وبعض من آداب الشعوب التي دخلت في الإسلام كفارس أو الأمم القديمة كاليونان.
لكن ما جدوى هذا العمل ولماذا قل المنجذبون إليه؟
لعلنا نجد الجواب على ذلك في هذا الكتاب الذي ألفه الصديق أ. د- صابر عبدالدايم يونس ونشره سنه 1423ه في 226 صفحة من القطع المتوسط وكتب له مقدمة هي من أحسن المقدمات حيث جلا فيها مقاصده وأهدافه ثم قدّم الأدلة على صدق ما يتحدث به خاتماً هذه المقدمة بقوله:
"فإن هذه الحقائق التي حرصت على تجليتها في هذه الدراسات تحاول تأصيل القيم الفكرية والإبداعية التي أبدعتها أمتنا العربية في أوج حضارتها".
ويتكون الكتاب من سبعة فصول، أولها (الأدب المقارن: أضواء على المدلول والنشأة) فبعد حديث عن الابداع والتلقي قدم ما يمكن وصفه بأنه تعريف للأدب المقارن، ولكنه تعريف طويل لو أنه حصره في كلمات معددوة لأحسن وذلك قوله: "فالأدب المقارن هو: دراسة علائق الوقائع التي وجدت بين منتجات أعاظم المؤلفين في كل دولة، والمنابع التي انتهلوا منها أو استوحوها أو تأثروا بها وهو يعنى أيضا بتلك التغييرات العجيبة أو التشويهات الأسيفة التي يحدثها الأفراد أو الشعوب في منتجات الأجانب خضوعا لظروف مختلفة وعوامل متباينة كالجهل والأوهام والأخيلة الخصبة، والقصص المتداولة، والمأثورات الموروثة".
وطّوف المؤلف في تعريفات الأدب المقارن ليصل إلى التمثيل العملي للاحتذاء الذي يقع بين الأدباء وكان المثال (جبران) (وبليك)، ومن قوله في هذا: "وفي أدبنا العربي يبدو التلاقي التاريخي بين وليم بليك الإنجليزي وجبران خليل جبران، فقد احتذى جبران حذوه وقلده في كل شيء حتى في طريقة حياته وظهر أثر هذا الاحتذاء به في أدبه.
وأعجبه من حياة بليك هدوءه العائلي ومشاركته زوجته له في تأملاته، ومعاونتها له في فنه بقدر استطاعتها، وظهر أثر وليم بليك في كتابات جبران وأخيلته التي تجول فيما وراء الحس، وتجسّم المعنويات".
ويطيل في الحديث عن تأثر نسيب عريضة وميخائل نعيمة بالأدباء الروس وانطباعهم بروح المجتمع هناك، حتى إن نعيمة حين كتب (النهر المتجمد) كان يصور فيها واقع الشعب الروسي كما يراه.
ولم ينس المؤلف الإشارة إلى الزعامات الأدبية التي برزت في صدر القرن الماضي الميلادي منتصف القرن الهجري كمثل العقاد والمازني وشكري وطه حسين وجميع أدباء مصر قدمهم على أنهم يمثلون مبلغ التأثر بالغربيين ومحاكاتهم.
من هنا انطلق في المبحث الثاني إلى الحديث عن تعصب الغربيين على الإسلام والمسلمين وعدم اعترافهم بما قدمت لهم الثقافة الإسلامية من خدمات حتى في الأدب المقارن وروى في ذلك أحاديثَ لبعض الغربيين كمثال للزعم الباطل والتعصب غير المحدود.
من هنا لم يكن له بد من إيضاح الحق -على الأقل في هذا الموضوع (الأدب المقارن)- فقد أخذ في البحث عن (جذور التلاقي بين أدبنا العربي القديم والآداب الأخرى) وقدم في ذلك معلومات حسنة إلا أنه لم يتوصل إلا إلى ما كان بين اللغة العربية وكل من الفارسية والهندية واليونانية.
غير أنه خرج بنتيجة مفادها أن جذور الأدب المقارن وجدت عند العرب ومن غير المستعبد أن يكون الغربيون قد أخذوا ذلك من الأدب العربي وبخاصة الأندلسي لكون الأسبان قد استمدوا من ثقافة العرب أوفر بكثير مما استمده الآخرون الذين أخذوا عن الأسبان ما أخذوه عن العرب.
على أنه في الفصل الثاني (ظاهرة التلاقي بين الآداب: عواملها.. وثمارها) يشير إلى إقبال الغربيين على الأدب العربي وتأثرهم به في القصة مثل (ألف ليلة وليلة) وسواها من الأجناس الأدبية، إلا أن قصص الرحلات والمغامرات كانت أحظى عند الغربيين لعوامل اجتماعية ،أظهرها: عدم نزوعهم فيما سلف إلى الرحلات.
ويعود في الفصل الثالث (تراثنا الأدبي والعلمي يؤثر في الآداب الأوروبية وفي النهضة العلمية الحديثة) فيتحدث بتفصيل نسبي عن تأثير الحضارة العربية بآدابها وعلومها في الحضارة الغربية، مقرراً الموقف السيئ عند متأخري الغربيين، وبخاصة في القرن التاسع عشر وما بعده، وذلك الموقف هو إنكارهم آثار الحضارة الإسلامية ومحاولة طمس دلائل ذلك ولكن الحق يأبى إلا أن يظهر على ألسن بعض الغربيين أنفسهم.
وفي الفصل الرابع (أثر الثقافة العربية والإسلامية في الأدب الألماني - جوته أنموذجاً) يتحدث المؤلف عن أثر الثقافة العربية في الألمان. غير أن حديثه يدور حول (جوته) وصلاته بالثقافة العربية وتفاعله مع الإسلام حتى أنكر على المسيحيين الزعم بأن عيسى ابن الله فبرزت في ثقافته مسألة التوحيد، كما أنه تغنى بكثير من المواقف الإسلامية مشيداً بشهداء المسلمين. وأشياء أخرى تدل على عمق الثقافة الإسلامية عند جوته، كما أن اشارة المؤلف إلى كتاب (جوته والعالم العربي) كانت أكثر من أن تحصر، بل إن هذا الكتاب كان مدار جل الحديث في هذا الفصل.
وكان طبيعياً بعد الحديث عن أثر الحضارة العربية في الألمان أن يتحدث المؤلف عن (أصداء الثقافة العربية والإسلامية في الأدب الروسي) وهو الفصل الخامس، وفي صدره نعى على أبناء العربية تنكرهم للتراث الأصيل وصيرورتهم إلى آداب لأقوام ليسوا من جلدتهم إلى ما فيها من فساد فكري واجتماعي.
وأثنى على ماقدمته الدكتورة مكارم الغمري في كتابها (مؤثرات عربية إسلامية) ولما كان حديث الدكتور المؤلف في صدر هذا الموضوع يشتمل على شهادة لصالح الثقافة العربية من رجال ليسوا من العرب فإننا ننقل هذا المقطع من حديث الدكتور، فهو يقول:
"والشاعر الروسي الكبير الكسندر بوشكين، يقول مؤكداً تأثر المذهب الرومانتيكي في أوروبا.. وروسيا... بالتراث العربي.... وأجواء الحياة العربية: "هناك عاملان كان لهما تأثير حاسم على روح الشعر الأوروبي هما غزو العرب... والحرب الصليبية فقد أوحى العرب إلى الشعر بالنشوة الروحية ورقة الحب، والولع بالرائع والبلاغة الفخمة للشرق، وأكسبه الفرسان الشهامة وبساطة الروح، ومفاهيم البطولة وحرية الشعوب".
"ثم يقول، وفي قوله إنصاف لتراثنا الأدبي والإنساني: "هكذا كانت البداية الرقيقة للشعر الرومانتيكي"".
ويتكامل هذا التوجه.. مع الحنين الرومانتيكي إلى الشرق، وهذا الحنين يحسد إحساسهم بالاغتراب المكاني، فقد فتنوا بطبيعة الشرق الجميلة، ومناظره العجيبة، وشمسه الوضاءة المشرقة.
وبعضهم كان يتحسر إذا لم تتح له الفرصة لزيارة بلاد الشرق مثل "فلوبير" فقد كان يتمنى أن ينام على ظهر الجمال في خطوها المنتظم، وهذا شعور رومانتيكي خالص، وكذلك فيكتور هوجو كان يرى أن (الشرق عالم ساحر مشرق وهو جنة الدنيا، وهو الربيع الدائم مغمورا بوروده، وهو الجنة الضاحكة، وأن الله وهب أرضه زهورا أكثر من سواها، وملأ سماءه نجوما أغزر، وبث في بحاره لآلئ أوفر).
وكم يعجب الإنسان من هذه الصور المضيئة التي أوجزها الكاتب في هذين الفصلين (أثر الثقافة العربية الإسلامية في الأدبين الألماني والروسي). وهذا ما يغري القارئ بمحاولة استيعاب ما اشتمل عليه كتاب (مؤثرات عربية وإسلامية) للدكتورة مكارم الغمري وإن لم نكن في شك من هذا التأثير.
ويعود الدكتور صابر إلى عصره وما جدّ فيه من مؤثرات معاكسة انبهر بها أدباء العصر من العرب فانساقوا وراءها يطلبون منها ما عند أسلافهم ما هو أفضل منه وأروع لو كانوا يفقهون.
يعالج ذلك د.- صابر فيما سماه (أصداء المذاهب الأدبية الأوروبية في الأدب العربي الحديث). وقبل قراءة حديث المؤلف يحسن بنا الاشارة إلى ما ذكره د. طه حسين في أحاديثه الإذاعية، عندما قال: إن أصول جل تلك المذاهب موجودة في الأدب العربي القديم وكان يمثل لكل مذهب تحدث عنه.
أما د. صابر فإنه في هذا الفصل السادس يبدأ الحديث عما يشبه تاريخ ظهور المذاهب الأدبية في العالم الغربي لينتقل بعد ذلك إلى الحديث عن ظهورها في العالم العربي، مقسماً الأدباء بعد شوقي إلى ثلاثة: مدرسة الديوان ومدرسة المهجر وجماعة أبولو، ولم يتحدث بعد ذلك عن مدارس الغوغائية التي جدت فيما بعد.
وعلى الرغم من كون المؤلف قد خص الأدب المهجري بآخر فصل في هذا الكتاب فإنه قد مد النفس في الحديث عن ذلك الأدب في هذا الفصل، فهل يعني هذا أنه كتب هذا الفصل قبل نيته كتابة فصل عن الأدب المهجري؟
على أن اهتمامه منصب على أدباء المهجر الشمالي ولم يشر إلى أدباء المهجر الجنوبي، وكأنهم غير موجودين.
ثم إنه قد وقف حديثه على أدباء مصر، والمهجر الشمالي وكان عليه أن يتحدث عن الأدب في البلاد العربية الأخرى، على أننا نعود ونقول إن ذلك من حقه وعلى الآخرين أن يكتبوا عن بلدانهم.
ومع أن الدكتور صابر قد تحدث عن الأدب المهجري في الفصل السادس كما أسلفنا، ومع أن له كتاباً في الأدب المهجري، فإنه قد خص هذا الأدب بالفصل الأخير من هذا الكتاب وعنوانه (المؤثرات الأدبية وأثرها في التجربة التأملية عند أدباء المهجر) ولما كان للمهجريين سهمهم في نظم الموشحات فإن ذلك قد جر المؤلف إلى الحديث عن (فيكتور هوغو) ومبلغ تأثره بالثقافة الشرقية في ديوانه (مشرقيات) وهذا نوع من الاستطراد لأن الموضوع هو تأثر المهجريين بالثقافات الأخرى.
وأول ثقافة صبغت جل آثارهم هي الثقافة العربية الإسلامية وفي هذا كان القسم الأول من هذا الفصل.
أما القسم الثاني فكان عن تأثير الأفرنجة في الأدب المهجري. ويعجبني هذا التعبير (الإفرنجة) الذي كان المهجريون يعبرون به عن الغربيين وقد يعنون به جميع الأوروبيين.
ومع موضوعية المؤلف واشتمال مباحث كتابه على معلومات جليلة في الموضوع، فلم يخل الكتاب من بعض الملحوظات ، مثال ذلك:
أ - التكرار حتى إن بعضاً من تلك الأحاديث تكرر أربع مرات كمثل محاكاة جبران لوليم بليك.
ب- وفي حديثه عن أصداء المذاهب الأدبية الأوروبية في الأدب العربي الحديث لم يتحدث إلا عن أدباء مصر وأدباء المهجر الشمالي. والواقع أن حقه أن يخص أدب بلاده وأباءها بفضل العناية، لكن لا يجوز أن يهمل الآخرين.
ج- وفي قوله: وكان في مقدمة هؤلاء الأدباء: جبران، ونعيمة (رائدا مدرسة المهجر)، وما يشتمل على غمط حق المهجر الجنوبي الذي برز فيه جملة من الشعراء المتفوقين.
د- وفي قوله: "مزجوا القصة الفارسية بالقصة العربية كما في ألف ليلة وليلة" ما يفيد بأن ألف ليلة وليلة ذات أصل فارسي في حين أن الشائع أن أصلها هندي، وله إشارة إلى شيء من هذا كقوله: كما أن في كتاب ألف ليلة وليلة قصصا دل البحث العلمي على أن أصلها هندي.
هـ - وفي ذكره المساجد التي تكونت فيها حِلَق الدرس (ص: 69) ذكر كثيراً منها ولكنه أهمل المساجد الثلاثة الحرمين المكي، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، وهي أحق بالذكر من غيرها.
و - وهو يقدم (جلالَ الدين الرومي) بقوله (مولانا) وذلك في قوله: ومولانا جلال الدين الرومي ولست أدري هل ذلك من تعبير د. صابر أم إنه من أقوال المتصوفة؟ ومعلوم أن جلال الدين الرومي صوفي حلولي.
ر - ومما يلحظ في هذا الكتاب أن مؤلفه لم يشر إلى جزيرة العرب، في حين أنه كانت له اهتمامات بالأقاليم العربية والإسلامية خلا الجزيرة العربية، إلا ما كان متصلاً بنزول القرآن الكريم وبمحمد صلوات الله وسلامه عليه.
ح- ويذكر جماعات "أبولو" على أنها مدرسة، في حين أنها جماعة منوعة الاتجاهات والمذاهب، وهذا ما يبعدها عن مفهوم المدرسة الأدبية.
ومع ما أسلفنا من ملحوظات، فإن هذا الكتاب حري بأن يكتب بماء الذهب