مجلس : علوم القرآن

 موضوع النقاش : الأمانة    قيّم
التقييم :
( من قبل 2 أعضاء )
 د يحيى 
15 - مارس - 2009
لقد سأل أبو ذر ، رضي الله عنه، سيدنا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أن يوليه إمارة ، فأجابه ، عليه الصلاة والسلام : " ياأبا ذر إنك ضعيف ، وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خِزيٌ ونَدامة ، إلا مَن أخذها بحقها ، وأدّى الذي عليها فيها " .
وقد رُوي عنه ، صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " مَن ولِيَ من أمر المسلمين شيئاً فأمَّرَ عليهم أحداً ؛ مُحاباةً ، فعليه لعنة الله " .
ورَوى الحسن بن علي ، عليهما السلام ، ورضي الله عنهما ، أن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قال :
" ما ولّتْ أمةٌ رجلاً وفيهم مَن هو أعلمُ منه إلا لم يزَلْ يذهبُ أمرُهم سفالاً حتى يَرجِعوا إلى ماتركوه " .
 قال تعالى : " إنّ خير مَن استأجرتَ القويُّ الأمين " ، وقال ، سبحانه ، على لسان سيدنا يوسف ، عليه السلام : " اِجعلْني على خزائن الأرض إني حفيظٌ عليم " .
 
                                          الأمانة
 
قال تعالى :
 
" لما بيّن تعالى في هذه السورة من الأحكام ما بيّن، أمر بالتزام أوامره. والأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور. روى الترمذي الحكيم أبو عبد الله: حدّثنا إسماعيل بن نصر عن صالح بن عبد الله عن محمد بن يزيد بن جوهر عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله تعالى لآدم يا آدم إني عرضت الأمانة على السموات والأرض فلم تطقها فهل أنت حاملها بما فيها فقال وما فيها يا رب قال إن حملتها أُجِرت وإن ضيّعتها عُذّبت فاحتملها بما فيها فلم يلبث في الجنة إلا قدر ما بين صلاة الأولى إلى العصر حتى أخرجه الشيطان منها " فالأمانة هي الفرائض التي ائتمن الله عليها العباد. وقد اختلف في تفاصيل بعضها على أقوال؛ فقال ابن مسعود: هي في أمانات الأموال كالودائع وغيرها. وروي عنه أنها في كل الفرائض، وأشدّها أمانة المال. وقال أُبَيّ بن كَعْب: من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها. وقال أبو الدرداء: غسل الجنابة أمانة، وأن الله تعالى لم يأمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها. وفي حديث مرفوع: " الأمانة الصلاة " إن شئت قلت قد صلّيت وإن شئت قلت لم أصلّ. وكذلك الصيام وغسل الجنابة. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: أوّل ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه وقال هذه أمانة استودعتكها، فلا تلبسها إلا بحق. فإن حفظتها حفظتك، فالفرج أمانة، والأذن أمانة، والعين أمانة، واللسان أمانة، والبطن أمانة، واليد أمانة، والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له. وقال السدّي هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده وأهله، وخيانته إياه في قتل أخيه. وذلك أن الله تعالى قال له: «يا آدم، هل تعلم أن لي بيتاً في الأرض» قال: «اللهم لا» قال: «فإن لي بيتاً بمكة فٱئته، فقال للسماء: احفظي ولدي بالأمانة؟ فأبت، وقال للأرض: احفظي ولدي بالأمانة فأبت، وقال للجبال كذلك فأبت. فقال لقابيل: احفظ ولدي بالأمانة، فقال نعم، تذهب وترجع فتجد ولدك كما يسرك. فرجع فوجده قد قتل أخاه، فذلك قوله تبارك وتعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا } الآية. وروى معمر عن الحسن أن الأمانة عُرضت على السموات والأرض والجبال، قالت: وما فيها؟ قيل لها: إن أحسنتِ جوزيتِ وإن أسأتِ عوقبتِ. فقالت لا. قال مجاهد: فلما خلق الله تعالى آدم عرضها عليه، قال: وما هي؟ قال: إن أحسنت أجرتك وإن أسأتَ عذّبتك. قال: فقد تحملتها يا رب. قال مجاهد: فما كان بين أن تحملها إلى أن أُخرج من الجنة إلا قدر ما بين الظهر والعصر.
 
وروى عليّ ابن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ } قال: الأمانة الفرائض، عرضها الله عز وجل على السموات والأرض والجبال، إن أدَّوْها أثابهم، وإن ضيّعوها عذّبهم. فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيماً لدين الله عز وجل ألا يقوموا به. ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها. قال النحاس: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير. وقيل: لما حضرت آدم صلى الله عليه وسلم الوفاة أمر أن يعرض الأمانة على الخلق، فعرضها فلم يقبلها إلا بنوه. وقيل: هذه الأمانة هي ما أودعه الله تعالى في السموات والأرض والجبال والخلق، من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها، إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها؛ قاله بعض المتكلمين. ومعنى «عَرَضْنَا» أظهرنا، كما تقول: عرضت الجارية على البيع. والمعنى إنا عرضنا الأمانة وتضييعها على أهل السموات وأهل الأرض من الملائكة والإنس والجن { فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا } أي أن يحملن وزرها، كما قال جل وعز:
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ }
[العنكبوت: 13]. { وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } قال الحسن: المراد الكافر والمنافق. { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً } لنفسه { جَهُولاً } بربّه. فيكون على هذا الجوابُ مجازاً، مثل:
وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ }
[يوسف: 82]. وفيه جواب آخر على أن يكون حقيقة أنه عرض على السموات والأرض والجبال الأمانة وتضييعها وهي الثواب والعقاب، أي أظهر لهن ذلك فلم يحملن وزرها، وأشفقت وقالت: لا أبتغي ثواباً ولا عقاباً، وكلٌّ يقول: هذا أمر لا نطيقه، ونحن لك سامعون ومطيعون فيما أمِرن به وسُخِّرن له، قاله الحسن وغيره. قال العلماء: معلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب، فلا بد من تقدير الحياة على القول الأخير. وهذا العرض عرض تخيير لا إلزام. والعرض على الإنسان إلزام. وقال القفّال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب مَثَل، أي أن السموات والأرض على كبر أجرامها، لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع، لما فيها من الثواب والعقاب، أي أن التكليف أمر حقه أن تعجز عنه السموات والأرض والجبال، وقد كُلِّفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عَقَل. وهذا كقوله:
لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ }
[الحشر: 21] ـ ثم قال: ـ { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ }. قال القفال: فإذا تقرّر في أنه تعالى يضرب الأمثال، وورد علينا من الخبر ما لا يخرج إلا على ضرب المثل، وجب حمله عليه. وقال قوم: إن الآية من المجاز، أي إنا إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرض والجبال، رأينا أنها لا تطيقها، وأنها لو تكلمت لأبت وأشفقت، فعبرّ عن هذا المعنى بقوله: { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ } الآية. وهذا كما تقول: عرضت الحِمل على البعير فأباه، وأنت تريد قايست قوته بثقل الحمل، فرأيت أنها تقصر عنه.
وقيل: «عَرَضْنَا» بمعنى عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة، ورجحت الأمانة بثقلها عليها. وقيل: إن عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال إنما كان من آدم عليه السلام. وذلك أن الله تعالى لما استخلفه على ذرّيته، وسلّطه على جميع ما في الأرض من الأنعام والطير والوحش، وعهِد إليه عهداً أمره فيه ونهاه وحرّم وأحلّ، فقبله ولم يزل عاملاً به. فلما أن حضرته الوفاة سأل الله أن يعلِمه مَن يستخلف بعده، ويقلده من الأمانة ما تقلده، فأمره أن يعرض ذلك على السموات بالشرط الذي أخذ عليه من الثواب إن أطاع ومن العقاب إن عصى، فأبَيْن أن يقبلنه شَفقاً من عذاب الله. ثم أمره أن يعرض ذلك على الأرض والجبال كلها فأبياه. ثم أمره أن يعرض ذلك على ولده فعرضه عليه فقبله بالشرط، ولم يَهَب منه ما تهيبت السموات والأرض والجبال. «إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً» لنفسه «جَهُولاً» بعاقبة ما تقلّد لربه. قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله محمد بن علي: عجبت من هذا القائل من أين أتى بهذه القصة! فإن نظرنا إلى الآثار وجدناها بخلاف ما قال، وإن نظرنا إلى ظاهرها وجدناه بخلاف ما قال، وإن نظرنا إلى باطنه وجدناه بعيداً مما قال! وذلك أنه ردّد ذكر الأمانة ولم يذكر ما الأمانة، إلا أنه يومِىء في مقالته إلى أنه سلّطه على جميع ما في الأرض، وعهِد الله إليه عهداً فيه أمره ونهيه وحِلّه وحرامه، وزعم أنه أمره أن يعرض ذلك على السموات والأرض والجبال؛ فما تصنع السموات والأرض والجبال بالحلال والحرام؟ وما التسليط على الأنعام والطير والوحش! وكيف إذا عرضه على ولده فقبله في أعناق ذرّيته من بعده. وفي مبتدأ الخبر في التنزيل أنه عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال حتى ظهر الإباء منهم، ثم ذكر أن الإنسان حملها، أي من قِبَل نفسه لاَ أنه حمِّل ذلك، فسماه «ظَلُوماً» أي لنفسه، «جَهُولاً» بما فيها. وأما الآثار التي هي بخلاف ما ذكر، فحدّثني أبي رحمه الله قال حدثنا الفيض بن الفضل الكوفي حدثنا السّرِيّ بن إسماعيل عن عامر الشّعبيّ عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: لما خلق الله الأمانة مثّلها صخرة، ثم وضعها حيث شاء، ثم دعا لها السموات والأرض والجبال ليحمِلْنها، وقال لهن: إنّ هذه «الأمانة»، ولها ثواب وعليها عقاب؛ قالوا: يا ربّ، لا طاقة لنا بها؛ وأقبل الإنسان من قَبْل أن يدعى فقال للسموات والأرض والجبال: ما وقوفكم؟ قالوا: دعانا ربنا أن نحمل هذه فأشفقن منها ولم نطقها؛ قال: فحركها بيده وقال: والله لو شئت أن أحملها لحملتها؛ فحملها حتى بلغ بها إلى ركبتيه، ثم وضعها وقال: والله لو شئت أن أزداد لازْدَدْتُ؛ قالوا: دونك! فحملها حتى بلغ بها حِقْوَيه، ثم وضعها وقال: والله لو شئت أن أزداد لازْدَدْتُ؛ قالوا: دونك، فحملها حتى وضعها على عاتقه، فلما أهوى ليضعها، قالوا: مكانك! إن هذه «الأمانة» ولها ثواب وعليها عقاب، وأمرنا ربنا أن نحملها فأشفقن منها، وحملتها أنت من غير أن تدعى لها، فهي في عنقك وفي أعناق ذرّيتك إلى يوم القيامة، إنك كنت ظلوماً جهولاً.
وذكر أخباراً عن الصحابة والتابعين تقدم أكثرها. { وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } أي التزم القيام بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه. وقال قتادة: للأمانة، جهول بقدر ما دخل فيه. وهذا تأويل ابن عباس وابن جُبير. وقال الحسن: جهول بربه. قال: ومعنى «حملها» خان فيها. وقال الزجاج: والآية في الكافر والمنافق والعصاة على قدرهم على هذا التأويل. وقال ابن عباس وأصحابه والضحاك وغيره: «الإنسان» آدم، تحمَّل الأمانة فما تمّ له يوم حتى عصى المعصية التي أخرجته من الجنة. وعن ابن عباس أن الله تعالى قال له: أتحمل هذه الأمانة بما فيها. قال وما فيها؟ قال: إن أحسنتَ جُزِيت وإن أسأت عوقبت. قال: أنا أحملها بما فيها بين أذني وعاتقي. فقال الله تعالى له: إني سأعينك، قد جعلت لبصرك حجاباً فأغلقه عما لا يحلّ لك، ولفرجك لباساً فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك. وقال قوم: «الإنسان» النوع كله. وهذا حسن مع عموم الأمانة كما ذكرناه أوّلاً. وقال السدّي: الإنسان قابيل. فالله أعلم".
 
المصدر : تفسير الجامع لأحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ).
 
 


*عرض كافة التعليقات
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
الوفاء بالدين     ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
كل تحياتي للأخ د. يحيى وفيت أمانة موضوع الأمانة ، إنك قد طرقت أبواب الأمانة كلها من سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام حتى قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر لما سأله أن يوليه قال : (……. وإنها أمانة ……) إلى ما جاء عن ابن عباس أن الله تعالى قال له: أتحمل هذه الأمانة بما فيها. قال وما فيها؟ قال: إن أحسنتَ جُزِيت وإن أسأت عوقبت. قال: أنا أحملها بما فيها بين أذني وعاتقي. فقال الله تعالى له: إني سأعينك، قد جعلت لبصرك حجاباً فأغلقه عما لا يحلّ لك، ولفرجك لباساً فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك (وفيت وكفيت).
 
الوفاء بالدين
 
عن أبي هريرة رضي الله عنه : عن رسول الله[1] صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال : ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال : كفى بالله شهيداً، قال فأتني بالكفيل قال: كفى بالله كفيلاً، قال صدقت فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركباً يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركباً، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه ثم زجج موضعها ثم أتى بها إلى البحر فقال اللهم إنك تعلم أني كنت قد تسلَّفت فلاناً ألف دينار فسألني كفيلاً فقلت كفى بالله كفيلاً فرضي بك وإني جهدت أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له فلم أقدر وأني استودعكُها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركباً يخرج إلى بلده فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعلَّ مركباً قد جاء بمالِه فإذا الخشبة التي فيها المال فأخذه لأهله حطباً فلما نشرها وجد المال والصحيفة ثم قدِم الذي كان أسلفه فأتي بالألف دينار فقال : والله ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل الذي أتيت فيه قل قال : هل كنت بعثت إليَّ بشيء؟ قال: أخبرك إني لم أجد مركباً قبل الذي جئت فيه قال فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة فانصرف بالألف دينار راشداً.
 


[1] منهاج الصالحين، صفحة865
*ابو هشام
16 - مارس - 2009
أولو الكرامة والكشف.    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
بارك الله فيك أخي الحبيب أبا هشام ، وأجزل لك المثوبة.
 
* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ)
 
" هنا إضمار أي: أهل السموات والأرض والجبال.
وقيل أحياها وأعْقَلَها، وهو كقوله: { ائتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [فصلت: 11].
{ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا }: أي أبين أنْ تَخُنَّ فيها، { وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ }: أي خان فيها. وهم مراتب: فالكفار خانوا في الأصل الأمانة - وهي المعرفة - فكفروا. ومَنْ دُونَهم خانوا بالمعاصي، وبعضهم أَشَدُّ وبعضهم أهْوَن، وكلُّ احتقب من الوِزْرِ مقدارَه.
ويقال " أبين " إِباءَ إشفاقٍ لا إِباء استكبارٍ، واستعفين... فعفا عنهن، وأعفاهن مِنْ حَمْلها.
{ وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ }: قَبِلَها ثم ما رعَوها حقَّ رعايتِها.. كلٌّ بقدره.
{ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } بصعوبة حَمْلِ الأمانة في الحال، والعقوبة التي عليها في المآل. وقومٌ قالوا عَرَضَ الأمانةَ على السمواتِ والأرضِ وعَرَضَها على الإِنسان، فهن استعفين وهؤلاء لم يستعفوا ولم يراعوا.
ويقال: الأمانة القيام بالواجباتِ أصولِها وفروعِها.
ويقال: الأمانة التوحيد عقداً وحفظ الحدود جهداً.
ويقال: لمَّا حَمَلَ آدمُ الأَمانة وأولاده قال تعالى:
وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحَرِ }
[الإسراء: 70].. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
ويقال حمل الإنسانُ بالله لا بنَفْسِه. ويقال ظَلَمَ نَفْسَه حيث لم يُشْفِقْ مما أشفقت منه السمواتُ والأرضون. والظُلْمُ وَضْعْ الشيءِ في غير موضعه.
ويقال كاشَفَ السمواتِ والأرضَ بوصف الربوبية والعظمة فأشفقوا، وكاشَفَ آدمَ وذُرِّيَتَه بوصف اللطفِ فقَبِلوا وحملوا، وفي حال بقاء العبد يا لله يحمل السمواتِ والأرضَ بشعرة من جَفْنِه. ويقال كانت السموات والأرض أصحاب الجثث والمباني فأشفقوا من حَمْل الأمانة. والحِمْلُ إنما تحمله القلوب. وآدم كان صاحبَ معنًى فَحَمل، وأنشدوا:
حملت جبال الحكم فوقي وإنني
**
لأَعْجَزُ عن حمل القميص وأضعفُ
ويقال لما عَرَضَ الحقُّ الأمانةَ على الخَلْقِ عَلَّقَ آدمُ بها هَمَّتَه، فصرف بهمته جميع المخلوقات عنها، فلمَّا أبوا وأشفقوا حَمَلَها الإنسانَ طوعاً لا كرهاً.
 
 
*د يحيى
16 - مارس - 2009
تفسير أهل البيت ، على رسول الله السلام وعليهم أجمعين.    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
* تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ)
 
فالأمانة على هذا ما أودع الله السماوات والأرض والجبال من الدلائل على وحدانيته وربوبيته فأظهرتها والإِنسان الكافر كتمها وجحدها لظلمه وجهله وبالله التوفيق ولم يرد بقوله الإِنسان جميع الناس بل هو مثل قوله:
إن الإِنسان لفي خسر }[العصر: 2]، وإن الإِنسان لربه لكنود }
[العاديات: 6].
 وأما الإِنسان إذا ما ابتلاه ربه والأنبياء والأولياء والمؤمنون عن عموم هذه الآية خارجون، ولا يجوز أن يكون الإِنسان محمولاً على آدم (ع) لقوله:
إن الله اصطفى آدم }[آل عمران: 33]
 وكيف يكون من اصطفاه الله من بين خلقه موصوفاً بالظلم والجهل.
ثم بيَّن سبحانه الغرض الصحيح والحكمة البالغة في عرضه هذه الأمانة فقال { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } : يعني بتضييع الأمانة. قال الحسن: هما اللذان حملاهما ظلماً وجهلاً { ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات } بحفظهم الأمانة ووفائهم، وهذا هو الغرض بالتكليف عند من عرف المكلف والمكلف
فالمعنى: إنا عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذّبهم الله ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات { وكان الله غفوراً } أي ستّاراً لذنوب المؤمنين { رحيماً } بهم.
 
*د يحيى
16 - مارس - 2009
قبول التكليف    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
أخوي الفاضلين الحبيبين ، د.يحيى ، أبا هشام ن بارككم الله وأثابكم كل خير ، وبعد:
ألا يمكن ان يكون معنى الأمانة هو: قبول الإنسان ان يكون مخيرا فيتحمل نتائج اعماله ؟ فالسموات والأرض والجبال ليست مخيرة ؛ فهي تسبح الله ربها مثلها في ذلك مثل الملائكة عليهم السلام ، الذين ليست فيهم طبيعة المعصية .وكون الإنسان رضي ان يكون مخيرا ؛ طمعا في الثواب الجزيل نتيجة الصبر على ما يتطلبه التكليف من مشاق ؛ وصفه الله تعالى بانه ظلوم ( لنفسه) جهول ( بما يترتب على عدم القيام بالتكليف من عقاب) . فلو لم يكن الإنسان ظلوما وجهولا لاآثر السلامة واكتفى بان يكون مسيرا في كل شيء يخصه . واللع تعالى اعلم
ومعذرة على الخطاء في الكتابة ؛ فكارت الشاشة في حاسوبي يشرف على نهاية عمره ، فيملأ الصفحة التي أكتب فيها بالكثير من الخوط الملونة المبعثرة ، والتي لا تمكنني من مشاهدة ما اكتبه بشكل صحيح ....
*ياسين الشيخ سليمان
17 - مارس - 2009
...وبارك الله فيك يا أبا أحمد    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ)
ذكر جل وعلا في الآية الكريمة: أنه عرض الأمانة، وهي التكاليف مع ما يتبعها من ثواب وعقاب، على السماوات والأرض والجبال، وأنهن أبين أن يحملنها، وأشفقن منها: أي خفن من عواقب حملها أن ينشأ لهن من ذلك عذاب الله وسخطه، وهذا العرض والإباء، والإشفاق كله حق، وقد خلق الله للسماوات والأرض والجبال إدراكاً بعلمه هو جل وعلا، ونحن لا نعلمه، وبذلك الإدراك أدركت عرض الأمانة عليها، وأبت وأشفقت أي خافت.
ومثل هذا تدل عليه آيات وأحاديث كثيرة، فمن الآيات الدالة على إدراك الجمادات المذكورة قوله تعالى في سورة البقرة في الحجارة:

وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ }
[البقرة: 74] فصرح بأن من الحجارة ما يهبط من خشية الله، وهذه الخشية التي نسبها الله لبعض الحجارة بإدراك يعلمه هو تعالى:
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى:
تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَاوَاتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }[الإسراء: 44] الآية. ومنها قوله تعالى:
وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ }
[الأنبياء: 79] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
ومن الأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك قصة حنين الجذع، الذي كان يخطب عليه النبي صلى الله عليه وسلم لما انتقل بالخطبة إلى المنبر، وهي في صحيح البخاري وغيره.
ومنها: ما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إني لأعرف حجراً كان يسلم عليَّ في مكة " وأمثال هذا كثيرة، فكل ذلك المذكور في الكتاب والسنة، إنما يكون بإدراك يعلمه الله، ونحن لا نعلمه. كما قال تعالى:
وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }
[الإسراء: 44] ولو كان المراد بتسبيح الجمادات، دلالتها على خالقها لكنا نفقهه، كما هو معلوم وقد دلت عليه آيات كثيرة.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة { وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } الظاهر أن المراد بالإنسان آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأن الضمير في قوله: { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب: 72] راجع للفظ الإنسان مجرداً عن إرادة المذكور منه الذي هو آدم:
والمعنى: أنه أي الإنسان الذي لا يحفظ الأمانة كان ظلوماً جهولاً: أي كثير الظلم والجهل، والدليل على هذا أمران.
أحدهما: قرينة قرآنية دالة على انقسام الإنسان في حمل الأمانة المذكورة إلى معذب ومرحوم في قوله تعالى بعده متصلاً به:

لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }
[الأحزاب: 73] فدل هذا على أن الظلوم الجهول من الإنسان، هو المعذب والعياذ بالله، وهم المنافقون، والمنافقات، والمشركون، والمشركات، دون المؤمنين والمؤمنات. واللام في قوله: ليعذب: لام التعليل وهي متعلقة بقوله: وحملها الإنسان.

الأمر الثاني: أن الأسلوب المذكور الذي هو رجوع الضمير إلى مجرد اللفظ دون اعتبار المعنى التفصيلي معروف في اللغة التي نزل بها القرآن، وقد جاء فعلاً في آية من كتاب الله، وهي قوله تعالى:
وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ }
[فاطر: 11]، لأن الضمير في قوله: ولا ينقص من عمره: راجع إلى لفظ المعمر دون معناه التفصيلي. كما هو ظاهر، وقد أوضحناه في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى:
وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً }
[الفرقان: 61] وبينا هناك أن هذه المسألة هي المعروفة عند علماء العربية بمسألة عندي درهم ونصفه: أي نصف درهم آخر كما ترى. وبعص من قال من أهل العلم إن الضمير في قوله: { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } عائد إلى آدم، قال المعنى: أنه كان ظلوماً لنفسه جهولاً: أي غراً بعواقب الأمور، وما يتبع الأمانة من الصعوبات، والأظهر هو ما ذكرنا والعلم عند الله تعالى.
*د يحيى
17 - مارس - 2009
حياك الله وبياك يا أبا أحمد: الأستاذ ياسين الشيخ سليمان.    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) .
استئناف ابتدائي أفاد الإنباء على سنة عظيمة من سنن الله تعالى في تكوين العالم وما فيه وبخاصة الإِنسان ليرقب الناس في تصرفاتهم ومعاملاتهم مع ربهم ومعاملاتهم بعضهم مع بعض بمقدار جريهم على هذه السنة ورعيهم تطبيقها فيكون عرضهم أعمالهم على معيارها مشعراً لهم بمصيرهم ومبيناً سبب تفضيل بعضهم على بعض واصطفاء بعضهم من بين بعض.
وموقع هذه الآية عقب ما قبلها، وفي آخر هذه السورة يقتضي أن لمضمونها ارتباطاً بمضمون ما قبلها، ويصلح عوناً لاكتشاف دقيق معناها وإزالة ستور الرمز عن المراد منها، ولو بتقليل الاحتمال، والمصير إلى المآل.
والافتتاح بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر أو تنزيله لغرابة شأنه منزلة ما قد ينكره السامع.
وافتتاح الآية بمادة العَرض، وصَوغها في صيغة الماضي، وجعل متعلقها السماوات والأرض والجبال والإنسان يُومِئ إلى أن متعلق هذا العَرض كان في صعيد واحد فيقتضي أنه عرْض أَزَلي في مبدأ التكوين عند تعلق القدرة الربانية بإيجاد الموجودات الأرضية وإيداعها فُصُولها المقوّمة لمواهيها وخصائصها ومميزاتها الملائمة لوفائها بما خلقت لأجله كما حمل قوله:

وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم }[الأعراف: 172] الآية.
واختتام الآية بالعلّة من قوله:
ليعذب الله المنافقين والمنافقات }
[الأحزاب: 73] إلى نهاية السورة يقتضي أن للأمانة المذكورة في هذه الآية مزيد اختصاص بالعبرة في أحوال المنافقين والمشركين من بين نوع الإِنسان في رعي الأمانة وإضاعتها.
فحقيق بنا أن نقول: إن هذا العَرض كان في مبدأ تكوين العالم ونوعِ الإنسان لأنه لما ذكرت فيه السماوات والأرض والجبال مع الإِنسان علم أن المراد بالإِنسان نوعه لأنه لو أريد بعض أفراده ولو في أول النشأة لمَا كان في تحمل ذلك الفرد الأمانة ارتباطٌ بتعذيب المنافقين والمشركين، ولَمَا كان في تحمل بعض أفراده دون بعض الأمانةَ حكمة مناسبة لتصرفات الله تعالى.
فتعريف { الإنسان } تعريف الجنس، أي نوع الإِنسان.
والعرض: حقيقته إحضار شيء لآخر ليختاره أو يقبله ومنه عَرْضُ الحوض على الناقة، أي عرضه عليها أن تشرب منه، وعرضُ المجنَّدين على الأمير لقبول من تأهل منهم. وفي حديث ابن عمر: " عُرِضَتُ على رسول الله وأنا ابن أربع عشرة فردني وعُرِضتُ عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني ". وتقدم عند قوله تعالى:
أولئك يعرضون على ربهم }
في سورة هود [18]، وقوله:وعرضوا على ربك صفاً }في سورة الكهف [48].فقوله: { عرضنا } هنا استعارة تمثيلية لوضع شيء في شيء لأنه أهل له دون بقية الأشياء، وعدم وضعه في بقية الأشياء لعدم تأهلها لذلك الشيء، فشبهت حالة صرف تحميل الأمانة عن السموات والأرض والجبال ووضعها في الإِنسان بحالة من يعرض شيئاً على أناس فيرفضه بعضهم ويقبله واحد منهم على طريقة التمثيلية، أو تمثيل لتعلق علم الله تعالى بعدم صلاحية السماوات والأرض والجبال لإِناطة ما عبر عنه بالأمانة بها وصلاحيةِ الإِنسان لذلك، فشبهت حالة تعلق علم الله بمخالفة قابلية السماوات والأرض والجبال بحمل الأمانة لقابلية الإِنسان ذلك بعرض شيء على أشياء لاستظهار مقدار صلاحية أحد تلك الأشياء للتلبس بالشيء المعروض عليها .
وفائدة هذا التمثيل تعظيم أمر هذه الأمانة إذ بلغت أن لا يطيق تحملها ما هو أعظم ما يبصره الناس من أجناس الموجودات. فتخصيص { السماوات والأرض } بالذكر من بين الموجودات لأنهما أعظم المعروف للناس من الموجودات، وعطف { الجبال } على { الأرض } وهي منها لأن الجبال أعظم الأجزاء المعروفة من ظاهر الأرض وهي التي تشاهد الأبصارُ عظمتها إذ الأبصار لا ترى الكرة الأرضية كما قال تعالى:لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله [الحشر: 21].
وقرينة الاستعارة حالية وهي عدم صحة تعلق العرض والإِباء بالسماوات والأرض والجبال لانتفاء إدراكها فأنّى لها أن تختار وترفض، وكذلك الإنسان باعتبار كون المراد منه جنسه وماهيته لأن الماهية لا تفاوض ولا تختار كما يقال: الطبيعة عمياء، أي لا اختيار لها، أي للجبلة وإنما تصدر عنها آثارها قسراً.
ولذلك فأفعال { عَرضنا، أبَيْن، يحملنها، وأشفقن منها، وحملها } أجزاء للمركب التمثيلي. وهذه الأجزاء صالحة لأن يكون كل منها استعارة مفردة بأن يشبه إيداع الأمانة في الإنسان وصرفها عن غيره بالعرض، ويشبه عدم مُصَحح مَواهي السماوات والأرض والجبال لإِيداع الأمانة فيها بالإِباء، ويشبه الإِيداع بالتحميل والحمل، ويشبه عدم التلاؤم بين مواهي السماوات والأرض والجبال بالعجز عن قبول تلك الكائنات إياها وهو المعبر عنه بالإِشفاق، ويشبه التلاؤم ومُصحِّح القبول لإِيداع وصف الأمانة في الإِنسان بالحمل للثقْل.
ومثل هذه الاستعارات كثير في الكلام البليغ. وصلوحية المركب التمثيلي للانحلال بأجزائه إلى استعارات معدود من كمال بلاغة ذلك التمثيل.
وقد عُدّت هذه الآية من مشكلات القرآن وتردد المفسرون في تأويلها تردداً دلّ على الحيرة في تقويم معناها. ومرجع ذلك إلى تقويم معنى العَرض على السماوات والأرض والجبال، وإلى معرفة معنى الأمانة، ومعرفة معنى الإِباء والإِشفاق.
فأما العرض فقد استبانت معانيه بما علمت من طريقة التمثيل. وأما الأمانة فهي ما يؤتمن عليه ويطالب بحفظه والوفاء دون إضاعة ولا إجحاف، وقد اختلف فيها المفسرون على عشرين قولاً وبعضها متداخل في بعض، ولنبتدئ بالإلمام بها ثم نعطف إلى تمحيصها وبيانها.
فقيل: الأمانة الطاعة، وقيل: الصلاة، وقيل: مجموع الصلاة والصوم والاغتسال، وقيل: جميع الفرائض، وقيل: الانقياد إلى الدين، وقيل: حفظ الفرج، وقيل: الأمانة التوحيد، أو دلائل الوحداينة، أو تجليات الله بأسمائه، وقيل: ما يؤتمن عليه، ومنه الوفاء بالعهد، ومنه انتفاء الغش في العمل، وقيل: الأمانة العقل، وقيل: الخلافة، أي خلافة الله في الأرض التي أودعها الإِنسان كما قال تعالى:
وإذ قال ربك للملائكة إِني جاعل في الأرض خليفة }[البقرة: 30] الاية.
وهذه الأقوال ترجع إلى أصناف: صنف الطاعات والشرائع، وصنف العقائد، وصنف ضد الخيانة، وصنف العقل، وصنف خلافة الأرض.
ويجب أن يطرح منها صنف الشرائع لأنها ليست لازمة لفطرة الإِنسان فطالما خلت أمم عن التكليف بالشرائع وهم أهل الفِتَر فتسقط ستة أقوال وهي ما في الصنف الأول.
ويبقى سائر الأصناف لأنها مرتكزة في طبع الإِنسان وفطرته.
فيجوز أن تكون الأمانة أمانة الإِيمان، اي توحيد الله، وهي العهد الذي أخذه الله على جنس بني آدم وهو الذي في قوله تعالى:

وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا }
وتقدم في سورة الأعراف [172]. فالمعنى: أن الله أودع في نفوس الناس دلائل الوحدانية فهي ملازمة للفكر البشري فكأنها عهْد عَهِد الله لهم به وكأنه أمانة ائتمنهم عليها لأنه أودعها في الجبلة مُلازِمة لها، وهذه الأمانة لم تودع في السماوات والأرض والجبال لأن هذه الأمانة من قبيل المعارف والمعارف من العلم الذي لا يتصف به إلا من قامت به صفة الحياة لأنها مصححة الإِدراك لمن قامت به، ويناسب هذا المحمل قولُه:
ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات }
[الأحزاب: 73]، فإن هذين الفريقين خالون من الإِيمان بوحدانية الله.
ويجوز أن تكون الأمانة هي العقل وتسميته أمانة تعظيم لشأنه ولأن الأشياء النفيسة تودع عند من يحتفظ بها.
والمعنى: أن الحكمة اقتضت أن يكون الإنسان مستودَع العقل من بين الموجودات العظيمة لأن خلقته مُلائمة لأن يكون عاقلاً فإن العقل يبعث على التغير والانتقال من حال إلى حال ومن مكان إلى غيره، فلو جعل ذلك في سماء من السماوات أو في الأرض أو في جبل من الجبال أو جميعها لكان سبباً في اضطراب العوالم واندكاكها. وأقرب الموجودات التي تحمل العقل أنواع الحيوان ما عدا الإِنسان فلو أودع فيها العقل لما سمحت هيئات أجسامها بمطاوعة ما يأمرها العقل به. فلنفرض أن العقل يسول للفرس أن لا ينتظر علفه أو سومه وأن يخرج إلى حناط يشتري منه علفاً، فإِنه لا يستطيع إفصاحاً ويضيع في الإِفهام ثم لا يتمكن من تسليم العوض بيده إلى فرس غيره. وكذلك غذا كانت معاملته مع أحد من نوع الإنسان.
ومناسبة قوله:
ليعذب الله المنافقين }[الأحزاب: 73] لهذا المحمل نظير مناسبته للمحمل الأول.
ويجوز أن تكون الأمانة ما يؤتمن عليه، وذلك أن الإِنسان مدني بالطبع مخالط لبني جنسه فهو لا يخلو عن ائتمان أو أمانة فكان الإنسان متحملاً لصفة الأمانة بفطرتِه والناس متفاوتون في الوفاء لما ائتمنوا عليه كما في الحديث:
" إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة " أي إذا انقرضت الأمانة كان انقراضها علامة على اختلال الفطرة، فكان في جملة الاختلالات المنذرة بدنو الساعة مثل تكوير الشمس وانكدار النجوم ودكّ الجبال.والذي بَيَّن هذا المعنى قولُ حذيفة: " حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة نزلت في جِذر قلوب الرجال ثم عَلِموا من القرآن ثم علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها فقال: ينام الرجل النومةَ فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوَكْت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المَجْل كجمر دَحرَجْتَه على رِجْلك فنفط فتراه منتبرًا وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان " أي من أمانة لأن الإِيمان من الأمانة لأنه عهد الله.
ومعنى عرض هذه الأمانة على السماوات والأرض والجبال يندرج في معنى تفسير الأمانة بالعقل، لأن الأمانة بهذا المعنى من الأخلاق التي يجمعها العقل ويصرّفها، وحينئذٍ فتخصيصها بالذكر للتنبيه على أهميتها في أخلاق العقل.
والقول في حَمل معنى الأمانة على خلافة الله تعالى في الأرض مثل القول في العقل لأن تلك الخلافة ما هيّأ الإِنسان لها إلا العقلُ كما أشار إليه قوله تعالى:
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة }[البقرة: 30] ثم قوله:وعلم آدم الأسماء كلها }[البقرة: 31] فالخلافة في الأرض هي القيام بحفظ عمرانها ووضع الموجودات فيها في مواضعها، واستعمالها فيما استعدّت إليه غرائزها.
وبقية الأمور التي فسر بها بعض المفسرين الأمانة يعتبر تفسيرها من قبيل ذكر الأمثلة الجزئية للمعاني الكلية.
والمتبادر من هذه المحامل أن يكون المراد بالأمانة حقيقتها المعلومة وهي الحفاظ على ما عُهد به ورعْيهُ والحذارُ من الإِخلال به سهواً أو تقصيراً فيسمى تفريطاً وإضاعة، أو عمداً فيسمى خيانة وخيساً لأن هذا المحمل هو المناسب لورود هذه الآية في ختام السورة التي ابتدئت بوصف خيانة المنافقين واليهود وإخلالهم بالعهود وتلونهم مع النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى:
ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار }
[الأحزاب: 15] وقال:من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه }
[الأحزاب: 23]. وهذا المحمل يتضمن أيضاً أقرب المحامل بعده وهو أن يكون هو العقل لأن قبول الأخلاق فرع عنه.
وجملة { إنه كان ظلوماً جهولاً } محلها اعتراض بين جملة { وحملها الإنسان } والمتعلق بفعلها وهو
ليعذب الله المنافقين }[الأحزاب: 73] الخ. ومعناها استئناف بياني لأن السامع خبرَ أن الإِنسان تحمل الأمانة يترقب معرفة ما كان من حسن قيام الإِنسان بما حُمِّله وتحمّله وليست الجملة تعليلية لأن تحمل الأمانة لم يكن باختيار الإِنسان فكيف يعلل بأن حمله الأمانة من أجل ظلمه وجهله.
فمعنى { كان ظلوماً جهولاً } أنه قصّر في الوفاء بحق ما تحمله تقصيراً: بعضُه عن عمْد وهو المعبر عنه بوصف ظلوم، وبعضه عن تفريط في الأخذ بأسباب الوفاء وهو المعبر عنه بكونه جهولاً، فظلوم مبالغة في الظلم وكذلك جهول مبالغة في الجهلوالظلم: الاعتداء على حق الغير واريد به هنا الاعتداء على حق الله الملتزم له بتحمل الأمانة، وهو حق الوفاء بالأمانة.
والجهل: انتفاء العلم بما يتعين علمه، والمراد به هنا انتفاء علم الإِنسان بمواقع الصواب فيها تحمل به، فقوله: { إنه كان ظلوماً جهولاً } مؤذن بكلام محذوف يدل هو عليه إذ التقدير: وحملها الإِنسان فلم يف بها إنه كان ظلوماً جهولاً، فكأنه قيل: فكان ظلوماً جهولاً، أي ظلوماً، أي في عدم الوفاء بالأمانة لأنه إجحاف بصاحب الحق في الأمانة أيّاً كان، وجهولاً في عدم تقديره قدر إضاعة الأمانة من المؤاخذة المتفاوتة المراتب في التبعية بها، ولولا هذا التقدير لم يلتئم الكلام لأن الإِنسان لم يحمل الأمانة باختياره بل فُطَر على تحملها.
ويجوز أن يراد { ظلوماً جهولاً } في فطرته، أي في طبع الظلم، والجهل فهو معرض لهما ما لم يعصمه وازع الدين، فكان من ظلمه وجهله أن أضاع كثير من الناس الأمانة التي حملها.
ولك أن تجعل ضمير { إنه } عائداً على الإِنسان وتجعل عمومه مخصوصاً بالإِنسان الكافر تخصيصاً بالعقل لظهور أن الظلوم الجهول هو الكافر.
أو تجعل في ضمير { إنه } استخداماً بأن يعود إلى الإنسان مراداً به الكافر وقد أطلق لفظ الإِنسان في مواضع كثيرة من القرآن مراداً به الكافرُ كما في قوله تعالى:
ويقول الإِنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حياً }[مريم: 66] الآية قوله:يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم }[الانفطار: 6] الآيات.
وفي ذكر فعل { كان } إشارة إلى أن ظلمه وجهله وصفان متأصلان فيه لأنهما الغالبان على أفراده الملازمان لها كثرة أو قلة.
فصيغتا المبالغة منظور فيهما إلى الكثرة والشدة في أكثر أفراد النوع الإِنساني والحكم الذي يسلط على الأنواع والأجناس والقبائل يراعى فيه الغالب وخاصة في مقام التحذير والترهيب. وهذا الإِجمال يبينه قوله عقبه: { ليعذب الله المنافقين } إلى قوله
ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات }
[الأحزاب: 73] فقد جاء تفصيله بذكر فريقين: أحدهما: مضيع للأمانة والآخر مراعٍ لها.
ولذلك أثنى الله على الذين وَفّوا بالعهود والأمانات فقال في هذه السورة

وكان عهد الله مسئولاً }[الأحزاب: 15] وقال فيها:من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه }[الأحزاب: 23] وقال:واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد }[مريم: 54] وقال في ضد ذلك:وما يضل به إلا الفاسقين، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه }
[البقرة: 26، 27] إلى قوله:أولئك هم الخاسرون }[البقرة: 27].
*د يحيى
17 - مارس - 2009
عرض الأمانة    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
عرض الأمانة
قال الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَـٰنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً لّيُعَذّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقَـٰتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَـٰتِ وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيما [1]ً
الأية الكريمة تشمل على معنيين :
1)  إنّ الأمانة عرضت بالفعل عرضا حقيقيا على مخلوقات الله سبحانه وتعالى : السموات والأرض والجبال ، ومعهن الإنسان وهذا العرض مشروط بالثواب والعقاب .
      كما قال ابن زيد : إن الله عَرض عليهن الأمانة أن يفترض عليهن الدِّين ، ويجعل لهن ثوابًا وعقابًا، ويستأمنهن على الدِّين ، فقلن : لا ، نحن مُسَخَّرات لأمْرك ، لا نُريد ثوابًا ولا عقابًا[2] ..
ما جاء في تفسير الآية من أنها خُيِّرت ، فاختارت عدم حَمْل الأمانة .
فإن من معاني الآية : " إن الله عَرَض طاعته وفرائضه على السموات والأرض والجبال على أنها إن أحسنت أُثِيبت وجُوزيت ، وإن ضَيَّعت عُوقبت ، فأبَتْ حَمْلها شفقًا منها أن لا تقوم بالواجب عليها ، وحملها آدم[3] " ،وهنا الرفض فيه إشفاق واستصغار ، أن هذا كان إشفاقا من حَمْل الأمانة ، كما قال تعالى : (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا)إنّ السماوات والأرض والجبال لم يخرُجن عن الطاعة..
 على عكس رفض سجود إبليس لآدم استكبارا، قال تعالى { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبروكان من الكافرين }[4]، الأمانة هنا كانت عرضا بينما الأمر بالسجود لآدم كان فرضا.
أنه لا يمكن للسموات والأرض والجبال العصيان ، كما قال تعالى : (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ[5]) .
2-إنّ الأمانة عرضت على السماوات والارض والجبال مجازا للدلالة على عظم أمر الأمانة المعروضة. وفائدة هذا التمثيل تعظيم أمر هذه الأمانة إذ بلغت أن لا يطيق تحملها ما هو أعظم ما يبصره الناس من أجناس الموجودات. فتخصيص { السماوات والأرض } بالذكر من بين الموجودات[6] لأنهما أعظم المعروف للناس من الموجودات، وعطف الجبال على{ الأرض } وهي منها لأن الجبال أعظم الأجزاء المعروفة من ظاهر الأرض وهي التي شاهد الأبصارُ عظمتها إذ الأبصار لا ترى الكرة الأرضية كما قال تعالى: { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله[7] }....
والله سبحانه وتعالى أعلم .


[1] سورة الأحزاب آية رقم : (72 ، 73 ).
[2] رواه ابن جرير
[3] ذكَرَه ابن جرير
[4] سورة البقرة آية (34)
[5] سورة فصلت رقم ( 11)
[6] ابن عاشور
[7] سورة الحشر آية رقم: (21)
*ابو هشام
18 - مارس - 2009
فهوم وطعوم ، وفي كلٍّ خيرٌ.    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
                         تفسيرالزيدية
 
*** تفسير فرات الكوفي (ت القرن 3 هـ)
فرات [قال: حدثني. أ، ب] علي بن عتاب معنعناً:
عن فاطمة الزهراء [أ، ب: بنت محمد] عليها السلام قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
" لما عرج بي إلى السماء صرت إلى سدرة المنتهى { فكان قاب قوب قوسين أو أدنى } [9/ النجم] فأبصرته بقلبي ولم أره بعيني، فسمعت أذاناً مثنى مثنى وإقامة وتراً وتراً فسمعت منادياً ينادي: يا ملائكتي وسكان سماواتي وأرضي وحملة عرشي اشهدوا أني لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، قالوا: شهدنا وأقررنا، قال: اشهدوا يا ملائكتي وسكان سماواتي وأرضي وحملة عرشي بأن [ر (خ ل): أن] محمداً عبدي ورسولي، قالوا: شهدنا وأقررنا، قال: اشهدوا يا ملائكتي وسكان سماواتي وأرضي وحملة عرشي بأن [ر: ان] علياً وليي وولي رسولي وولي المؤمنين بعد رسولي، قالوا: شهدنا وأقررنا. " قال: عباد بن صهيب قال: جعفر بن محمد قال أبو جعفر [عليهما السلام. ب، ر]: وكان ابن عباس رضي الله عنه: إذا ذكر [هذا الحديث. ر، ب] فقال!: إني لأجده في كتاب الله تعالى: { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً } قال: فقال ابن عباس [رضي الله عنه. ر]: والله ما استودعهم ديناراً ولا درهماً ولا كنزاً من كنوز الأرض ولكنه أوحى إلى السماوات والأرض والجبال من قبل أن يخلق آدم عليه [الصلاة و. أ، ر] السلام: إني مخلف فيك الذرية ذرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم فما أنت فاعلة بهم؟‍ إذا دعوك فأجيبيهم وإذا آووك فآويهم، وأوحى إلى الجبال إذا دعوك فأجيبيهم وأطيعي [ظ: وأطبقي] على عدوهم فأشفقن منها السماوات والأرض والجبال عما سأله الله من الطاعة فحملها بني [ر، أ: بنو] آدم فحملوها. قال عباد قال جعفر: والله ما وفوا بما حملوا [ب: حملهم] من طاعتهم.
*** تفسير الأعقم (ت القرن 9 هـ)
 اختلفوا في الأمانة قيل: الطاعة لله، وقيل: الفرائض وحدود الدين، وقيل: ما أمر به ونهى عنه، وقيل: ما يخفى من الشرائع كالصوم والاغتسال ونحوه، وقيل: هي أمانات الوفاء بالعقود والعهود عن ابن عباس، واختلفوا في معنى الآية قيل: إنا عرضنا الأمانة أي العبادات والتكاليف بما في أدائها من الثواب وفي تضييعها من العقاب { على السماوات والأرض } أهل السماوات والأرض والجبال كقوله:واسأل القرية }[يوسف: 82] وأهل السماء الملائكة، وأهل الأرض والجبال الجن والإِنس { فأبين أن يحملنها } أي امتنعوا أن يخونوا فيها، والمراد يحملن تضييع الأمانة { وأشفقن } من ذلك { وحملها الإِنسان } بالتضييع فتركها وخانها بالتضييع عن أبي علي، وقيل: هذا على التقدير، أي لو كانت السماوات والأرض والجبال مع عظمها حية قادرة عالمة ثم عرضت عليها هذه الأمانة بما فيها من الوعد والوعيد عرض تخيير خافت حملها لما فيه من الوعيد { وحملها الإِنسان } ولم يخف الوعيد لحمله وظلمه، وعلى هذا الحمل ما روي عن ابن عباس أنها عرضت على السماوات فأبت وأشفقت { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } بتضييع الأمانة والتوحيد { ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيماً } لمن تاب وأصلح.
 
               تفسير الإباضية:
 
* تفسير كتاب الله العزيز/ الهواري (ت القرن 3 هـ)
قوله: { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا }. قال بعضهم: عرض عليهن الطاعة والمعصية، والثواب والعقاب.وقال الكلبي: إنه عرض العبادة على السماوات والأرض والجبال ليأخذنها بما فيها. قلن: وما فيها؟ قيل: إن أحسنتن جوزيتن، وإن أسأتن عوقبتن. فأبين أن يحملنها، وعرضها على الإِنسان، والإِنسان آدم، فقبلها. ذكر إبراهيم بن محمد عن صالح مولى التوْءَمة عن ابن عباس قال: الأمانة التي حملها ابن آدم: الصلاة والصوم والغسل من الجنابة.
ذكروا عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" قال الله: ثلاث من حفظهن فهو عبدي حقاً، ومن ضيعهن فهو عدوي حقاً: الصلاة والصوم والغسل من الجنابة ".
ذكروا عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ائتمن ابن آدم على ثلاثة: على الصلاة، ولو شاء قال: صليت [ولم يصل]، وعلى الصيام، ولو شاء قال: صمت [ولم يصم]، وعلى الغسل من الجنابة، ولو شاء قال: قد اغتسلت [ولم يغتسل] " قال: ثم تلا هذه الآية: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ }[الطارق: 9].
قال تعالى: { إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً } أي: لنفسه { جَهُولاً } بدينه؛ وهذا المشرك.
ذكروا عن الحسن أنه قرأ هذه الآية: { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ... } إلى قوله:
{ وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً لِّيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ } فقال: هما والله اللذان ظلماها، وهما اللذان خاناها: المنافق والمشرك.
 
* تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ)
{ إنا عرضنا الأمانة على السمٰوات والأرض والجبال } أتحمل هذه الأمانة بما فيها قلن: وما فيها؟ قال: إن أحسنتن جوزيتن وظفِرتن بالجنة وإن أسأتن عوقبتن بالنار وقد ركب فيهن العقل إذ ذاك وذلك قبل خلق آدم.
{ فأبين } امتنعن.{ أن يحملنها وأشفقن منها } تعظيماً لدينه أن يضيعنه وقلن: لا نريد ثواباً ولا عقاباً نحن مسخرات لأمرك وكان العرض عليهن تخييراً لا إلزاماً وإلا لما أبين. { وحملها الإنسان } آدم وتلك الأمانة جميع الفرائض عند الجمهور وبه قال: ابن عباس والكلبي ومجاهد، قال الكلبي:
قال الله عز وجل لآدم: إني عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال ولم تطقها وخافت أن لا تقوم بها فيلحقها العذاب فهل أنت آخذها بما فيها؟ فقال: يا رب وما فيها، قال: إن أحسنت جوزيت، وإن أسأت عوقبت فتحملها فقال: بين أذني وعاتقي فقال: أما إذا تحملت فسأعينك وأجعل لبصرك حجاباً فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحل فسأرخي عليه حجابه ،وأغلق لحييك على لسانك إذا خفت منه واجعل لفرجك لباساً فلا تكشفه على ما حرمت عليك. قال مجاهد: فما كان بين أن حملها وبين أن خرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر. وقال ابن مسعود: الأمانة الصلاة والزكاة وصوم رمضان وحج البيت وصدق الحديث وقضاء الدين والعدل في الكيل والوزن وأشد من هذ كله الودائع حتى إنّ ابن عباس في رواية فسّر الأمانة بالودائع والوفاء بالعهود، وقال زيد بن أسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
 " أيأتمن الله ابن آدم على ثلاث الصلاة ولو شاء قال: صليت وعلى الصيام ولو شاء قال: صمت على الغسل من الجنابة ولو شاء قال: قد اغتسلت ثم تلا الآية وتلا" يوم تبلى السرائر " وهذا قول ابن عباس في رواية إبراهيم بن محمد بن صلاح قال الله سبحانه: ثلاث من حفظهن فهو عبدي حقاً ومن ضيعهن فهو عدوي حقاً: الصلاة والصوم والغسل من الجنابة. وقال عبدالله بن عمر وابن العاصي بإسكان الميم وإثبات الياء بعد الصاد وتركها أول ما خلق الله من الإنسان الفرج وقال: هذه الأمانة استودعكها الله فالفرج أمانة والأذن أمانة والعين أمانة واليد أمانة ولا إيمان لمن لا أمانة له، وقيل: صوم رمضان وغسل الجنابة وما خفي من الشرائع. ويجوز أن لا يكون تم عرض على السماوات والأرض والجبال حقيقة ولا على الإنسان حقيقة ولكن المعنى إنا خلقنا السماوات والأرض والجبال على حالة لا يليق بهن حمل الأمانة وخلقنا الإنسان على حالة تقبل حملها فامتناعهن عن الحمل عدم إمكان الحمل وقَبول الإنسان إمكان الحمل ويجوز أن يريد بقوله { فأبين أن يحملنها } فأبين أن يضمنها فإن الشيء إذا ضيعته فأنت حامل له مترتب في ذمتك؛ أي علمن أنهن لا يقدرن فلو قبلتها لضيعتها وكان ديناً عليهن، ومعنى حمل الإنسان لها كونها ديناً عليه لازماً له معاقباً به لتضييعه إياها المترتب على قبوله إياها، وقيل: عرضت عليهن أمانة وهن الخضوع والانقياد فامتنعن أن تكن حاملات لها أي ضامنات أي لا يضيعن فضلاً عن أن يضمنها بل وفين بها بخلاف الإنسان، وقيل: المراد عرضناها على أهلهن وهو الملائكة فإنهم في الأرض والجبال والسماوات.


 
 
 
 
*د يحيى
18 - مارس - 2009
الشيخ محمد متولي الشعراوي والأمانة    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
شاكرا شيخي ، د. يحيى ، على مساهماته القيمة ؛ أتقدم بما يلي :
{إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا "72" }
(سورة الأحزاب)


وفي رفض هذه المخلوقات لتحمل الأمانة والاختيار دليل على العلم الواسع؛ لأنه يوجد فرق كبير بين قبول الأمانة وقت التحمل ووقت الأداء. فقد تتحمل الأمانة وأنت واثق من أدائها، لكن يطرأ عليك وقت الأداء ما يحول بينك وبين أداء الأمانة.
والأمانة كما هو معروف لا توثق ولا تكتب، وكثيراً ما يقع فيها التلاعب؛ لأنها لا تثبت إلا بذمة الآخذ الذي قد يضعف عن الأداء وتلجئه الأحداث إلى هذا التلاعب أو الإنكار، والأحداث قد تكون أقوى من الرجال.فالإنسان ـ إذن ـ لا يضمن نفسه وقت الأداء، وإن كان يضمنها وقت التحمل، ولهذا اختارت جميع المخلوقات أن تكون مقهورة مسيرة، أما الإنسان فقال: لي عقل وأستطيع التصرف والترجيح بين البدائل، فكان بذلك ظالماً لنفسه؛ لأنه لا يضمنها وقت الأداء، وجهولاً بما يكون من تغير أحواله.
فالكون ـ إذن ـ ليس مقهوراً رغماً عنه، بل بإرادته واختياره، وكذلك الإنسان ليس مختاراً رغماً عنه، بل بإرادته واختياره....
منقول من موقع : نور الله nourallah.com
*ياسين الشيخ سليمان
19 - مارس - 2009

 
   أضف تعليقك