(.... أعادت لي الحياة أفريقيا .... ) فتحت عيناها ، أخذت نفسًا عميقًا فركت عينيها بأطراف أصابعها، بدأت تجمع طاقتها كأنها تستمد نشاطها من راحة يديها، فتحرُّكها إلى الأمام والخلف؛ بُغية طرد النعاس . وفجأة تذكرت أختَها، مسؤولياتِها، أعمالَها، نهضت بسرعة، انطلقت إلى غرفة أختها: نادتْها لتوقظها، ولكن نومها كان عميقًا. اقتربت منها سحبت غطاءها ونادتها علَّها تطرد النعاس عنها. وبعد أن أيقظت أختها عادت إلى غرفتها وجدت الخادمة قد هيأت لها الحمام . استغرقت وقتًا غير قليل في الاستحمام، كانت تصب الماء على رأسها تود أن تغسل كل ذكرياتِها المؤلمة ثم تعود فتغمسه في الماء حتى تكاد تختنق فتخرج رأسها بسرعة كي تستنشق الهواء . كم تراودها تلك اللحظات يوم رحل والدها تاركًا لها أختًا تستجدي الوئام ومزيدًا من الحنان، فيشق الأمر عليها فتبكي وتغسل دموعها بالماء وجزءًا من حزنها مع فُقَّاعات الصابون . ثم تعود وتستطرد ذكرياتها: أموال طائلة تركها لي والدي ولكن لا أشعر بالسعادة!!! فسعادتي كلُّها في رؤية أختي الحبيبة في سعادة واطمئنان؛ أصبحت حياتي وعالمي الذي أغلق عليه نفسي وأحيا فيه، منقطعةً عن العالم الآخر . وفجأة أخرجتها طرَقات أختها على الباب من بحر أفكارها فردت عليها: - حسنًا ، حسنًا، الآن آتي خلفك . انتزعت المِنْشَفة وأخذت تجفف جسمها من قطرات الماء وتزيح مع كل قطرة حزنها وألمها وإن كانا لا يفارقانها . على طاولة الطعام التقت الأختان كفراشتين ترشفان الرحيق من أفواه الورود . بعد أن ألقت نظراتٍ فاحصة على أختها من حيث اكتمال أناقتها وترتيب مظهرها خرجتا من المنزل تلوحان بأيديهما، تودعان المربية وهي تبتسم وتبادلهما الحركات وتظل تراقب خروجهما حتى ابتعدتا عن الأنظار فتتنفس بعمق ثم تعود لاستكمال أعمالها . أنزلت أختها أمام جامعتها وأخذت تُتْبعها بنظراتها داعيةً لها من قلبها. ثم أكملت طريقها إلى المستشفى لبدْء يوم عملٍ جديد... ولكن قبل أن تخرج من المواقف المُخَصَّصة للجامعة إذا بشاب متهور يدخل بسرعة فائقة وفجأةً صوت قوي يهيمن على المكان يوحي بأنه قد اصطدم بشيء ما . فعادت مسرعةً لترى ماذا حدث؟! كانت صرخات الطالبات تعلو، فانخطف لونها وتجمدت أطرافها، وجف ريقها من شدة الخوف، والهلع وكاد قلبها يسقط من بين أضلاعها من شدة الخفَقان. فتحت باب السيارة ونزلت تركض والدنيا مظلمةٌ أمام عينيها، أخذت تدفع كل من اجتمع حول الحادث دون وعي إلى أن وصلت فوجدت ذلك الجسد الطاهر قد توسَّد الدماء ،لقد كانت أختَها!!! ياللهول!!! تجمدت لم تقوَ حتى على الصراخ أو تحريك أطرافها ثم جثت على ركبتيها ، أمسكت بيد أختها تُقبِّلها، وتستنشقها، ودموعها تتساقط بغزارة على وجنتيها. أخذت تفحص عروقها: هل من أمل في الحياة بعدها احتضنتها وأخذت تذرف دموعها وقلبها يتفطر من شدة الألم. فما إن يُشيِّع هذا القلب إنسانًا عزيزًا عليه حتى يعود فيشيِّع أعزَّ منه . آه أيها الشاب لو تعلم ماذا فعلت ؟ لمجرد نَزْوَةٍ كثير من الشباب، يقعون فيها فكم من شاب ينطلق غير آبهٍ بسرعة الريح فقط ليُخيف فتاه حسب تفكيره القاصر فترتسم ابتسامة صفراء ثقيلة على مُحَيَّاه . آه أيها الشاب: لو تعلم فقط ماذا فعلت ؟ أصبحت هذه الفتاة تستجدي دموعًا لتعبر عن حزنها؛ فقد بكت حتى جفت مقلتاها وتورمت عيناها بكت حتى بكى البكاء لبُكائها ،وحزن الحزن لحزنها. مرت أيامها رتيبةً مُمِلَّةً تبحث عن شيء له قيمة لتفعله . أموال كثيرة تمتلكها كثير أحوج إليها منها فكانت تتألم عندما ترى ذلك السائق، وقد اعتلت تجاعيد الدهر جبينَه، وهو يغالب شيخوخته ليجلب الرزق لأبنائه، ويشق عليها الأمر عندما ترى ذلك الطفل الصغير يحمل طَيِّات الجرائد يلاحق السيارات ويرجو كل من يصادفه أن يشتري منه . هم أحوجُ منِّي للمال وأنا أحوج منهم للسعادة، ولهدفٍ في الحياة أحيا من أجله . وفي ليلة شديدة الظلمة تجثو بظلمتها على ذلك البيت الحزين كالعادة، كانت تشاهد الأخبار فرأت كم هي المآسي في قارة أفريقيا الجنوبية، وكم تنتشر الآفات والأمراض من شدة الجوع والعطش، فشعرت بحزن وألم فتبادر إليها شعور بأنها وجدت ضالتها. وما إن بزغ الفجر حتى بدأت تجمع كل ما تملك من أموال سوى منزلها ففيه من رائحة الأحبة . وسافرت إلى جنوب أفريقيا فرأت بأمِّ عينها شيئًًا مريبًا أكثر مما كانت تتصور رأت الناس أما موتى أو صرعى على فراش الموت ينادونه ويرجونه أن يخلصهم من هذه الحياة . هناك اتصلت بالمهندسين وقامت ببناء مستشفى كبير وجلبت الأجهزة والأطباء، ثم اتصلت بالجمعيات والمؤسسات الخيرية لمتابعة هذه المؤسسة الخيرية . لم يبق أفريقيًّا قريبًا أو بعيدًا لم يزر هذه المستشفى ويتزود منها بدواء، وإن كان لم يغط هذا المستشفى كل الحاجات الصحية، ولكنه ساهم في القضاء على بعض الأمراض . أصبحت هذه الفتاة محبوبة جدًّا وكان الأفريقيون يخافون عليها من كل شيء؛ فقد عاشت بينهم كأنها منهم تلعب مع صغارهم وتمسح على رؤوس كبارهم وشيوخهم وترسم الأمل لشُبَّانهم؛ ولهذا كانوا يحبونها حبًّا يفوق حبهم لأبنائهم . وفي ليلة إفريقية، زنجية، أغلقت على نفسها باب غرفتها واستلقت على سريرها وهي تشعر بأنها فعلت شيئًا مما كانت تطمح إليه . أخذت تتذكر حياتها منذ أن فارقت أعزَّ مَن في الوجود إلى يومها هذا، وقالت لنفسها:(أعادت لي الحياة أفريقيا) (أعادت لي الحياة أفريقيا) (أعادت لي الحياة أفريقيا) (أعادت لي الحياة أفريقيا) ونامت بعد ذلك نومةً طويلة لم تفق بعدها . بكى الأفريقيون على فراق هذه الفتاة وحزنوا عليها حزنًا شديدًا ظل يهيمن على تلك البلاد لعدة سنوات، وما زالت تُنسَج قصص كثيرة من خيال الأفريقيين حول أخلاق هذه الفتاة وحسن معاملتها لسكان تلك البلدة حتى يومنا هذا ........... بقلم الطالبة :سلمى العمراني كلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي |