الإخوة الأكارم ،
تحية طيّبة ،
أخي وصديقي العزيز هشام ، حفظه الله ،
وقعت كلماتكم في خاطري أطيب موقع ، على أنّها أكبر منّي وأفخم ، فأردت أن أجيبكم إلى طلبكم بالحديث عن "الاستغراب" ، على الرغم من علمي أنّ هناك من سراة الوراق من هو أجدر مني بهذا الحديث ...
****
في الفعل " إستغرب " :
في لسان العرب " استغرب في الضحك أي أكثر منه " ، كما في معنى استغرق (تاج العروس) ويأتي غالب استعمال فعل استغرب بمعنى تعجّب واندهش ، أنظر مثلا قول ابن عربي في الفتوحات المكية : " واعلم أن الناس إنما يستغربون الحكمة من الصبيّ الصغير دون الكبير لأنهم ما عهدوا إلا الحكمة الظاهرة عن التفكر والرويّة وليس الصبيّ في العادة بمحل لذلك " ...
وليس هذا محل حديثنا ...
يأتي فعل استغرب على وزن استفعل ، ويجيء بناء استفعل :
"للدلالة على الطلب ، نحو استغفرت الله واستوهبته ، ومنه استخرجته أي لم أزل أتلطف به وأطلبه حتى خرج
أو للدلالة على التحول من حال إلى حال نحو استنوق الجال واستحجر الطين ، وأنّ البغاث بأرضنا تستنسر ،
وللإصابة على صفة نحو استعظمته واستسمنته واستجدته أي أصبته عظيما وسمينا وجيّدا ..."
سوف يلقي هذا "التنوّع الدلالي " بظلاله على الفعل استغرب ، فيأتي أحيانا للدلالة على من تحوّل في هيأته وفكره إلى سمت الرجل الغربي ، أو قد يأتي بمعنى من طلب التعرّف على الغرب وعلى عاداته وثقافته ونحله واجتماعه ... وهذا هو الأمر المقصود من الإستغراب في هذا السياق ... فهو على عكس الاستشراق ، محاولة الآخر الشرقي للتعرف على الغرب ، فهو يقوم ، كما أشار إدوارد سعيد في معرض حديثه عن الاستشراق ، على المسلّمة ذاتها أي الفصل بين الشرق والغرب " فالشرق شرق والغرب غرب " ، وكلّ قائم بذاته ، متوحد بخصائصه ، متميّز بصفاته ، مغاير للآخر ...
****
إشتهرت دعوى الاستغراب على لسان الأستاذ حسن حنفي ، في كتابه " مقدّمات في علم الاستغراب " غير أنّ الدعوى في ذاتها قديمة ، قدم الاحتكاك بالغرب ، إصطداما أو إعجابا ، محاكاة أو مغايرة ، وَلَهاً أو بغضا ....
نعثر في التراث العربي الإسلامي على محاولات عديدة للتعرف على الآخر ، سواء كان هذا الآخر شرقيا (كالبيروني مثلا في كتابه تحقيق ما للهند ...) أو كان غربيا كما هو حال الفلاسفة والرحالة العرب ...
وبينما لم يكن هؤلاء الفرنجة سوى بهائم لا تبشر بأي مشروع حضاري ، ديدنها الغزو والسطو كما يشير إلى ذلك اسامة بن منقذ ، تحوّل هؤلاء في العصر الحديث إلى نموذج أو مرآة يقارن بها تخلّف العالم المسلم وانحطاطه ... وعلى هذا نشط الحديث عن الاستغراب ...
راجع كتابات مالك بن نبي ، و محمد عمارة ، وبرنارد لويس ، ونور الدين أفاية ، وأمين معلوف ... وغيرهم في الحديث عن " اكتشاف " العرب للغرب ...
***
غير أنّه في صدد الحديث غن علاقة الشرق بالغرب من خلال مشروع الاستغراب ، لا يكون الأمر معرفيا بحتا ، بل هو فكري وإيديولوجي بامتياز ... فالمعرفة سلطة بشكل من الأشكال ، وهي في هذا السياق محاولة لقلب الطاولة على فكرة الاستعلاء الغربي ، الذي مارس على الشرق سطوته الاستشراقية منذ زمن ...
راجع مثلا دعوة إريك يونس جوفروا (عالم الإسلاميات بجامعة ستراسبورغ الفرنسية) إلى استغراب إسلامي ...على الموقع oumma.com
****
غير أنّ لهذه الدعوة ، على سحرها ، بعض المثالب :
- فهي تتّخذ من الاستشراق الغربي ، نظيرا لها ، وهي بهذا قد تعيد إنتاج سلبياته ذاتها ، من قبيل النظرة الأحادية ، والقوالب الجامدة ، وفكرة الاستعلاء ، التي قد تنعكس على مضامينه ونتائجه ...
- إنّ وصف الاستغراب بالعلم ، لهو في رأيي متعسّف بعض الشيء ، إذ ما موضوع هذا العلم ؟ إذا قلنا أنّه الغرب ، فما معنى الغرب ؟ كيف يمكن حصر هذا المفهوم ؟ سيما في ظلّ النقاش الحاصل في الغرب ذاته حول هذا الموضوع ...
أنظر مثلا كتابات إيمانويل طود حول اختراع أوربا " L'invention de l'Europe" ، أو حول التمييز بين أوربا وأمريكا داخل الكيان الغربي ذاته (كما عند محمد أركون)...
يبدو لي أنّ الاستغراب هو فضاء ثقافي للتفكير والتأمل والنقد في ظواهر يمكن ربطها بالغرب وبأشكاله
- يحاول الاستغراب إستعمال أدوات التفكير والحداثة الغربية ذاتها لنقد العرب ، ألا يكون هذا شكلا من أشكال " بضاعتنا ردت إلينا " (ولا زيادة في الكيل) ... ذلك ان استعمال هذه الأدوات لا يخلو من التسليم بمقدماتها النظرية ، وهو أمر يتعذّر من بعده نقد هذه المقدّمات ذاتها ...
ولنضرب مثلا على ذلك :
كنت قد قرأت للدكتور حسن حنفي مقالا حول الفلسفة الإسلامية (في مجموعة مقالات صدرت عن مركز دراسات الوحدة العربية) ، يدعو فيها إلى التخلي عن فكرة الله - عز وجل - كفكرة مركزية في الفلسفة الإسلامية ، واستبدالها بمركزية الإنسان ، وهذا الأمر في رأيي استرجاع لمعيارية الفلسفة الغربية ولنظرتها الديكارتية ... كيف يمكن بعد هذا النظرة إلى الغرب بمنظار آخر ؟ ونحن أسرى مسلماته ، كما نحن أسرى أدواته ...
وللموضع بقية بحول الله |