الكتاتيب4 ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
والكتاتيب أنواع وأشهرها كُتّاب السَّبيل التي يكون التَّعْلِيْم والإقراء فيها بالمجان لأبناء المحتاجين والفقراء. ومكتب السَّبيل يحتضن الأيتام وعلاوة على تعليم الخط وتحصيل مسائل الدِّين فإنَّ الطَّالب اليتيم يُصرف له الخبز في كل يوم. ويكون كُتّاب السَّبيل أحياناً بجانب عمائر مكتب السَّبيل وهو حوض عذب لشرب النَّاس (المقريزي، المواعظ والاعتبار، ص 183). ذكر ابن الجوزي في صيد الخاطر تفاوت مراتب الطُّلاب في المكتب كما هو حال الطُّلاب في كل زمان فمنهم من يتعلَّم الخط فيبلغ الرُّتب الرَّفيعة، ومنهم مَنْ هو كثير المشاكل إذ يسرق من زملائه حاجاتهم ويؤذي الصِّبيان، ومنهم من يطول مُكثه في المكتب فلا يتعلَّم شيئاً، ومن الصِّبيان من لا يُتَّقن الكتابة إلا الشَّيء اليسير، ومنهم مَن خطّه جيد ولكنَّه لم يتعلَّم الحساب، ومنهم مَن حفظ الآداب ولكنه لا يطبِّقها، ومنهم صاحب الهِمَّة العالية في المكتب فيختاره المُعَلِّم ليكون نائبه (ص 249). في اليوم الأول يحاول المُعَلِّم وأولياء أمر الصَّبي تحبيب وترغيب شأن المكتب للوافد الجديد فيذهب الصَّبي إليه يوم الخميس نظراً لقصر الدوام المدرسي، وتدريجياً يُرغَّب الصَّبي في المكتب باللَّعب بالكرة والصُّولجان وما أشبهه ثم يُنقل برفق من اللَّعب إلى الاشتغال بالأمور المهمَّة. بعض الطُّلاب يلتزم حضور المكتب إلى أن يُقارب الواحد منهم سن البلوغ أو يحفظ القرآن الكريم كلَّه. يقول العرب لمن قارب البلوغ حَزْوَرٍ وحَزَوَّر وفي حال الجمع يقولون كُنَّا غِلماناً حَزَاوِرة. يُسمح لغير المسلمين بإرسال صبيانهم للكتاتيب ولكن في الكثير من الأزمات الْسِّيَاسِيَّة عندما تسوء العلاقة بين المسلمين وغيرهم فإنَّ الخليفة يُعلن عن منعهم عقاباً لهم. ولقد وَجدَت الكتاتيب حفاوة الأمراء والخلفاء حتى أنَّ بعضهم إذا مَرَّ بقربهم يدخل ويُسلِّم عليهم ويدعو لهم قائلاً "اللَّهم بارك في ذراري أهل الإسلام" ثم يمضى لشأنه. يحتوي تاريخنا الزاهي على كمٍ هائل من الحكايات والقصص التي جرت في الكتاتيب فمنها قصص عن فراسة المُعَلِّم، وطرق التَّعْلِيْم، وهي مُذكرات ثمينة في بابها تُميِّز تراثنا التَّربوي الخصيب. ابن سينا درس في المكتب وحفظ بعض الكُتب المُنتقاة على يد معلِّم الأدب مثل كِتاب ديوان ابن الرُّومي وشِعر الحماسة ونحو سيبويه وذلك قبل أن يبلغ سن العاشرة. هذا يدل على قوة مناهج الكتاتيب وعلو همَّة الطُّلاب. يعد الضَّحاك بن مزاحم الهلالي (ت 102هـ = 719 م) من أبرز الشَّخصيات التي دعمت حركة الكتاتيب في تاريخ الحضارة الإسلاميَّة. كان الضَّحاك بن مزاحم في مدينة خرسان صاحب عِلْمٍ ويروي القصص وله مكتب عظيم يشرف بنفسه عليه فيه ثلاثة آلاف صبي، وكان يركب حماراً يدور عليهم إذا تعب من المشي وكان رحمه الله لا يأخذ أجراً مالياً مُقابل هذا الجهد الكبير. من عادة المُعَلِّمين في الكتاتيب أن يُلقوا شيئاً من المشكلات ليجيب عليها الطُّلاب بثاقب أذهانهم. في حصص تعليم الحروف الأبجدية قد يدرس الطَّالب " أَبْجَد هوز حُطِّي كلمن.. ويمد المُعَلِّم خَطَّاً ثم يُرتِّب عليه الأحرف ويطلب من الصِّبيان أن يفعلوا مثله أو قريباً من خطِّه ثم ربما يُداعب المُعَلِّم طلابه كي يُديروا الميم بشكلٍ حَسن فيقول اكتبوا الميم كتابة واضحة واجعلوها مثل عين البقرة (ابن عساكر: مختصر تاريخ دمشق، ص 2726، ياقوت الحموي: معجم البلدان، ص 896). في الجوامع الكبيرة مثل الجامع الأموي في دمشق مثلاً يقوم جماعة من المعلمين بتعليم كتاب الله للصِّبيان يستند كل واحد منهم إلى سارية من سواري المسجد يلقِّن الصِّبيان ويقرئهم ومعلم الخط قد يكون غير معلم القرآن يعلمهم بكتب الأشعار وسواها فينصرف الصَّبي من التَّعليم إلى التَّكتيب فيجود خطه لأنَّ المعلم للخط لا يعلم غيره من العلوم إنما يتخصص بهذا الفن فقط كما أفاد ابن بطوطة (ص 63). كتب التَّنوخي في كتابه نشوار المحاضرة مذكِّراته الأدبية أيام تحصيل الْعِلْم فقال "طريقة أبي البيان المؤدب في التَّدريس: ورأيته يوماً عند معلمي، في مكتبي، وقد حضر وقتاً كان فيه المُعَلِّم يأخذ علينا الشِّعر، وكانت عادته أن يقيم الصِّبيان صفاً، فيطالبهم بإنشاد القصيدة. فأقامهم في تلك العشية، وقد حضر أبو البيان، فقال له: يا أبا جعفر، ما هذا التَّفريط؟ قال: وكيف؟ قال: إنَّ لي عادة في سياسة الصِّبيان، لا أرخص لهم فيها، إن سألتني علمتك إياها. فقال: افعل. قال: تَقَدَّم إلى صبيانك، وأمرهم بأن يمتثلوا أمري، لأريك ذلك. فقال لهم أبو جعفر: انظروا ما يأمركم به أبو البيان، فافعلوه. فأقبل عليهم يخاطبهم في كلامه، فقال: لكم أقول أيها الصِّبيان، ولمن يجاوركم من الغلمان، إلى حدود الأحداث والفتيان، اسمعوا وعوا، فمن خالف بعد البرهان، أنزلت به غليظ الامتحان، تراصُّوا في صفوفكم، والزقوا أقدامكم، وأقيموا ألواحكم، واقبلوا علي بألحاظِكم، واحضروا فيما تنشدون قلوبكم، وارفعوا أصواتكم، وقولوا قول صبي واحد: "قفا نبك من ذكرى حبيب ومَنزل" وصاح بالشِّعر مُطرباً. فما مَلَكَ الصِّبيان إلا الضَّحك، وضحك مُعلمي معهم. فقال: يا أبا جعفر، التراب والجندل بفيك وعلى رأسك، والويل والويح محيطان بك، أتطمع أن تعلمهم بهذه الهيبة؟ حفت بك اللّعنة والخيبة، أسبابك أفسدت، أمن قدري بضحكك وضعت؟ أم سترك عند هؤلاء الأنكاد هتكت؟ أشهد الله، لا أكلمك، أو تعتذر. وأخذ أبو جعفر [مُعلمي]، يُداريه، ويعتذر إليه، حتى رضي لوقته. وكان يقول الشِّعر، وينشده أبا جعفر دائماً، وما حَفظتُ منه شيئاً. ولولا أنَّ هذه الألفاظ، تعاودناها في المكتب ونحن صبيان، لم تَعلق بحفظي، فلما ترعرعت، كتبتها في موضع، وأنسيتها، ثم نقلتها منه، إلى هذا الموضع، وبقيت عندي إلى الآن (ص 441 بتصرُّف يسير). وفي مقابل هذا الموقف الطَّريف فإن مصنَّفات الأوائل نقلت لنا وقائع أليمة وقعت في الكُتَّاب من أشدِّها ما وقع في سنة 552 هـ = 1157 م فلقد حُكِي أنَّ مُعلِّماً كان في مدينة حماة يُدرِّس الصِّبيان في كُتّاب فقام من المكتب ليقضي حاجته ثم عاد وقد وقع المكتب على الصَّبيان بسبب زلزال عظيم فماتوا كلهم والعجب أنَّه لم يأت أحدٌ يسأل عن صبي منهم والسَّبب أنَّ جميع آبائهم وأمهاتهم ماتوا أيضاً تحت الهدمِ في دورهِم وأسواقِهم. جزى الله خيراً صانعها وقارئها. |