مجلس : التربية و التعليم

 موضوع النقاش : معالم في البناء التربوي    قيّم
التقييم :
( من قبل 6 أعضاء )
 د يحيى 
15 - نوفمبر - 2010
معالم في البناء التربوي
د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائلُ: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}:
[آل عمران: 79]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل: «إن الله وملائكته، وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليُصَلّون على معلمي الناس الخير». رواه الترمذي بسند صحيح. أما بعد:
فهذا خطاب لجيل الأمة الصاعد، ونشئها الواعد ذوي الفطر السليمة والنفوس المستقيمة الذين تَعْقد عليهم الأمة آمالها بعد اللّه أن ينصروا الدين، ويرفعوا عن أمتهم خطة الذل التي وضعها أعداؤها. وما كان ذلك الفتح ليكون إلا وَفْق سنن الله الكونية والشرعية: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] . لقد سئمت الأمة الشعارات العاطفية، وتجرعت غصص الحركات الانفعالية، وآنَ لها أن تستفيد من أخطاء الماضي، وتستنير بنور الكتاب والسنة، وتسلك سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان؛ فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أَوَّلها.
إن الأمة الإسلامية بحاجة ماسة في هذه الظروف الحرجة إلى إعداد ناشئة قوية سوية ترضع لبان الإيمان، وتتضلع من العلم والعرفان، وتتحلى بالحكمة والشجاعة معاً، وتأخذ بأسباب القوة المعنوية والمادية، وتتخلص من شوائب الفرقة والشذوذ، وتجتمع على البر والتقوى، وإقامة الدين، ولزوم جماعة المسلمين.
وهذه المقاصد العظيمة والآمال العريضة لا تتحقق بمجرد الأماني: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}:
 [النساء: 123] ، وإنما تتم من خلال مشروع فردي، وجماعي، ينتظم مناشط الحياة المتنوعة، ألا وهو: (التربية).
 معنى التربية:
قال الجوهري: (رَبَا الشيء يَرْبو رَبْواً، أي: زاد... وَربيته تَرْبيةً، وتَربيته: أي غَذوته. هذا لكل ما ينمي، كالولد والزرع ونحوه) الصحاح: 6/2350.
وقال الراغب: (الربُّ في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً، إلى حد التمام) المفردات: 189. وهذا المعنى اللغوي الدال على الترقي والنمو شيئاً فشيئاً هو الأساس للمعنى الشرعي للتربية، كما في قوله ـ تعالى ـ: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] ، (فروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: هم الذين يغذّون الناس بالحكمة، ويربونهم عليها، وقال ابن عباس، وابن جبير: هم الفقهاء المعلمون. وقال قتادة، وعطاء: هم الفقهاء العلماء الحكماء) انظر: زاد المسير: 1/413.
قال ابن الأثير: (الرب: بمعنى التربية؛ كانوا يربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها) النهاية في غريب الحديث: 2/181.
` المعْلَم الأول: التربية دين وعبادة:
إن السعي نحو الكمال نزعة إنسانية تراود بعض النفوس القوية، وتحدوهم لتحقيق الأمجاد الشخصية، والعلو في الأرض. وفَصْلُ ما بين التربية الإسلامية والتفوق أنَّ الأُولى: دِين وقربة، وجهاد ونية، والثانية في أحسن أحوالها: قوة وعزيمة، وشهامة ومروءة. الأُولى يترتب عليها الثواب، وشرف الدنيا والآخرة، والثانية لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب بحد ذاتها، وهي شرف في الدنيا دون الآخرة. كما قيل:
نفسُ عصام سَوّدت عصاما
وعوَّدته الكَرَّ والإقداما
وكما قال طرفة بن العبد، وهو جاهلي:
إذا القوم قالوا: من فتى؟ خِلْتُ أنني
عُنِيتُ فلم أكسل ولم أتبلَّدِ
ولستُ بحلاّل التِّلاع مخافة
ولكن متى يسترفدِ القومُ أرفدِ
ونحن لا نغمط أهل الفضل فضلهم، ولا أصحاب المروءات والنجدات سابقتهم، ولكن ندعوهم إلى احتساب ما جبلهم الله عليه من مَكْرُمَات، أو ما حملوا أنفسهم عليه من مشقات، ديناً يدينون الله به، ويرجون غُنمه وبِرّه في الدار الآخرة. قال ـ تعالى ـ: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}: [القصص: 83] . قال بريدة بن الحُصَيب ـ رضي الله عنه ـ: (شهدتُ خيبر، وكنت في من صعِد الثلمة، فقاتلتُ حتى رُئي مكاني، وعليَّ ثوب أحمر؛ فما أعلم أني ركبت في الإسلام ذنباً أعظم عليَّ منه؛ أي الشهرة) سِيَر أعلام النبلاء 2/470.
قد يدمن الناشئ، وربما طالب العلم، القراءة في سير أعلام النبلاء، والعلماء، والفاتحين، ويصغي للمدائح والمناقب، فتتشوَّف نفسه إلى الذكر والصيت، ويفارقه الإخلاص النقي. وقد يستنفر المربي همم تلاميذه بضرب الأمثال، وتمجيد الذوات الفاضلة في غير سياق منضبط، فيتمخض الجهد عن تنافس مشوب، وحظوظ دخيلة.
إن على المربين، كما هو على المتربين أن يتفطنوا لهذا المعنى، ويحرروا أمر النية من الأغراض الشخصية كافةً، والدسائس النفسية التي تنافي إسلام الوجه لرب العالمين، فإن عُجِّل لهم من الثناء والذكر الحسن ما يستروحون له، دون أن يكون قصدهم الأصلي، فذلك من عاجل بشرى المؤمن.....".
المعْلَم الثاني: التربية تأسّ ومتابعة:
قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] . لقد كان شَخْص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثالاً واضحاً للاستقامة، ومعياراً دقيقاً تُقوّم به الأقوال والأفعال، وتردُّ إليه الأمور عند التنازع. فلا بد للمربي والمتربي من دراسة سيرته الشريفة، وإدمان النظر في أحواله المختلفة، والتبصر في دعوته وتربيته لأصحابه، وأسلوب معالجته للأمور. إن قوماً يحتفون بذكر فلان وعلان من رجالات الشرق والغرب، ويمجِّدون ذكرهم، ويزهدون برواية أحواله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يرفعون بها رأساً، قد استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير. لقد حفلت حياته بألوان المواقف التربوية التي ترسم الطريق للمربين والمتربين على مر العصور، فيستلهمون منها النَّفَس الشرعي، والمزاج الإيماني الذي تواجَه به الأمور، فيأتي بأفضل النتائج.
مثال: روى ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ بسنده، من طريقين، عن أبي محذورة أوس بن معبر الجمحي ـ رضي الله عنه ـ قال: (خرجت في نفر عشرة، فكنا في بعض الطريق حين قفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حُنين، فأذَّن مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالصلاة، فسمعنا صوت المؤذن، ونحن متنكبون، فصرخنا نحكيه، ونستهزئ، فسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأرسل إلينا، إلى أن وقفنا بين يديه، فقال: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إليّ، وصدقوا، فأرسلهم وحبسني، ثم قال: قم فأذِّن بالصلاة، فقمت، ولا شيء إليَّ أكره من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا مما يأمرني به، فقمت بين يديه، فألقى عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التأذين هو بنفسه، فقال: قل: الله أكبر الله أكبر. فذكر الأذان، ثم دعاني حين قضيت التأذين، فأعطاني صرة فيها شيء من فضة، ثم وضع يده على ناصيتي، ثم مر بين ثدييَّ، ثم على كبدي، حتى بلغت يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرتي، ثم قال: بارك الله فيك، وبارك الله عليك. فقلت: يا رسول الله! مرني بالتأذين بمكة! قال: قد أمرتك به. وذهب كل شيء كان في نفسي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كراهة، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقدمت على عتَّاب بن أُسيد، عامل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة، فأذَّنت معه بالصلاة، عن أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) الاستيعاب، بحاشية الإصابة: 4/179. ورواه أبو داود والنسائي والشافعي والدارقطني والبيهقي. وهو حديث صحيح.
فمن الفوائد التربوية المستبطة من هذه الحادثة:
1 ـ طبيعة التجمعات الشبابية، وتشابهها قديماً وحديثاً.
2 ـ عدم تجاوز المواقف السلوكية الشاذة.
3 ـ التثبت والتبين، وعدم أخذ البريء بجريرة المذنب.
4 ـ الأدب الرفيع، وعدم الإسفاف في الخطاب عند الإنكار.
5 ـ تحويل الخطأ إلى صواب، والانحراف إلى سداد.
6 ـ تواضع المربي.
7 ـ الإحسان إلى المتربي، وسَلُّ سخيمة صدره.
8 ـ التودد والتحبب إلى المتربي بالمباشرة باليد.
9 ـ إظهار صدق الود، والرغبة في الهداية بالدعاء.
10 ـ منح الثقة، واستغلال الموهبة.
إن السنة النبوية غنية بالكنوز التربوية التي ينبغي أن يُفَتّش عنها المربون، ويستخلصوا منها الدروس والعبر، بل يؤسسوا منها
(علم تربية) إسلامياً أصيلاً؛ ذلك بأن علم التربية الحديث قائم على دراسات الغربيين، واصطلاحاتهم، وتقسيماتهم التي هي ناتج عقائدهم، وثقافاتهم، وممارساتهم المتراكمة بالإضافة إلى ما توصلوا إليه من تجارب إنسانية، وملاحظات بشرية قد تكون صحيحة. فلا بد لأهل الإسلام من تمييز ما هو من قَبِيل القضايا المشتركة بين بني آدم، وما هو من قَبِيل التحليل والاستنتاج القابل للخطأ والتأثر بالمكونات العقدية، والفكرية، والتاريخية، والاجتماعية لأمة ما، وتكوين قواعد مستمدة من النصوص الشرعية، والدراسات العلمية الصحيحة.
` المْعْلَم الثالث: التربية القرآنية منهج وسبيل:
قال ـ تعالى ـ: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسراء: 9] .
القرآن العظيم عمدة التربية الإسلامية، لفظاً، ومضموناً، وترتيباً:
لفظاً: باعتماد الألفاظ والمصطلحات القرآنية، وعدم الاستعاضة عنها بالمصطلحات الحادثة، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: 122]،
مضموناً: باستيعاب مقاصد القرآن ومضامينه كلها، وتجنب التبعيض والانتقاء والتجزئة التي توافق توجهاً خاصاً لجماعة أو طريقة أو مذهب، وهجر خلافه.
وترتيباً: بتقديم ما قدم اللّه، وتأخير ما أخر، وتعظيم ما عظم الله، وتهوين ما هوَّن، وزرع ذلك في قلوب المتربين بنفس الدرجة التي هي عليها في القرآن.
مثال: تعظيم أمر التوحيد، وتشنيع الشرك، كما في قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا *إن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا"  [مريم: 88 - 93] . إن كثيراً من المربين والمتربين يمرون بمثل هذه القضايا الإيمانية دون أن تُحْدِث في نفوسهم الأثر المطلوب، والانفعال الإيماني المتناسب مع حجم هذه القضية التي تكاد السماوات أن تتفطر منها، وتنشق الأرض، وتَخِرُّ الجبال هدّاً!! فعلامَ يدل ذلك؟
لا بد للمربي والمتربي أن يتيقن هذه القضية يقيناً راسخاً، وأن يعتمد التربية القرآنية في برامجه ووسائله التأثيرية، وألا يجنح إلى إيثار مؤثرات أخرى ذات أثر وقتي سرعان ما تتقشَّع. ومن صور ذلك:
1 ـ الاعتماد على العلاقات الشخصية، والتجمعات الودية الخالية من المضمون.
2 ـ ممارسة المناشط الشكلية، والبرامج الترفيهية ذات العائد الزهيد.
3 ـ الإغراق في الشعارات العاطفية التي تستهلك الحماس دون مردود.
لقد كان قرن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ خير القرون، ولم يكن بين أيديهم متْن يتربون عليه سوى كتاب الله، يبينه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فَصَنع الله بهم ما صنع. إن التربية القرآنية القائمة على ترسيخ الإيمان بالله واليوم الآخر، والعمل الصالح، منهج واضح، وسبيل قاصد لا غنى للأمة في جميع أطوارها عن انتهاجه، ولن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
` المعْلَم الرابع: التربية تكامل وتوازن:
إن خطة البناء التربوي السليم لا بد أن تكون متضمنة لعموم مقاصد الدين؛ بحيث يظهر هذا التكامل في حياة الأفراد بنسب متفاوتة، كما يظهر في عموم الأمة ملبياً كافة المطالب. وبيان ذلك: أن الفرد المسلم بحاجة إلى:
1 ـ البناء الإيماني العقدي: الذي تحصل به البينة القلبية، والاطِّراد العقلي.
2 ـ البناء العملي الشرعي: الذي يحصل به معرفة الشريعة، وبيان الحلال والحرام.
3 ـ البناء العملي التعبدي: الذي يحصل به استفراغ الجهد في العمل الصالح.
4 ـ البناء الخلقي الاجتماعي: الذي يحصل به حسن معاشرة الخلق ونفعهم.
وهو مدعوٌّ إلى تمتين هذا البناء وتقويته، منهيٌّ عن الإخلال بالحد الأدنى منه، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم» متفق عليه. وحينئذ يجد المؤمن الجاد نفسه في مضمار فسيح لاستباق الخيرات، والتنافس في الطاعات، ويجد شُعَباً تربو على السبعين من شُعَب الإيمان تهتف به، وتستدعيه، فيعرضها على مواهبه ومقدراته فيجد نفسه بعد جملة من التجارب متوافقاً مع لون أو أكثر من ألوان البذل والعطاء:
ـ فهذا: وعاءٌ للعلم، آتاه الله حفظاً وفهماً وفقهاً.
ـ وذاك: عابد ناسك خاشع قانت.
ـ وثالث: منفق باذل يضرب في كل مكرمة بسهم.
ـ ورابع: داعية مصلح بين الناس.
ـ وخامس: أمَّار بالمعروف، نهّاء عن المنكر، محتسب.
ـ وسادس: مجاهد مرابط يحمي الثغور، ويصون حوزة المسلمين.
ـ وسابع: حُبِّبَ إليه السعي على الأرملة والمسكين، وملاطفة اليتيم... وهكذا.
وكل فاضل من هؤلاء فُتِح له في باب من أبواب الخير، قد نال حظاً من بقية الأبواب، لكن قَصَّر عن غيره فيه، كما قَصَّر غيره عنه فيما فُتِحَ له فيه. قد علم كل أناس مشربهم. قال الذهبي ـ رحمه الله ـ: (كم من إمام في فن مقصِّر عن غيره؛ كسيبويه، مثلاً، إمام في النحو، ولا يدري ما الحديث. ووكيع إمام في الحديث، ولا يعرف العربية، وعبد الرحمن بن مهدي إمام في الحديث، لايدري ما الطب قط، وكمحمد بن الحسن، رأس في الفقه، ولا يدري ما القراءات، وكحفص إمام في القراءات، تالف في الحديث)
ومن تأمل في حال الصحابة الكرام رأى هذا التنوع، والتخصص جليّاً؛ فمَنْ كأبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ في بذله، وثباته، ورسوخ إيمانه؟ ومَنْ عبقريٌّ كعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يفري فرِيَّه، يسوس الناس، ويمصِّر الأمصار ويدون الدواوين؟ ومَنْ كعثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ في بذله وإنفاقه؟ ومَنْ كعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ في شجاعته وإقدامه؟ ومع ذلك فإن الفضل الخاص لا يقضي على الفضل العام. ولم تزل هذه الأمة ولوداً، تُنتِق أرحامُها الأمجاد الأفاضل من الرجال والنساء. فانظر ـ يا رعاك الله ـ أين موضعُك؟ فقد جاءت نوبتُك؛ فإن لك ثغراً لا يَسُدُّه أحدٌ سِواك، ففتِّش عن ثَغْرك، والْزمْه، فإن العمر قصير.
وبهذا يتبين أن التنوّع والتخصص بين الخلق سُنّة من سنن الله؛ فإن الله قَسم الأخلاق كما قسم الأرزاق، فسائغ شرعاً، واقع قدراً، أن يفتح على شخص في باب، ويُقَصّر في غيره، لكن مع الإتيان بالحد الأدنى من المأمور. أما بالنسبة إلى عموم الأمة فلا يسوغ ذلك، ولا يجوز أن تلغي أو تهمل باباً من أبوب الدين؛ فإن الله أمر بإقامة الدين، فقال: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيه}: [الشورى: 13] .
ويتبين أيضاً أنه لا يجوز لطائفة، أو طريقة، أو مذهب، أو جماعة دعوية أن تدعو الكافة إلى مبادئ خاصة وأصولٍ منتقاة، من الدين، وتهجر الباقي، بل الواجب إقامة الدين كله، وتربية الناس على جميع مقاصده، ثم الله يصطفي من عباده ويختار من يقيمه ويستعمله في بعض هذه الشُّعب، ويفتح له فيه. أما الاجتزاء، والانتخاب وفق ترتيب لم يأذن به الله، وليس عليه أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنوع من العدوان والبدعة، وسبب لحصول الاختلاف والفُرْقة، كما قال ـ تعالى ـ عن النصارى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14] ، والمراد بالنسيان هنا ترك العمل ببعض ما أمروا به. وبناءً عليه فلا يسُوغ تربية آحاد الأمة، أو جماعتها على ضَميمة من الأسس تُدعى تارة (المبادئ الستة)، وتارة (الأصول العشرين)، ويُعدل عما رتبه النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث جبريل المشهور الذي فيه (أركان الإسلام الخمسة) و (أركان الإيمان الستة)، كما لا يجوز التزام «وِرْد الطريقة» سواءً بسواء".


*عرض كافة التعليقات
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
معالم في البناء التربوي(2)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
المعْلَم الخامس: التربية مشروع العمر:
قد يتحامل المرء على نفسه ليجتاز دورة مكثفة في علم ما أو فن، ثم يلتقط أنفاسه ويسترخي، وقد يسعى إلى تحقيق درجة عالمية يستنفر لها جهده ووقته، ثم ينال اللقب، ويستريح. إلا أن التربية عمل دائم لا ينقطع حتى تبلغ الروح الحلقوم. قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ: «أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر» شرف أصحاب الحديث: 68.
ومن ثم فإن المؤمن يظل في جهاد مستمر، وتَرقٍّ مُطَّرد إلى أن يقف على شفير القبر، وقد بلغ في سُلَّم التربية ما قُدِّر له أن يَبْلُغ، وهو في تلك الأثناء عرضة للزلل والخطأ، بِحُكْم طبيعته البشرية، لكن مشروع التربية الإسلامية يتضمن عنصراً أصيلاً هو التوبة؛ فلا يأس، ولا قنوط، ولا إحباط. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] .
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، وأحسن الأعمال، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئ الأخلاق، وسيئ الأعمال فإنه لا يصرف سيئها إلا أنت.
__________
*د يحيى
19 - نوفمبر - 2010
حلقات العلم ودورها في تخريج العلماء    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
هيثم حداد:
كتب فضيلة الشيخ الدكتور عبد العزيز كامل مقالاً أشبه ما يكون بورقة عمل تهدف إلى المساهمة في انتشال الأمة من حالتها الحالية إلى حالة أفضل في ظل الوضع الراهن المتمثل في خطط وأساليب جديدة في حرب الإسلام، وقد ذكر وأعاد دور العلماء القيادي، بل جعل شغور موقع القيادة الجماعية للأمة لب المشكلة وأساسها، ثم عرَّفه بأنه شغور مواقع القيادة عن العلماء الذين يستطيعون توجيه دفة الأمة من مواقعهم العلمية، وهو الأمر الذي قصر دور العلماء في جل الأوقات على علاج بعض مشكلات فردية، وحوادث جزئية.
لعل من أسباب هذه المشكلة الرئيسة عجز العلماء عن القيام بالدور المتوقع منهم، والنَّوْء بتلك المسؤولية التي حمّلهم اللّه إياها، ولا شك أن الزخم يكثر هذه الأيام مع كثرة المصائب التي تتساقط على الأمة، وغياب الرأي الشرعي في قضايا مفصلية يمر بها العالم الإسلامي مطالباً العلماء بدور ريادي يقودون من خلاله جموع الأمة، أو على الأقل يوجهونهم نحو الوجهة الشرعية المناسبة التي تتمحور حول السياسة الشرعية، تلك السياسة التي لا يحسنها إلا من يجمع بين علم واسع بالشريعة أصولاً، وفروعاً، نظراً واستدلالاً، وبين فقه للواقع المعقد الذي نعيشه في هذه الأيام.
وكثيراً ما يقلِّب المرء ناظريه حينما تنزل بالأمة دواهٍ، باحثاً أولاً عن نظرة شرعية لتلك الأحداث، ثم توجيه مناسب لما ينبغي عليه فعله، شافعاً ذلك بدعاء بالثبات على الحق، وتفاؤل بنصر الدين.
لكن أيها السادة القراء! ألا تظنون معي أن مطالبة العلماء بهذا الدور الضخم والنَّوْء بهذه المسؤولية التاريخية فيه نوع من تسويغ لإخفاق الأمة بشتى فعالياتها في إنشاء العلماء القادة الذين يمكن أن يقوموا بهذه الأحمال الثقال؟ ألا تتفقون معي أن ثمت خلطاً بين الدور الذي نتطلع إليه من قِبَل حَمَلة العلم الذين نتحدث عنهم وبين الدور المنوط بالعلماء القادة الحقيقيين للأمة؟ وبقدر ازدياد حجم هذا الخلط ينمو في المقابل وبالتوازي انفصام نكد بين منزلة من يحمل شيئاً من العلم وكفى، ومنزلة العالم القائد ودوره.
النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عالماً قائداً، وأبو بكر كان قائداً عالماً، وعمر وعثمان وعلي كانوا كذلك، بل كثير من خلفاء بني أمية، وبني العباس كانوا قادة علماء، وفي عهدهم وجد علماء قادة أمثال الإمامين عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل، لكنّ الاستقرار السياسي والاجتماعي ـ إلى حد ما ـ في تلك العهود هو الذي لم يُحْوِج أكثر علماء الشريعة إلى لعب دور قيادي ريادي على مستوى الأمة، واقتصر نشاطهم على الجانب العلمي.
وكلما كان الالتحام بين العلم والقيادة أقوى كانت حالة العالم الإسلامي أقوى، والالتحام الذي نقصده هنا ليس الالتحام بين جهة تسمى العلماء، وجهة أخرى تسمى القادة، لا، ولكن المقصود أن يجتمع في العلماء مهارات القيادة ومتطلباتها، ويجتمع في القادة أصول العلم؛ فنجد العالم قائداً، كما نجد القائد عالماً أيضاً.
ولا نعني بالقيادة هنا الموقع أو الوظيفة السياسية؛ فقد يكون العالم قائداً، ولم يتبوأ أي منصب وزاري أو سياسي أو عسكري، لكنه يقود الأمة بأقواله من خلال آرائه الشرعية الجريئة الواعية، كما يقود الأمة بأفعاله التي يشارك فيها جمهور الأمة آلامهم، وأتعابهم، وأفراحهم، نصرهم، وهزيمتهم لا سيما تلك الأفعال الشاقة التي تنطوي على مخاطر وتضحيات لا يقوم بها إلا الصادقون من المؤمنين، ألا وهم العلماء القادة الربانيون.
وحتى نقرب إلى الأذهان تلك الشخصية التي نبحث عنها نمثل بشيخ الإسلام ابن تيمية؛ فقد كان شخصية علمية فذة، لكنه في نفس الوقت كان شخصية قيادية من الدرجة الأولى، عاش في عصر تجمعه مع عصرنا بعض أوجه الشبه من حيث انتشار الاضطرابات السياسية والعسكرية من ناحية؛ فالتتار نزلوا بالبلاد، والصليبيون يتململون، والدول الإسلامية تعيش حالة من عدم الاستقرار السياسي لعدم وجود خلافة إسلامية مركزية بيدها التوجيه السياسي والاستراتيجي، ومن ناحية أخرى انتشار شيء من الفوضى الفكرية العقدية؛ حيث رفع الروافض عقيرتهم، وبالغوا في نشر مذهبهم وشبهاتهم، وانتشر التصوف الفلسفي المقيت، ثم تُوِّجَت هذه القلاقل بانعدام الرؤية الشرعية السياسية تجاه كثير من القضايا المصيرية؛ فطوائف من التتر استولوا على نواح من البلاد، وحكموا باسم الإسلام في الوقت الذي لم يطبقوا من الإسلام شيئاً؛ فهل يعتبر حكمهم شرعياً؟ وما هو الموقف من اعتدائهم على المسلمين وهجومهم على الولايات المسْلِمة الأخرى؟
كل واحدة من تلك القضايا تحتاج إلى مجامع علمية لإبداء الرأي والمشورة فيها، كما هي الحاجة إلى ذلك في عصرنا، لكن مجامعنا العلمية لم تنهض بهذا الحمل على الوجه الذي يوجه دفة العالم الإسلامي، بل ربما تقوقعت أو حصرت نفسها للبحث في دوائر ضيقة من النوازل الفقهية.
لكن شيخ الإسلام العالم القائد أبلى بلاء حسناً، بل قاد الأمة في كل قضية من القضايا السابقة إلى ساحل الإيمان والأمان، وليس هذا مقام ذكر مآثره في ذلك.
في العصر الحديث تكررت أمثلة أخرى للقيادة العلمية بدءاً بالشيخ المجاهد محمد بن عبد الوهاب الذي قاد الأمة في وقته قيادة علمية وعملية، فجاهد بلسانه، ولم يقبع في حِلَق العلم، بل تحرك بطلابه وأتباعه نحو الإصلاح الشامل، حتى جاهد بسنانه، فكان من آثاره دولة إسلامية، وقيادات علمية وعملية في بقاع أخرى خارج تلك الجزيرة.
ويحمي الله هذه الأمة بإخراج هؤلاء المجددين بين فينة وأخرى، فخرجت قيادات علمية فكرية عملية أمثال ابن باديس، والبنا، والمودودي، وغيرهم، وإن كان ثمت اختلاف وتباين في مقدرتها العلمية أو العملية، لكن الجامع لها كلها: قيادة الأمة بعلم وعمل.
لِمَ برز هؤلاء وانتشرت دعواتهم، ولا زالت ذاكرة الأمة محفورة بأسمائهم، وأفعالهم، وآثارهم؟
هؤلاء لم يكونوا حَمَلة علم فقط، ولم يكونوا أمراء ساسة، بل كانوا قيادات علمية، وإن لم يصل بعضهم إلى درجة يمكن أن يطلق عليه عالم، وهو ما نريده الآن.
إذاً خلاصة هذا التشخيص: «قلة العلماء المؤهلين بصفات قيادية، وانحسار دورهم».
قال الله ـ جل وعلا ـ: {وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] ، قال القرطبي تبعاً لجمع من المفسرين: (والرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره) ثم قال: (وكأنه يقتدي بالرب ـ سبحانه ـ في تيسير الأمور، وروى معناه عن ابن عباس) (1) ، ثم أورد في معنى الرباني نقولات وعبارات جامعة منها: (يدبرون أمور الناس ويصلحونها)، (العالم بدين الرب الذي يعمل بعلمه؛ لأنه إذا لم يعمل بعلمه فليس بعالم)، (الولاة والأحبار العلماء)، (وقال مجاهد: الربانيون فوق الأحبار)، (وقال النحاس: «وهو قول حسن؛ لأن الأحبار هم العلماء، والرباني الذي يجمع إلى العلم البصر بالسياسة مأخوذ من قول العرب: ربَّ أمر الناس يربُّه إذا أصلحه وقام به فهو رابٌّ ورباني). وفي شرح صحيح البخاري لابن حجر: (وَقَالَ ابْن الأَعْرَابيّ: لا يُقَال لِلْعَالِمِ رَبَّاِنيّ حتَّى يَكُون عالماً مُعَلِّمًا عاملاً).
فهؤلاء الذين تركوا بصماتهم على مسيرة الأمة ووجهوا الأمة وقادوها، و«أصلحوا» حالها تجمعهم خصائص مشتركة؛ فقد أخذوا بحظ وافر من علوم الشريعة، وخالطوا عدة أصناف من الناس، ولم يقتصروا على شرائح معينة من المجتمع، فعاشوا هموم الجميع، مرت بهم تجارب متنوعة وقاسية، من خلال الأسفار، والصراعات العسكرية والسياسية التي مرت ببلادهم، مزجوا علومهم بثقافات أخرى، سواء كانت ثقافات مستوردة من بلاد أخرى، أو معلومات مستقاة من تخصصات أخرى، كالتاريخ والأدب والسياسة والاقتصاد.
وضموا إلى ذلك كله مشاريع عملية قاموا بها أو شاركوا فيها بأيديهم، أو شجعوا على إقامتها، وعملوا مع أصحابها جنباً إلى جنب، أو بأقل الأحوال قدموا المشورة لأهلها. إنهم ليسوا حملةً للعلم فقط، بل حملةً للعلم عاملين بجميع جوانب علمهم دون الاقتصار على الجانب العبادي، إنهم علماء، قادة، ربانيون.
إن حامل العلم إذا قَصَر نفسه على حِلَق العلم، وحبس نفسه بين الكتب، وأسر نفسه لطلابه ومريديه، لم يكن من الربانيين الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره، فلن تكون لديه القدرة على تمييز مَن الأَوْلى بصغار العلم، ومن يحتمل كباره، وسيعجز عن نقل الأمة من مرحلة تلقي صغائر المسائل، إلى مرحلة تلقي كبارها.
` العجز من النقائص التي تسلب حَمَلة العلم صفة القيادة:
ويُخرج لنا انعدام أو فقد شيء من صفات القيادة وخصائصها، حَمَلة للعلم عجزة؛ نعم عجزة! عجزة عن الجهر بالحق؛ لأنهم درسوا علوماً أفرغت في عقولهم دون أن تجاوزها إلى قلوبهم وأخلاقهم وأعمالهم، فتمر بالأمة أزمات، فلا يقتصر عجزهم في مواجهتها على اتخاذ مواقف عملية جريئة، بل حتى في المواقف العلمية يقفون عاجزين حائرين عن الصدع بكلمة الحق، وينسون أن الله أخذ على أهل العلم الميثاق، {وَإذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] ، فتتخبط الأمة، ولا تخرج من شفاههم كلمة حق تبرئهم أمام الله جل وعلا.
في الصحيحين عن عمرو بن أبي عمرو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وقهر الرجال» وعرَّف الإمام النووي ـ رحمه الله ـ الكسل والعجز بقوله: (الكسل عدم انبعاث النفس للخير وقلة الرغبة مع إمكانه، وأما العجز: فعدم القدرة عليه، وقيل: هو ترك ما يجب فعله والتسويف به) شرح مسلم: (7/28)، وعلى هذا فهذان مرضا القعود؛ وذلك (لما فيهما ـ أي العجز والكسل ـ من التقصير عن أداء الواجبات والقيام بحقوق الله ـ تعالى ـ وإزالة المنكر والإغلاظ على العصاة؛ ولأنه بشجاعة النفس وقوتها المعتدلة تتم العبادات، ويقوم بنصر المظلوم والجهاد، وبالسلامة من البخل يقوم بحقوق المال، وينبعث للإنفاق والجود ولمكارم الأخلاق، ويمتنع من الطمع فيما ليس له) شرح مسلم: 7/30.
` العلماء والأمراض القلبية:
تلكم أمثلةٌ الجامعُ لها فَقْدُ الأهلية القيادية النابعة أولاً وقبل كل شيء من خلل في التنشئة والتربية؛ إذ حصرت تلك التنشئة على شحن العقول بمعلومات نظرية في حِلَق علمية افتقدت مساحات كبيرة من تربية الطلاب تربية قيادية شاملة، فخرَّجت لنا خدائج من حملة العلم، أو لنقل: أنصاف فقهاء.
وعليه فإن من الظلم أن نطالب هؤلاء بقيادة الأمة ولم يعرفوا أصلاً معنى القيادة، ولا يعوا ولا يملكوا كذلك شيئاً من مقوماتها.
الأمة معذورة في مطالبتهم، وربما لا يكونون هم معذورين في عجزهم، وكذلك الأمة قد لا تكون معذورة في إعادة صياغة حملة العلم، أو حلق العلم لتؤهل القادة بدل أن تقتصر على إخراج أنصاف الفقهاء.
أما كون الأمة معذورة في مطالبتهم فإن الأمة لا زالت ذاكرتها عبقة بسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ثم بتوجيهه حينما قال: «العلماء ورثة الأنبياء»، تقرأ عن الرسول وهو معلمها الأول وقائدها كيف كان عالماً، عاملاً، مربياً، قائداً، أباً، مصلحاً اجتماعياً.
` الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصفات الربانية:
لقد وقفتُ كثيراً عند بعض الأحاديث النبوية مفكراً في مرماها. تصفه -صلى الله عليه وسلم- عائشة ـ رضي الله عنها ـ في بيته بأنه يَخيط ثَوْبه، ويَخْصف نَعْله، ويعْمل ما يعمل الرِّجال في بُيُوتهمْ (1) وفي رواية لابن حبان ذكرها في فتح الباري: «مَا كان إلا بشراً منْ الْبشر، كان يُفلِّي ثوْبه، ويحلُب شاته، وَيَخْدمُ نَفْسه». تأخذه عجوز من عجائز المدينة فتكلمه في حاجتها حتى تقضي، سبحان الله! لِمَ لا نقول إن إلقاء محاضرة، أو تأليف كتاب أوْلى من هذا العمل؟ يصارع ركانة مرة، اثنتين، وثلاثة!
لا زالت الأمة تذكر من سار على نهج النبي -صلى الله عليه وسلم- من العلماء في هذا المنهج الشمولي؛ فلذا تطالب العلماء بدور قيادي كما اعتادته من العلماء.
لكن يبقى السؤال المحير، والمعضلة التي نريد لها حلاً: كيف نصنع القادة، أو كيف نجعل من العلماء قادة؟
هذا أمر طويل نحتاج فيه إلى ندوات، وحلقات علمية، ونقاشات يشارك فيها أهل العلم والخبرة، وعلماء الاجتماع، وخبراء التربية والتعليم، وغيرهم.
لكننا وبعد عرض المشكلة فيما تقدم ندرك بعض أهم أسباب القصور في تخريج العلماء القادة الذين نريد، والتي يمكن أن نرجعها إلى الطريقة التي تعلم بها أو تربى عليها حملة العلم أولئك، وهو موضوع مقالتنا.
وعليه فإن من المناسب أن يشار إلى بعض اللفتات ـ في حدود موضوع مقالتنا هذه ـ التي تسهم في وضع الحلول لهذه المشكلة، وأُسُّ الحل ورأسه أننا بحاجة إلى إعادة صياغة الأنشطة العلمية التقليدية: حِلَقاً، أو محاضرات، أو دراسات أكاديمية لتحويلها إلى برامج شمولية تخرج لنا علماء قادة ربانيين:
*د يحيى
19 - نوفمبر - 2010
التتمة    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
 1ـ لا بد من تحويل الحِلَق العلمية المتناثرة إلى برامج شمولية من الناحية العلمية أولاً، ومن النواحي التربوية الأخرى ثانياً. فأما من الناحية العلمية، فلا بد أن تراعى قضية التدرج، والتكامل؛ فالتدرج حتى لا يقفز الطالب إلى مرحلة أعلى قبل أن يهضم المرحلة التي تسبقها فينمو نمواً ذهنياً علمياً طبيعياً، أما التكامل فإنه لا يقتصر في تعليم الطالب على فن واحد، أو يضخم له جانباً من العلوم على حساب الجوانب الأخرى.
إنّ حلق العلم المنتشرة في كثير من البلاد الإسلامية حلق مباركة لا شك في ذلك، لكن الدراسة المنهجية تتفوق عليها بمراعاة هذا التكامل الضروري؛ فعلى الأقل أن يكون كبار العلماء على وعي من غياب التكامل الذي ينتج تلك النتائج السلبية، فإذا رأوا أن أكثر الطلاب مثلاً يقرؤون في العقيدة، مع إهمال غيرها من العلوم، وجهوهم لدراسة علوم أخرى كالتفسير، والفقه، والأصول، واللغة ونحو ذلك، بل إذا رأوا أن الطلاب أغرقوا في دراسة أبواب علم من العلوم، كما نشاهد من الكثير عند دراسة أبواب الإيمان من العقيدة، دون دراسة جميع مباحث العقيدة، أو كما نرى الطلاب يغرقون في دراسة أبواب الطهارة والصلاة دون أن يتمكنوا من دراسة جل أبواب الفقه من الجهاد، والبيوع، والنفقات، والقضاء، وغيرها.
إذا رأوا تلك المشكلات ـ بل يجب عليهم أن تكون لديهم القابلية على الرؤية، والمراجعة، والاهتمام بما يجري، على الأقل في مجالهم العلمي ـ إذا رأوا تلك المشكلات أن ينبهوا غيرهم من العلماء إلى التفطن إلى هذه القضية؛ كما أن عليهم أن يوجهوا الطلاب إلى ضرورة تلك الدراسة الشاملة.
أما من الناحية التربوية، فسيشار إلى نتف منها؛ إذ لا بد أن يضيف الشيخ إلى الدراسة النظرية بعض الجوانب التربوية مع تلاميذه بأن يربط لهم العلم النظري بالواقع وكيفية تطبيقه، ثم يمزج المسائل العلمية بالقلوب والإيمان، ويحرك بواعث الخُلُق الحسن من خلال الموضوعات العلمية التي يتناولها؛ ناهيك عن مزجها بالواجب تجاهها المتمثل في العمل على تطبيقها، والجهاد في الدفاع عنها مهتدياً بالمنهج الرباني؛ إذ يقول المولى: {وَالْعَصْرِ * إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] ؛ فتلك مراحل أربع لا بد منها في تلك العملية النهضوية، والمشروع التغييري.
2 ـ لِمَ لا نفكر جدياً بالخروج عن النمط التقليدي في حِلَق العلم التي عليها المعوَّل الأكبر لإخراج العلماء القادة؛ حلقة فيها شيخ يتكلم، وتلاميذ يستمعون، وقد يتاح لهم الفرصة للسؤال في آخر تلك المحاضرة أو الدرس، فلِمَ لا نفكر بالانتقال إلى طريقة حديثة في التعليم بأن تتاح الفرصة للطلبة للتحضير ثم إلقاء الدرس، وإتاحة الفرصة للحضور أن يسألوا ويناقشوا في حضرة الشيخ والشيخ يصحح ويوجه، وكذلك من الخروج عن الطريقة التقليدية في التعليم استخدام الوسائل الحديثة التي ارتبط استخدامها بالعلوم الأخرى: إدارية أو هندسة أو غيرها.
إن فوائد هذه الطريقة كثيرة جداً، منها أنها تعوِّد الطالب على تحمل المسؤولية، كما ترسل له رسالة واضحة بأن دوراً ما سيأتي لتلقي وتشارك وتعطي بدل أن تأخذ، كما أنها تجعله أقدر على البذل والعطاء، إضافة إلى أنها تثبت المعلومات بصورة سريعة، بالإضافة إلى أن استمراريتها يمنح الطالب شيئاً من الروح القيادية مع بعض مهاراتها.
3 ـ من أكبر ما ينقص بعض حملة العلم تصورهم لكثير من مسائل واقعهم تصوراً دقيقاً، وهذا كما أسلفنا خلل يؤدي إلى عواقب سيئة؛ فكيف يخرجون بأحكام عن مسائل لا يتصورونها، والحكم على الشيء فرع عن تصوره، ومن أهم أسباب ذلك أن كثيراً منهم حبس نفسه بين الكتب العلمية دونما قراءة لأحداث تاريخه الذي يعيش فيه، وعاش رَدَحاً من الزمن بعيداً عن الفهم العميق لمشكلات أمته التي هو أحد أفرادها، بل هو أحد أهم أفرادها. وإذا شخَّصنا أسباب هذا الداء عرفنا العلاج المتمثل في جعل دراسة الواقع العقدي، والسياسي، والاقتصادي، جزءاً لا يتجزأ من البناء العلمي لعلماء المستقبل. لِمَ لا ندرّس في حلق العلم شيئاً من أصول السياسة، ونتفاً من تاريخ الصراع بين الغرب والإسلام، وموقف المذاهب الهدامة من الدعوات الإسلامية، وأطرافاً من الأساليب الحديثة في الحرب على الإسلام؟
وحتى في الحلق العلمية نفسها نحسُّ أن قصر الشيخ نفسه على الدرس دونما تعرض ولو بالذكر لشيء من المشكلات الرئيسة التي تمر بالمسلمين في تلك الأيام يرسل رسالة غير مباشرة قوية التأثير مفادها عدم الاكتراث بتلك المصائب، أو أن البحث عن حلولها ليس من شأننا، أو أن تخصصنا هو ما بين أيدينا، وغير ذلك من الرسائل السلبية المدمرة للبناء القيادي للشخصية العلمية.
فلو جعل الشيخ افتتاحية الدرس، أو ختامه للتعرض لبعض الأخبار ونقدها لكان في ذلك خير كبير؛ إنه يولد لدى الطالب ضرورة الحرص على الاهتمام بشأن المسلمين؛ ناهيك عن أنه يوسع آفاقه ومداركه، وأهم من ذلك كله أننا سنجد بعد برهة من الزمن، وشيء من الخبرة والحنكة في تطبيق هذا، سنجد في تلك الحلق العلمية التي يشرف عليها حملة للعلم كبار نقاشاً جاداً لمشكلات الأمة التي تمر بها بدل أن يُجعل نقاش تلك الأمور في السراديب التي تقود إلى أنفاق مظلمة، فلا حرية في نقاشها، ولا إشراف من العلماء أصحاب الخبرة العلمية والعملية عليها، والنتائج نراها بأعيننا.
كما أن من فوائد ذلك أننا نشيع جواً من الحرية الصحية التي يحتاج إليها أي مجتمع يريد بناء نفسه بناءً صحيحاً متحرراً من ضغوط القهر أو إملاءات السلطة، وفي نفس الوقت نقطع الطريق على الطامعين الذين يستغلون تلك الأجواء المتوترة للهجوم علينا، أو المطالبة بتغييرات ليس لها علاقة أصلاً بالحرية، أو المشاركة في تسيير دفة الأمة. إن أقَلَّ المجتمعات اضطراباً هي أكثر المجتمعات انفتاحاً، ومنحاً للحرية الفكرية، ومتى صودرت حرية الإنسان في التعبير عما يختلجه صودر عقله، وصودرت قدرته على الإبداع، وقتل فيه دافع الإنتاج، وهذا سبيل تلك المجتمعات البائسة التي تسمى بالعالم المتخلف أو النامي.
4 ـ ومن الأمور التي تعين على إزالة ظاهرة التقوقع التي أصابت كثيراً من طلبه العلم، فأصابتهم بالعجز عن فهم كثير مما يجري حولهم؛ فضلاً عن المقدرة على إيجاد حلول مناسبة لتلك المشكلات: الكف عن امتداح منهج التقوقع هذا بحجة أن فلاناً لم يعرف سوى العلم، وفلان العالم لا يحسن شراء زجاجة من طيب، والعَالِم الآخر كان في مرحلة الطلب يغلق الأبواب على نفسه ولا يخرج إلا إلى الصلاة، وآخر وضع نفسه قيد الإقامة الجبرية حتى يحفظ تقريب التهذيب، ونحو هذا.
قد تكون هذه التصرفات لائقة في أوقات عز الإسلام ونصره، أو لبعض الناس دون بعضهم، لكن أن تُمتدح وتُصور على أنها المنهج الذي ينبغي أن يسلكه طالب العلم، فيحلم بها الطلاب، ويقلدون هذه الأفعال دونما فقه ومراعاة لتغير الأحوال والظروف، بل دون مراعاة لواجب الوقت؛ فتلك مشكلة.
5 ـ من المتقرر في الأذهان والنفوس أن الطلبة يتطلعون إلى شيخهم على أنه قدوة لهم، قصدوا ذلك أو لم يقصدوه، أراد شيخهم ذلك أم أبى؛ فإذا كان الشيخ يدرس طلابه آيات وأحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن النكر، ويرونه قاعداً في أواخر صفوف المواجهة، لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر؛ فكيف ستكون ردود أفعالهم؟ بل قل لي ـ بربك ـ كيف سينشؤون، أو ينشّئون؟ سينشأ لدينا بعد مدة من الزمن جيل من حَمَلة العلم قاعد، بل مشلول جبان، ليس لديه القدرة على إنكار منكر، أو الأمر بمعروف، فضلاً عن أن يكون لديه القابلية لتغيير واقعه.
لكن قارن حال هؤلاء الطلاب حينما يرون شيخهم في المحافل العامة يجدُّ ويجتهد: يخاطب هذا، وينصح هذا، ويتحدث مع هذا، يراسل الرئيس والأمير، ويذهب إلى الملأ ينكر عليهم في مجامعهم، يرونه فعّالاً مبادراً كما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
6 ـ ومن أهم الصفات في الشخصية القيادية القدرة على الإدارة، والتنظيم والانطلاق نحو الهدف، والمبادرة، والتعامل مع الظروف الصعبة، وغيرها، وكل هذه مهارات نبوية، لكن علماء المسلمين أغفلوها في هذا الوقت، وأغفلوا إبراز جوانب السيرة التي عُنيت بها، في الوقت الذي تلقَّفها غير المسلمين وتفننوا في الحديث عنها، وتطبيقها، وتطويرها، وتقريبها للناس بلغة مناسبة.
فإذا كان الحال كذلك ـ أعني أن تلك مهارات نبوية، وأنها أساسيات مطلوبة في الشخصية القيادية ـ فلِمَ لا نوليها عنايتنا بأن نجعلها من صُلب اهتمامات المؤسسات التعليمية، وحِلَق العلم، وبرامج التربية، بل نقول: لِمَ لا نَصُوغ حِلَق العلم بطريقة توفر أو تهيئ اكتساب تلك المهارات وتعليمها لطلبة العلم؟
7 ـ وربما أحلم، أو أذهب بعيداً لو طالبت بتقديم شيء من تلك المهارات على شكل دورات إدارية في الإدارة والقيادة لحملة العلم وطلبته الذين يتصدون لتدريس الناس وتعليمهم، لقد قلت: إني أحلم؛ ذلك أن حملة العلم قد تربوا على نمط معين في التلقي، ونمط معين في المعلومات المتلقاة، فيصعب على مثل هؤلاء تغيير تلك الأنماط السلوكية في زمن قصير، لكن لا أقل من أن نحاول، ونسير ولو بشيء من التعثر والبطء.
8 ـ ولا بد للشيخ كذلك من أن يمزج درسه العلمي بجوانب تطبيقية تمس الواقع، كأن يتحدث عن بعض المشكلات التي تواجه المسلمين عموماً أو تمس أهل البلد أولئك، وحبذا أن يستشهد على صحة كلامه بتحليلات خبراء ذلك المجال، ولو ذكر مصادره في استقاء تلك المعلومات لكان مفيداً جداً ليرى الطلاب عملياً ضرورة الاهتمام بأمور المسلمين، وأهمية عدم العزلة والانفراد.
وبعد: فتلك لفتات أظن أنها قد تفيد، لكن الأمر من قَبْلُ ومن بَعْدُ ينتظر وقفة جريئة من حزم عدة من أطياف شتى من أهل العلم، والخبرة، والتربية: للبحث عن الحلول الفعالة، والمؤثرة، والعلمية من أجل إعادة صياغة طرق التلقي والتعليم في حِلَقنا العلمية، لعلها تكون شيئاً من تغيير الخطط الذي يسهم في مواجهة خطط التغيير، والله المستعان.
*د يحيى
19 - نوفمبر - 2010
الدين دينان    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
الدين دينان:
منزل من السماء .. ومتخذ في الأرض
أ. د. جعفر شيخ إدريس
الدين دينان ينبغي أن لا نخلط بينهما فنحكم بأحدهما على الآخر، أو نستنتج من أحدهما نتائج ونسحبها على الآخر، أو نبني سياسة عملية على أحدهما حقها أن تبنى على الآخر.
الدين بالمعنى الأول هو الدين المنزل من السماء، المبلَّغ للناس عن طريق رسل الله. والدين بالمعنى الثاني هو ما يدين به الناس في الواقع فيما يعتقدون من عقائد، أو يلتزمون به من قيم، أو يمارسون من سلوك.
الدين بالمعنى الأول هو الحق كله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وأما الثاني فيكون حقاً بقدر مطابقته للأول وباطلاً بقدر مخالفته له. وما يترتب عليه من نتائج يكون بقدر تلك الموافقة أو المخالفة.
هذا الدين هو المشار إليه في مثل قوله ـ تعالى ـ:
{إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ} [آل عمران: 19] .
{إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} [البقرة: 132].
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33] .
وأما الدين بالمعنى الثاني فهو أيضاً أنواع:
نوع هو الممارسة البشرية للدين الحق المنزل من السماء، وهو المشار إليه في مثل قوله ـ تعالى ـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 104] .
{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي} [الزمر: 14] .
{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}[النساء: 125] .
المثل الأعلى لهذا الدين هو ما كان يدين به الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي كانت حياته المباركة ـ بأبي هو وأمي ـ كلها ترجمة عملية للدين الحق. مَنْ غير الرسول -صلى الله عليه وسلم- يمكن أن يقال عنه: (كان خلقه القرآن)؟ الرسول هو الذي شهد الله له بأنه على صراط مستقيم، وأنه يهدي إلى صراط مستقيم، وأن من أطاعه اهتدى، ومن عصاه غوى.
وأما غيره -صلى الله عليه وسلم- فيقتربون من هذا المثل الأعلى، ويبتعدون بقدر ما آتاهم الله من علم بالدين الحق، وصدق في القصد. وقد يؤدي الجهل ببعضهم إلى أن يتركوا من الدين جزئيات لا يعلمون أنها منه، أو لا يقوون على ممارستها، وقد يزيدون عليه جزئيات يظنون أنها منه، لكنه نقصان وزيادة لا تخرجهم عن أصل الدين، أو تجعلهم من الكفار أو المبتدعين. والمثل الأعلى لهؤلاء هم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم من سار على نهجهم، واستن بسنتهم من أئمة أهل السنة والجماعة.
ونوع هو خليط من الدين الحق والدين الباطل: ولعله هو المشار إليه في مثل قوله ـ تعالى ـ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 24] .
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلاَّ الْحَقَّ} [النساء: 171] .
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85] .
هؤلاء أقوام ينتسبون إلى كتب الله المنزلة، إلى الدين الحق، لكنهم يزيدون عليه أموراً من اختراعهم أو اختراع غيرهم. فإذا كانت من النوع الذي ينقض ما جاءت به رسل الله أخرجتهم عن الدين الحق مهما كان القدر الذي استمسكوا به منه. يدخل في هذا النوع اليهود والنصارى الذين كذبوا رسول الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، ونسبوا إلى الله الولد، وغير ذلك. ولكن يدخل فيه أيضاً كل من انتسب إلى الإسلام، وسلك مسلكهم باعتقادات، أو أعمال هي من نواقض الإيمان.
ونوع من الدين لا علاقة له بالدين المنزل من السماء البتة، وإنما هو من اختراع الناس، وهو المشار إليه في مثل قوله ـ تعالى ـ:
{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] .
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } [آل عمران: 85] .
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران: 83].
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}
[الشورى: 21] .
يدخل في هذا أديان المشركين من العرب، كما يدخل فيه من أهل زماننا أصحاب كل ما يسمى بالأيديولوجيات التي هي من اختراع البشر كالشيوعية والعلمانية. ولا تستغربن تسميتنا لها بالدين؛ لأن الدين في لغة العرب وحكم القرآن هو كل منهاج للحياة يجعله الإنسان ديدناً له مهما كان نوعه.
ما الذي نستفيده ـ نحن المسلمين ـ في عصرنا هذا من التمييز بين الدين المنزل من السماء، والدين الذي نمارسه في واقعنا ونسميه إسلاماً؟
مما نستفيده أولاً: إدراك صحيح لمفهوم تجديد الدين، فندرك أن الدين الذي يجدَّد هو الدين الذي نمارسه لا الدين الذي أنزله الله تعالى؛ لأن الدين الذي يَبلى ويحتاج إلى تجديد هو الدين الممارَس في الواقع لا الدين المنزل من السماء. وتجديد الدين الممارَس إنما يكون بجعله ـ بقدر اجتهاد المجتهدين وقبول المخاطَبين ـ موافقاً للدين الحق المنزل من السماء. لكن بعض الناس في زماننا يجنحون إلى عكس ذلك تماماً، فيحرِّفون الدين المنزل من السماء ليوافق ممارسات المسلمين، بل وممارسات الكافرين؛ بحجة جعل الإسلام صالحاً لكل زمان ومكان. ينسى هؤلاء أن ما يميز الإسلام المنزل من السماء هو صلاحيته كما هو لكل زمان ومكان. ولو أن هذه الصلاحية كانت لا تتأتى إلا بزيادة عليه ونقصان منه لما كان له فضل على غيره من مذاهب الحياة والأديان؛ لأن كل دين وكل مذهب في الحياة يمكن أن يغير فيه، ويبدل لكي يكون موافقاً للأهواء الشائعة في عصر من العصور. فالدين الحق صالح لكل زمان ومكان لا بمعنى موافقته لما يشيع في العصر من أهواء، بل لموافقته لما يُصلِح الإنسان ـ من حيث هو إنسان ـ في كل زمان ومكان؛ لأنه وإن كان قد نزل على رسول الله في زمان معين ومكان معين إلا أنه ليس مرتبطاً بذلك الزمان وذلك المكان. كيف لا، والرسول النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- إنما أرسل للناس كافة رحمة للعالمين؟
ومما نستفيده ثانياً: أن نحلل واقعنا تحليلاً صحيحاً، نعزو به النتائج إلى أسبابها الحقيقية المتمثلة في الدين الواقعي الذي تدين به مجتمعاتنا، بكل ما فيه من شرك وبدع وانحرافات، فلا نبني هذه التحليلات على افتراض أن ما تدين به هذه المجتمعات مطابق للدين الذي أنزله الله؛ لأنها تسمى بالمجتمعات الإسلامية. هنا أيضاً ضل بعض الناس بسبب هذا الافتراض سواء كان عن جهل أو عن غرض، فصاروا ينسبون إلى الدين الحق كل ما تعانيه الأمة من أمراض في التخلف الاقتصادي والصناعي، بل والفكري. قاد هذا التحليل المضلل جماعة من المفكرين الغربيين، ثم تبعهم فيه جماعة من المقلدين لهم من أبناء العالم الإسلامي.
إليك مثلاً ما قاله بعضهم عن ظاهرة الحكم الاستبدادي وعدم الديمقراطية في العالم العربي.
كتب أحدهم في مجلة تعد من المجلات الفكرية الرصينة عندهم يقول: إن السبب في أن المرشح للرئاسة يجب أن يكون شخصاً واحداً، وأنه يجب أن يحصل على أكثر من تسعين بالمئة من الأصوات هو إيمان المسلمين بمبدأ الإجماع!
وقال آخر إن السبب في عدم معارضة المسلمين للحكام المستبدين هو أن دينهم قائم على فكرة الاستسلام لله!
وقال ثالث: إن السبب في هذا هو أن هنالك علاقة قوية بين الديمقراطية والعلمانية التي تقتضي تقديم العقل على النص، لكن الدين الإسلامي لا مجال فيه لهذا. هذا مع أن فقهاء المسلمين ما زالوا يكررون أنه إذا كان النص صحيحاً فلن يخالف عقلاً حتى نضطر لتقديمه عليه؛ لأن المخالف للحق هو بالضرورة باطل. وكلام الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
كل هذه التفسيرات بالإضافة إلى سخفها قائمة على افتراض باطل هو أن المسلمين الذين عانوا من ويلات الاستعمار، ويعانون من أمراض التخلف الاقتصادي والتقني، ويرزحون تحت حكم دكتاتوري هم أناس عالمون بدينهم الذي جاء به رسولهم، مخلصون في الاستمساك به، وأن أولئك المستبدين إنما صاروا كذلك؛ لأنهم يعتقدون أن هذا مما يأمرهم به دينهم الذي هم حريصون على تطبيقه في دولهم.
مما نستفيده ثالثاً: أمر يتعلق بتطبيق الشريعة. إن كثيراً من إخواننا الذين نحسبهم صالحين يفترضون في مناداتهم بتطبيق الشريعة أن مجتمعاتهم مجتمعات كاملة في إسلاميتها، وأنه يمكن لذلك أن يطبق عليها كل ما تقتضيه الشريعة من أحكام كما كان الأمر في زمان الخلافة الراشدة. لو كان هذا الافتراض صحيحاً لما زال الحكم الإسلامي أصلاً، ولما اضطررنا للمناداة بالعودة إليه. فعلينا إذن أن نتعاون مع من نحسبه مخلصاً من حكامنا في العودة بنا إلى الالتزام بما أنزل الله تعالى؛ بأن نعترف بأن في الأمة أمراضاً وانحرافات وجهل، فنتدرج في العودة بها إلى الدين الصحيح مقدمين الأهم على المهم. أنا أعلم أن بعض المنافقين اتخذوا من مبدأ التدرج ذريعة إلى الدعوة إلى الإعراض عن الدين. مع أن التدرج ـ كما يدل عليه لفظ الكلمة ـ إنما هو رقي الدرج. فمن وقف بعيداً عن الدرج لا يعد متدرجاً. لا بد إذن من البداية ومن الرقي بحسب حال المجتمع الذي يراد له أن يحكم بشرع الله. فالمجتمعات الإسلامية تختلف اختلافاً كبيراً في قربها وبعدها من الدين الصحيح. فكلما كان المجتمع إلى هذا الحق أقرب كان الرقي به أسهل وأسرع.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
*د يحيى
19 - نوفمبر - 2010
أفق أخضر    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
د. عبد الكريم بكار
عند التأمل في طبيعة المشكلات التي يعاني منها الناس فإن المرء لا يتردد في القول إن لكل مشكلاتنا الكبرى حلين: حلاً عاماً، وحلاً خاصاً.
الحل العام يحتاج إلى بحوث ودراسات مستفيضة، كما يحتاج إلى أفكار ومفاهيم كبرى ومعقدة. والمساهمات فيه تتفاوت تفاوتاً كبيراً بحسب القدرة والمسؤولية والاختصاص. وهو حل يحتاج إلى وقت طويل؛ لأنه يستدعي تغييرات في البيئة المحيطة. وكثيراً ما تكون مساهمات الدول فيه هي الأساس؛ لأنه قد يستلزم تغييرات في النُّظُم والتشريعات وأولويات الصرف المالي. وهذا الكلام ينطبق على الفقر والمرض والبطالة والجهل والانحطاط الخلقي وتعاظم النزعة المادية وأشياء أخرى من هذا القبيل. وسيكون من المفيد دائماً نشر الوعي العام بهذه المشكلات، وحث الناس على دعم الحل العام، والمساهمة فيه على قدر الوسع والطاقة.
أما الحل الخاص فإنه يحتاج إلى نوع من اليقظة الفردية والشخصية لدى الإنسان المسلم. وأعتقد جازماً أن الحل الخاص كثيراً ما يكون أنجع من الحال العام وأبقى وأكثر إمكانية. إن لدى أفراد الأمة طاقات وإمكانات هائلة، لكن لعدد من الأسباب لا تتم الاستفادة منها، وإن هناك ارتباكاً عاماً في استثمارها وتوظيفها وإدارتها. خذ على سبيل المثال مشكلة (البطالة) هذه المشكلة يسهم فيها الأفراد أكثر من أي جهة أخرى، وحلها يحتاج أيضاً إلى مساهمات فردية قوية وبنّاءة. إن المرارات الموجودة في الواقع الإسلامي هي في معظمها من صنع المسلمين، أو هي المحصول النهائي لأعمالهم ومواقفهم وعلاقاتهم، وإن التخلص منها متوقف على تغيير سلوكيات أولئك الذين أوجدوها، وما زالوا يساعدون على استمرارها. إن من المهم أن ندرك أننا لا نستطيع أن نبني أمة أقوى من مجموع أفرادها، وإن الفرد الذي لا يؤهل نفسه، ولا ينظم شأنه الخاص، ولا يتلقى ما يكفي من التعليم والتدريب إن ذلك الفرد يسهم في تفاقم أزمة البطالة عوضاً عن أن يساعد على حلها.
سوف تختلف أشياء كثيرة في حياتنا، بل قد تتغير ملامح الوجود الإسلامي كله إذا تصرفنا وفق المفاهيم والمبادئ الآتية:
1 - كل مسلم يخفق في حل مشكلاته الخاصة يتحول هو نفسه إلى مشكل اجتماعي، ويصبح عبئاً على غيره.
2 - أي تحسّن يطرأ على حياة أي مسلم ينعكس في النهاية إيجاباً على باقي أفراد الأمة، أو المجتمع بصورة من الصور.
3 - مشكلة المسلمين الأساسية مع الممكن، وليست مع المستحيل.
4 - تركيز العمل دائماً ضمن دائرة التأثير، وتقليل اللغو فيما هو داخل دائرة الاهتمام.
5 - إذا عملنا ما هو ممكن اليوم صار ما هو مستحيل اليوم ممكناً غداً.
6 - لا نجاح لأي حل عام إلا بمساندة الحلول الخاصة.
7 - العمل وفق قول الله ـ تعالى ـ: {لا تُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84] .
والله الموفق.
*د يحيى
19 - نوفمبر - 2010
عِبَر من فتنة ( دارفور).    ( من قبل 2 أعضاء )    قيّم
 
أ. د. جعفر شيخ إدريس
كثيراً ما نردد القول بأن الإسلام منهاج حياة متكامل، وهو قول صحيح، لكننا قلما نهتدي بهذا الدين في شؤون حياتنا كلها، ولا سيما ما كان منها متعلقاً بالحياة الاجتماعية والسياسية. إننا كثيراً ما نتصرف في هذا الجانب من حياتنا وكأن الإسلام لا قول له فيها وهدي، بل كثيرا ما نقتدي فيه بما هو شائع في عصرنا من فكر ولا سيما الفكر الغربي. ولو أننا اهتدينا في هذا المجال بهدي ربنا وعددناه أمراً لازماً لنا باعتبارنا مسلمين، لتجنبنا كثيراً من المشكلات، ولكانت حياتنا أحسن وأسعد.
خطر ببالي هذا وأنا أتأمل فتنة دارفور التي صار السودان لا يُعرف إلا بها. تأملت بعض ما حدث فخطر ببالي:
أولاً: أننا كثيراً ما ننسى أمر الله ـ تعالى ـ لنا بالشورى، وأن لا يستبد أحد أو أفراد منا بالبت في أمر يهم غيرهم كما يهمهم. كان الخلفاء الراشدون من أكثر الحكام استشارة للناس وكانوا ـ كما ثبت عنهم ـ أكثر استشارة لهم في أمر الحروب؛ وذلك لأن الحرب شأن يهم كل إنسان لما له من تأثير قد يكون كبيراً على حياته. لكن إخواننا من أبناء دارفور الذين أشعلوا نار الفتنة هذه لم يروا أن من حق أهليهم عليهم أن يستشيروهم قبل إقدامهم على أي عمل عسكري. ما ذا يفعل أهلهم هؤلاء الذين لم يستشاروا، والذين قد لا يرون ما رأوا؟ هل يدخلون في حرب معهم أم هل يرضون بأن يستبدوا بالأمر دونهم؟
ثانياً: لو أنهم ـ وهم المسلمون ـ اهتدوا بهدي دينهم لعلموا أن رسولهم -صلى الله عليه وسلم- نصحهم بأنه ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه، ولبدؤوا لذلك بسلوك طرق الرفق في محاولتهم لما يريدون من رفع ظلم يرونه واقعاً على منطقتهم.
ثالثاً: ولو كانوا يهتدون بهدي دينهم لعلموا أن من أكثر ما حذر منه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأئمة السنة من بعده هو الخروج المسلح على السلطة المسلمة الحاكمة. ولم يحذر الرسول من هذا إعانة للحكام الظلمة ـ حاشاه ـ وإنما حذر منه لعلمه -صلى الله عليه وسلم- بأن ما ينتج عن مثل هذا الخروج من مفاسد هو أضعاف ما يرجو الخارج تحقيقه من مصالح. لكن إخواننا الذين أقدموا على هذا الخروج إنما تأسوا فيه بسنة قرنق. قولوا لي بربكم: ماذا حقق قرنق؟ نعم لقد اضطرت الحكومة لمصالحته، بل لأن يكون نائباً أول لرئيس الجمهورية. لكن ما الثمن الذي دفعه أهل السودان جنوباً وشمالاً في مقابل ذلك؟ هلاك مليونين أو أكثر، وتشريد الجنوبيين أيدي سبأ، حتى إن عدده بشمال السودان صار أكثر منه بجنوبه؟ أهذا عمل يُقدم عليه إنسان في قلبه رحمة لأبناء بلده، أو حرص على مصلحتهم؟ وماذا حقق الخارجون من أبناء دارفور؟ موت المئات، وتشريد الآلاف، وحرق القرى وضياع الأموال، ثم التهديد بالوباء؟ هب أن الضغوط اشتدت على الحكومة وأنها اضطرت لمصالحتهم وإعطاء قادتهم ما أعطي قرنق؛ أذلك ثمن يدفعونه للحصول على هذه الجائزة؟ وعلى فرض أن الحكومة كانت مسؤولة عن الضر الذي سوغوا به الخروج عليها؛ فهل كان ذلك الضر أكبر من هذا الذي وقع بسبب فتنة الخروج؟
رابعاً: ألا يحزن إخواننا الذين تسببوا في هذه الفتنة على التشويه الذي أصاب سمعة بلد كان اجدادهم ولا يزال معاصروهم من صناعه والدفاع عن أرضه ودينه؟ أيحسبون أن هذا التشويه لسمعة بلادهم لا يصيبهم كما أصاب غيرهم؟ أليس من ضيق الأفق أن يظن أن هذا كله أمر لا يشين إلا سمعة حكومة هم أعداؤها؟
خامساً: وإذا كانوا قد رأوا أن من حقهم أن يثوروا ثورة مسلحة على حكومة بلادهم؛ فكان ينبغي أن يتوقعوا أن يهبَّ لمساعدتها خصومهم المناصرون لها. لكننا نبادر فنقول: إنه إذا كان من حق هؤلاء الخصوم أن يدافعوا عن حكومة مشروعة، فليس من حقهم أن يتجاوزوا الشرع في دفاعهم عنها. ليس من حقهم أن يحرقوا القرى، ولا أن يعتدوا بالقتل على الأبرياء، ولا يجلوا المسالمين من الرجال والنساء والولدان. وإذا صح أنهم تجاوزوا ذلك بالاعتداء الجنسي على نساء مسلمات فليعلموا أن هذا ظلم لا يجوز ارتكابه حتى في حق الأعداء من الكفار. وعلى الدولة أن تعاقب كل من ثبت ارتكابه لمثل هذه الفظائع.
سادساً: نقول كل هذا على افتراض أن ما حدث من خروج كان بدوافع الغيرة والحرص على مصلحة الأهل ورفع الظم عنهم. أما إذا صح ما يقال من أن كل هذا إنما كان لتحقيق مآرب سياسية حزبية ولإحراج حكومة هم من خصومها أو أعدائها او ضد توجهها الإسلامي، فإن الأمر يكون أفظع والجريمة تكون أكبر.
سابعاً: أرأيتم كيف فرح أعداء المسلمين بهذه الفتنة (التي يقال إنهم من صناعها) وكيف تداعوا إلى استغلالها، وكيف صوروها بغير صورتها من أنها تطهير عرقي، وأنها حرب بين العرب والأفارقة، وأنها من صنع حكومة عربية إسلامية لا تراعي في أعدائها الأفارقة ديناً ولا إلاًّ ولا ذمة، وأنهم إنما تداعوا للدفاع عن هؤلاء المظلومين، والانتقام لهم من حكومتهم الظالمة بالضغط عليها وتهديدها، وربما باتخاذ هذا ذريعة لغزو السودان وإعادة استعماره، ولكن باسم بعض الأسماء من أبناء وطنه كما حصل في أفغانستان والعراق؟
أحديث عن تطهير عرقي في بلد عقد صلحاً مع قرنق ليكون نائباً أول وهو رجل ليس فيه قطرة من دم عربي؟ أحديث عن عرب وأفارقة في وصف قوم يصنفون جميعاً ـ عند الأمريكان ـ بأنهم سود؟ أحديث عن دولة تعتدي على فئة من مواطنيها وهي فئة يزخر بها جيشها وتزخر بها عاصمتها، وتشارك في حكومتها وحزبها؟ ما بالهم لم ينبسوا ببنت شفة حين حركت حكومة كلينتون قواتها عام 1993م لتحاصر فئة من أبناء بلدها في مدينة واكوا بتكساس كانت عصت أمر الحكومة بتسليم أحد أعضائها، فكان عقابها أن قطعت تلك القوات الماء والكهرباء عن القاعة التي كانوا معتصمين بها، ثم نفخت فيها غازاً التهب فأحرق كل من كان فيها من الرجال والنساء والأطفال البالغ عددهم أربعة وسبعين نسمة. وقد قيل إن حادثة كلوهوما إنما كانت انتقاما لهؤلاء المساكين. وما بالهم لا يعترضون على الآلاف من مواطني العراق الذين تعتدي عليهم قوات اجنبية أمريكية أو بريطانية؟ السبب هو أننا قوم ضعفاء سلاحاً واقتصاداً، وأن هؤلاء قوم لا يحترمون إلا من كان قوياً. ألا تراهم إذا توجهوا إلى السودان قالوا في استكبار إنهم ذاهبون ليضغطوا على الحكومة؟ أتراهم قائلين ذلك لو كانوا ذاهبين إلى الصين؟
ثامناً: مهما يكن من أمر فلا بد من إسكان هذه الفتنة بوفاق وسلام؛ فالله ـ تعالى ـ يأمرنا إذا تقاتل فئتان منا أن نصلح بينهما ويأمرنا إلى اللجوء إلى الصلح حتى بعد قتال الفئة التي تصر على البغي. إن الوفاق هو الذي يهدئ الخواطر ويعين على اجتثاث الحقد من القلوب. وأما بغير صلح ووئام فتبقى البغضاء دفينة في النفوس، ويوشك أن يستعر أُوارها لأدنى شرارة تقترب منها.
{وَإن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإن بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
[الحجرات: 9] .
والله الموفق والهادي إلى سواء الصراط.
__________
*د يحيى
19 - نوفمبر - 2010
علاقات اجتماعية    ( من قبل 2 أعضاء )    قيّم
 
http://ehabs.jeeran.com/HOME/?ref=tbar-next
*د يحيى
18 - ديسمبر - 2010
الصوفية    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 

                     مفتي حلب الدكتور عكام يتحدث عن الصوفية
استضافت القناة الأولى المصرية وضمن برنامج "العربي مع يسرا" يوم الأحد 12/12/2010الدكتور الشيخ محمود عكام في حلقة تناولت تاريخ الطرق الصوفية ومنهجها وأسلوبها. وقد ذكر الدكتور عكام تعريفاتٍ عدة للتصوف، وعلاقة التصوف بالأخلاق وعلاقته بالإحسان، ثم بيَّن الفرق بين تجليات الإسلام وتجليات الإيمان، وتحدث عن الصحوة الإسلامية والصحوة الإيمانية. وفيما يلي مقتطفات من اللقاء:

من تعريفات التصوف: أن يميتك الله عنك، وأن يحييك به.
أن يميتك الله عن ذاتك وأن يحييك بربك، فلا ترى لنفسك وجوداً إلا من خلال ارتباطك بربك، تريد ما يريد، وتفعل ما يريد. وفي هذا إشارة إلى لحديث القدسي: "وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه).
من تعريفات التصوف أيضاً: اليأس فيما في أيدي الخلائق. أن تيأس من الخلق وتعتمد على الحق، فأنت تطلب من الناس صورة، لكنك تطلب من الله حقيقة.
من التعريفات أيضاً: التصوف كله أخلاق فمن زاد عليك بالأخلاق، زاد عليك بالتصوف. وحديثهم عن الأخلاق من خلال نقطتين: التخلي عن الأخلاق السيئة، والتحلي بالأخلاق الحسنة.
فالأنانية والبغضاء والحقد والشحناء والعداوة والإرهاب والتطرف والشدة والقسوة أمراض يجب أن يتخلى عنها من يريد أن يسلك طريق الصوفية التربوية السلوكية، وأن يتحلى بالحب والتسامح والسعادة والطمأنينة وإشعار الآخرين - مَنْ كانوا - بمحبتهم، وأن يتسامح مع كل الناس، بل حتى مع الجماد والحيوان.
يقول سيدنا الإمام علي الذي هو مَشعُّ الصوفية: "ما نظرتُ شيئاً إلا رأيت الله قبله وبعده وعنده" فكيف سيتصرف من يرى الله قبل الشيء وبعده وعنده. سيتصرف معه تصرفاً رحموياً. وأهم ما يركز عليه الصوفيون السلوكيون والتربويون خلق الرحمة، ويقولون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة، فلنكن رحماء. ولا يمكن لصوفي أن يكون كذلك إلا إذا كان رحيماً.
عندما قرأت قوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) قلت بأن الأرض هي التي نعيش عليها، هذا أولاً، وثانياً: إن الصالحين الذي يستحقون أن يرثوا الأرض هم الراحمون، لأن الآية التي بعدها فسرت الصالحين بقوله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
أما تعريف الرحمة، فبعد أن تقصّيت هذا المصطلح قلت: الرحمة عطاء نافع برفق. والرسول عليه الصلاة والسلام قال: "إنما أنا رحمة مهداة"، وقال عن نفسه: "أنا نبي الرحمة"، وقال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وقال: "بشروا ولا تنفروا"، ووصفه الله في القرآن بأنه الرؤوف الرحيم.
- تجليات الإسلام ودلائله هي الصلاة والصيام والزكاة، وهذه والحمد لله لا نعاني منها، والناس اليوم يصلون أكثر مما كان الصحابة يصلون، ويصومون أكثر مما كان الصحابة يصومون، لكن المشكلة ليست في تجليات الإسلام، بل في تجليات الإيمان، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" وقال أيضا: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن: من لا يأمن جاره بوائقه" أياً كان هذا الجار مسلماً أم مسيحياً أم بوذياً... وبوائقه يعني أدنى الشر. فدلائل الإيمان أخلاق.
- ونحن نقر اليوم بوجود صحوة إسلامية، ولكن المشكلة في عدم وجود صحوة إيمانية، ونحن بحاجة إلى هذه الصحوة الإيمانية من أجل أن يتراحم الناس فيما بينهم ويعطفوا على بعضهم.
- سيدنا علي رضي الله عنه أرسل إلى واليه في مصر مالك بن الأشتر قائلاً: "والناس صنفان، إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق". وهذا الذي أسَّس للصوفيه، فهم يبحثون في المعاني والحقائق. هم لا يبحثون في الصلاة وأحكامها، بل يبحثون في تحقيق الصلاة لأغراضها من خلال إخلاص العبد لربه عز وجل، ومن خلال امتناعه عن الفحشاء والمنكر، وكفِّ أذاه عن الناس.
- للفعلة مستويان: شكلي ومضموني، وحين اهتمَّ الفقهاء في المستوى الشكلي، اهتم الصوفيون بالمستوى المضموني، وقد نبهنا الله إلى أن الأهمَّ هو الأسلوب فقال: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى).
- لذلك كان التصوف إحساناً، والإحسان هو الأسلوب الأمثل لأداء ما وجب علي أداؤه. وتحسين الأسلوب يكون عندما يستشعر الإنسان بأنه مراقب: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
*د يحيى
17 - يناير - 2011
سلام و تحية و رجاء    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
 
 
 بسم الله و الحمد لله و الصلاو و السلام على رسول الله
 
أستاذي الجليل : { الدكتور يحيى }
 
كل التقدير و الإحترام و الإمتنان لشخصكم الكريم و همتكم العالية على هذا الوفاء و التفاني في خدمة الناس ... و سيد الناس خادمهم ...
 
أغلى ما أتمناه هو أن تتيسر ظروف العودة إلى أحضان مجالس الوراق و شرف مشاركة الإخوة و الأخوات " سراة " هذا المنبر المبارك و تجديد اللقاء بهم...
 
أدعو لي  و ادعو معي ...أيها الرجل الطيب فإني لا أشك في علو قدرك ، و صفاء سريرتك ...
 
 اللهم يسر عودتي إلى المشاركة في مجالس الوراق : آمين آمين يا رب العالميــــن .
*لحسن بنلفقيه
20 - يناير - 2011

 
   أضف تعليقك