البنيان المرصوص: آية وبيان...وثلاثيات في التفسير. بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته ومن تبعهم بإحسان. قال الله عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } [سورة الصف، الآية: 4]. 1) قال الماوردي في النكت والعيون: مصطفين صفوفاً كالصلاة، لأنهم إذا اصطفوا مثلاً صفين كان أثبت لهم وأمنع من عدوهم. قال سعيد بن جبير: هذا تعليم من الله للمؤمنين. { كأنهم بنيان مرصوص } فيه وجهان: أحدهما: أن المرصوص الملتصق بعضه إلى بعض لا ترى فيه كوة ولا ثقباً لأن ذلك أحكم في البناء من تفرقه وكذلك الصفوف، قاله ابن جبير، قال الشاعر: وأشجر مرصوص بطين وجندل ... له شرفات فوقهن نصائب والثاني: أن المرصوص المبني بالرصاص، قاله الفراء، ومنه قول الراجز: ما لقي البيض من الحرقوص ... يفتح باب المغلق المرصوص 2) قال الإمام القرطبي في أحكام القرآن: أي يصفُّون صفاً: والمفعول مضمر؛ أي يصفُّون أنفسهم صفاً. {كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} قال الفرّاء: مرصوص بالرَّصاص. وقال المبرّد: هو من رصصت البناء إذا لا أمْتَ بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة. وقيل: هو من الرصيص وهو انضمام الأسنان بعضها إلى بعض. والتراصّ التلاصق؛ ومنه وتراصُّوا في الصف. ومعنى الآية: يحبّ مَن يثبت في الجهاد في سبيل الله ويلزم مكانه كثبوت البناء. وقال سعيد بن جبير: هذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوّهم. الثانية: وقد استدلّ بعض أهل التأويل بهذا على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة. المهدَوِيّ: وذلك غير مستقيم، لما جاء في فضل الفارس في الأجر والغنيمة. ولا يخرج الفرسان من معنى الآية؛ لأن معناه الثبات. الثالثة: لا يجوز الخروج عن الصف إلا لحاجة تعرض للإنسان، أو في رسالة يرسلها الإمام، أو في منفعة تظهر في المقام، كفرصة تنتهز ولا خلاف فيها. وفي الخروج عن الصف للمبارزة خلاف على قولين: أحدهما أنه لا بأس بذلك إرهاباً للعدوّ، وطلباً للشهادة وتحريضاً على القتال. وقال أصحابنا: لا يبرز أحد طالباً لذلك، لأن فيه رياءً وخروجاً إلى ما نهى الله عنه من لقاء العدوّ. وإنما تكون المبارزة إذا طلبها الكافر؛ كما كانت في حروب النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بَدْر وفي غَزْوة خَيْبر، وعليه دَرَج السلف. وقد مضى القول مستوفى في هذا في «البقرة» عند قوله تعالى: { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة: 195 ]. 3) وفي تفسير ابن أبي حاتم الرازي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} عَنْ قَتَادَةَ: " كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ ": " أَلَمْ تَرَ إِلَى صَاحِبِ الْبُنْيَانِ، كَيْفَ لا يُحِبُّ أَنْ يَخْتَلِفَ بُنْيَانُهُ؟ فَكَذَلِكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لا يَخْتَلِفُ أَمْرُهُ، وَإِنَّ اللَّهَ صَفَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي قِتَالِهِمْ، وَصَفَّهُمْ فِي صَلاتِهِمْ، فَعَلَيْكُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ عِصْمَةٌ لِمَنْ أَخَذَ بِهِ " عَنْ مُقَاتِلٍ، قَالَ:"قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: لَوْ نَعْلَمُ أَحَبَّ الْأَعْمَالُ إِلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهَ، فَدَلَّهُمْ عَلَى أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَيْهِ، فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا "، فَبَيَّنَ لَهُمْ، فَابْتُلُوا يَوْمَ أُحُدٍ بِذَلِكَ، فَوَلَّوْا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدْبِرِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِهِ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: " {كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ }، قَالَ: مُثَبَّتٌ لا يَزُولُ، مُلْصَقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ". |