مع التنوخي في كتابه ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
يأخذ التنوخي في تناوله لبحور الشعر بالمنهج الموروث، كما ذكرنا، مفسحا المجال لنظراته الخاصة به عقب انتهائه من مبحث كل بحر. وابتدأ بالمتدارَك ( بفتح الراء) "لأن الأخفش تداركه على الخليل" وقيل "هو بكسر الراء لأنه تدارك (المتقارب)، وقد التحق به لخروجه منه بتقديم السبب من (فعولن) على وتده"، وكلامه هذا يعني عدم اتفاق العروضيين على استدراك الأخفش له. وهو يبدأ أول خطواته التبسيطية في وضع جدول بياني لكل بحر يعرض فيه أعاريضه وضروبه على النحو التالي: 1- المتدارك التام فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن * (1) * فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن 2- المتدارك المجزوء + + + ـــ * (2) * + + فاعلاتن ـــ + + + ـــ * (3) * + + فاعلان ـــ + + + ـــ * (4) * + + فاعلن ـــ ويبين سبب وضعه الجدول على هذا النحو بقوله: " العروضيون يسمون كل ضرب باسم ، فهذا الضرب الأول هو (المرفل) والثاني (المذيل) والثالث (الصحيح)؛ وضروب البحور جمة فهي كثيرة الأسماء مما تنوء به الحافظة القوية، ونرى تيسيرا لهذا العلم أن يكتفى من الطالب بمعرفة الضرب بعدده فيقول: هذا البيت من المتدارك الأول أو الثاني أو الرابع، وهي طريقة المعري في لزومياته، وقد رمزنا في الجدول البياني للعروض الأولى مثلا برقم (1) وللثانية برقم (2) وهلم جرا سائر الأعاريض وأما الأرقام الصغيرة التي وسط التفاعيل فهي التي تدلنا على أضرب البحر بأعدادها". وعند هذا الحد من الشرح لضروب المتدارك يشرع في ذكر زحافاته قائلا: نحن الأن نسمع لأول مرة لفظ (الزحاف) مذكرا بمنهجه الذي أشار إليه في مستهل كتابه ووصفه إياه بأنه: " أول كتاب لم يبدأ فيه بتعليم العلل والزحافات لكيلا يبنى فيها معلوم على مجهول، ولأيسر على الطالب أن يتعلم في دراسة كل بحر ما يعرض له من علة وزحاف، وذلك لرؤيته في كل بحر ما يطرأ على مقياسه الأصلي من اختلاف أو نقص عارض". وهو يذكر المتدارك زحافي الخبن والتشعيث ( على رأي الجوهري في تسمية كل التغيرات زحافا). وقد كان منتبها إلى عدم الخلط بين الخبب والمتدارك ( وهو يعتبرهما بحرا واحد ) في توزيعه للزحافات، قال: "وقد يوجد ذلك كله في هذا البحر مع سلامة الأجزاء فتحصل لك خمسة أقسام جائزة: 1- سلامة الأجزاء كلها : ( فاعلن فاعلن ... ) 2- خبن الأجزاء كلها : ( فَعِلن فَعِلن ...) 3- تشعيث الأجزاء كلها: ( فَعلن فَعلن... ) 4- تشعيث بعضها وخبن بعضها: ( فَعلن فَعِلن ... ) 5- عكس هذا الوضع : ( فَعِلن فَعلن ... ) ويجيئنا التنوخي بتداريب على كل قسم من الأقسام السابقة ، ومعظم هذه التداريب من نظمه هو، ولا سيما حين لا يجد لها شواهد عند الشعراء كقوله في قسم الوزن المشعث: ومنه الوزن الرباعي، وهو وزن موسيقي يستهوي قلوب الأطفال، ومنه: هذا قطّي *** حلو النَقطِ حلو القفزِ *** حلو النطِّ ويعلل لهذا الوزن الرباعي بقوله: "ونحن نعده شعرا على رأي الزجاج لحاجتنا إلى مثل هذه الأوزان". ولا أدري من أين جاء التنوخي رحمه الله بهذا الرأي للزجاج ، وقد عرفنا من خلال تحقيقنا لكتابه أنه كان متشددا إزاء قبول مثل هذا الوزن الذي لم يذكره الخليل. ويبدو لنا أن ملاحظة التنوخي لسلوك الزحاف في المتدارك دقيقة على الرغم من أنه لم يجد شواهد عليها مما اضطره إلى محاولة نظم هذه الشواهد فيما أسماه (التداريب)، يقول في بعض تداريبه على الضرب المرفل من المتدارك: دار سعدى بشحرِ عُمانِ *** قد كساها البلى المَلَوانِ يا بني عمّنا لم نَزَل *** نرتجي منكم الحَسََناتِ والبيت الأول شاهد عروضي صنعه العروضيون من قبل ، ولكن البيت الثاني ( وهو من نظم التنوخي ) جاء بعروضه صحيحة غير مخبونة، وقال معقبا: "الضرب في هذا البيت الأول مخبون كعروضه للتصريع، وبعد المطلع يلتزم الشاعر في العروض صحتها". وقوله هذا صائب وينم عن ذائقة عروضية سليمة، ولم أجد أحدا من العروضيين التفت إليها إلا خشان خشان فيما أذكر فيما أشار إليه بثقل ظاهرة ورود (1 3 1 3 ) ، بل إن الدكتور عمر خلوف مرّ على هذه الظاهرة مرور الكرام وذلك حين مثل لهذا الضرب بالبيتين التاليين: دار سعدى بشحر عمان *** قد كساها البلى الملوان هذه دارها أقفرت *** أم زبور خلت في الزمانِ ( هذا إن لم يجئنا بألف شاهد على هذا الضرب بعروض مخبونة ! ) ويختم التنوخي حديثه عن البحر بالإشارة إلى المقاطع الصوتية الطويلة والقصيرة، وأن ( تن ) هي الوحدة الصوتية الموسيقية وبتكرارها يحصل معنا ( تن تن ) فتوزن بها الكلمة القصيرة مثل ( حُسنٌ ) وبتفعيلها نجدها على وزن ( فَعلُن )، ثم إذا كررنا (فَعلُن) أربع مرات وقسمناها شطرين، حدث لنا وزن شعري يستهوي الصبيان (والبنات أيضا !) وتستعذبه الآذان: هذا قطّي *** حلو النقط وكما يعتبرالتنوخي أن ( تن ) هي الوحدة الصوتية، فإنه يتخذ (فاعلن) الوحدة الشعرية التي نقيس عليها الأوزان، وإن كانت ( فَعلُن ) أبسط منها وأصلا لها ، كما يرى أن ( فاعلن ) أصل ( فاعلان) يزيادة ساكن عليها، وهي أصل ( فاعلاتن) بزيادة (تن) . ويعدنا بأننا سنرى كيف يمكن رد تفاعيل البحور كلها إلى ( فاعلن) ومقلوبها ( فعولن) . ونحن معه سائرون حتى النهاية لنرى كيف يمكن تحقيق ذلك .. فصبرا إن الطريق طويلة،،، |