فلعوص الحيران كان في المدينة رجل أعطاه الله – سبحانه وتعالى – الطول والعرض ، له (شنب) طويل يقضي وقتا طويلا في تبريمه، وله لحية قصيرة محسنة ، مبروم الساعدين عريض المنكبين متباه بجبته القديمة التي يظهر منها ساعديه المرسوم عليهما رسومات غريبة ما يسمى بالوشم ،، سيارته الحمراء قديمة قدم الدهرورثها عن أبيه ، كثيرا ما يتجول في شوارع المدينة على أقدامه لأن السيارة معطلة .. أو فارغة من البترول ، وبالرغم من ذلك كان ضعيف القلب خوارا ،يقفز قلبة رهبة وخوفا من هرة مارة في الشارع...هذا الرجل اسمه فلعوص الحيران .كان وحيدا لأمه التي فارقت الحياة وهو صغير ،،فعاش في ذل اليتم وقهر الفقر. يقضي جل نهاره وبعضا من لياليه متجولا في شوارع المدينة، هذه هوايته وهذا مايحب . في يوم من الايام ركب فلعوص سيارته وأخذ يتجول في شوارع المدينة وكأن اليوم عنده يوم الزينة ، مرَ على محطة بترول ليزود سيارته بالوقود ، ملأ ها ولاذ بالفرار ولم يدفع النقود، هاربا من سطوة مديرها الجبار،، لان جيبه خاوية فارغة .. شعر بخطورة الوضع .. صار يجوب بسيارته على غير هدى ، يريد مأوى بعيدا عن أعين طالبيه.... فلعوص الحيران وسمعان الخبير مرَّعن رجل عجوز يدعى سمعان الخبير وهو من ساكني البلدة ، يجلس كل يوم على عتبة بيته المطلة على الشارع ، يسرّح بصره الضعيف ، ويسمع من المارين كل خبر طريف ، يلبس قبعة سوداء، وله لحية بيضاء طويلة طول السنين ، ميسور الحال هادئ البال ، له مزرعة أرانب تحوي على الكثير ... شاهد هذا الرجل فلعوصا مصفرّ الوجه مرتعد الفرائص، وعينيه للذعر عاكس ، فأوقفه وناداه ثم أدخله بيته ومن الماء أسقاه، أخذ يهدّيء من روعه، ويسأله عن حاله وعن الذي شغل باله ... فأخبره عن هربه، وخشى أن تبلَّغ محطة البترول شرطة المدينة ، حقيقة أوقعت نفسي في ورطة مهينة، ملأت خزان الوقود فأثقلت نفسي بالقيود وأنا لاأملك اليوم حتى القوت .... فقال سمعان الخبير : عندي لك حسن تدبير، وهو عندي يسير ... ما رأيك في الذي يغنيك وعن التجوال يلهيك ؟ فأجابه فلعوص دون تروي أو تفكير : أنا رهن اشارة الخبير وعبدك المطيع .. فقال الخبير : لابد أن نعقد اتفاقا تنفذه ، وعلى الخطة تسير.. ولا تسألني أي سؤال أو تفسير. ...اتفقنا ... قال فلعوص: اتفقنا سيدي ..قالها دون تردد ..وقال في نفسه انا لا أخسر شيئا لأنني لا أملك شيئا. قال الخبير : إذا لنبدأ الخطه ونستبق مدير المحطة. فلعوص : أنا رهن إشارتك يا سيدي . الخبير : خذ هذه الأكياس الكبيرة واذهب إلى مزرعتي واقتل مئة من أرانبي ، وآتني بمئة أخرى أحياء غير ميتين . نظر فلعوص إلى الخبيروشفتاه تلعثمت عن التعبير .. فأمرة الخبير: إنا عقدنا اتفاقا.. لا سؤال ولا تفسير .. والآن يمكنك حسب الاتفاق أن تسير. أخذ فلعوص الأكياس يجرّ أذياله كجندي مهزوم، مطرقا رأسه مهموم ،عاجزا عن التفكير يقول في نفسه.. انا لا أملك شيئا ومم أخاف.. ثم تمتم بكلمات:( فلعوص يارب في الشرَ ما تغوص).. دخل المزرعة، وصار يلتقط من الأرانب أربعة أربعة ، أرهقته الأرانب لأنه يخاف منهاأصلا، ولكن صبّر نفسه وتجلّد لأنه على الإتفاق لا يتمرّد، ولا يحنث العهد .. صار يعد ولايخطئ ،لأن الاتفاق أن يكون العدد مئة بالتمام والكمال،، وبهذا السبيل تحصل على المال ،جمع فلعوص العدد على مضض.. الأحياء منها وضعها في الكيس و الأموات شكلها يخيف،، يخاف لون الدم ، فأصابه الهمّ والغمّ ، لا بدّ أن ينفذ الاتفاق ويكمّل الطريق، ودون الغنى صدره يضيق.. فصار يهمهم ويقول: (فلعوص الحيران أنا عارف نفسي بأني جبان !!) بدأ.. وصار يمسك من الأرانب ويعدّ حتى لا يخطئ فتفسد الخطة.. حتى اكتملت المئة.. ولكن ..ما السبيل إلى موتها؟ صار يفكر ويفكر حتى اهتدى .. أخذ مئة الموت من الأرانب وأغلق عليها الكيس ، ووجد بركة ماء وألقى الكيس فيها حتى تيقن أن الأرانب فارقت الحياة. حمل الكيسين وهو مثقل بالهموم وهو في بحر التفكير يعوم. قدمها للخبير وفي نفسه غيظ لقلة التفسير.. فبادره الخبير: اتفقنا أ لا تسأل ولا تستفسر .. سكت فلعوص وسكن دون حراك.. الخبير: العدد بالتمام والكمال هذا أمر جميل .. والآن اذهب إلى بيتك ولا تخرج منه إلاَ خلسة للضرورة لا أريد أن يراك الناس .. ولا تأتني إلاَ بعد شهر... . خرج فلعوص مهموما تائها لا يدري ما يخبئ الدهر له .فالتزم داره كما اُمر ... بدأ الخبير يجمع الرجال وترك زوجته العجوز تنتقل من بيت إلى بيت وصاروا يقسموا أمام الناس أن فلعوصا قتل مئة وأسر مئة في جولة واحدة ..فمن الناس من يستغرب، ومنهم من يصدق لأنه يعرف أن صحته تسعفه، وقسم الخبير وزوجته يقرب اليقين ..شاع الخبر، وانتقل من دار إلى دار، ومن حي إلى حي، حتى أن أهل المدينة لايوجد على السنتهم إلا هذا الخبر .. عمّ الخبر وانتشر حتى أخذ يتسرب خارج دولتهم .. وصل الخبر حاكم المدينة ، فأطلق حراسه ومجنديه طالبين فلعوصا ..وصل الخبر إلى فلعوص بأنه مطلوب ..فقال :( الله يخرّب بيت سمعان الذي وضعني في شدة وبلاء الزمان) ..فقام في ليلة شديدة السواد وصار يتنقل من درب إلى درب، ويختبئ من حائط إلى حائط حتى دخل بيت سمعان وأن الشهر الذي اتفقا عليه قد انقضى، فحان الأوان .. رحب به الخبير وقال له : إن الأمر صعب. لو علم الحاكم بالحقيقة سوف يقتلك.. فلعوص : ما السبيل يا خبير ؟. الخبير: خذ هذه النقود (دراهم معدودات) واملأ سيارتك بالوقود واخرج في ليلة حالكة السواد ، حاول الاَّ يراك أحد وانطلق لتخرج من هذه الدولة قبل الصباح . هيا اذهب. قالها بلهجة الأمر.. رجع فلعوص يتوارى وراء كل حائط حتى وصل سيارته وركبها على عجل وانطلق يريد أن يسابق بها الريح ، لكنها لاتسعفه فمرة تسرع ومرة تبطئ ، وهو يقول: فلعوص الحيران أعرف نفسي بأني جبان .. فلعوص يارب في الأرض ما يغوص ..وظل طوال الليل على هذا الحال حتى طلع الفجر وانكشفت له الأرض إلاّ وهو خارج الدولة.. وداخل في دولة أخرى...... فلعوص والحاكم صابر وابنته العود الرطيب وجد فلعوص استراحة قرب الحدود،بعدما نال التعب منه والجوع بلا حدود . نزل من سيارته ورمى نفسه على أقرب مقعد من مقاعد الاستراحة .. ومدّ يده في جيبه فوجد الدريهمات، فطلب كأس شاي وقطعة خبز وهو يبرم في (شنباته) كالعادته يسلي نفسه ويقول : فلعوص الحيران أعرف نفسي بأني جبان .. وبينما وهو منهمك في احتساء الشاي و يبرد جوعه بكسرة خبز .أخذ الملأ ممن يجلسون في الاستراحة يتأملون هذا الشاب وهو لايدري ما حوله مم هو فيه من نصب وتعب ،..فعرفه أحدهم وقال بهمس لصاحبه : هذا البطل فلعوص .. وصار الحديث يتناقل داخل الاستراحة حتى عمّها ..كل واحد من الحضور يريد أن يتشرف بتقديم الطلبات على حسابه للبطل فلعوص، تشريفا منه وتعظيم .. الفرصة حانت أمام فلعوص، فملأ بطنه بالمحمّر والمشمّر منه مسلوق ومنه مكبوس ، عندها تذكر الخبير وقال: حقيقة أنه حسن التدبير ، حبيبي سمعان إنه أحسن إنسان .. تناقل الخبر عبر السائقين أن فلعوصا البطل متواجد في دولة الحاكم صابر .. سرعة ما شاع الخبر ، علم الحاكم أن البطل فلعوصا في دولته، فأمروزيره أن يذهب مع الجند والحراس وأن يأتوا بفلعوص ليتعرف عليه و ليكرمه ويتشرف به، ،،أحاطت الجند بالاستراحة ،فأحس فلعوص أنه الهدف ، صار ينظر ميمنة وميسرة ليبعد عن نفسه الخطر ، ولكن الجند قد أحكموا الطوق من كل جانب ، وأغلقوا الطرق والمعابر ، فلعوص جالس مذهول ، يبرم (شنباته ) ولا يعرف الأمر لأيّ شيء يأوول..تقدم إليه الوزير وقدّم نفسه إليه دون تكبر أو تبجيل ، وفلعوص كلما زادت رهبته ارتخت يداه وخفّت من تبريم (شنبه العريض)..فقال له الوزير: إن الحاكم يريدك..فقال فلعوص في نفسه إن الهمّ والغمّ رداء أرتديه .. الله يخرب بيت الخبير .. فقام فلعوص مترجلا نحو سيارته الحمراء لعل فرصة تأتيه ويلوذ بالفرار .. فقال الوزير لبعض مساعديه : انظروا تواضع البطل يركب مثل هذه السيارة.. ونادى على فلعوص وقال له: هذه السيارة ليست من مقامك ،تعال واركب جانبي .. أصرّ فلعوص على ركوب سيارته لعلها تنفذ مهمة مخفية في صدره ( الفرار والهرب ) فعندما رأى الوزير إصراره قال: لا بأس .. وأمر الجنود أن يعملوا له موكبا ،، سيارات من أمامه وأخرى من خلفه ، ومن الميمنة والميسرة ،، وسار فلعوص وسط هذا الموكب الذي يحيط به من كل جانب .. فصار الوضع عنده صعبا والفرار مستحيلا ، لا بدّ له أن يستسلم لقدره الذي ينتظره .. فصار داخل سيارته وهو يسير، يقول : (حقيقة أصبح الأمر خطيرا، فلعوص الحيران أعلم بحالي بأني جبان ، والموت أقرب لي من أي إنسان ، يخرب الله بيت سمعان ، من بعده أصبـحت لا أعرف الأمان ).واضعا يده على المقود والأخرى تبرم شنبه بارتخاء..استسلم فلعوص للقدر .. وصفّ سيارته أمام القصر .. أمسك بيد الوزير وصعد إلى مجلس الحاكم صابر ، الذي قام من جلسته واستقبل البطل فلعوص ، فلم يقصر صابر بالترحيب وأجلس فلعوصا بجانبه .. قدّم الحاكم صابر لفلعوص أزكى الطعام وأشهى الأكل وأطيب الشراب والفواكه الطازجه تحفّ به بألوانها الجذابة وطعمها الأخاذ ... فالتهم فلعوص من الطعام ما لذّ وطاب ، وشرب من الشراب ، وتناول من الفواكه العذاب ،، امتلأ البطن وصار الدمّ يجري في عروقه فأشرق الوجه ، وعند الانتهاء تطيب بالمسك والعنبر .. عندها جلس جلسة الأبطال .. وصار يتسامر مع الحاكم صابر الذي تشرف بلقاء بطل يقتل مئة ويأسر مئة في جولة واحدة فكيف لو كثرت جولاته ..هذا ما جال في خاطر صابر .. ومال برأسه نحو الوزير وقال له هذا مكسب عظيم لدولتناجهّز له مكانا في القصر ليكون دائما بجانبنا ، فجهز الوزير جناحا فيه من الفراش الوثير ومن الذهب مصنوع فيه السرير .. والجواري والخدم كلهم تحت إمرة البطل .. نام ليلته على السرير وهو يستدعي لسمعان الخبير ، ويقول : سمعان حقيقة أنه إنسان ..حبيبي الخبير فهو بالأمر بصير ..وفي اليوم الثاني خرج من جناحه اللطيف وجلس بجانب الحاكم الظريف تسامرا طويلا حديثه حديث الأبطال يبرم (شنبه) بشدة عندما يحتد الحديث .. فمال الحاكم نحو الوزير ،وهمس بأذنه نخشى فلعوصا منا يطير .. فلا بدّ أن أزوِّجه ابنتي ( العود الرطيب) فأعجب الوزير بهذا الحديث وقال : سيدي نحن على هداك نسير .. فمال الحاكم نحو فلعوص وقال له: أريد أن أزوجك أبنتي ( العود الرطيب ) فأجاب فلعوص على الفور دون تفكير: كلّ ما تأمر به مولاي يصير .. فزينت البلاد ،وأنيرت الشوارع وامتلأت بالعباد ، الرقص هنا وهناك ، وأصوات الغواني ملأ الهضاب والوهاد ،ومواكب السيارات المزدانة بالورود والرياحين تشهد بأن العرس في قصر الحاكم ... أسبوع بالتمام والكمال والعرس متواصل والفرق الغنائية تؤدي دورها ولا تتكاسل ،،، فلعوص فرحان دائم الدعاء لحبيبه سمعان ويقول :حقيقة أنه حسن التدبير وها أنا إلى الغنى والمجد أسير.. فلعوص في غاية من الفرح والسعادة زوجته ( العود الرطيب ) بينما كان قديما سريره من الحديد..عاش أحلى وأجمل عيشة عيشة الحكام والملوك..... |