المآذن (5). ( من قبل 2 أعضاء ) قيّم
أما مآذن المغول في الهند فقد تأثرت في تصميمها بالمآذن التيمورية، غير أنها بنيت من الحجر وليس من الطوب. ومن أبلغ أمثلة المآذن الهندية هي المآذن الأربع على زوايا Ťتاج محلť.. وهنا تجدر الإشارة إلى أن دور هذه المآذن هو رمزي وجمالي، لأن مبنى Ťتاج محلť هوضريح وليس مكاناً للصلاة ، ومن ثم إذا ما نودي إلى الصلاة من مآذنه، فإن الناس سيتوجهون إلى مسجد جامع للصلاة، وليس إليه. أما في المغرب فقد ظلَّت المآذن تستعيد مقاييسها الفنية المعروفة في تلك المنطقة وهي مربعة القاعدة والبدن ومزخرفة بأشكال هندسية تستعيد الأقواس المعروفة منذ أيام المرينيين في المغرب والناصريين في الأندلس. وفي الشرق الأقصى، تأثرت المآذن الإندونيسية بعمارة جنوب شرق آسيا التقليدية لجهة حلول المسائل الهندسية خلال التشييد، ولجهة الزخرفة الجمالية أيضاً. المآذن المعاصرة واستيحاء القديم أما كيف تشيَّد المآذن المعاصرة فذلك أمر يناسق العصر. إذ إن هناك تعددية في التصاميم المنقولة والمستنبطة. فالكثير من المآذن المعاصرة هي نسخ عن مآذن تاريخية. وأكثر المآذن شعبية في هذا المجال هي المآذن الملوكية والعثمانية. ولكن هناك محاولات جدية لتشييد مآذن بأسلوب حديث ودون أن تفقد المئذنة خصوصيتها الرمزية.والواقع أن الوظيفة الأساسية للمئذنة في أيامنا هي في رمزيتها وجماليتها ضمن البناء الديني، ذلك أنه بتطور التقنيات الإلكترونية التي تكبِّر الصوت، لم تعد هناك حاجة إلى المكان المرتفع ليقف عليه المؤذِّن ليؤدي واجبه. ولكن يبقى من الصعب تخيل جامع الآن بدون مئذنة. المئذنة في الفن التشكيلي شكَّلت العمارة الإسلامية موضوعاً تشكيلياً على جانب واضح من الأهمية. فهذا الموضوع، إضافة إلى مدلولاته الفنية، يحمل في طياته إشارات توثيقية، هذا إذا أخذنا في الاعتبار ما تم إنجازه من أعمال فنية خلال القرون الماضية، في زمن لم تكن آلة التصوير الفوتوغرافي قد ظهرت بعد، أو كانت في مراحل تطورها الأولى. ورغم أن الهندسة الداخلية للمسجد كانت تتضمَّن الكثير من الأجزاء والتفاصيل ذات البعد الجمالي، المرتكز في حيز واسع منه على النواحي الزخرفية، التي تطورت في الفن الإسلامي نحو ما يشبه التجريد الهندسي على حساب التمثيل التشخيصي، نقول إنه رغم كل ما ذكر، فإن المظهر الخارجي للمسجد استحوذ أيضاً، وربما في درجة أكبر، اهتمام الرسامين. وغني عن القول إن المئذنة أو المآذن التي يترافق حضورها حكماً مع حضور المسجد، كانت تفصيلاً معمارياً ذا أهمية وحضور في اللوحة لا يمكن إغفالهما. طبعاً، كانت هناك المنمنمات الإسلامية أولاً التي ازدهرت في الهند وبلاد فارس خاصة. إذ حوى الكثير من هذه المنمنمات مشاهد مآذن مختلفة في خلفية الموضوع للدلالة على موقع المشهد المرسوم، أو على هوية الشخصية التي تمثِّلها. فمعظم المنمنمات التي تمثِّل حاكم دلهي شاه جاهان، على سبيل المثال، حوت خلف صورة وجهه، مشهد مآذن Ťتاج محلť، الضريح الذي بناه لزوجته. ولكن صورة المئذنة في الفن التشكيلي الحديث والمعاصر تعود بجذورها إلى القرن التاسع عشر، ولا يمكن في هذا المجال إغفال دور المستشرقين، ليس فقط لأنهم شكَّلوا جيل الروَّاد في هذا المجال، بل أيضاً لأن أعمالهم لا تزال تمثِّل ذروة حضور المئذنة في الفن التشكيلي. المستشرقون المأخوذون بالمآذن كان الشرق، ولا يزال، نقطة جذب للأوروبيين وغيرهم على مختلف جنسياتهم، وذلك لأهداف قد لا تمت إلى السياسة بصلة، إذ ترسخ في أذهان شعوبنا أن نيات الأوروبيين قد تكون استعمارية بالدرجة الأولى. هذا الاقتناع، على صحته النسبية، لا يخفي أن فئة أخرى منهم كانت تقف وراء اهتمامها ببلادنا دوافع أنتروبولوجية وتاريخية وثقافية، وفنية أيضاً. لقد قُدِّر للأوروبيين دخول عصر الآلة منذ العقود الأولى للقرن الثامن عشر، مما أدى إلى أن تتخذ أنظمتهم الاجتماعية وأيديولوجيـــــاتهم الفكــــرية منحى مادياً بدأ بالظهور في تلك الفترة وما زال يتطوَّر حتى يومنا هذا. وعليه فقد تولدّت لدى جماعات كبيرة من المثقفين الأوروبيين، ومن ضمنهم الرسامون، رغبة في زيارة أماكن أخرى من العالم، والشرق في مقدمتها، كانت لا تزال تحتفظ بروحانية معينة أُطلقت عليها تسمية Ťروحانية الشرقť. قدِم الرسامون من كل صوب، وتنقلوا بين الأماكن التي تضمَّنت بقايا ومخلفات حضارية، ناقصة أو كاملة، قياساً إلى حالتها الأصلية. تركت جولاتُ هؤلاء في نفوسهم انطباعات شتى، انعكس معظمها رسوماً على الورق أو على القماش، يفيض عدد كبير منها بذلك المناخ الروحي، الذي كان سبباً في قدومهم كرحَّالة يسعون وراء الاكتشاف وأنماط العيش البعيدة وقتئذ عن النمط المادي. رسم امابل - لويس كرابليه شوارع القاهرة وأسواقها. وكانت المئذنة حاضرة في الكثير من تلك الرسوم، وتموضعت، في أغلب الأحيان، على خلفية اللوحة. والناظر إلى تلك الرسوم سيلاحظ مكانة هذا التفصيل المعماري، ونعني المئذنة، تأليفياً ولونياً، رغم وقوعه في الأفق البعيد تارة، أو أقرب إلى مقدمة اللوحة تارة أخرى. فهيكل المئذنة المنتصب عمودياً يقفل اللوحة، وشكل هذا يتعاكس مع بقية أجزاء اللوحة ومحتوياتها المنبسطة على نحو أفقي، فيصير هذا الهيكل تفصيلاً بديهياً لا يستقيم بناء العمل التشكيلي دونه. أما إميل هنري فقد وجد في مدينة إسطنبول مادة خصبة لجملة من الأعمال المائية التي نفذها هناك، والتي نرى فيها مجموعات من المآذن تشق الفضاء الذي طغى عليه اللون الأصفر. وكأن الفنان شاء اختيار وقت مغيب الشمس، أو شروقها، لما يوّفره هذا الوقت من صفاء يعطي ألواناً خفيفة. ولابد من ملاحظة أن أعمال عدد كبير من الرسامين قد نفِّذت بتقنية Ťالأكواريلť (الألوان المائية). هذه التقنية تتناسب تماماً مع تلك الفئة من الفن، أو من الرسوم التي تسمى Ťرسوم الرحلاتť، ولا يحتاج الفنان هنا للكثير من التجهيزات من أجل تنفيذ رسومه، إذ يكفيه دفتر خاص بالأكواريل من الحجم المتوسط أو الصغير مع علبة الألوان الصغيرة أيضاً. لكن أعمالاً أخرى لأوغست ماير مثلاً أو لفنانين آخرين جرى تنفيذها بالألوان الزيتية، تطلبت جهداً أكبر ووقتاً أوفر، لكنها جاءت على مستوى عالٍ من الدقة والأمانة في تبيان تفاصيل عمارة المساجد، ومن ضمنها ما يتبع لها من مآذن في طبيعة الحال. أما الفنان الذي ترك أشهر مجموعة أعمال في هذا المجال، والتي تُزين نسخها جدران المنازل والفنادق والمكاتب في بلادنا، فهو بلا شك دافيد روبرتس، الفنان والرحّالة الإنجليزي المعروف الذي زار بلاد شرق المتوسط عام 1839م وجال فيها مجتازاً لبنان وفلسطين والأردن ومصر، متوقفاً في مدن ومناطق عدة ذات مكانة تاريخية وحضارية. نفّذ روبرتس الكثير من الرسوم، ولم يكتفِ برسم المكان نفسه من زاوية واحدة، بل تعمَّد الإحاطة به من زوايا مختلفة سعياً لإعطاء الصرح التاريخي حقه. ثم قام الفنان بعدها بطباعة هذه الرسوم، بعد إعادة صياغتها، بطريقة الليتوغرافيا لتخرج بقيمة فنية رفيعة المستوى. وقد برزت المآذن في عدد كبير من أعماله، وكان وجودها يضفي على اللوحة نكهة خاصة، خصوصاً تلك التي نراها في الأعمال المكرّسة لمدينتي القدس والقاهرة. وبخلاف المشاهد الداخلية المختلفة الحقيقية أو المتخيلة التي رسمها المستشرقون، حيث لعب المزاج الشخصي (وأحياناً الخيال الأدبي) دوراً في الانحراف عن الحقيقة، فإن مشاهد المدن الخارجية المزدانة بالمآذن، جاءت في معظمها على قدر مدهش من الواقعية والأمانة للأصل. وكأن الفنان يعترف بعجز في خياله عن تجاوز الجمال المتمثل في هذه المآذن أو Ťتجميلť أي شيء فيها. إن الباحث في أعمال المستشرقين، ممن وردت أسماؤهم أو الذين لم تسنح الفرصة لذكرهم نظراً لضيق المجال، سيرى أن رحلاتهم والرسوم التي نتجت عنها، تعود في معظمها إلى القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ولكن الاتجاهات الحديثة في الفن التشكيلي ألغت من ضمن ما ألغت في معظم الأحيان مشابهة الواقع، وتراجع المشهد المديني الخارجي كموضوع مهم في اللوحة. ومع ذلك ظلت المئذنة تبرز في بعض الأعمال العالمية كبصمة حضارية واضحة الخطاب. ففي السبعينيات من القرن الماضي، رسم الفنان الفرنسي ماثيو لوحة تجريدية بعنوان Ťأسطنبولť. ووفق أسلوب هذا الفنان، اقتصرت اللوحة على بعض الخطوط العفوية ومن ضمنها بعض أنصاف الدوائر، تعلوها بعض الخطوط العمودية.. إنها القباب والمآذن التي تشكِّل أبرز معالم هذه المدينة. ورغم تجريدية اللوحة، كان خطابها واضحاً حتى إن إحدى شركات الطيران استخدمتها ملصقاً دعائياً للسياحة في تركيا. أما اللوحة التشكيلية في بلادنا، وإن تأخرت قليلاً عن اللوحة الأوروبية لبعض الوقت في هذا المجال، فذلك لأن الفن التشكيلي كان في القرن التاسع عشر يخطو خطواته الأولى. وما أن حل القرن العشرون، ونشط هذا الفن في بلادنا، حتى أصبحت للعمارة الإسلامية أصداءٌ واسعة في أعمال فنانينا، لكنها جاءت مختلفة عن أعمال المستشرقين، ليس من حيث النوعيةُ والمستوى الفنيُّ، بل من حيث التقنياتُ والعلاقات اللونية، إذ إن تلك الأعمال عكست علاقة خاصة مع الأمكنة، لعب فيها الانتماء والهوية دوراً لا يمكن تجاهله. فلم يعد معمار المئذنة هو الأساس كما كان الحال في معظم لوحات المستشرقين، بل أصبح مجرد ظهورها ولو بشكل متخيَّل، خطاباً بحد ذاته يوضِّح حقيقة الانتماء ببساطة وبلاغة أكثر من أي خطاب آخر. |