولاها بالاستعمال أولاها وأنفعها ما كثرت نكايته وقلت آفته وخف حمله وقوي فعله فتلك القوس المحمودة لصاحبها الدافعة الأذى عن حاملها وهذا عام في جميع السلاح فأنفعه وأفضله ما خف حمله على الأعضاء ودفع عنها الأذى وسأل عمر بن الخطاب عمرو بن معد يكرب يوما عن السلاح فقال يسأل أمير المؤمنين عما بدا له قال ما تقول في الرمح فقال أخوك (0/430) وربما خانك فانكسر أو انقصف قال فما تقول في الترس فقال هو المحز وعليه تدور الدوائر قال فالنبل فقال منايا تخطئ وتصيب قال فالدرع قال متعبة للراجل مشغلة للراكب وإنها لحصن حصين قال فالسيف قال هنالك ثكلتك أمك فضربه عمر رضي الله عنه بالدرة قال بل أمك لا أم لك فصل أنفع قسي اليد وخير قسي اليد وأنفعها ما تركبت من الخشبة والعقب والقرن والغراء وفي ذلك حكمة بليغة وصنعة شريفة رفيعة وذلك أنها منشأة على نشأة الإنسان فإن قوامه وبناءه على أربع على العظم واللحم والعروق والدم فكذا أنشئت القوس على هذه الأربع فالخشب لها بمنزلة العظم من الإنسان والقرن بمنزلة اللحم المشبك على جميع أعضائها والعقب بمنزلة العروق المشتبكة على جميع أعضاء الحيوان والغراء فيها بمنزلة الدم الذي به يلتئم جميعها ولما كان للإنسان ظهر وبطن جعلوا لها ظهرا وبطنا وكذلك تراها تنطوي من نحو بطنها كما ينطوي الإنسان وإن كسر ظهرها (0/431) انكسرت من ساعتها وكذلك الإنسان وقد ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في " تاريخه " أن جبريل نزل بالقوس على آدم فهو أول من رمى بها وثبت في " الصحيح " أن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن كان راميا ورمى النبي يوم أحد حتى اندقت سية قوسه وقد ذكر عنه أنه كانت عنده ثلاث قسي قوس معقبة تدعى الروحاء وقوس شوحط تدعى البيضاء وقوس نبع تدعى الصفراء (0/432) ولا ريب أن القسي العربية أنفع للعرب والفارسية أنفع للعسكر اليوم وكلاهما يفضل القسي التركية لما فيها من القوة والشدة والسرعة والرطوبة وخفة الحمل وقوة الفعل ولم تكن الترك تعتاد هذه القسي الفارسية ولكن لما خالطت الفرس وعاشرتهم تعلموا منهم كثيرا من زيهم ولباسهم وحربهم ولسانهم وآلاتهم فصل في المفاخرة بين قوس اليد وقوس الرجل قال قوس الرجل لقوس اليد أنا اشد منك باسا واعظم أركانا واقوى وترا وأغلظ سهما ونصلا وأبعد مرمى واشد نفوذا أنا أنفذ في الصخر الأصم وأخرق ما ينكسر فيه لك من نصل وسهم تفر الجيوش من وقع سهم واحد من سهامي وأهزمها يمينا وشمالا وأنا محجوب وراء الرامي زمجرتي كزمجرة الرعود ومنظري الكريه كمنظر الأسود لا يخاف ظهري الانكسار ولا على وتري الانقطاع ولا ترد سهامي عواصف الرياح ولا يحجبها درع ولا مغفرة ولا سابغة ولا يقوم لها شيء من السلاح فسل عني الحصون والقلاع هل يقوم غيري مقامي في المكافحة عنها والدفاع ثم سل جيوشها عن مقدمي تلك الصفوف وعمن يشيرون إليه في تلك الرجوف فهل لراميك قوة تحملي أم لك قدرة على دفع سهمي ونصلي من الذي خالطه سهمي فلم يغادره صريعا أم من الذي حل بساحته فما سلبه ثوبه والحياة سلبا سريعا فمن الذي يقوم مقامي لباسي الشديد أم أي قوس سواي ترمي بسهام الحديد هذا وإن السهم من سهامي ليوزن بالقوس من سواي وإذا أحاط العدو بالحصول خانهم (0/433) جميع أنواع السلاح إلا إياي فأنا والمنجنيق رضيعا لبنا وإن التقيت بالواحد من الناس وهو يحتاج إلى كثرة الأعوان ومن حاربني فما له بحربي يدان ومن نازع قوتي فقد جاهر بمخالفة العيان قال قوس الليد عجبا لك أيها البغيض الثقيل ومزاحمة اللطاف الرشاق والجري معها ولست هناك في ميدان السباق وقل لي متى استصحبك في الحروب العساكر متى استصحبك في الصيد صائد أو في طريق سفره المسافر أما تستحي من ثقل حملك على الأعضاء ومن تخلفك عن جيوش الإسلام يوم اللقاء فإذا وقعت العين في العين كنت عن اللقاء بمعزل وإذا نزلت أمراء جيوش السلاح منازلها فمنزلتك منها أبعد منزل لا تقاتل إلا من وراء جدار أو سور ومتى برزت إلى العدو في براح من الأرض فأنت لا شك مغلوب ومأسور هذا و إن قدر الله وأعان وبرزت إلى العدو مع الأعوان فلك سهم واحد تبطر به وقد لا تصيب وأنا أرمي عليك عدة من السهام وإن كان منها المخطئ والمصيب أنا أعين صاحبي على رميه قائما وقاعدا ولابثا وسائرا وراكبا ونازلا ولو أراد صاحبك منك ذلك لكنت بينه وبين قصده حائلا ويكفيك قبحا أن شكلك كالصليب ولهذا حمل من حمل من العلماء لعن النبي لك على ذلك كطائفة منهم عبد الملك بن حبيب ويكفيك ذما أن المستخرج لك عدو إبراهيم الخليل بل عدو (0/434) الرحمن وهو نمرود بن كنعان كما ذكر ذلك مؤرخ الإسلام محمد بن جرير الطبري في تاريخه الكبير عن ابن عباس أن أول من رمى بقوس الرجل النمرود بن كنعان استخرجها حين رجم بها السماء لأنه لما صح عند أن الله في السماء صنع تابوتا وربى نسرين عظيمين في الخلقة وجعل التابوت على ظهرهما وكان التابوت له ثلاث طبقات فلما غابت الدنيا عن بصره أمر بالقوس وكانت قوسا عظيما يجذبها بحركة كاللولب لقوتها فجعل السهم فيها ورمى بها نحو السماء فغاب السهم عن بصره ساعة ثم رجع إليه مدمى لما أراد الله من خذلانه وتماديه على الكفر وعذابه بما سبق في علمه فقال قد قتلت إله السماء فحول النسرين وجعل التابوت نحو الأرض حتى هبط إلى الأرض فازاداد استكبارا وعلوا في الأرض حتى أهلكه الله عز و جل بأضعف خلقه وهي البعوضة فلو لم يكن لك مثلبة غيرها لكفى بها وكم بين قوس رمت بها الأنبياء وقوس رميت بها السماء وأنت لا يتمكن صاحبك من حملك مع ترس ولا درقة ولا تركاش ولا شيء من أنواع السلاح ولا يمكن الجمع بينك وبين سمر العوالي وبيض الصفاح هذا وقوة الدفع فيك بحركة وصناعة وقوة الدفع مني بما أعين به صاحبي من القوة والشجاعة فصاحبك ضعيف النكاية قليل الحماية تابع لغيره مأمور محكوم عليه فافهم وصاحبي عظيم الهيبة كثير المنفعة متبوع أمير يتحاكم إليه غايتك أن تكون من بعض خدمته ومنخرطا في سلك أتباعه وحشمه وبي فتحت البلاد ودانت بالطاعة لرب (0/435) العباد وأصحابي هم الملوك والأمراء والأجناد وأصحابك حراس القلاع وأصحابي أرباب الأخبار العظيمة والأقطاع فيا عجبا لك كيف يستوي راكب أتان وراكب حصان وكيف يستوي القوس الشريفة المؤيدة المنصورة التي شهد رسول الله لجنسها بالنصر والتأييد والقوس التي نهاية أمرها أن تكون في مثل الخدم والعبيد سهامي تخرج متتابعات متواصلات متماطرات سهم في أثر سهم وإصابة في أثر إصابة فترى سهامي كوابل انهل من صوب الغمام وهي ترد متتابعة يتلو بعضها بعضا تسوق النفوس إلى الحمام فصاحبي مثل الأسد في بسالته مهيب حيثما توجهت ركائبه مخوف معظم حيثما استقبلت مضاربه لأن قوتي معه وشدتي في يده فحيث أراد كيد عدوه تمكن منه ولا يتقيه بشيء من السلاح لقوته وشدته وسرعته لأنه لا يعرف من أين يتقيه ولا من أين يأتيه وأي فضيلة أشرف وأي مكانة أعلى وأي حرمة أشد من رجل من المسلمين قد أحكم صناعة الرمى بي فركب جواده وسدد سهامه وأقام إلى الصفوف عيانا فأثخنهم بالجراح والحتوف من قاتله قتله ومن اتبعه صرعه لا ينجي الفار منه فراره ولا ينفع الشجاع البطل منه إقباله وإدباره وإنما مال من مال عني من أرباب قوس الرجل لأنهم وجدوها أقرب تناولا إليهم وأسهل مؤنة وأخف عليهم فعدلوا لذلك إليها وعولوا بعجزهم عني عليها وسهل ذلك عليهم أنهم لم يكن لهم دربة على (0/436) الخيل فتدعوهم إلى قسي اليد داعية الاضطرار وإنما كانت حروبهم في قرى محصنة أو من وراء جدار فاسمع الآن جملة من عيوبك المتكاثرة ثم اقصد إلى المساجلة والمفاخرة فمنها أن شكلك كواحد الصلبان وثقلك كنصف حجر الطحان وبين السهمين من سهامك برهة من الزمان لا تبرز لعدوك في الفضاء ولا تلقاه بالعراء ومنها أن الماء إذا أصابك بمطر أو غيره وابتل به وترك لم يمكن صاحبك من الرمي بك ألبتة بل تصير كالقطعة من الخشبة اليابسة وأيضا فقوس الرجل قوته في أول أمره ثم يضعف عن الأول الثاني والثالث عن الثاني والرابع عن الثالث وهلم جرى حتى تفنى قوته وصلابته ويتحلل ثبوته إلى أن يصير الوتر عمالا على المجرى فإن رمي به لم يوصل إلى شيء وربما قتل الرامي به وإن حله وفتل الوتر كما يفعل بعضهم اعتراه في الثاني ما اعتراه في الأول فلا تزال القوس في ضعف وخور فإن فتل الوتر ثانية ضعفت جدا وربما بطلت قوتها ربما انكسرت فتدعوه الضرورة إلى قوس غيرها أو يجلس خاسرا فكم بين من يرمي نهاره كله بقوس اليد لا يتغير لها سهم ولا ينحل لها قوة ويكون آخر سهم كأول سهم وبين من يرمي بقوس إنما سلطانها في أول سهم ثم هي أمير في الثاني ثم تفتت في الثالث ثم تتردى في الرابع ثم هي في الخامس بمنزلة الرجل الضعيف ويكفي من عيوبك أن الوتر منك ربما كان على وجه المجرى (0/437) فرجع السهم إلى وجه الرامي فيقتله وربما كان فوق السهم فيه ضيق عن الوتر فينبذ به القوس إلى ناحية أخرى غير المرمى فيقتل من كان قريبا منه وربما كانت الجوزة عالية جدا فينبذ الوتر السهم إلى ناحية أخرى أو إلى وجه الرامي فيقتله ولقد شوهد بعض رماة هذا القوس وقد مال قوسه وألقى فيها سهمه وهو يريد أن يضرب سبعا ضاريا كان يؤذي الناس فلما فوق نحو السبع رجع السهم إلى وجهه فضربه ضربة في عينه فاحتبس فيها وكان إخراجه من عينه بعد الجهد الشديد والمشقة العظيمة قد سالت على وجنته فآلى الرجل على نفسه أن لا يرمي بهذه القوس أبدا وأما ما يسمع لك من القعقة والجعجعة فهي التي غرت جهال الناس بمنافع قوس الرجل ومصالحها فإنهم إذا سمعوا صوت تلك القعاقع وشاهدوا هول تلك الجعاجع ظنوها لقوتك وشدة بأسك أو لقوة الرامي بك ولسان الحال يقول أسمع جعجعة ولا أرى طحنا وأشاهد قعقعة ولا أرى فعلا هذا وجميع قوتك وشدتها إنما تذهب في المجرى بمحل الوتر (0/438) له إذ الوتر ليس مواريا لموضع القضيب إنما الوتر على وجه المجرى والقضيب في نصفها فزالت قوة القوس من السهم وحصلت جميع القوة في المجرى وقد حدد حذاق هذا الرمي ما يصل من القوة إلى السهم فوجدوا ربع القوة فما ظنك بربع القوة مع الخطر والغرر ويكفي في التفضيل أن أول من رمى بك نمرود بن كنعان كما تقدم وأول من رمى بي آدم أبو البشر كما حكاه محمد بن جرير الطبري في تاريخه إن الله سبحانه لما أمر آم بالزارعة حين أهبط إلى الأرض من الجنة فزرع أرسل الله إليه طائرين يأكلان ما زرع ويخرجان ما بذر فشكا ذلك إلى الله عز و جل فأهبط عليه جبريل وبيده قوس ووتر وسهمان فقال يا جبريل ما هذا واعطاه القوس قال هذه قوة من الله وأعطاه الوتر وقال هذه شدة من الله ثم اعطاه السهمين فقال يا جبريل ما هذه فقال هذه نكاية الله وعلمه الرمي بها فرمى بهما الطائرين فقتلهما وسر بذلك ثم صار علم الرمي إلى إبراهيم الخليل ثم إلى ولده إسماعيل وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال لنفر من أسلم ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا وقد تقدم أن النبي رمى يوم أحد (0/439) عن قوسه حتى اندقت سيتها ورمى بي خيار الخلق بعد الرسل وهم أصحاب وأنت قد عرفت أصلك وفصلك ومن رمى بك وعدة أي قوم أنت فإن معول طائفة الإفرنج عليك وهم قوم لا قدم لهم في الفروسية وإنما غالب حربهم بالصناعات والآلات كما أن غالب حرب كثير من الترك بالكيد والخديعة المكر وبذلك استولوا على كثير من البلاد ودوخوا به العباد |