يشكل مذهب أهل الإعتزال أحد المذاهب الكلامية الكبرى في تاريخ الإسلام, حيث حاول مشيخة المذهب إعادة قراءة موضوعات الله و العالم و الإنسان إعتمادا على العقل المحض و بحضور قرآني , و رغم إختلافهم فقد إتفقوا في المنهج و الأصول و كانوا في ذلك يصدرون عن نزعة نقدية أسست للهدم و البناء بشكل مسؤول و مهذب , فساهموا في إنشاء لاهوت وقف صلدا و صامدا أمام الزنادقة و المجوس..فصح بحق أن يكون علم الكلام المعتزلي رياضيات العقل التجريديي.
و نظرا لكوننا لا نقدم هنا دراسة كاملة تحيط بعناصر المذهب فسأقتصر على عرض عام لنظريتهم في المشكل الإنساني و الطبيعي و كذلك مسألة المسائل و التي منها إنطلقوا لفهم العالم و الإنسان , إنها مشكلة الذات و الصفات مع ذكر لبعض من رجالاتهم بشكل وجيز.
ولعل ما يلحظه القارئ لفكر المعتزلة هو منهجهم التحليلي للميتافيزيقا و مشكل الحرية إعتمادا على ملكة العقل الحرة , و هو موقف يذكرنا بعكس ما قام به أهل العرفان و الذوق حينما فكروا في اللغة و هدموها هدما فأسسوا بذلك لعالم لغوي خاص أقرب للغو بمخالفته لمنطق اللغة الطبيعية , و بانبنائه على كيان عجيب قوامه الهمس و الغمز اللغوي و الرمز و الأشارة.
لقد رأت الصوفية في اللغة العادية نفس ما رآه علماء الرياضة والمنطق: عقبة أمام المعرفة, فأنتج العقل العلمي و المنطقي لغة أسست على الرموز الرياضية و المنطقية يسهل تطويعها في مجال البحث العلمي و حاجات الإنسان اليومية. و على الرغم من أن اللغة الطبيعية تستطيع استيعاب القضايا العلمية الكبرى إلا أن فك رموز الكون المكتوب بلغة حسابية صارمة و تحقيق التقدم في هذا المجال يلزم إستخدام أسلوب المعادلات الرياضية و كذلك يوجب إتباع لغة منطقية تفي بغرض التعبير الدقيق لدنيا الفكر بعيدا عن الإعتبارات السيكولوجية.. فكان أن إنتهى العلم الدقيق و المنطق إلى طريقة لقراءة العالم عكس المتصوفة الذين هدموا اللغة من أجل هدم العالم و المعرفة فأسقطوا حالاتهم النفسية على الخالق و رسله..عليهم السلام فأنطقوهم بعجائب الأمور.
و إذا كانت لغة المتصوفة, في حالات الفناء و الإتحاد و الشطح.. منتجة للاعقل و الباثولوجيا فإن العلم الدقيق بنى بلغته الصارمة نسقا معرفيا منتهاه فك طلاسم الوجود بمنهج علمى ينتج اليقين, و لم يتنكب الطريق كالدراويش لإزدرائهم حضور العقل في كل عمليات التفكير العليا .. وبتزويرهم معاني الطبيعة و اللغة و الوحي تحت مسمى منهج الذوق الذي يعطي معنى يختلف عن ما نفهمه نحن بعقولنا من الأشياء.
فالمعنى موجود بثبات في الكون و القرآن و ما علينا سوى قراءتهما من أجل فهم المعنى الواضح.. و كذلك أقول كفى من الصراخ و العويل و أكذوبة التأويل المتعدد..أو فهم خاص -عالم- للعلماء و فهم -هابط- للرعاع و العامة-الدهماء -و هذا تقسيم قديم في التاريخ كرسته الفلسفة المشائية.. و كان إبن رشد أحد الذين إرتكبوا خطأ فادحا بتقسيم المعرفة إلى نوعين : معرفته هو و أستاذه أرسطو و معرفة الرعاع..و هذا غاية في الدجل. فخالق العباد لم يميز بين الناس إلا بالتقوى, أما العلم: فعقول البشر جميعا قادرة على إستيعابه و فهمه , فهو لا ينتج, و إنما: يكتشف .إن المعنى يسكن مصادر المعرفة و ما العقل والحواس سوى وسائل..و المشكل ليس في اللغة..بل في سلوك الإنسان الفكري و إحترامه لشروط التفكير الصحيح..أو لا.
لماذا نقول أن القرآن يحتاج لعلم كبير حتى يفهم كنهه ؟ لماذا ندعي أن عقل العالم غير عقل الإنسان العادي ؟ ما هذا ؟ ما معنى العقل و العلم؟؟ لماذا نؤمن بأن ما يفهمه الإنسان البسيط غير ما يفهمه الإنسان العالم.. هل أرسل الخالق كتابا غامضا لا يفقهه سوى بعض العلماء , الصوفية,الأئمة,الفلاسفة ؟هل نادى القرآن بالطبقية في العلم ؟ و هل عقل الفلاح و بائع الرثاث لا يعرف بميزانه العقلي الغريزي تعلق فهم النصّ بمعرفة سياقه العام و الخاص و فهم من المخاطب و المخاطب و شروط الزمكان و الثقافة... لفهم النص؟ إن القرآن ندد فقط و ناقش العقل المكتسب لتأثيره القوي على العقل الغريزي و بالعقل الغريزي نستطيع أن ننسف الثقافة المكتسبة و كذلك حث العقل الغريزي على إعادة النظر في الكون و المكتسبات..و أثبت قدرته في الوصول إلى الحقيقة و بالرغم من ذالك لن يعذبه إلا إذا بلغه الوحي الإلهي و رفضه.
و الإيمان بالله هو أساس و نتيجة للعلم به والنظر و البراهين متعلقة بالهدى و التقوى ..
لهذا تجد علماء كبار أغنوا الحضارة الإنسانية بعلمهم و لكن ضلوا الطريق إلى الله ,ضلوا الطريق إلى الجنة..بينما تجد راعي غنم بفطرة طاهرة - لن يحصل عليها العالم إلا إذ كابد المحن و إنتقل من الحيرة و الشك بسبب العقل المكتسب إلى الأمن النفسي و الإطمئنان ..- يعيش أعلى درجات الخشوع النقي و الطهر الديني حيث لا مكان هناك للنفاق.. إلا فيما ندر. أوليس هذا بالعلم أي الإيمان الذي يريده الله تعالى للعبد ؟ أوليس العلم هو معرفة الله و طاعته حتى الممات ؟ فالعلم يؤدي إلى الإيمان حيث تعيش الهدى و هي مرحلة تطمأن فيها أنك على طريق صحيح و أن لا مجال للعب..
فراعي الغنم عندما يقرأ القرآن أو يستمع إليه ينحني ملتزما به إنحناء لن يذقه العالم إن وجد .
و إن كان هذا العالم موجودا فهو نادر جدا .و هذا العلم منشؤه إستخدام العقل الفطري و هذا الأخير نجده عند راع بين الجبال...و ما أقوله هنا يلاحظه من عاش و ناقش و لا حظ حياة البدويين .ثم سؤال ثان :
لماذا ليس هناك تأويل متعدد لسلوك الطبيعة ( كينونة الأمر الإلهي) إلا عندما تكون النظرية العلمية مجرد نظرية أي : إحتمالات و فروض لم يبرهن بعد عن صحتها و ثباتها أمام النقد ؟ فهناك دوما حقيقة علمية واحدة يتفق عليها كل البشر فيكون إختلاف العلماء فيما بعد عن مصدر .. تلك الحقيقة و ليس الحقيقة ذاتها , و هذا الأمر ينتمي إلى فلسفة العالم ,عندما يتفلسف العالم, و فلسفة العالم غير العلم ذاته , فيكون العالم المتفلسف خارج القفص الصارم للمنهج العلمي و بذالك يتيح الفرصة لثقافة الأجداد للتعبير عن نفسها فينسب له العلم و هو ينتج الخطأ قياسا على إنتاجه الصائب في العلم الدقيق..
والفلسفة هي نهاية العلم و بدايته.
فلنعد إلى المعتزلة العقلانية..
و إذا كان الأمر كذلك فلنطرح السؤال عن معنى العقل الإعتزالي ؟؟
و لماذا قابلهم أصحاب المذاهب الأخرى بضرب كف بكف و الصراخ و النحيب ؟
و لماذا أسموهم بمجوس هذه الأمة ؟ بل العجيب أن النسابة بمنقرها الطويل قالت بدون إستحياء و لا خجل أن النبي (ص) قال :
القدرية مجوس هذه الأمه فإن مرضوا فلا تعودوهم , و إن ماتوا فلا تشهدوا جنائزهم !! ؟ أمر عجيب و جرأة كبيرة..فالقدرية مصطلح مستحدث لوصف من دافع عن حرية الإ نسان في خلق الأفعال و أنكر القدر السالب لها. و كان ذلك بعد موت النبي (ص) .
وهل فعلا من قال بأن الله تعالى لا يرغم أحدا على الكفر أو الإيمان مجوسي؟ فالقرآن ممتلئ و يفيض بآيات تطفح بهذا .. و هذا الحديث الكاذب يضاهي قول الإمام الشافعي :
إذا وجدتم السنة ( الحديث) فاتبعوها و لا تلتفتوا إلى أحد . كان من الأولى أن يدعوا إلى القرآن أليس كذلك؟؟
فقد حكم سلبا و طعن في الله تعالى و هو يدري ما يقول طبعا..
يعتبر العقل عند المعتزلة الحجة القائمة بذاتها , المستقلة بكيانها, لذالك فهي غير محتاجة لدليل تحتج به فالعقل هو كل العلوم الضرورية المركوزة في المكلف و هي سبيل لتحقيق المعرفة بالنظر و التفكير في الأدلة و هو قوة تحصيل العلم و التمييز بين الأضداد و الأشياء.
العقل إذا هو القادر وحده على البحث بشكل منظم في القضايا الوجودية لإدراك كنه الحياة و سننها و كذلك لمعرفة حسن الأشياء و قبحها , و العقل يحتوي قوانين ركبت فيه أساسا لانتاج قراءة صحيحة للعالم ..طالما رافقته الحرية في البحث و النظر.
إن العالم ليس بكائن مغلق , تحتويه الألغاز ..بل على العكس فهو شديد الوضوح يحتاج فقط لعقل حر للتبحر في أركانه القصوى.
و حريةالعقل تلزمه القدرة على تبني موقف أو إعتقاد.. معين أو تركه بدون ضغط و إلزام خارجيين كتدخل الإرادة الإلهية في تغيير مجرى الإختيار الإنساني الحر و لذلك فالعبد منتج أو قل خالق لأفعاله و ان شئت فكل إنسان مشروع لنفسه , يفعل ما يشاء بدون إكراه خارجي. و لعل هذا الإعتقاد يهدم أساس الإيمان بالجبر الإلهي , فالقدر لا يضطرك جبرا لكي تزني , تكفر , تسرق , تحكم بالسيف , تكفر, تؤمن , تفعل الخير ..فالمسألة مسألة إلتزام حر و ليست مسألة إلزام..
ليس هناك حتمية في مجال أفعال العباد , فالعبد قادر على فعل الخير و الشر بينما الخالق لا يفعل سوى الخير .
فالإنسان عند المعتزلة ,حالة خاصة , و إذا كان حرا مريدا لأفعاله ..لزم أن يخضع للثواب و العقاب و هذا الأمر صاغه الفلاسفة كمبدأ فلسفي للبرهان على وجود الله تحت إسم البرهان الأخلاقي و الذي مفاده :
أنه من المستحيل أن تنتهي حياة البشر على الأرض بالفناء بدون حياة أخرى حيث سيعاقب الظالم على ما ألحقه بغيره من ظلم و كذلك ليثاب المحسن و يتمتع المظلوم بالعدل و الإنصاف.
و بما أن الدنيا الحالية لا نرى فيها هذا النوع من القسط لزم أن يكون هناك خالق للناس سيتولى في الآخرة مسألة الحكم بين العباد بالقسط.فالعقل السوي الغريزي ـ الميزان ـ لا يقبل العبث.
فكما ترى فالنسق المعتزلي ـ متناغم الأطراف ـ أزاح بالفعل الجمود الفكري و إنقض بالحجاج و الأدلة لنقض نظرية الجبر الإلهي .. دفاعا عن الإرادة الحرة و تنزيها للخالق تعالى عن الظلم .
و بطبيعة الحال فالمعتزلة ساهموا في بناء علم الكلام , و علم التوحيد في تاريخ الإسلام لم يعرف التشاؤم و هو يناقش الله و العالم ..كما ضاعت فلسفة اليونان و حكمة الهند.. في أحضان العدمية .. مستنقع نيتشه ,فيلسوف اللامعنى , و السبب البسيط هو عدم الإيمان بخالق أسمى و أكمل علما من قدراتنا المعرفية.. فإنكار الخالق ـ و هذا قمة الغباء المستكبر ـ أدى الى أن دب الإرهاب و الضياع إلى نفوس هي أقرب في بنائها إلى بناء العنكبوت فراحت تؤسس لفلسفة الجنون و التصحر العقلي.. مناقضين بذالك فلسفة الوحي حين صاغ نسقا نهائيا في الطبيعة و ما ورائها مرورا بالوجود الإنساني.
و ليس هناك من شك في إطلاع المعتزلة على فلسفة يونان و فهمهم إياها و إن كان ذالك تأسيسا لنقدها موضوعا و منهجا مؤسسين بذلك نظرة جديدة في الوجود و المعرفة.. لم تكن إمتدادا للفكر الهيليني و إن تأثرت بمفاهيم يونانية إحتوتها كذلك نحل متعددة كالديصانية وا لمانوية الممتلئة بالأفكار الغنوصية و اليونانية..التي هاجمت الإسلام فكان لها حضور قوي في فكر السهروردي المقتول و إبن سبعين و إبن عربي..الذين محوا الفوارق الموجوده بين الخالق و المخلوقات . هذا الأمر الذي جالده رواد الإعتزال بقوة كبيرة لطمس ما يناقض القرآن المقروء عقلا , أو قل أن المعتزلة حاربوا الملل و النحل في ضوء العقل المحض و هو يتأول القرآن عقلا .
فالمعتزلة أخضعوا التراث اليوناني.. الذي هاجمهم كما أخضعوا القرآن للعقل المحض و ظلوا أوفياء لأسسهم الفكرية سواء إتفق النص الديني معها أو لا , فهم يرفضون نصا دينيا لا يقبله عقلهم , بل يقومون بتأويل له دعما لمبادئهم الفلسفية, و كانوا يقومون بهذا كفلاسفة مسلمين , مومنين بالوحي ..
و إعتمادا على هذا صاغوا نظريتهم في الله و العالم فرأوا أن :
الله تعالى شيء لا كالأشياء , ليس بجسد و لا مادة و لا جوهر و لا جزء و لا عرض.. و لا يتحرك و لا يسكن و ليس له جهة , خارج الزمكان , منزه عن الشريك و الولد و الصاحبة , غير مدرك بالأبصار و لا يشبه الخلق بوجه من الوجوه , اي هو خالق الأشياء , أزلي , غير محدث فهو الأول و غيره محدث..فالله تعالى كما جاء في مقالات الكعبي :عين واحدة.
و لا يخفى عليك أن هذا كان ردا على هجوم المعتقدات اليونانية , و النصارى .. و المجسدة ..
و يمضي المعتزلة : فالله خلق الخلق على ما خلق , و ليس على مثال سابق ( أفلاطون) .. كما نفوا صفات الله تعالى كصفات قائمة بالذات تشاركه القدم , و أنه تعالى أعطى للعدم وجودا, و العدم شيء ذو ماهية.
و قول المعتزلة هذا قد يؤدي للظن أنهم ارادوا بذلك قدم العالم كما عند إبن رشد..و لكن مرادهم غير هذا : فقد أثبتوا ازلية الخالق وحده فهو الأول ..و المشكلة قائمة في فهم الخصوم لمعنى العدم و حمولته المعرفية المعتزلية , و العدم كما نعلم لا شيء , حتى لا يكون الأمر متماشيا مع المثل الأفلاطونية أو الهيولي عند أرسطو .
إن المعتزلة تؤمن بأن الله تعالى خلق الخلق و الخلق غير أزلي و إذا فالخالق وحده هو الأزلي و هذا و اضح في نقدهم لفكرة المحرك الأول الذي يقتصر دوره على تحريك العالم , و الطبيعة عند المعتزلة محدثة , فعل لله , فهو علتها , فلا مجال هنا للقول بقدم العالم .
و السياق العام للمعتزلة ينفي شيئية المعدوم , فالعدم ليس بمادة أولى , و الكون الحالي لم يصبح كما هو الآن بعد ما كان على حالة و طبيعة أخرى في العدم , و قول المعتزلة بشيئية المعدوم كان من أجل حماية التنزيه و التوحيد , و لم يهدفوا الى القول بقدم العالم , و لم يتأثروا بفلسفة يونان لأن هذا الأمر يناقض التوحيد عندهم , و قصدهم بشيئية المعدوم يعني : أن حقيقة الوجود الحالي كانت ثابتة في علمه تعالى قبل إنتقال الوجود من حالة العدم إلى حالة الوجود تماما مثلماأن حقيقة العالم الأخروي ثابتة في علمه قبل تحققه في الوجود و هذا صريح في القرآن و كلنا يعلمه ..فلا داعي للقول بأن المعتزلة تأثروا باليونان..
ونظرا لخطورة العقائد فقد توجه المعتزلة بالنقد لكل فكر يعارض مبدأ التوحيد , فآمنوا بنفي الصفات الزائدة على الذات و أنه ليس كمثله شيء و أدى هذا إلى القول بخلق القرآن و قالوا كما أسلفنا بما ينقض الجبر فدافعوا عن مذهب الإختيار و حرية الإنسان في خلق أفعاله , و أن الله لا يفعل القبيح و لا يخل بما هو واجب ..و لا يظلم و لا يجور ..فانتهوا إلى أن الله عادل و أن القبح و الحسن ذاتيان في الأفعال نافين بذالك القدر الإلهي.
و بما أن الله لا يظلم أحدا ,فالعبد مسئول عن معتقده و سلوكه, فان الوعد و الوعيد يلزم تحققه في الآخرة لإن الكافر غير المومن الصالح, و قالوا أن الفاسق يحمل صفة الكفر و الإيمان في نفس الوقت و لقصور العقل الانساني فالله هو الأقدر على إصدار الحكم عليه إعتمادا على مقدار الكفر و الإيمان ـ ايهما أكبر ـ لتحديد مصيره أنار أم جنة .كما شكل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أصلا من أصولهم . فأسسوا بهذا بنية اللاهوت رفقة من قام بالرد عليهم و لا شك أن المعتزلة و الأشأعرة إرتكبوا أخطاء و لكن هذا لا يقدح في ما أضافوه معا للحضارة الإنسانية. و الآن سنعرض فقط لشيخين من شيوخ الإعتزال إختزالا للوقت و تخفيفا على من لا يملك الرغبة في القراءة..
كان ابو الهذيل العلاف أحد الشيوخ الكبار المنافحين عن مذهب الإعتزال و المدافعين عن عقائد الاسلام و كان نسيج و حده , و عالم دهره , ولم يتقدمه احد من الموافقين له و لا المخالفين...كما جاء في كتاب المنية و الأمل ,وكان مولده سنة أربع و ثلاتين و مائة و كان مولى لعبد قيس .
توفي العلاف عن سن إختلفوا فيها و الأرجح انه كان طويل العمر و مات ايام المتوكل سنة خمس و ثلاثين و مائتين حسب نفس المصدر.
و حسب المصادر فالعلاف تفرغ للبحث و دراسة الفلسفة اليونانية .. و ناظر العديد من ممثلي مختلف الملل و النحل , و كان يقطعهم بما قل و دل , كما كان زاهدا عابدا و إن رموه بالكفر..مخلصا للإسلام خائضا جليل الكلام و مساهما في تأسيس دقيقه , بانيا بذلك نسقا رائعا جعله يتعرض لنقد الزنديق إبن الروندي .. فانبرى الخياط , أحد شيوخ المعتزلة لتأليف كتاب الإنتصار كرد فعل للرد على إبن الروندي .
كان العلاف أستاذا للنظام ـ ابن أخته ـ و روح مذهبه لا تخالف المعتزلة إلا في بعض الفروع , فسنقتصر فقط على عرض بسيط لبعض من آرائه .
فالله تعالى عنده ذات و هي عين الصفة , و الله ليس بجسم ...و وجهه تعالى هو نفسه و نفسه هي هو تعالى و يده نعمته , فالعلاف يثبت الذات و الصفات , إلا أن الصفة هي عين الذات , كما آمن العلاف بأن الخالق يقدر على فعل واحد و هو الأصلح لإنقاد الحريه الإنسانية في إتيان الأفعال , مقررا أن العباد في هذه الدنياأحرار مخيرين و في الآخرة مجبرين , لا يقدرون على شيء , لانها دار جزاء و ليست بدار عمل , كما قال بإنه تعالى لا يستطيع إتيان ما دون الأصلح لينسب الشر و الخير للانسان و بذالك إقتصر فعل الله على فعل الخير فقط و مؤدى هذا تقييد القدرة الإلهية بالإستطاعة الإنسانية .. و للعلاف مذهب في الارادة الإلهية : فإذا اراد الله تعالى خلق شيء ما يقول له كن فيكون و إرادة الله تعالى قديمة و هي عين الذات و محدثة قبل خلق الكون و هي صفة للفعل , و الإرادة المحدثة غير الشيء المحدث , و هي لا في محل . و مراد هذا القول قد يكون ان العلاف جابه النصارى المومنين بقدم كلمة الله ـ المسيح ـ فجاء رأيه المنكر لقدم الكلمة دفاعا عن التوحيد و التنزيه و لا علاقة له بالمثل الأفلاطونية القديمة و التي في محل .
و يرى كذلك انه تعالى خالق الذرات و هي مخلوقة يحكمها الزمن .. لها بداية و نهاية , و الخالق يفعل فيها ما يشاء بإرادته تعالى , و بهذا يخالف ذرات اليونان الأزلية عند أبقورس و ديموقريطس ..
فالعالم عند العلاف يتكون من الذرات , في إتصالها ينشأ الكون و في إفتراقها يفسد و الله تعالى من يحركها و يفعل فيها ما يشاء , و هو قادر على تجزئة الجسم حتى يصل إلى مستوى يقف فيه الإنقسام و هنا الإختلاف بينه و بين تلميذه النظام و الذي سنعرض له في الحلقة القادمة لنرى أن علماء الكلام أنتجوا كلاما تقف الفيزياء الحديثة بجانبهم بعض الشيء.
قلنا في نهاية الحلقة الماضية ما مفاده أن العلاف له مذهب خاص في الذرة أي ما يعرف في قاموس المتكلمين بالجزأ الذي لا يتجزأ, و موقفه الخاص كان هدفه ـ بالنسبة إليه و لمن تبعه في طرحه ( عدم قبول الذرة للإنقسام) ـ: إيجاد مخرج لقضية التغير في الكون .
و حتى يتضح هذا الأمر لابد من معرفة ما هو الشيء القابل للقسمة ؟ و ما هي خصائصه ؟ و هل ينطبق ذلك على ذرات العلاف أم لا ؟!
يقول العلاف طبقا لمقالات الإسلاميين للأشعري :" إن الجسم يجوز أن يفرقه الله سبحانه و يبطل ما فيه من الإجتماع حتى يصير جزءا لا يتجزء , و إن الجزء الذي لا يتجزأ , لا طول له و لا عرض له, و لا عمق له, و لا إجتماع فيه و لا إفتراق..."
"و الجسم هو ما له يمين و شمال, ظهر و بطن, و أعلى و أسفل.. و أنه يتحرك و يسكن, و يجامع غيره ..فإذا إجتمعت فهي الجسم " , و هو "الطويل العريض العميق" .
"ماله يمين و شمال, و ظهر و بطن, و أعلى و أسفل, و أقل مايكون للجسم ستة أجزاء".
: مقالات الإسلاميين.
فالجسم ليس بكم متصل و معنى هذا أن الجوهر الفرد عند العلاف لا يمتلك هذه الصفات فالذرة لا يمكن إنقسامها و تابعه في ذلك أبو علي الجبائي و هشام الفوطي. . و هنا نقطة الخلاف بينه و بين النظام, و لا بد أن نشير إلى أن الذرة عند العلاف ليست بجسم خلافا للذريين اليونانيين : ليوكيبس و ديموكريتس فالذرة عندهما جسم و إن إتفقوا جميعا على إمتناع إنقسامها.
العالم عند العلاف يتشكل من الأجزاء التي لا تتجزء أي الذرات التي تتكون منها الأجسام و المادة وعن تحركها و إتحادها ينشأ الكون الذي يفسد بانفصالها.
و إذا كان الخالق تعالى قادر على تقسيم الجسم إلى مستوى يقف فيه الإنقسام عند العلاف فالأمر ليس كذلك عند النظام و الذي سنعرض له في هذه الحلقة.
يعتبر النظام أحد كبار شيوخ المعتزلة الذين صدروا عن نظام فكري شامخ و دقيق حيث كان له أثر عظيم و قيمة عالية في العلم و المعرفة.
و عنه يقول القاضي عبد الجبار في المنية و الأمل :
" قال أبو عبيدة : ما ينبغي أن يكون في الدنيا مثله.." و كذلك إعتبره إبن حزم أعظم رجال المعتزلة في كتابه طوق الحمامة.
و عنه قال الجاحظ :
" الأوائل يقولون : في كل الف سنة رجل لا نظير له فإن كان ذلك صحيحا فهو ابو إسحاق النظام.": طبقات المعتزلة لإبن المرتضى.
و"أنه حفظ القرآن و الإنجيل و التوراة و المزامير و تفسيرها مع كثرة حفظه للأشعار و الأخبار مع إختلاف الناس في الفتيا":المنية و الأمل .
وكان النظام يختلف الى مجالس الثنويين و الفلاسفة و المنكرين للوجود الإلهي كما كان مطلعا على الفلسفة اليونانية كما يدل على ذلك ما جاء عنه في المنيه و الأمل و كذلك ما أورده الشهرستاني في الملل و النحل.
تعرض النظام لإنتقاد أهل السنة و الجماعة و كفروه و جعلوا منه رجلا ملحدا فاجرا. و الحقيقة كما نعلمها أن لكل مذهب أعداؤه.. فأهل الحديث لن يرضوا عنك إلا إذا كنت واحدا منهم .. و لنفرض أنك تبنيت مذهبهم في إسلامية اقوال فارس في كتب الحديث ..فإنهم سيكفرونك إن رفضت حديث الآحاد..و على فرض إيمانك به فستبقى ضالا طالما لم تقدس الصحابة ..و لنفرض جدلا أنك مقدس لهم فإنك كافر ما دمت لا تؤمن بالإجماع .. و لم تنحن للشيخ و الشيخة حتى يفعلا بك ما يريدان .. وحتى لو فعلت ذلك فستظل كافرا .. لا مهرب لك من التكفير..
و هذا الأمر عاشه النظام بسبب مواقفه الجريئة,بحيث أنه :
ـ أجاز أن تجتمع الأمة في عصره و في جميع العصور على الخطأ في الإستدلال و الرأي فهدم بذلك المرجع الرابع لجماعة أهل الحديث كمصدر للإسلام لإستحالة إجتماع العلماء في مكان واحد و لإمكان إجماعهم على الجهل و العمى.
ـ كان يقول بأن الذكر الحكيم في نظمه و تآليفه ليس بمعجزة للنبي (ص) و لا يدل على صدق النبي في النبوة لأن العباد قادرون على مثله و على ما هو أحسن منه في النظم و التآليف حسبما يروي البغدادي : الفرق بين الفرق.
و لاشك في خطأ مذهب النظام لأن القرآن الكريم معجز في تآليفه و لغته الخاصة كما أنه كتاب علمي يحتوي أسرار الكون ..و التي يبحث لحلها العلم الإنساني.فالقرآن بالنسبة للنظام معجز لما يحتويه من إخبار عن الغيوب.
و الجاحظ يرا إعجازا في أسلوب القرآن و إن آمن بالصرفة كما أن إبن حزم يرا أن الخالق منع العباد من القدرة على الإتيان بمثله , أي أنه تعالى صرفهم عن معارضته مع قدرتهم على ذلك.و كان هشام الفوطي و عباد بن سليمان يومنون بمقالة النظام.
و على الرغم من كل ما قيل من مساوئ في النظام فلا شك من تأثيره القوي حتى في أكبر أعدائه, كما لا يمكن تصديق كل ما قد قيل و يقال عنه طعنا في دينه.. فكما نعلم فالمعتزلة كانوا منافحين و مدافعين عن الإسلام , كما كانوا أصحاب عبادة و تقوى..و علمهم لدليل على هذا , و بطبيعة الحال هم بشر يسري عليهم ما يسري علينا من زلات و أخطاء و الحكم عليهم بالكفر..خطأ .. لأن الخالق و حده من يعلم إن كانوا كفارا أو لا .. و الأجدر بي أن أقوم نفسي في علاقتي به و أن لا أشغلها بدراسة موضوع مقفل ..لا يمكن البث فيه إلا يوم الدين لمن يومن به ..و يوم الدين لن ينفعك إيمانهم أو كفرهم ..بل ما قدمته يداك..
كان النظام مسايرا لروح المذهب بصفة عامة في الأصول كما أضاف لمسته الخاصة في المسائل التي تعرض لها بالدراسة كما فعل أقطاب الإعتزال في بغداد و البصرة كالجاحظ و الإسكافي..إذا ما إستثنينا الإمام الأشعري المنشق عليهم مؤسسا منهجا مختلفا سيخدمه الباقلاني و أبو المعالي الجويني.. في جليل الكلام و صياغة دقيقه.
و إعتمد نفس المنهج كما المعتزلة باحثا في ذات الله تعالى و صفاته و أفعاله ليصل إلى المبحث الإنساني و الطبيعي عكس منهج يونان حيث الإنطلاق من العالم للوصول إلى الله بدون تأطير و حي نازل من السماء مما أدى بهم إلى نسج عوالم فكرية أسطورية و تصورات غير موجودة في الوجود و لا أساس لها من العلم ..تلك الخرافات التي ستدافع عنها المدرسة المشائية المنتسبة للإسلام : الفارابي , إبن سينا ..حتى إبن رشد لم يسلم من ذلك فدافع عن عقل أرسطو فدفن العقل الحر ..
نعم إن المشائيين في تاريخ الإسلام لا يمثلون الفلسفة القرآنية الحقة..و لا علاقة لهم بها لا من بعيد و لا من قريب .. و من يدافع عنهم إنما يفعل ذلك لسبب أو لآخر.
إنهم كانوا مجرد صدى للعقل اليوناني..و لم يكونوا عقلانيين ..
و إن كان من اللازم القول بفلسفة إسلامية فالمعتزلة هم أقرب لروح الإسلام و إن كانوا في النهاية معبرين عن فهمهم للمسائل التي ناقشوها.
يرا النظام أن الذات الإلهية منزهة عن التعدد و أنها قديمة وأن لا صفات قديمة مع الذات.فهو ينكر صفات الذات القديمة, و أن الصفات إثبات للذات و كذلك نفي مسلوبات أو أضداد تلك الصفات عن الذات : فمعنى قولي قادر : إثبات للذات و نفي للعجز و هكذا في جميع صفات الذات. و إمعانا في التنزيه عن التعدد فهو يقول إنما إختلفت صفات الذات لإختلاف أضدادها المنفية عن الخالق,و ليس لإختلاف في الذات.
كما تابع المعتزلة في فهم الآيات المتشابهات حيث يقول : "إننا نقول وجها توسعا و نعود إلى إثبات الله,لأننا نثبت وجها هو هو" كما يرى أن قولك بإن الله مريد لتكوين الأشياء معناه أنه كونها و إرادته للتكوين هي التكوين, و الوصف له بإنه مريد لأفعال عباده معناه أنه آمر بها, و الأمر بها غيرها.." مقالات الإسلاميين.
و تناغما مع روح المذهب فالنظام يدافع عن العدل الإلهي بمعنى أن الله لا يفعل سوى الأصلح , و يربط هذا الأمر بالقدرة الإلهية, و للفهم وجب طرح السؤال التالي : هل يقدر تعالى على الظلم و الجور أو لا !! يجيب النظام بصرامة قائلا :أنه تعالى لا يقدر عليه و لا يستطيعه و تبريره لهذا الأمر يقول :
" وجدت الظلم ليس يقع إلا من ذي آفة و حاجة جملته على فعله, أو من جاهل به, و الجهل و الحاجة دالات على حدوث من وصف بهما, تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا" :الإنتصار للخياط.
و هذا القول يذكرنا بما قاله في صفات الذات فالله فاعل للعدل و هذا إثبات للذات و كذلك نفي للجور و الظلم و هذا نقيض ما ذهب إليه العلاف الذي يرا أن الخالق قادر على الكذب و الظلم لكنه لا و لن يفعلهما لحكمته تعالى.
و يمضي قائلا " إن ما يقدر الله عليه من اللطف لا غاية له و لا كل ,و إن ما فعل من اللطف لا شيء أصلح منه...و لا يقال : يقدر على أصلح مما فعل أن يفعل , و لا يقال : يقدر على دون ما فعل أن يفعل لأن فعل ما دون نقص , و لا يجوز على الله عز و جل فعل النقص" : مقالات الإسلاميين.
فكما نرا فالمعتزلة أسسوا مذهبهم على قوائم مشتركة , أعني الأصول الخمسة ,لكنهم إختلفوا في الفروع دون الأصول و هذا منبع غنى مذهبهم بفضل حرية التفكير و حب البحث و إستقلاله..
و النظام إرتاد أقصى حدود التنزيه دفاعا عن وحدانية الله المطلقة و هذا ما نلحظه و نحن نطالع ما إنتهى إليه .
والنظام يرفض : " و صف الله بالقدرة على أن يزيد عذاب أهل النار شيئا و لا ينقص منه شيئا, و كذلك من نعيم أهل الجنة, و لا أن يخرج أحدا من الجنة, و لا أن يستطيع أن يعذب الأطفال, و لا أن يدخلهم النار" : الشهرستاني الملل و النحل. و لا شك من تنكبه الحقيقة هنا فالله تعالى قادر على ذلك إن شاء..فقد خلق العالم من لا شيء و هذا أعظم مما ذكره .
و كان لتقييد القدرة الالهية أن تعرض النظام لهجوم إبن الروندي الزنديق و هو الأمر الذي دفع إبن حزم و غيره إلى تكفير النظام و من إتفق معه في طرحه ,كما حاول البعض القول بتأثر النظام بالفلاسفة و الثنويين في مذهبه هذا , و الحقيقة أن لا مجال للقول بهذا الأمر لأن الله تعالى كتصور لا يحمل نفس المعنى عند الثنوية و الفلاسفة و النظام .. فإله الفلاسفة إله و ثني و إله الثنوية كذلك فهم يثبتون قوتان في الطبيعة : أصلان أزليان , واحد للخير و آخر للشر. و النظام لا يقول بهذا و يرا أن لا تعدد في الذات و أن الخير أصلي في الوجود فاعله الخالق على عكس الشر,و مذهب الثنوية يقول بالجبر في الخير و الشر إذ لا هروب من الشر و هذا ينقضه مذهب الإرادة الإنسانية الحرة عند المعتزلة بصفة عامة .
و النظام لم يشكل إستثناءا في هذا الأمر , فلننتقل لنرا قول النظام في المذهب الطبيعي حيث فعلا سنكتشف وقوف الفيزياء الحديثة بجانب طرحه في إنقسام الذرة على عكس العلاف..
فالنظام يقول " إنه لا جزء إلا و له جزء , و لا بعض إلا و له بعض , و لا نصف إلا و له نصف .. و لا غاية في باب التجزأ": مقالات الأشعري.
و قول النظام هذا مخالف تماما لقول بعض الفلاسفة و المتكلمين الذين يثبتون الجزء الذي لا يتجزأ : إذا كان الجسم يقبل الإنقسام فلابد لهذا الإنقسام أن يقف عند حد و مستوى خاص (الذرة).
و يقول الخياط أن النظام يقول بقسمة وهمية :
" ..زعم ( النظام) أنه ليس هناك جسم من الأجسام إلا و قد يقسمه الوهم نصفين" و هذا يعني أن المكان لن يتناهى في الإنقسام كذلك.
وقول النظام هذا ألزمه إيجاد حل لصعوبة فهم عملية حدوث الحركة : بحيث أن الجسم يلزمه قطع مالا نهاية له من الأجزاء في الأنتقال من نقطة إلى أخرى أي كيف ننتقل في مكان لا نهاية له في مسافة متناهية ! فكان أن أجاب بالطفرة : أن الجسم يمكنه أن يكون في مكان A ثم يطفر إلى مكان J بدون المضي أو المرور بالمكان D المتوسط للمكانين.
"فالنملة إذا مشت على صخرة من طرف إلى طرف و تكون بهذا قد قطعت مكانا لا نهاية له , فإن بعض ما قطعت كان بالمشي, و بعضا كان بالطفرة" :
المنية و الأمل.
و لقد أنكر أكثر أهل الكلام قوله ـ الكلام للأشعري ـ منهم أبو الهذيل و غيره و أحالوا أن يصيرالجسم الى مكان لم يمر بما قبله , و قالوا : هذا محال لا يصح. و يحكى أن الطفرة توصل إليها النظام بعد نقاش مع العلاف حول الجوهر الفرد: (طبقات المعتزلة لإبن المرتضى),حيث أبطل العلاف إنقسام الذرة والمكان .
و فكرة الطفرة تتناغم مع تصور النظام للحركة : فجميع الأجسام عنده متحركة و الحركة تنقسم إلى قسمين : حركة إعتماد في المكان و حركة نقلة فيه و سكون الجسم في مكانه يعني تحركه فيه وقتين إذ لا يعرف الجسم السكون أبدا عند النظام و عارضه العلاف في هذا و قال أن الجسم يتحرك و يسكن..
و النظام يرا أن العالم يتكون من الأعراض و الأعراض أجسام لطيفة عنده و الأعراض صنفين: نوع أقدر الله الإنسان عليه و هو الحركة , فالإنسان لا يفعل سوى الحركة : العبادات و الكراهات و باقي أفعاله و نوع لم يقدره تعالى عليه و لا يفعله سواه و لا مجال لفهمه كذهاب الحجر عند دفعة الدافع و انحداره عند رمية الرامي.فالله عند النظام:"طبع الحجر على أن يذهب إذا دفعه دافع": مقالات الأشعري.
و ما يجب فهمه من دراسة النظام و المعتزلة بصفة عامة للعالم الطبيعي هو إثبات أن العالم مخلوق و العالم هو جميع ما سوى الله عند البعض و الجواهر و الأعراض عند البعض الآخر وهو دال على خالقه.
يقول القاضي عبد الجبار عن العالم عند المعتزلة:
"هو الأجسام التي نعلمها بالمشاهدة و على سبيل الضرورة".
والأجسام تتكون من إجتماع الذرات و من الصفات التي تلحقها أعني الأعراض.و هذا طبعا يخالفه النظام الذي يرا أن ما يتكون العالم منه هو الأعراض.
و أعراضه أجسام لطيفة و الحركة أحدها و هي الثابتة عنده.
و المراد بالأعراض هو: الحركات و السكون الطعوم الروائح الكلام العبادات الكفر ..لأنه لم يومن بالجزء الذي لا يتجزء كالعلاف و الإسكافي..الذين يرون أن الأجسام كم منفصل , لا تملك قوة مستقلة في التكون و الإجتماع..فلذلك لا بد من خالق لها من عدم يفعل فيها ما يشاء . و إذا كان العرض يلازم الجسم و هو حادث فالجسم حادث أيضا فالعالم محدث ـ أحدثه الله تعالى .
يقول الخياط في الإنتصار نقلا عن الإسكافي :"إنما تبدأ الأشياء من أوائلها لا من أواخرها , فلو لم يكن أول تبدأ منه ,لا شيء قبله أول استحال وقوع شيء منها, و في صحة وجودها ما يدل على أن لها أولاإبتدئت منه, و إذا كان المبتدء لها من لا يجوزعليه التغير جازأن يديمها أبدا و لا يقطعها " و هذا من أدلتهم على وجود الله لثبوت بداية العالم و نهايته.
و قال النظام بنظرية الكمون, بأن العالم مخلوق كما هو عليه دفعة و احدة و المتأخر منه في الزمن كامن في المتقدم و ما الكون غير خروج الأشياء بعضها من بعض ,ودور الخالق هو إخراج بعضها من بعض و تمييز بعضها من بعض و لا شك من وقوف العلم الحديث مع النظام في قوله بالخلق دفعة و احدة مخالفا نظرية الخلق المستمر كما دلت على ذلك نظرية الإنفجار الكبير في الفيزياء, وكذلك و قف العلم بجانبه فيما ذهب إليه من إنقسام الذرة بحيث أنه ثبت فعلا تكون الذرات من جسيمات دون الذريّة ، وهي بشكل أساسي:
البروتونات النيوترونات الالكترونات هذه الجسيمات الثلاث تتكون من جسيمات أخرى أصغر منها و إتضح للعلماء وجود كائنات دقيقة أخرى : فيرمونات وهي مكونات (البروتونات- النيترونات-الالكترونات) والبوزونات وهي الحاملة للقوى الأربعة والمؤثرة على الفيرمونات.هذه الفيرمونات تتكون من نوعين:
الهايدرونات :
وتتكون من مجموعتين باريونات المكونة من جسيمات ثلاثة تحمل شحنة كهربائية كسرية تسمى كوارك وهي متعددة..
وقد رافقه في إنكار الجزء الذي لا يتجزأ تلميذه الجاحظ و إبن حزم الأندلسي و الخياط.
و كان له موقف في الصحابة جعل أهل الحديث و الأشاعرة يصفونه بالكفر كما أسلفنا بحيث :
أنه كذب إبن مسعود في حديث أن النبي (ص) قال :"السعيد من سعد في بطن أمه و الشقي من شقي في بطن أمه" و كذبه في رؤية الجن كما أنكر أسطورة إنشقاق القمر للنبي (ص) و إنبعاث الماء من بين أصابعه .. و كان يرا أن المفسرين يثرثرون في كل شيء بدون علم بحيث كانوا يفسرون المساجد مثلا بمعنى الجباه و اليدين و الأنف و قالوا في قوله تعالى ـ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ـ أنها تعني السحاب و يجيبوا عن معنى"الطلح المنضود " بأنه الموز و قالوا بأن المقصود بالفلق ـ قل أعود برب الفلق ـ واد في جهنم و قالوا يجب فصل ـ سلسبيلا لتصبح : سل سبيلا يا محمد في آية ـ ..عينا فيها تسمى سلسبيلا ـ.
و قالوا في معنى قوله تعالى:" و قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا " : الجلود كناية عن الفروج .
و قالوا في قوله تعالى: " كانا يأكلان الطعام " إن هذا إنما كان كناية عن الغائط.و هكذا كا نوا يفعلون لتفسير القرآن كما أورد الجاحظ في الحيوان.
كان يعيب روايات أهل الحديث فأنكروا عليه ذلك خصوصا و قد وصف أكبر المحدثين عن الرسول (ص) ـ أبو هريرة ـ بأنه كان أكذب الناس كما دافع عن تحريم الفتوى بالرأي و أنه غير جائز للصحابة الإفتاء بالرأي أو بشكل أدق طعن في تقديس الصحابة و عدالتهم و هو إمتداد لطعن العديد من أهل النقد فيهم كواصل بن عطاء ...و إن طعن أهل الحديث فيهم كذلك عن طريق حديث : القاتل والمقتول في النار. بسبب تطاحنهم في الصراعات الدموية.. و قال بأن الطلاق لا يقع بسبب نطق الرجل بكنايات الطلاق و إن قصده قلبا. و قال بإن النوم لا ينقض الوضوء إذا لم يكن معه حدث كما قال بأن الله تعالى: سيحشر الحيات و الذباب و الغربان و الكلاب..إلى الجنة و أن لا تفاضل في مراتب الجنة و النعيم. و له آراء عديدة أخرى.
و مواقف هذا الرجل جعلته يتعرض للحرمان و الفقر و التكفير ليس فقط من طرف أهل الحشو بل كذلك من طرف رفاق دربه و من أتفق معه في الأصول الخمسة كالجبائي و الأسكافي و العلاف ..كما كفره مؤسس الأشعرية و ألفت الكتب العديدة في تكفيره و لا زالت .و على الرغم من موسوعية علمه و و قوفه أمام الأساطير و العنف الفكري الإيراني.. فقد ظل يعيش حياة البساطة ..و لم يمنعه فقره من تأليف مشروع فكري ضخم تعرض للأسف كباقي كتب المعتزلة للتلف و الإبادة بسبب المتوكل العباسي.. تحت تصفيق أهل الحديث.