فكرة البرزخ جليلة الفائدة ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
أقول الصدق : لقد فاجأتني الفكرة هذه وسررت بفحواها ليس لأنها اعتمدت البرزخ محلا لسماع أصوات من صارت عظامهم إلى البلى فحسب ؛ وإنما النباهة التي يتمتع بها أستاذنا السويدي في سيره الفكري نحو النظر في التاريخ وكيف نفيد منه وفي أثناء سطور كتب التراث الكثير الكثير مما هو بحاجة إلى أن نظهره ونجليه ؛ آخذين بالاعتبار أمرين هامين : الأمر الأول : التحقق من صحة ما ذكر في كتب التراث بدقة ، وهذا من عمل محققيه ، والذين يجب ان تتوفر فيهم سعة المعرفة العامة ، وملكة النقد المرتكز على المنطق دون العاطفة ، وهؤلاء موجودون ولله الحمد . والأمر الثاني : الحث على استقراء أحداث التاريخ لاستخلاص العبرة منها ، وهذا ما أظن أن أستاذنا السويدي يهدف إليه وهو يبدأ هذا الهدف بالسعي إلى تحقيق بداياته بهذا العمل الأدبي الممتاز ، الذي اسمه ( البرزخ) . والبرزخ ، وهو الحاجز بين الحياة الأولى الفانية ، والحياة الأخرى الخالدة ، تكمن أهميته في الاعترافات التي يعترف بها ساكنوه ؛ فهو ، إذن ، الدلائل التي تدل على الصراحة والمصارحة ، وهو الشهادات التي يشهد بها الأموات على أنفسهم ، أما الحساب ؛ ثوابا او عقابا او مغفرة وشفاعة...فمتروك أمرها إلى الله سبحانه ؛ فهو العليم الخبير بما وراء تلك الاعترافات من مسببات ، وهو سبحانه يعلم من يستحق العقاب ومقدار ذلك العقاب ، ويعلم من يستحق الرحمة والثواب ومقدار تلك الرحمة وذلك الثواب . إن الأولى بالصراحة والمصارحة هم الأحياء منا بطبيعة الحال ؛ نتصارح قبل ان يأتي يوم لا مرد فيه ولا معاد ، ولن ينفع نفسا أن ترجو الله بان يؤخر لها في اجلها ، الذي إذا جاء لن يؤخر . إن ما كتبه أديبنا السويدي يحثنا على التفكر وإمعان النظر في الذي نقرؤه من التاريخ ؛ خرجنا بأحكام نحسبها قاطعة الصحة على ما نقرأ، أو بأحكام تحتمل الصحة وتحتمل الخطأ ‘ فالمهم أن نفكر ، والمهم ان نعتبر ونتعظ ، ولا نبقى متخذين من سطور التاريخ مجرد نوادر نتندر بها ، او مجرد متعة لغوية نستمتع بها من اطلاعنا على كتب التراث الأدبية . والأهم من ذلك كله عندي هو تراثنا الذي نسميه دينيا وكأنه هو الدين ، ونربط كل علوم الفقه ، واللغة والأدب والشعر ، والفلسفة وكل أنواع العلوم الإنسانية الفكرية به ؛ متخذين من معلوماتنا المسماة بالدينية عبر العصور حكما على هذا التراث دون ان ندرك في كثير من الأحايين أن ديننا الحنيف يوجهنا إلى التفكر بما قيل ويقال ، في عصور سبقت وأخرى لحقت ، ويروح بنا إلى وجوب التفريق بين الدين الذي هو من لدن الله تعالى ، وبين ما قلناه او كتبناه نحن البشر باسم الدين . إن من لا ينعم النظر في ماضيه بتأن وتؤدة ، وبنية خالصة لوجه الحق وحده ، لن يتمكن من تصحيح أخطاء حاضره ، ولن يتمكن من الخلاص مما يحيط به من تخلف ثقافي ومادي ، بل إنه ربما يزداد تخلفا ، ويظل يهوي في مهاوي الجهل والجهالة حتى يندثر ذكره من التاريخ كله . والقرءان الكريم كم حدثنا عن أحوال الأمم الغابرة كيف آل أمرها إلى الهلاك ، ولنا في كتاب الله من العبر ما لا يقدر بثمن . ومن الأصوات التي يمكن ان يسمعها أديبنا السويدي بعد ان منح القدرة على سماع أصوات أهل البرزخ، صوت المعتصم وهو يقول ( إن صح ما قيل في ذلك) : بلى ، كنت لمّا وردني خبر عمورية أعاقر بنت الكرم ؛ ولكني قذفت بالكأس بعيدا ؛ فحطمتها ، وجهزت جيشا عرمرما استرجعت به عمورية ونكلت ببني الأصفر أي تنكيل...ولم لا! هل أظل أقبل على شرب الخمر ويبلغني صراخ الشريفة الأسيرة : وامعتصماه! وامعتصماه!.. وبهذه المناسبة التي تحدثنا فيها عن العبرة والاعتبار ‘ فلا بأس بمثال تطبيقي ولو بالكلام وحده : يا أيها المتنفذون فينا ، شربتم الخمر في سركم أم لم تشربوها ؛ فأمركم فيها إلى بارئكم ؛ ولكن إياكم أن تظهروا لأمتكم خلاف ما تضمروا ؛ فتخدعوها ، وإياكم أن تشربوا دماء أبنائها ، سرا أو علانية ؛ فهذه تخلدكم إن ارتكبتموها ، في نار جهنم أبدا . وإن ابتغيتم الخير للأمة ؛ فاجعلوها سندا لكم وكونوا سندا لها ، ولا يتم ذلك إلا بأن تحسنوا رعايتها وتقوموا على شؤونها بأن تنشروا بين افرادها حرية القول المنضبط بما أمر الله تعالى به ، وان تقوموا بتربية الأجيال المتعاقبة على الحق والخير والرفعة والسؤدد . |