الزوبعة
لي صديق كنت أعاوده واتردد عليه من حين لآخر ، صديق كانت له مكانة جليلة في الحي الذي يسكن فيه ، فالناس يكنّون له جل الاحترام ... اسمه عبد الله ... ذهبت لزيارته ذات مساء ، فاستقبلني ورحب بي كعادته وأجلسني بجانبه .. دار الحديث بيننا ونحن نتكلم عن أمور تهمنا .. تشعب الحديث بيننا .. فقال : أريد ان أخبرك بحادثة قديمة تمر أمامي وكأنها حصلت بالأمس .. فقلت له : تفضل..
قال : كل ليلة أنام فيها مبكرا لايستهويني السهر ، وأصحو على صلاة الفجر ، ثم أكمل مشواري مع النوم ولا أفيق منه إلاَّ وقت الضحى ..
في يوم من الأيام .. وذات صباح.. أفقت مبكرا لصلاة الفجر ، ثم ثقل راسي كعادتي ونمت ، وإذ بي أصحو على صوت عويل وبكاء مرّ..َ مرّالصوت قريبا من مسامعي ، إنه عند جيراني ، فسألت أهل بيتي عن الخبر.. أخبروني بأنّ فلانا قد أعطاك عمره ، مات هذا الصباح إثر حادث سير ، حزنت وتألمت ،،وكان عندنا في الحي عادة ، أنّ أول رجل يأتي إلى العزاء يخلف عليه أهل الميت أن يأخذ عشاءه لأن الدفن بعد صلاة العصر، وهذا العشاء مكلف جدا ، لأنّ جميع من في العــزاء يأتون ليأكلــوا من عـشاء الميت، وحتى من لم يكـن في العــزاء ويســمع بالأكل يأتي ويشارك في تناول الطعام .
أنا مطرق بسمعي لأسمع الحكاية..
قال: صحوت على صوت العويل وعرفت أن الميت جاري ، لا بدَّ لي إلاّ أن أذهب إليه مبكرا لأعزيه حسب عاداتنا في الحي ، لكنّي نظرت إلى نفسي ، فوجدت أنه لا يوجد عندي إلاّ قوت عيالي في هذا اليوم ... فتأخرت في ذهابي لعزاء جاري عن قصد ، حتى لا آخذ العشاء ،وهذا- والله- ليس ببخل مني.. بل هذه هي الحقيقة ..أنني لا أملك ثمن هذا العشاء .. بالفعل حضرت متأخرا ، تقدمت نحو الأخ الكبير للميت وقلت له : ( أحسن الله عزاءكم ..) - حكمتني العادة - وقلت لهم إن عشاء صاحبكم - رحمة الله عليه وأسكنه فسيح جناته إن شاء الله - عندي ،، كل علمي أنه لابدّ وأن خُلِّف على رجل غيري قد سبقني في العزاء وإذ بالمفاجأة قد حصلت ... أجابني أخو الميت : (يخلف الله عليك يا جار ) يعني أن العشاء عندي ...
حقيقة أن الحكاية قد شدتني .. لأعرف ما الذي عمله صاحبي !!..
قال: أخذت ملامحي تتغير ولكن - عملت جهدي - وحاولت أن أخفيها أمام الناس , شربت القهوة ثم انطلقت إلى بيتي مسرعا لأتدبر الأمر، وأُعِدّ العشاء الذي يبيَضُّ به وجهي أمام الحاضرين .
ذهبت إلى الجزار وطلبت منه مئة وخمسين كيلو جراما من اللحم ليكفي ضيوفي حسب تقديري .. فقلت له: سجل هذا الثمن دينا ... لم يوافق الجزار على طلبي.. وقال: لا أداين أحدا بمثل هذا المبلغ : تغيّر وجهي ثم تقدمت إلى دكان مجاور لآخذ منه كيسا رزٍّ ديناً : فقوبلت بمثل ما قابلني به الجزار وقال لي : لا أبيع دينا .
رجعت إلى البيت ورجل لي تتقدّم والأخرى تحاول أن تتأخر، وجهي مسوّد ، فكري توقف لما أصابني من همّ وغمّ لم يمرا بي طوال حياتي، ضاقت بي الأرض بما رحبت، وصغرت الدنيا أمام ناظري ، واشتدّ عليّ البلاء . فقلت في نفسي ماذا أعمل وبعد سويعات يأتي الجميع إلى بيتي لتناول العشاء ؟! . نظرت حولي في الطريق فلم أجد أحدا، كانت الطريق خاوية فارغة ،، مددت يدي بطريقة عفوية نحو السماء متضرعا إلى الله تعالى وقرأت من القرآن سورة ( ألم نشرح لك صدرك ) ثم أخذت أدعو الله أن يبيّض وجهي أمام أهلي وجيراني ....وبينما أنا في غمرة من الدّعاء وقد حشّر الدمّ في وجهي فاسودّ، إذ بزوبعةٍ عظيمة لا أعرف كيف وجدت نفسي بداخلها تدور وأدور معها ، تحاول أن تخلعني من الأرض وترفعني إلى عنقها المترامي نحو السماء، وفجأة انطلقت بعيدة عنّي وتركتني- بالرغم من عنفها - مكملة مسيرتها ... طأطأت رأسي من شدّة ما تراكم على وجهي من التراب ، نظرت نحو قدميّ لأنثر الغبار الذي ألمَّ بي لأرى صرّة سوداء قد خلفتتها الزوبعة، وألقتها بين قدميّ فتناولتها وفتحتها , فوجدتها مليئة بالنقود :
انفرجت سريرتي وانشرح فؤادي ، حمدت ربي وشكرت ...على الفور،، قطعت طريق إيابي إلى المنزل ورجعت إلى الجزار ، أخذت منه اللحم ونقدته الثمن ، ثم مررت إلى الدكان فأخذت الرز واشتريت السمن منه وكل ما يحتاج إليه الأكل ... الحمل ثقيل ، لكني شعرت بخفته، ورجعت مشرق الوجه باسم الثغر إلى بيتي , ناديت زوجتي من على الباب لتساعدني وقلت لها: اشعلي النيران ................. جهزت الأكل ووقفت استعدادا لاستقبال ضيوفي الكرام , وبالفعل صار الحضور يتوافدون على منزلي وأنا استقبلهم بأحسن حال ، ابتسامتي مشرقة، قدمت الأكل للجميع... كان الخير كثيرا فالكلّ أكل وشكر، وزادت مكانتي بين الناس .
صرت أتحدث بهذا الحديث إلى كل صديق ...... وها أنا اليوم أتحدث به على صفحات موقع الوراق الجليل.
أبو هشام