قال الأستاذ زهير ظاظا: "وخلاصة كلام الزمخشري والقراءات التفسيرية المنسوبة إلى أُبي وابن مسعود (ر) أن فعل (تبيّن) في الآية لازم وليس متعدياً أي بمعنى ظهر وليس بمعنى تحقق ؛ أي ظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المبين".
وأقول أنا يحيى: إن فعل (تبيّن) في الآية متعدٍ وفي قراءة أُبي وابن مسعود أيضاً: "تبيّنت الإنسُ..." " ويكون المعنى: تبينت الإنس أمر الجن..." [معاني القرآن للفرّاء]. وقد أكد هذه القراءة وأقسم عليها الإمام جعفر الصادق، عليه السلام، في كتاب (الصافي في تفسير كلام الله الوافي للكاشاني).
هذا، وقد ذكر السمين الحلبي في الدُّر المصون هذا الوجه (أن الفعل متعدٍ) فقال: "... الثالث: أن (تبيّن) هنا متعدٍ بمعنى أدرك وعلم، وحينئذٍ يكون المراد بالجن ضَعَفَتَهم، وبالضمير في كانوا (كبارَهم ومَرَدَتَهم) و (أنْ لو كانوا) مفعول به، وذلك أن المَردة و الرؤساء من الجن كانوا يوهِمون ضُعَفَاءهم أنهم يعلمون الغيب...وفي كتاب أبي جعفر ما يقتضي أن بعضهم قرأ (الجنَّ) بالنصب، وهي واضحة؛ أي: تبيّنت الإنسُ الجنَّ... وقرأ ابن عباس ويعقوب: "تُبُيِّنت الجنُّ" على البناء للمفعول، وهي مؤيدة لما نقله النحّاس".
وفي إعراب القرآن للنحّاس: "...قال قتادة: وفي مصحف عبد الله بن مسعود: تبيّنت الإنسُ أنْ لو كان الجنُّ يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المُهين. ومن قرأ: تُبُيِّنت الجن: أراد تَبَيّنت الإنسُ الجِنَّ".
إذن، فالفعل (تبيَّن) متعدٍ وليس لازماً. (ينظر مختصر تفسير البغوي المسمى بمعالم التنزيل، وفيه: عَلِمَتْ. و مثله في المحرر الوجيز لابن عطية.
والآن: إننا لو نظرنا في أسلوب الاستثناء التام المنفي من حيث الرفعُ ، نحوَ: ما جاء الطلابُ إلا خالدٌ، لوجدنا النحاة يعربون كلمة (خالد) بدلاً من (الطلاب)، غير أنَّ أستاذي العلامة الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة - رحمه الله تعالى- فطن إلى إعراب صحيح، فقد أعرب "إلا" بمعنى "لكنْ" وكلمة (خالد) مبتدأ، وخبره محذوف، وتقدير الكلام: لكنْ خالدٌ لم يجئ، قائلاً: "... إن المبدل منه (الطلاب) منفي: لم يجيئوا لكنْ خالد جاء...".
وعَوْدٌ على بَدْء: عندما قرأ أستاذي الشيخ عضيمة صفحة 213 و 214 من كتاب فوائد في مشكل القرآن للعز بن عبد السلام وكيف أعرب الجن مبتدأ و(أنْ لو كانوا) خبره، و الجملة مفسرة لضمير الشأن في (تبيّنتْ)؛ ووقف ملياً أمام تفسير العز الذي يقول: " إذ لولا ذلك لكان معنى الكلام: لمّا مات سليمان عليه السلام وخرَّ، ظهر لهم أنهم لا يعلمون الغيب. وعِلْمُهم بعدم عِلمهم الغيب لا يتوقف على هذا بل المعنى: تبيّنت القصة، ما هي? هي كما قال عزوجل "لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين". هشَّ شيخي وبشَّ لهذا الإعراب الذي فطن إليه العز، وأوصاني بألّا أكتمه. وقال: يا يحيى إن دارس النحو إذا لم يقرأ الأدب عامةً والشعر خاصةً يتحجر أسلوبه، وقال : لقد تبين لي أن قول أبي الطيب المتنبي في وصفه الحُمَّى:
وزائرتي كأنَّ بها حياءً ** فليس تزور إلا في الظلام
قد سبقه إليه الشاعر عبد الصمد بن المُعَذَّل. وقد أوصاني أن أبوح بهذا الخبر أمام الأدباء و المحققين...