"حياتي مركولة في صندوق" استدارت نصف استدارة لتحول اتجاه وجهها للجانب الآخر، وتبحر في بحر دموعها تردد أدعيتها وابتهالاتها بصمت شديد حتى لا يشعر بها "أيمن" في الاتجاه الآخر وكأن كل واحد منهم اقتسم عالمه الخاص به ,وراحت تدعو بصمت شديد ورجاء بعيد وتلح في الدعاء مطبقة ً عيناها بشدة تناسب حرارة الدعاء، ويعلو زفيرها وشهيقها ثم تشعر بعلوه وتحاول أن تقلل من حماسها حتى لا يشعر"أيمن"بما يدور في صدرها . كانت تتمنى أن يكون هذا الطفل هذه المرة هو ابنها الذي ما زال يعيش في صدرها، وتسترسل أفكارها: هل كلام "أيمن"صحيح؟ هل بالفعل التهمته النيران ومات على وقع الرصاص؟ ولكن إحساسي يقول: إنه ما زال على قيد الحياة. أنا متأكدة: إنه مازال على قيد الحياة.نعم متأكدة. ويشق عليها الأمر فتضرب بيدها على الفراش وتتساقط دموعها بحرارة ألمها. وفي الجانب الآخر "أيمن"يشعر بألمها ويستمع لزفراتها ويحاول التظاهر بالنوم وقلبه يتمزق ألماً عليها ،إلى متى تعذب نفسها هكذا؟ ولكنه يُؤْثر الصمت فهي متمسكة برأيها وأي نقاش يشعل ناراً جديدة بينهما. ويمر الليل طويلاً ثقيلاً على صدر "أمل"التي تنتظر الصباح بفارغ الصبر تقلب عيناها بشكل مستقيم بين الساعة المعلقة على الحائط والشباك. وكلها أمل أن تحتضن في الغد حلماً، طالما انتظرته وسعَتْ بكل وسعها لتصل إليه وكلما أوشكت أن تمسك به انفلت من بين يديها وظفر به آخرون!!! وراحت تسترجع الذكريات وذاك المشهد يمثلُ أمام عينيها، وكأنه يحدث الآن أصوات الرصاص تتردد في أذنيها فتطبق يدها على أذنيها محاولةً صدَّ بعض هذه الأصوات.. وترى النيران تشتعل والأهالي تنزح من البيوت والجميع يفرون ،ترى"أمجد"وسط النيران يتراءى لها بقميصه الأحمر وبنطاله الكحلي وكرته مازالت في يده وهو يصيح :ماما....ماما... ولكن النيران حالت بينهما وكادت ترمي بنفسها في النار لتنقذه ولكن يد "أيمن" حالت بينهما ,فتغمض عيناها محاولة ً طرد هذه المشاهد التي لا تفارقها ليلَ نهارَ. وحاولت أن تخفف على نفسها الإحساس بالذنب فهي لم تكتف، يداها كانت صاحبة أروع الأفكار في محاولة البحث عن الأطفال المفقودين في الحرب ومحاولة البحث عن أهاليهم ,وفي كل مرة تتطابق فيه مواصفات طفل مع عُمْر ومواصفات ابنها يحدوها الأمل وتندفع بحماس أكبر فتحول دون فرحتها فحوصات (DNA ) أو دليل يصل الطفل بأهله ويقطع الأمل في صدر "أمل" المصرة على البحث عن طفلها. **** وهاهو ذا الصباح ينشر أنواره في كل مكان فتتظاهر "أمل" بالنوم منتظرةً بكل شوق خروج "أيمن"من البيت لتقفز بكل حماس وترتدي ملابسها لتنطلق لاحتضان طفلها الذي جادت به سنين شحيحة ولم يكُتب لها غيره . فقدته وهو في الرابعة من عمره - تردد وهي تمشط شعرها- :الرابعة،الخامسة .....الرابعة عشر ة....إنه الآن في منتصف عقده الثاني! يا إلهي لا بد أنه أصبح أجمل بكثير وتخرج بسرعة خاطفة مغلقة الباب على صمت مطبق آملاً أن تعود بطفل يبدد هذا السكون ويصول في هذا البيت ويجول . **** عادت "أمل"إلى البيت بقلب كسير ودموع غزار ونفس محطمة فما عاد الصبر يجدي ولا الدموع تخفف ،فتحت الباب فإذا" بأيمن" في البيت ،مسحت دموعها بسرعة خاطفةٍ وتحاشت أن تلتقي عيناهما بنظرة يرى فيها انكسارها فهي هكذا دائماً لا بد أن تكون هي المنتصرة . رمقها "أيمن"بنظرة عطف وشفقة على حالها، وهو أعلم بما يدور في صدرها ولكن ما عسا ه أن يفعل فهو أحرص منها على نفسها، حريص على حرصها الدائم بأن تكون الأقوى ولا تحب نظرات الشفقة والرحمة في عينيه. -هاأنا عدت بقلب كسير ولكن"أمجد" لم يمت ...وربما مات ولكن لن أستسلم. -إلى متى تعذبين نفسك وتعذبينني معك "أمجد" مات وانتهى الأمر. دار بينهما هذا الحوار بصمت قاتل. **** وبعد معركة النزيف التي مرت بها "أمل" جلست في المساء تحتسي الشاي بصمت كئيب، وهي تنجرف في إعصار من الأفكار في كل مرة تحاول فيها أن تنهي هذه القصة تعود فتبدأ من جديد. غيرت مكان إقامتها بعد صراع كبير مع "أيمن" حتى لا ترى ذلك المكان الذي طالما احتضنت ابنها فيه فتعود الذكريات تنهش ما تبقى من قلب عليل . ولكن هيهات هيهات فما زال ذالك المشهد زائراً يومي يجثو بثقل على صدرها ويقتحم عليها أفكارها دون استئذان . وحينما حاولت أن تشغل أوقات فراغها حتى لا تكون ضحية أفكار لا تفارقها قادت نفسها إلى مصير مجهول ومعارك متكررة، ولم تدرك أنها عندما أنشئت هذه الجمعية ستعود عليها بكل هذه المتاعب كانت تظن أنها تستطيع أن تسيطر على مشاعرها وتسعد الآخرين بعودة أبنائهم، وهي تدرك أن عاطفتها لا يمكن أن تسيطر عليها, ولكن بعد صدمة الأمس لا بد أن تفعل شيئاً تحاول فيه تغيير وقع هذه الحياة الرتيبة لا بد أن تنقذ حياتها وحياة زوجها فهذا الجحيم أصبح لا يطاق ولكن كيف ؟؟!! وبينما هي على هذا الحال في مواجهة جيش من الأفكار دخل"أيمن" وهو يحاول أن يبدي عدم ملاحظته "لأمل"، وهي تحيط نفسها بعالم الأوهام والأفكار وتجدد نشاطها بعد صدمة الأمس التي تحاول أن تخفيها قدر المستطاع ويحافظ هو الآخر على خصوصياتها ويظهر عدم ملاحظته لكل هذا الانكسار على وجهها . حولت"أمل" نظرها إلى "أيمن"وابتدأت الحديث قائلة :"أيمن" خطرت ببالي فكرة للتو . "أيمن"وهو يدعو الله ألا تكون هذه بداية معاناةٍ جديدة :وما هي هذه الفكرة؟! "أمل" وهي تقفز من مكانها بنشوة مبتسمة - تحاول أن تخفي ألمها -:سأكفل طفلاً. تنفس الصعداء وقال باستغراب: تكفلين طفلاً. ردت بصوت عليه نبرات الحزن دون أن تسيطر على نفسها : نعم سأكفل طفلاً,إلى متى سأظل أركض خلف وهم ؟ قد تكون على صواب. قد يكون "أمجد"إحدى ضحايا تلك الليلة اللعينة ,لا بد لي أن أرضى بالقدر وأحاول التكيف مع وضعي، وهذه أفضل فكرة خطرت ببالي . فرح "أيمن"بهذه الفكرة فرحاً شديداً وكان فرحه بتغيير "أمل"بعض أفكارها أكبر من فرحه بفكرتها وراح يشجعها . ابتسمت "أمل" وبدأ عليها الارتياح وهي ترى الفرحة على وجه "أيمن". وبدأت تستسلم للواقع قليلاً . |