مجلس : الرواية والقصة

 موضوع النقاش : تغريبة الدماء الباردة    قيّم
التقييم :
( من قبل 2 أعضاء )
 زين الدين 
22 - أبريل - 2010
تحية مجددة ،
القصة الآتية هي للصديق الأزهر اسماعيلي ، أحد المبدعين الذين تفخر بهم مدينتي الصغيرة ، أنشرها هنا ، بعد أن بثت في ثنايا النت عبر موقع الألوكة ...
زين الدين
 
************
 
يترجرج، يركض، لا يهدأ، ينشد أيام الخير في سباسب الحيرة العُظمى، تقذفه أحياء لأزقّة، راكض نحو السدرة، يعلو دهرًا، ينزل قهرًا، يتخبط، شرخ يسيل قيحًا وصديدًا، فراشات يقطر دمها الأزرق، أحلام مسنونة، يضم القلم، يكسره، يأكله، يتقيَّأ حبرًا، بخار من ظلام في حجرة مظلمة، لا تُرى ظلمتها، تتراقص عفاريت متراشقة تدمي عينيه، يغرف من أعماق روحه سمومًا منتنة، يمزِّق جلده الموبوء بكل تباريح التاريخ المسروق، أرملة ثكلى، سرقوا دمعها وحزنها، تصرخ: "ألا تفضحهم؟!"، يقطِّع أوتاره، يشد شرايينه بكلِّ قوةٍ، يغطي الدم وجهه المثخن بالسقطات، بالآلام، يخرِّم أمعاءه، مزق في وجه الشمس الشاحبة، "لِم لا أصرخ؟! لم لا أفضح؟! لم لا أرغي؟!"
 
دمدمة الرعد تحثه، تحضنه، يُرعد، قر، قر، قر.
 
صرخات مكبوتة، ينزع عنها يده بكل قوته، تصرخ صارخة حتى تخرق جدران الصمت الميت منذ قرون، عناكب كثيرة تغلِّف وجه الأرض بخيوطها الرمادية الباهتة.
 
أصرخ في وجهه دون أن أشعر:
"قطِّعْ، لا ترحم! وهل رحمونا؟! هل رحمونا؟! قتلونا، قتلونا، قتلونا، ونضحك في وجوههم بكلِّ ذلة، ونحني رؤوسنا، ندسّها في التراب، في الوحل كالنعام، وأدبارنا تأكل الركل أكلاً! ونستقيم متفاخرين بخوفنا، بذُلِّنا، بوَهَنِنا، بهواننا، بضياعنا".
 
ونتجمع أسمالنا بالية، ممزقة، "وسخة، وسخة، وسخة"، تنفر منها الأقذار، نمسك بأيدي بعضنا بعضًا، ونبدأ تغريبتنا منذ كُنَّا نحج راجلين، وقت الغروب عاصفة رملية تسرق منا الشمس، وترمي ليلنا في ليل مظلم، تغوص أقدامنا في الرمل، نأكل الرمل، ونسير صوب الغروب المسروق، صوب الليل.      
 
يسرقني من الجمع نور ميت هارب من شقوق باب خشبي هرم، أركض نحوه، أضرب الباب بقوة الأمل المنغرس فجأة في ظلمة نفسي، فيتهاوى قطعًا متفرقة:
 
هو؟ نعم، إنه هو جالس في كوخه، أوراقه يزينها غبار ما بعد الموحدين، ضوء باهت لشمعة ملَّت الاحتراق، ليرقص المنبوذون واللُّقطاء والسارقون، ويشربوا نخب جثثنا المتفحمة، تريد أن تحرق؛ لتذيقهم ألم الاحتراق، وتذوق لذة الإحراق.
 
 "ماذا تكتب أيها المعزول؟! انظر حولك، تأمل نفسك، تأمل هذا الكهف الحجري الذي تسكنه ويسكنك، انظر إلى وجهك، إنه خارطة ليس فيها من التضاريس إلا الصخور، حتى عروقه غابت، نضبت، ما عاد الدم الحار يجري في ردهاتها، لقد أصبح هيولى تحمل المسكنة، والخداع، والذل، والهوان، سكبته فيك تفاهات، وأكاذيب الشعراء، والخطباء، والقصاصين، وكل "شبقي" سكنته توليفة عُقَدِه منذ ميلاده، يريد أن يُعدي غيره؛ لئلا يبقى وحيدًا كالبعير الأجرب.
ماذا تكتب؟! تغريبتنا بدأت منذ قرون، أدركنا، أطيافنا لم تغب بعد وراء الكثبان، قم أيها المكسور الجناح، أيها الأعرج، الجائع، البائس!".
 
يرفع رأسه ببطء شديد، ماذا أرى؟! ديدان، نعم، إنها ديدان لزجة كثيرة تخرج من محجريه! يدفعني الغثيان وظلام اليأس بقوة إلى الخارج.
 
ألمح قرابيننا وأنا أهمّ باللحاق بهم فأتوقف، إنها تلوح من بعيد صائحة: إننا نعيش أزمة سكن خانقة! لا ترسلوا المزيد! أضحك، أضحك، حتى يغدو الضحك أكبر من فمي، أسقط على ركبتي، ثم على ظهري، سائل حار يتدفق من عيني بقوة، أقف، أجد قميصي أحمر حمرة قانية، يغمرني الصمت، أغمض عيني، أشعر بالأرض تنفتح تحت قدمي، أجدني أهوي في قعر عميق، عميق، أفتح عيني لأجد نفسي في مدينتي، أركض كالمجنون لعلِّي أدركهم.
 
وأنا أقف أمام عمارة ضخمة جميلة تتلألأ بأضواء من كلِّ لون، متقطع الأنفاس، وجبيني يتصبَّب عرقًا، آه، أخيرًا، أدركتهم، إنهم واقفون في طابور طويل، منكسين رؤوسهم، صامتين، وجوههم سوداء، يشد نظري أحدهم، ثيابه بالية، "وسخة"، شعره أشعث، وجهه كوجه مغامر مضغ الصبر والصبَّار؛ ليصل إلى الكنز، ولما عاد به، افتكّه منه القراصنة، وتركوه وحيدًا في سفينته المهترئة.
 
أسألهم: "فيم تجمعكم؟!" يستغربون سؤالي وعدم انضمامي إلى الطابور بنظرات متبادلة، وهمهمات تسري بينهم، ثم سَرعان ما تختنق ويعودون إلى حالهم، يخاطبني أحدهم بغضب: "اغرب عنا أيها الغريب! لا مكان بيننا للأموات! يبدو لي كتلة من الإسمنت المسلح مغطاة بالثوب!".
 
وأنا أمرّ بالباب الذي يلجون منه، غرفة تبتلعهم كبئر عميقة، يخرج رجل يحمل كيسًا مملوءًا بالعناكب، والثعابين، والعقارب السوداء! تزيد دهشتي، ولا يستطيع الخوف كبت السؤال:
 ما هذا؟! وما تصنع بها؟!
 
ترتسم ملامح دهشة أكبر على وجهه، لكنه مهذَّب، عكس صاحبه الأول، يشدني من ذراعي برفق، أسير معه خطوات، يتوقف، يلتفت إلى الواقفين في الطابور كأنه يريد التأكد أننا ابتعدنا عنهم مسافة تكفي؛ لئلا يصل أسماعهم حديثنا، ينظر إليَّ والبسمة تعلو وجهه، ثم يقول:
 "يبدو أنك غريب عن المدينة!"، لا، منذ ولدت وأنا آكل ترابها وأستنشق عفنها، بل أنت غريب؛ لأنك لم تدركنا، ولم تفهمنا! سأشرح لك: أما العناكب، فنستخرج منها إكسير المعرفة، وأما الثعابين، فعسلها طعامنا، وأما العقارب السوداء، فإن في عسلها ثلاثة عشر نوعًا من "الفيتامينات"، تحصننا ضد أمراض كثيرة، منها المعدي، والقاتل؛ كعزة النفس، والمطالبة بالحقوق، وعدم السكوت على الظلم والسرقة، وغيرها، لن أفسد عليك يومك بذكرها، أعاذنا الله وإياك منها!
 
أسأله، وقد توقف عقلي عن التفكير: قل لي بربِّك: أين نحن؟ وفي أيِّ زمن؟وأنتم من تكونون؟
 
وهو يهم بالكلام، يهزنا صوت قوي أشبه بالهرير: "هيا، عودوا إلى جحوركم أيها الجرذان!".
 
صاحب الكيس لا يجيبني، يفر كمن يرى "ملك الموت"، ألتفت، أجد كلبًا أسود ضخمًا، تململَ في فراشه حين أحس بيد تحرك جسده، صوت مبهم يأتي من بعيد، يقترب، يقترب، أصبح واضحًا، إنه صوت أمه: "رشيد، رشيد، استيقظ، إنها الساعة السابعة، قُمْ بسرعة؛ لتصل باكرًا إلى مكتب اليد العاملة، قُمْ وإلا ضيعت على نفسك الفرصة هذه المرة أيضًا، وعدتَ بحجتك المكررة الواهية: كان الطابور طويلاً".
 
فتح عينيه، وجد نفسه يغطي وجهه بكلتا يديه.                         
 
نهض يترجرج، لينشد أيام الخير في سباسب الحيرة العظمى! 


*عرض كافة التعليقات
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
وقفات    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
* على الرغم من صعوبة الصور والتشبيهات في القصة إلا أنها تصوير للواقع المر الذي يعيشه نسبة كبرى من شعوبنا العربية المغلوب على أمرها.. (ينزل قهرًا، يتخبط، شرخ يسيل قيحًا وصديدًا، فراشات يقطر دمها الأزرق، أحلام مسنونة، يضم القلم، يكسره، يأكله، يتقيَّأ حبرًا...). (ديدان لزجة كثيرة تخرج من محجريه).. إلخ..
* وعلى رغم الطريقة التي مشى عليها كثير من الكتاب في قصصهم القصيرة، وكذلك مشى فيها صاحب القصة، إلا أنه هنا كان متميزاً، وأقصد بذلك (الحلم): (فتح عينيه، وجد نفسه يغطي وجهه بكلتا يديه).. حلم مزجه الكاتب بالواقع بإبداع ومرارة، وجعلنا نشفق على البطل إشفاقنا على أنفسنا، حتى بعد أن استيقظ – أو استيقظنا- فإننا تركنا القصة لكننا لم نتركه وحيداً، بل ما زلنا نتابعه لأنه واحد منا نعيش معه في الحفرة الشائكة ذاتها، فقد جعلنا نشترك في الهموم نفسها باحترافية.
* هنالك كلمة أضعفت جزءاً من القصة، هكذا أنا رأيتها، وهي قوله: (صرخات مكبوتة، ينزع عنها يده بكل قوته، تصرخ صارخة حتى تخرق جدران الصمت..).. وكان بإمكانه أن يكتفي بقوله: (تصرخ حتى تخرق جدران الصمت)، فمن الأفضل حذف كلمة (صارخة)؛ فذلك أبلغ وأجمل، ولا سيما حين يبتعد عن التكرار (صرخات، تصرخ، صارخة)، وقد أتى -أيضاً- في الجملة التي تليها مباشرة (أصرخ في وجهه...) فأربع صرخات في سطرين توجع الأذن!!.
* أخيراً، لغة القصة ممتازة من ناحية الإملاء والنحو وعلامات الترقيم، والتصوير كان رائعاً حتى ولو كانت الصور قاسية قليلاً، وموسيقا النص مزيج من حزن وثورة كثورة البركان.
وشكراً للأستاذ (زين الدين) الحبيب القريب الأريب.. وشكراً لكاتب القصة الأستاذ (الأزهر إسماعيلي).
*أحمد عزو
25 - أبريل - 2010
قاص وناقد    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 
بعد قراءتي الأولى لهذا النص أقول:
أولاً: عندما يعلق الأديب أحمد عزو على أقصوصة، فلا نقد قصصي  بعد نقد الأستاذ الأديب أحمد عزو، فقد أفاد وأجاد، ونظر إلى النص بمقاييس فنه، بارك الله فيه. إنه حقًّا يمثل مع الأستاذة ضياء ناقدين عميقين للنصوص القصصية المهضومة في الواقع النقدي الحالي!
ثانيًا: من إيجابيات هذا النص ذلك الرمز الفني الجميل في الشخصيات، والأمكنة، والأحداث، والحوارات والأوصاف، مثل: (سباسب/ السدرة/فراشات/ عفاريت/أرملة/ نور ميت هارب من شقوق باب خشبي هرم/ غبار ما بعد الموحدين/  المعزول/ الكهف الحجري/  شبقي...!
إنها لوحة واقعية سوداوية لمجتمع مكبوت مقهور، متخلف متعجرف/حائر خائر مغتصب منهوك! وهي صادقة صادمة!
ما أحوجنا إلى مزيد من هذا القص الفني الآسر الساحر، وهذا النقد القصصي المتخصص!
*صبري أبوحسين
9 - مايو - 2010

 
   أضف تعليقك