وكان لهذا الاندفاع نحو العالم الفردي الخاص أكبر الأثر في تغلب الذات على الموضوع، وهو أول الطريق إلى الإبداعية من حيث هي فن حديث. وفي هذا المجال يقول دولاكروا: «إنه لمن الضروري أن يجد الفنان لنفسه طريقة خاصة ينظر بها إلى الأشياء، فروح الفنان كالبرونز الذي يعطي جرسه عند كل صدمة، وقد تكون الروح في تأمل الطبيعة أو في قراءة شاعر، ولقد استوحيت الكثير من قراءتي لغوته وشيلر Schiller وبايرون وشكسبير، ولم تكن الطبيعة نموذجاً بل هي إثارة».
وهكذا ابتعدت الإبداعية عن الالتصاق بحقيقة الواقع، وسعت وراء عوامل بعيدة عن البيئة التقليدية، فنفذت إلى ما وراء أسرار الشرق وسلطت أضواءها على ظلام القرون الوسطى، وراح الفنان يبحث عن السراب ليجعل منه حقيقة.
ففي فرنسة تجلت الإبداعية في أعمال أوجين دولاكروا الذي تزعم الحركة الإبداعية بلامنازع زهاء أربعين عاماً، فقد امتزجت الإبداعية لديه بثقافة تقليدية عميقة، وتأثر بمؤلفات غوته وشكسبير وسكوت. فقد كان يتمتع بعاطفة جياشة وجموح وعنفوان محمومين وخيال خصب، كما كان من ناحية أخرى، صاحب ذهن صاف وحكمة ونظام واتزان. ويمكن أن يعدّ فنّه امتداداً لعصر الباروك ولاسيما لفن ميكيلانجلو Michelangelo [ر] وتينتورِتّو Tintoretto [ر] وروبنز Rubens [ر]، وكان دولاكروا في رسومه بالقلم أو الألوان المائية يطلق العنان لنشوته ودفق عاطفته. وكان خياله أميل إلى عالم الكوارث والفواجع وعالم المعارك والمذابح والحرائق والسماوات المنقضّة، لذلك حفلت لوحاته بصور الجرحى والجثث التي يخيم عليها شؤم الأقدار، والأجسام الملتوية، والخيول الجامحة، والوحوش التي أريقت دماؤها، والأمهات الولهى، والأطفال الذين تدوسهم سنابك الخيل. وفي تعبيره عن الحركة الدرامية جعل لغة الألوان تؤدي دوراً أساسياً، فهي مادة هذه الحركة وقوامها، وليس مجرد صبغة إضافية لكسوة الأجسام. وقد استفاد دولاكروا في هذا الصدد من أسلوب كونستبل، فاستخدم الألوان استخداماً يقوم على الفصل بين درجاتها للحفاظ على حيويتها. فهو كما يقول بودلير: يؤلف بينها كما يصوغ الموسيقي أصوات السلم الموسيقي السبعة، فيستخرج منها مختلف الألحان. ومن أشهر أعمال دولاكروا «الحرية قائدة للشعب» (1831) و«مذبحة سيو» (Le Massacre de Scio (1823 و«موت ساردانابال» La Mort de Sardanapale (1828). وجاء تيودور جيريكو T.Géricault [ر] ليدعم بأعماله أسس الإبداعية، واعتمد في فنه على المبالغة في التعبير عن الحوادث مما دفعه إلى الإكثار من تصوير جثث الموتى والمجانين. واستطاع هذا الفنان أن يجمع في فنه تأثيرات متضاربة: فقد تأثر بميكيلانجلو وغرو Gros وروبنز وكارافاجو Caravaggio وكونستبل ومورلاند Morland. ومن أهم لوحات جيريكو «طواف الميدوز» (قنديل البحر) (Le radeau de la méduse (1817، وهذه اللوحة التي تقف عند حيوان بحري هلامي يضيئ في الليل تتجاوز أوضاع الحادثة المرسومة وملابساتها، وتكتسب قيمتها من كونها رمزاً للحالة الإنسانية بكل ما فيها من ألم وصراع بين اليأس والأمل. كذلك قدمت الإبداعية في فرنسة أعمالاً رائعة في مجال آخر هو «المناظر الطبيعية» ولكنها تخلت هنا عن المكانة الأولى لألمانية وإنكلترة في هذا المجال إذ كان المنهج الأكاديمي أقل تصلباً ومتانة.
|
جوزيف تورنر ـ مشهد قصر وندسور من نهر التيمز نحو سنة 1805 ـ مجموعة بتوورث في سسكس |
واهتم الفنانون الإبداعيون في ألمانية بالمناظر الطبيعية، وعبّروا بوساطتها عن مشاعرهم ورؤاهم ذات الطابع الخيالي الميتافيزيقي أو السريالي. وتبدو مثل هذه المشاعر في أعمال فيليب أوتّو رونغِه (Ph.O.Runge (1777 - 1810، وكسبار دافيد فريدريخ، وهذا الأخير قدّم للإبداعية شكلاً تصويرياً فريداً مستقلاً عن التقاليد المتبعة في رسم المناظر وترتبط أعماله بمشاهد الطبيعة، ووقع الأضواء والألوان الباهرة، وبزوغ القمر وغروب الشمس وامتداد البحر، والجبال المكسوة بالثلج، وغيرها من المشاهد الطبيعية التي تفرض نفسها بتأثيرها التعبيري النفساني ورمزيتها التصويرية وتعبر عن علاقة «الأنا» بالطبيعة.
|
أوجين دولاكروا ـ نساء جزائريات في دارهن ـ 1834 ـ متحف اللوفر في باريس |
وفي إنكلترة تجلت الإبداعية بمظاهر جديدة وبأشكال مختلفة لفتت انتباه الوسط الفني الأوربي، ويعدّ كونستبل وجوزيف تورنر J. Turner (1775 - 1851) من أبرز الفنانين الإبداعيين الإنكليز. فقد ارتبط عمل كونستبل ارتباطاً مباشراً بالطبيعة وانتقل بألوانه وأدواته إلى الطبيعة العراء ليصورها إذ عشق سماءها وأضواءها ورياحها وأمطارها في واقعها الحي النابض بأدق معالمها. وقد هوجمت أعماله في فرنسة من الاتباعيين الذين لم يجدوا فيها سوى تصوير لمشاهد ريفية تافهة. ومن أشهر أعماله: «حطام السفينة» (1805). أما تورنر فيعد من أبرز ممثلي الرؤية الداخلية. وبفضل أعماله ذات الطابع الشاعري، وألوانه الشفافة، والحركة المنبعثة فيها من الجمود، استطاع أن يحدث انقلاباً في التصوير مهّد للتحولات الفنية التي شهدها القرن التاسع عشر بعد ذلك، وقد حافظ الفنانون الإبداعيون الإنكليز في تصويرهم الطبيعة على ملامحها الخارجية وأبقوا على ميزاتها الأساسية وعلى صفائها، مستخدمين الألوان المائية التي جعلوا منها فناً رفيعاً. لكن تورنر الذي ترك مجموعة كبيرة من الأعمال المائية الرائعة استطاع أن ينقل شفافية الألوان المائية إلى اللوحات الزيتية حيث تغيب الجزئيات ويتحول المشهد إلى كتلة لونية تبهر الناظر بأضوائها.
|
فرانشيسكو غويا ـ الإعدام في 3 أيار -1808 ـ متحف إلبرادو في مدريد |
وأما في إسبانية فقد تمثلت الإبداعية بأسلوب مختلف جداً بشخصية فرنشيسكوغويا، تلك الشخصية الفريدة ذات المخيلة الغريبة القادرة على تمثيل بشاعة الحرب ومآسيها وما يرافقها من آلام وشقاء. ولعله الفنان الأول الذي أدخل عنصر «البشاعة والتشويه» إلى الفن محاولاً تمثيل الخصائص المميزة، لا الجمال في مفهومه التقليدي، لذلك لم يتناول غويا، في أعماله الفنية، الطبيعة كما رآها الفنانون الإنكليز والألمان، وإنما تناول الإنسان في أسلوب أقرب إلى التعبيرية. وقد اتبع تقنية جديدة تقوم على الضربات اللونية السريعة العفوية وتضاد الظل والنور. ومن أشهر لوحات غويا: «الإعدام في الثالث من أيار» (1808)، ومجموعته الرائعة «كوارث الحرب» (1810 - 1814). |
فرانسوا رود ـ نحت بارز على قوس النصر ـ ساحة النجمة ـ باريس (1835- 1832) |
الإبداعية في النحت: بعثت الإبداعية الحياة والحرارة حتى في التماثيل إذ بدا النحت أكثر تقبلاً للمبالغة في هذا الاتجاه في الحركة والإيقاع والتعبير. وقد تميز النحت الإبداعي بانتقائه موضوعات مستعارة من الأدب مثل تمثال «رولان الغاضب» للنحات يوهان دو سنيور Du Seigneur وهو أول نموذج نحتي إبداعي عرض في فرنسة عام 1831. ولكن، منذ عام 1835 أصبح أوغست بريو (A.Préault (1809 -1879 زعيم النحت الإبداعي بأسلوبه المفعم بالعاطفة والعنف. ويعدّ فرانسوا رود (F.Rude (1784 - 1855 من أشهر ممثلي النحت الإبداعي، ولوحته «سفر المتطوعين» التي عرفت فيما بعد باسم المارسيّيز (La Marseillaise (1832 - 1835 هي لوحة من النحت البارز على قوس النصر في باريس وأنجزت بناءً على طلب الملك لويس فيليب، ومن أشهر أعمال رود: «عطارد» و«جان دارك» و«نابليون». ومن النحاتين الإبداعيين كذلك أنطون باري (A.L.Barye (1796 - 1875 وهو تلميذ النحات بوسيو (Bosio (1768 - 1845 وغرو (Gros (1771 - 1835. على أن أوغست رودان (A.Rodin (1840 - 1917 مايزال يعد نموذجاً للنحت الإبداعي على الرغم من آفاقه الواسعة وتنوع أعماله. ومن أشهر أعماله «باب الجحيم» و«المفكر» و«القبلة» وتمثال «عصر البرونز» الذي أنجز عام 1876 وأحدث ضجة كبيرة في حينه. وتعد مجموعة تماثيل «برجوازيّو كاليه» (1889 ـ متحف رودان) من روائعه الخالدة. وقد حرر رودان النحت من القواعد الأكاديمية والاتباعية مستمداً من النحت القوطي ونحت ميكيلانجلو وفيدياس أسلوباً يمتاز بالحركة الدرامية المعبّرة، وقد تأثر به كثير من النحاتين. الإبداعية في العمارة: تأثر المهندسون المعماريون بالاتجاه الإبداعي السائد، وتمثل ذلك في نقدهم لزينة العمارات القوطية وفي إعجابهم بهيكلها. وكان ذلك إشارة للثورة على أسلوب اليونان والرومان التقليدي. كذلك أعجب المعماريون الإبداعيون بأبنية العصور الوسطى، ولاسيما في إنكلترة، حيث قام جيمس ويات (James Wyatt (1746 - 1813، الذي يعد متحرراً نوعاً ما، ببناء قصور ومنازل فيها لمحات إبداعية منذ نهاية القرن الثامن عشر. ومن أشهر أعماله «كنيسة فونتيل» Fonthill. ومن تلاميذه أوغست بوغن A.Bugin الذي أسهم في إعادة بناء قصر ويستمنستر في عام 1834 وأشرف بوغن كذلك، بالاشتراك مع شارل بيرّي Ch.Barry، على بناء البرلمان في لندن منذ عام 1840. أما في فرنسة فقد كان لإنشاء كل من متحف الأبنية الفرنسية، ومصلحة الأبنية التاريخية، والجمعية الفرنسية للآثار، وكذلك لدراسات المؤرخين الكبار، الأثر في جلب انتباه المعماريين الإبداعيين إلى الفن القوطي. كما أتاحت أعمال لاسوس (Lassus (1807 - 1857، وفيوليه لودوك (Viollet le Duc (1814 - 1879 تعرّف هذا الأسلوب. وهكذا بنى غو (Gau (1790 - 1850 في عام 1845 كنيسة القديسة كلوتيلد، وتكاثرت على واجهات المنازل الزخارف القوطية المتكررة من أوراق منقوشة، وزهور منحوتة، ووجوه مقطبة وعقود متقاطعة. أما في ألمانية فقد تأثر المعماريون الإبداعيون بالطراز البافاري والهانوفري (نسبة إلى مدينة هانوفر)، وطبعت الانتقائية الكثير من النحاتين والمعماريين بطابعها، ولم يعد العصر الوسيط العهد الوحيد الذي يثير فضولهم، ومهدت الإبداعية لظهور الفن الحديث. وفي البلاد العربية نحا عدد غير قليل من الفنانين العرب نحو الإبداعية، وسيوفر الحديث عن الفنون، لدى البحث الخاص بكل دولة عربية، الفرصة لبيان مظاهر الحركة الإبداعية وغيرها في البلاد العربية.
وسام نويلاتي