مجلس : علوم القرآن

 موضوع النقاش : فلسفة القصاص    قيّم
التقييم :
( من قبل 2 أعضاء )
 طه أحمد 
28 - أبريل - 2007
 في ظِلاَلِ آية
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
                              
                               
                                                               
توطئة:
 
ليس القصدُ من هذه الكلمة دعوةُ المجتمعاتِ إلى أخْذِ النفوسِ بالنفوس قَوَداً, وإقادةُ القاتل بالقتيل اقتصاصاً, بل إن الرأيَ البصيرَ بمواقع المصلحة, ومَرامِ الشريعة من أحكامها الجنائية وغير الجنائية- قد يقضي بمنعه لهذا العهد, باعتبارِ الأحوال الناشئة, والأسباب المعترضة بين الحُكم والحِكمة, وليس ذلك المنع اتماماً للتشريع, أو اصلاحاً له, فالدين كاملٌ لا نقص به, والشريعةُ تامةُ الخِلقة محكمةُ الوضع, وذلك تقدير العزيز العليم- و إنما هو تنزيهٌ للاسلام عن جَلَبة أصحاب الألسنة الحِدادِ الذليقة, وضَوة أرباب الدعاوى العريضة.
وبيانه: أن مقاصد الفكرة الاسلامية في الحياة الاجتماعية والمدنية, إنما تتحقق بالحضور القوي الفاعل لروح الاسلام في تلك الحياة التي تنتسب إليه, وتَنَزُل شرائعه مِن المجتمع منزلةَ شعائره, أما وليس في قوانين الأقطار الاسلامية منه إلا بقايا أثرية لا تحمل من معناها النفسي إلا الدلالة التاريخية, ومن المعنى العملي إلا ما للعوائد القومية من العمل والأثر - فإن سقوط بعض الأحكام القرآنية إلى مواضع لم تُفَصل عليها, ولا ناسبتها في أصل وضعها, يكون فيه جناية عليها وأي جناية, باعتبار النتائج غير المرضية المترتبة على اختلال الوضع, واختبال النظم.
 
وهذا المعنى هو الذي بنى عليه الأستاذ الشيخ عَلال الفاسي طيب الله ثراه- رأيه في تعدد الزوجات لهذا العصر الحديث فقد قال في موضع من كتابه (النقد الذاتي): ..إن هذه الأحكام صريحة الدلالة ومجمع عليها من طرف المذاهب الاسلامية كلها وهي منع التعدد مطلقا عند الخوف من الظلم وإباحته حتى الأربعة عند تيقن العدل. لكن الذي مضى عليه عمل المسلمين هو ترك هذا الأمر لوجدان الرجل الذي يحكم على نفسه هل يقرر أن يعدل أو لا, وذلك هو الأصل في تطبيق الشرائع كلها لأن الدين يتوجه قبل كل شيء للأفراد وضمائرهم.
لكن التجربة التي لاحظناها طول التاريخ الاسلامي تدل على أنه باستثناء العصور الأولى فإن أغلبية المسلمين استعملوا التعدد في غير موضعه الشرعي.ولكي لا نطيل بالإشارة للأحداث التاريخية التي نتجت عن تعدد الزوجات يمكننا أن نكتفي بتوجيه نظر إخواننا لما هو واقع في العالم الاسلامي كله اليوم, وفي المغرب بالخصوص1, من استهتار بشؤون العائلة ومن حوادث مخربة لها لم يكن مصدرها غير العبث باستعمال الرجال لفكرة التعدد فكم عائلات هدمت وكم ورثة حرموا وكم أولاد منعوا من عطف آبائهم مراعاة للزوجة الثانية, وكم حوادث قتل وتسميم وقعت وكم أنواع من الزور ارتكبت لتقلب فئة من الأبناء على إخوانهم, وكم من أولاد ربوا خارج ديار آبائهم. إن كل واحد منا يستحضر أنواعا من هذه الأمثلة المؤلمة...إن كل سبب من هذه الأسباب يوازي السبب الصريح المذكور في القرآن وهو الخوف من أكل أموال اليتامى فإذا كان التعدد ممنوعا خوفا من أن يؤدي لغصب حق اليتيم فأحر به أن يكون ممنوعا إذا كان يؤدي لغصب أولاد الصلب نفسه حقهم أو إلى إزالة المودة التي وضعها الله رحمة للعائلة ورابطة بين الأب وابنه وأقرب الناس إليه.
ولذلك أرى أن تعدد الزوجات يجب أن يمنع في العصر الحاضر منعا باتا عن طريق الحكومة لأن الوجدان وحده لا يكفي اليوم لمنع الناس منه. وقد قال عثمان رضي الله عنه :'' إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن''.2
فالأستاذ علال الفاسي كما ترى لا يذم حكم تعدد الزوجات وكيف له أن يفعل وهو ابن القرويين وشيخ فاس- وإنما أوقع الذم كله على فساد الوجدان, الذي جر إلى فساد الميزان في العدل, ومنه ذهاب حكمة التشريع, ومن هذه الثغرة وتلك يتسلل لِواذاً أولائك الذين يتربصون بالاسلام الدوائر, ويقعدون له بكل مرصد, ولذلك يقول بعد ذلك: ''فإذا أضيف لهذا السبب الداخلي سبب آخر, وهو ظلم الاسلام نفسه, فإن الباعث على المنع يكون أولويا. وقد أصبح سوء استعمالنا للتعدد مدخلا لكثير من أعداء الإسلام الذين يتخذونه حجة على ديننا فيحول بينهم وبين فهم الدعوة الاسلامية, بل يتجاوزهم إلى داخل الأوساط الاسلامية نفسها, فيصبح المسلمون والمسلمات عرضة للتشكك في سلامة الدين الذي يبيح التعدد في نظرهم, وليس كل الناس فقهاء ولا كل الناس قادرين على ادراك الاصلاح القرآني في شأن المرأة نفسها. فمصلحة الدعوة الاسلامية تقضي بمنع التعدد في هذا العصر. قال العلامة المواق :'' إن ترك سنة واحدة من أجل المحافظة على العرض أمر متحتم في الدين3.''
وإذا كان هذا في المحافظة على عرض الانسان أي موضع المدح والذم منه, فكيف بالمحافظة على ما هو موضع المدح والذم للدين نفسه?. ولقد ترك عمر إقامة الحد في إحدى المواقع الحربية خوفا على فرار المحدود لصفوف الأعداء, والحد تشريع ديني لا معدل لأحد عن إقامته فكيف بالتعدد الذي ليس فيه أدنى وجوب, حتى عند تحقيق العدل'' انتهى المراد منه.
 
وإنما نقلت كلامه بطوله ومرادي منه عموم المعنى لا خاصة التعدد, فالمبدأ الذي قرره وهو عدم مناسبة بعض الأحكام القرآنية للوضع الذي ترتبك في حباله المجتمعات الاسلامية يجر إلى العلة التي من أجلها يكون وقف العمل بها واجباً, وهي: تلويث صورة الاسلام. فذلك المبدأ وتلك العلة هما اللذان ينبغي علينا تلَمحُهما دائماً, ولا يجوز التغافل عنهما أبداً.
ولتأكيد هذا المعنى في الذهن نضرب له مثلاً آخر ثم نُقفل إلى غايتنا الأولى من هذا الكلام.
 جاء في رسالة (حد السرقة بين الفهم والتطبيق) للأستاذ عبد الكريم مطيع ما نصه:.. وليس من المجدي إقامة حد السرقة في مجتمع نظامه الاقتصادي غير إسلامي، ثروة الشعب فيه دولة بين الأغنياء أو محتكرة بيد السماسرة، وحاجات الأفراد فيه سجينة لدى المستغلين. إذ لابد لإقامة حد السرقة من تحرير حاجات الناس وضمان ضروريات العيش الكريم لهم،  فإذا وجدت هذه الحاجات أو حررت كان الذي يتجرأ على السرقة إما ظالما معتديا يقام عليه الحد، أو منحرفا نفسيا وعصبيا يلحق بالمستشفى.وكذلك لا يجدي إقامة حد السرقة في مجتمع نظام الاجتماع فيه غير إسلامي علاقات الأفراد فيه فوضوية، وملابسهم ومآكلهم ومشاربهم بهيمية، وعواطفهم نحو بعضهم حيوانية.إذ لو كان المجتمع يعصر الخمر أو يشيعه بين أعضائه لما جاز إقامة حد السرقة على من يتناول خمرا أو مخدرا ثم يتجرأ على السرقة تحت تأثيرهما.
إن حماية الموطنين من مختلف الضغوط والانحرافات وإشاعة جو من النظافة الروحية والخلقية والاجتماعية وتنمية روح الجدية والشعور بالمسؤولية شروط ضرورية لإقامة حد السرقة''انتهى المراد منه.
 
رجع الحديث إلى القصاص:
فإذن غاية هذه الكلمة هو نصرة المبدأ القرآني, وبيان بعض حِكَمه في حُكْمه, أما تطبيقه حدا لهذا العهد فليس مما نقصده هنا أونتطلبه.
 
وبعد, فقد كنت قد قرأت كلمة ''لمركز حق الحياة'' فيما يزعمه أصحابها مناهضة لحكم الاعدام لأسباب تهافتت بها آرائهم و اضطربت فيها أوهامهم.
ولقد وجدت في دعواهم توثباً إلى القرآن, وطعناً عليه, واعتراضاً على معاني الحكمة والعدل في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . وإن هم لم يذكروه صراحةً فقد تناولوه تضميناً, وتقاصفوه تلويحاً, وذلك أن كل مبدء شريف, وخُلق عظيم, فالقرآن أولى به, وحارسٌ عليه, ومَعنِيٌ به.
 فكتبتُ هذه الكلمة في نصرةِ مذهبِ الاسلام وضَمنتُها إجاباتٍ على اعتراضاتِ المعترضين.
وقبل أن أنبعث في بيان بعض وجوه الاعجاز وأطرافِ الحكمة في الآية, أردت أن أُذَكر أولئك المتطفلين من أَدعياء الإسلام- الذين ما إن انفلتت هذه البدعة من عقالها في أجحار الغرب حتى ركبوا لها أجنحة النعام, و خفوا إليها, وطاروا بها في كل سماء, وطافوا بها كل  صقع, فلم يتركوا في الشرق قدر مفحص قطاة إلا أذاعوها به وأرسلوها فيه- بأن أهل أوربة إن كان عذرهم أنهم لا يفهمون الدين الإسلامي لأنهم ليسوا من أهله, فما عذركم أنتم أيها المُحَزِبون إذا كان هذا حكم الله -وهو عدلٌ- بحرفٍ صريحٍ لا مدخلَ فيه للتأويل, ولا مساغ له في القول والتشغيب.? وكيف بالله وسعت عقولكم تلك الصيحة, وتناهت إلي أسماعكم هاتيك الشنعة, ولم تبلغكم هداية الآية, ولم تأخذ مأخذها في نفوسكم, وهي على مرمى أدنى من موضع سجودكم?? فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
 وأنا أُقَررُ أن هؤلاء صنفانِ: صنفٌ في سبيلٍ من الجهل بالدين, وناحيةٍ من الافتتان بالغرب, تمده طبيعةٌ متبلدة, ونفس ميتة, وجموح إلى التقليد.
وصنفٌ من شُركاءِ القصابين والطعانين, عرفوا الحق فنصبوا له المشانق, وحشدوا له المدافع والبنادق, فهم وإياه في جِلادٍ دائمٍ ونِزاعٍ متصل.
وكلا الفريقين أفقرُ الناس إلى الرأي, وأبعدُهم عن مواقع الصواب ومنازل الحكمة, وحُججهم قائمةٌ على الترجمة ونَقل الآراء من الغرب إلى الشرق, إن هم إلا مسخٌ أو في ما يشبه المسخ, وإن أمةً من الأمم قد مُسخت وأخشى أن يكونوا منها بسبب.
 
وأما بعد, فالقرآن الشريف يقر القصاص -لا الإعدام ولا القتل- في كلماتٍ الهيةٍ حكيمة جامعة هي : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . فهذه الآية تَنتصبُ كعمودٍ من النور, يذهبُ نوره كل مذهب, ويتفرق شَعاعاً في كل مَسْرب, وتحترقُ فيه بعوض الشبهات وأباطيل أهله, فهذه الكلمة التي جهلها أغمار عصرنا, على شدة إيجازها, وقلة حروفها:
1- ارتفعت لتكون من الحياة سبباً من أسبابها, وعلةً من عللِ دوامها بِسِر التوجيه والارشاد, كأن الله يقول لنا على لسان الآية: إن في قتل البعض إحياءً للجميع, و في القَوَدِ معدنَ الحياة, ومن الفناء منبعَ البقاء.
2- إفادة كلمة قصاص ما يشعر بالمساواة في التقاص, وينبئ عن العدل والاستحقاق بخلاف مطلق القتل, كما أن (صيغة المفاعلة فيها ما يشعر بوجوب التحقيق وتمكين القاتل من المنازعة والدفاع ولذا لم يأت بالكلمة من اقتص مع أنها أكثر استعمالا, لأن الاقتصاص شريعة الفرد, والقصاص شريعة المجتمع).(4)
3- ويفضي بنا هذا إلى القول للمعترضين على القصاص بسبب الظلم الذي وقع في إعدامات البرآء من الناس: إنه لا يجوز جعل الأحوال الناشئة عن سوء استعمال المبدأ, ذريعة لتلويثه وطرحه, إذ أن الأمور التي تستحسن أو تستقبح في أحوال دون أحوال: ليست حسنةً عند العقل ولا قبيحة على الاطلاق حتى يتبين واضعها ومستعملها وزمانها وأحوالها.كذلك القصاص إذا استحق هذا الاسم حسن لما فيه من الحياة والانصاف وإذا وقع عليه اسم القتل بأمر يناقض هذا الاعتبار صار قبيحا لما فيه من تلف الحياة.
4- لم يسم الحق عز وجل العقوبة الحالة بالقاتل قتلا إذ القتل جريمة وعدوان على الروح, ولا تكون مداواة الجرائم بمثلها, بل سماه قصاصا تنزيها لشرعه عن مشاكلة الجناية ومشابهة الجريمة حتى في اللفظ, وهذا فن بديع في التعبير عن مباينة الألوهية في كمالها وعدلها, للبشرية في ظلمها ونقصها.
وبهذا وما قبله تسقط شبهة الثأر والانتقام في طبيعة القصاص التي يشغب بها المعترضون عليه.
5- اشتملت الآية على معنى لطيف, وطباق بديع, حيث جعل أحد الضدين الذي هو الموت والفناء, محلاً ومقراً لضده, الذي هو الحياة والبقاء, بإدخال (في) على لفظة القصاص, فتسمع الآية فإذا بخيالك ينتصب قائما فينسج لك صورة الحياة الناعمة وهي تستقر في حجر الموت الموحش في سكينة غريبة, كما ينام حمل وديع في حضن وحشٍ مُجَوعٍ ولا يضره شيئا. في حين أن كلمة اعدام أو قتل تشعر بالوحشة و ترمي بمعنى الفناء لأجل الإفناء واتلاف الحياة ليس وراء ذلك قصد إصلاح الناس, أو ردعهم عن القتل.
6- لا يمتنع أن تنطوي بعض النفوس على معنى الهم بالقتل الذي يستدعي وجود الارادة الباعثة عليه, فالآية تقوم في النفس مقام الضمير النفسي, والرادع المعنوي, لأن معناه: أن الانسان إذا عَلِم أنه متى قَتَلَ قُتِلَ كان ذلك رادعاً له عن الاقدام على القتل, والاستخفاف بالأرواح, فارتفع بالقصاص هرْجٌ كثيرٌ, واستبقينا به حياتين من وجهين: حياة القاتل الذي ارتدع خوفا من القصاص,  وحياة المهموم بقتله الذي صار كأنه استفاد حياته منه-أي من القصاص- وحَيِيَ به.
7-نُكِّرت الحياةُ لِتَسَعَ جميع نواحي الحياة وأشكالها غير مقيدة, فقد تكون حياة اجتماعية أو سياسية أو فكرية, فكأن الحياة تجدد أثوابها بذلك القصاص وتخلع البالي منها, فينزع من القلوب غلها, ويصطلم عرق الثأر من أصله, وتستصلح الأوضاع, وتستدرك الأخطاء.
8- جَنَح فريقٌ من القانونيين والاجتماعيين إلى الاعتذار للمجرم بحالته النفسية, أو تركيبه العصبي, أو علة في أوضاعه الاجتماعية أو ما جرى مجرى ذلك من أسباب أفضت به إلى عتبة الاجرام, وهذا ليس بشيء ولا برهان عليه, وليت شعري ماذا  بقي من معاني الاجرام بعد هذا الجَرْد??
 والأمرُ في حقيقته دائرٌ بين أمرين لا ثالثَ لهما:فإن كان المرءُ مجنوناً فاقداً لأداة العقل فهو مرفوعٌ عنه القلمُ, في حِل مما يأتي أو يذر في نظر الشرع والقانون, وحقه الحجر, أما إن كان عاقلاً راشداً فكلنا يعرفُ من نفسه كيف تُأتى صنائع البر, وكيف تُتقى مهاوي الردى, فالجدال في هذا الباب نوع من المماحلة والتزيد.
9- وأختتم هذه الكلمة بأن أشير إلى أن في قوله تعالى : وَلَكُمْ, إشارةً لطيفةً إلى العصبة المؤمنة التي صاغها الاسلام في قالب, وأقامها على هيئة, ووسمها بصفة, لا تكون في الوجود شيئا إنما فطرة الله وصبغة الله وأمة الله, وتلك العصبة هي التي يصلحها القصاص ويكون له المعنى العظيم في نفوس أبنائها والأثر الصالح على هيئتهم الاجتماعية, فإذا كانت الحال غير الحال, والهيئة غير الهيئة, والصفة غير الصفة, فلا حياة في القصاص, ولا معنى له -كما سبق في صدر الكلام-, إذ أن أحكامَ الشرع موصولٌ بعضها ببعض, منتظمةٌ كلها في سلكٍ واحد, كحبات الياقوت في عقدٍ يحوط جِيدَ غادةٍ- وبذلك كان كمال الشريعة وإعجازها, فإذا ما انفرط العقد انفرطت معه ميزة الشريعة التي هي في تناسقها وتكاملها وشد بعضها بعضا, وبقي منها ذلك السلك يحوط جيد الأَُمة وتناثرت حبات الياقوت حول أقدامها فهي لا تزال تسحقها وتدقها حتى لا تبقي منها حبة صالحة, وذلك تأويل قوله عليه السلام: ينقض الاسلام عروة عروة كما ينقض الحبل قوة قوة.
تلك تسعة كاملة, وربنا الرحمان المستعان على ما تصفون.
 
1 -أي ما بين 53 و54 وهما السنتان اللتان أنشأ فيهما المرحوم علال الفاسي فصول كتابه النقد الذاتي.
 2- ولا يخفى الفرق بين الحكومات التي منعت التعدد استهتاراً بحكم الله, و دعوة علال الفاسي هذه: المبنية على إقراره بحكمة التعدد, لكنه يمنعه ما دامت علة الظلم والجور قائمة في هذا التعدد العصري, إذ أن الحكم يدور مع علته نفيا واثباتا, ولذلك قال في آخر الفصل: ''إنني أقرر الرأي بكامل الاطمئنان النفسي الذي يمليه علي إيماني بأن شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان, ورجائي أن يكون في هذه الاعتبارات التي أبديتها ما يحقق تطبيق مبدأ الاصلاح الاسلامي بمنع التعدد مطلقا في هذا العصر, إقامة للعدل, وتقديرا للمرأة, وحماية للإسلام''.هذا وعلال الفاسي من زعماء الحركة الوطنية السلفية, تلك السلفية التي قامت يوما من الدهر في نفوس أصحابها مقام الوازع الذي يَكُف النفس عن التقليد, ويُزعج فيها الفكر فينتفض مُجَدداً, فإذا هي حركةٌ تستحث خُطى الاستقلال, ولا نعلم أي يدٍ عَدَلتها عن وجهتها الرائدة, ونكبت بها عن الطريق, وحثت في وجهها التراب??.
3- هو محمد بن يوسف أبو عبد الله المَواق, فقيه مالكي, كان عالم غرناطة وإمامها وصالحها في وقته, توفي سنة 897 للهجرة.(انظر الإعلام).
4- ما بين الهلالين قاله حضرةُ الأستاذ الأكبر مصطفى صادق الرافعي سقا الله ثراه في آخر الجزء الثالث من وحي القلم.

 1  2 

*عرض كافة التعليقات
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
مناقشة    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
دون أن أُرَجِّحَ رأيًا أو أرفضَ آخرَ ؛ أقول - ولا أبين خَفِيًّا أو أضيف جديدًا - : إن من الخطوط العريضة في أصول الفقه = أن من أدلة الأحكام ما هو متفق عليها ، وأنه متى وجد الدليل التفصيلي فيها لقضيَّةٍ فقهيَّةٍ كان التعويل عليه - دون سواه - في استفادة الحكمِ الْمُتَعَلِّق بها ، الحكمِ الذي لا يُنْقَضُ ؛ إلا إن عورض دليله بدليلٍ أقوى من حيثيتي الثبوت أو الدلالة ، دليلٍ من هذه الأدلة نفسها ، ولا شك في هذا التأكيد المعنوي لأن ما عداها مختلفٌ فيه ؛ فهو إذًا أَنْزَلُ درجةً ، وأنه متى عُدِمَ أو ضَعُفَ ثبوتًا أو دلالةً لَجَأْنا إلى المختلف فيها لُجُوءَ الْمُحْدِثِ إلى التيمُّمِ ، وسدُّ الذريعة منها ، نلجأُ إليه اعتضادًا لا استنادًا في الحكم الثابت بدليلٍ متفقٍ عليه ، فلا يمكن أن ينقضه بطريق الأولى ، لا ؛ بل سَأُسَلِّمُ لك بنقضه له ، ولكني سألزمك المثال ، فإن أتيت به فَلْْيَهْنِكَ الظَّفَرُ ؛ وإلا فَإِنَّا لن نُّقِيمَ من رَأْيِ عَلالٍ الفاسيِّ - رحمه الله - قاعدةً أصولِيَّةً .
قصارى القول - وهو لا شك مرمى الجميع - : أنا علينا أن نعمل إيجابًا بإصلاح مواطن العطب ، لا سلبًا بتعطيل أحكام الشريعة ، والله أعلم .
*محمود العسكري
30 - أبريل - 2007
رد..    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
أستاذنا  الدمنهوري, أدام الله أيامك, وأمتع بك, سلامٌ عليك:
 
لست لأدفع ما تقول, وليست وجهتي أيضاً في القطعي والظني من الأحكام, فالآية لا ريب قطعية الثبوت والدلالة معاً, ولا يقوم لها معارضٌ أصلاً.
لكنني بسبيل أمر أعظم وخطب أجل, إننا إذن نضعُ رأسَ القاعدةِ الأصولية في خَوذة ونُقيد منها الأيادي والأقدام معاً, فكيف تنمو وتساوق حوادث العصر.
ليست القاعدة في ما نحن فيه, إلا  حصاةً لا وزن لها في ميزان الوضع العام الذي ترتبك فيه المجتمعات الاسلامية, فلا يكون صواباً أبداً أن  نُردد قواعدَ أصوليةً وضَعَها أهلُها في زمنٍ كانت للاسلام فيه الكلمةُ العليا, والقوةُ النافذة, والسلطةُ القاهرة- ونحن في زمن دَرسَتْ فيه معالم الدين, واستولى التبديل والتغيير على الحق من الخلق, وصار الاسلامُ لفظةً في معجم, وأضحى القانونيون يتطيرون من ذكره,وما أمر تركيا الفتاة(وقد اكتهلت اليوم) عنا ببعيد..
وأصارحك أننا في وقتٍ لا أحدَ فيه يَعبأُ بالفقه الذي أُفنيتْ فيه الأعمار, وانحنت في تفريع أصوله الأصلاب, ولم تَعُد القواعدُ الأصولية إلا كالشيء يُباعُ ويشترى جِزافاً بلا كيلٍ ولا وزن.
 قُلْ بالله..من من المشرعين في المغرب يلجأُ في تشريعه إلى مختصر خليل, ومن منهم في الكنانة يستخرج مواد القانون من الأم للشافعي, ومَنْ مِنْ هذا القطر يأخذ بما جاء في المبسوط, وتلك الناحية بالمحلى أو حاشية ابن عابدين..و يا خيبةَ الزمن بما ضيع المسلمون ولم يحفظوا..اللهم شيئا مما يسمونه الأحوال الشخصية وتكاد أن..
إنما الأمرُ أكبر أن يُدارَ على قاعدة أصولية لها اعتبارُها ووضعها متى ناسبَته آتت أُكُلَها, ودَرتْ دَرها, إننا في حال يتعينُ علينا وجوباً العودة بالاسلام إلى نصابه الأول وأصله المجرد, أي قبل عصر المدنية والتشريع وأخذه في التمدين العام- لأن أساس ذلك قد وهى معظمه وارتخى, وتفسخت عُراه وانتقضت قُواه, وعادت الجاهليةُ جذعةً, فلا مناص من تبدلِ الناموسِ وانعكاسِ النظامِ, وإلا لتَقَحمْنا خطةً من سوء التقدير, وفساد الطريقة, تجني -كما قلت- على الاسلام الجناية العظمى.
لا جَرمَ إذن أرمي بقلمي في ترجيح رأي مَن مَنعَ العملَ ببعض الأحكام القرآنية لهذا العهد مُتَلَمحاً عِلمَ المقاصد التي هي أرواح الأعمال, فما من حُكمٍ قرآني إلا وراءه حكمة ومصلحة متى انتفت تلك الحكمة, أو انقلبت هاتيك المصلحة إلى ضدها بجر المفاسد, وثلم الدين, تعين وقف العمل بالحكم.
ولأمر ما أمسك صاحب الشرع عليه السلام عن قتل المنافقين مع علمه بنفاقهم, وإنما لم يقتلهم مصلحةً لتأليف القلوب عليه لئلا تنفر عنه, وقد أشار عليه السلام إلى هذا المعنى بقوله لعمر: (معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي) متفق عليه. مع أن العلماء عن بكرة أبيهم مجمعون أنهم زنادقة, وَحَدهم مَعلوم, وإنما لم يفعل عليه السلام للعلة التي أشرت إليها أول الكلام : تلويث الإسلام. فلا ينبغي تناول النص بمعزل عن مقصده.
ثم لا يُفهم من هذا أنها دعوةٌ إلى التجرد من الشرع جملةً واحدة, بشرائعه ومُثُله وأخلاقه..لا أبداً.., ولكنها نَهْجُ سبيلٍ إلى التمييز والنظر, وفَتْقُ طريقٍ للذهن والفِكَر, وأخذٌ بفقه الموازنة بين المصالح والمفاسد, واعتبار الأحكام بالحِكَم والمقاصد , ولا يَبعُدُ أن يكون اصلاحُ العطب أحياناً بالسلب لا بالايجاب, الذي يفضي بعدُ إلى الايجاب بعد السلب.
وقد ضربت لذلك مثالين (مثال التعدد والسرقة) وأراهما يفيان بالمعنى المقصود من هذا الأمر. والله أعلم
 
 
 
 
*طه أحمد
30 - أبريل - 2007
تحرير محل النزاع    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
التعدد هو محل النِّزاع ؛ فكيف نورده مثالاً ?! ، هذا دورٌ باطلٌ ، أما عن قصة ترك عمر - رضي الله عنه - لإقامة الحد على السارق خوفًا من هربه إلى صفوف الأعداء ؛ فهذا شاهدٌ في صفِّي ، لأن عمر - رضي الله عنه - لم يُفْتِ بترك إقامة حد السرقة مطلقًا ، وإنما أفتى به في حالة خاصَّةٍ لها اعتباراتها التي تحيط بها ، وهذا لا ننفيه في التعدد ، ولا في أي حكم عامٍّ مثله ، فقد نمنع شخصًا من التعدد لِعِلْمِنَا - مثلاً - بفقره ، لأنه لن يقوم بحقوق إحداهن إلا بالجور على الأخريات ، فهناك إذًا فرقٌ بين إلغاء الحكم العام ، وبين استثناء فرد منه ، فالأول ما نمنعه ، والثاني ما نبيحه . وأما عن قصة عدم قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - للمنافقين ، فإن هؤلاء المنافقين هم الذين لم يعلم الناس بمعاداتهم للإسلام وكيادهم له ، وإنما هم يعلمون أنهم من صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنصاره وأشياعه ، ومن هؤلاء المنافقين أيضًا من لم يكن عاملاً على توهين الإسلام وزعزعة بنيانه ، وإنما كان نفاقه في قلبه ، وأنت تعلم أن من الصحابة من كان يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه : أهو من المنافقين أم لا ? ، وخلاصة كل هذا الكلام في سؤال قصير : أين الدليل الوارد بقتل المنافقين الذي خالفه النبي - صلى الله عليه وسلم - سدًّا للذريعة ? ؛ لا دليل ، فهذا الشاهد أيضًا خارجٌ عما نحن فيه ، والذي نحن فيه ؛ أي تحرير محل النِّزاع : حكم عام ثبت بدليل متفق عليه ، ألغي بدليل سد الذريعة إلغاءً كُليًّا ، أي أن الإلغاء استقصى جميع أفراده ولم يقتصر على بعضها ، = هل في الفقه الإسلامي من ألفه إلى يائه مثالٌ على هذا ? .
وأخيرًا : لا شك بَعْدُ أن لديَّ ولديك كثير من الكلام الذي يمكن طرحه في هذه المحاورة ، وهو ما قد لا نستطيع الاستمرار فيه إلى الغاية المأمولة ، إلا أن هذه كانت مجرد تَكْمِلَةٍ مُوَضِّحَةٍ لكلامي السابق .
( ملاحظة ) أرسلت لك على عنوانك البريدي لوحة ، كنت سأنشرها في مجلس العمارة والفنون فلم أعرف الطريقة ، وفي زاوية الصور كان حجمها أكبر من المتاح ، ولعلها وصلت إلى بريدك بسلام .
*محمود العسكري
1 - مايو - 2007
تحرير التحرير    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
ليس خاصةُ التعدد عندي هو محل النزاع, إنما المناقلةُ متوجهةٌ على المبدأ العام الذي ضَربتُ له التعدد والسرقة العصريين مثالين يقويان صحة ما ذهبت إليه من منع العمل ببعض الأحكام القرآنية في بعض الأزمان لاختلال الوضع, ومخاوذة الخطاب القرآني لبعض أحوال المكلفين لهذا العهد.
وأنا أنْزِعُ مما أنت منه تنزع, وأدُس يدي فأسلبُك برفقٍ الشاهدَ الذي أردته في صفك ليطمئن إلى مكانه من صفي, فأنت تقول: عمر - رضي الله عنه - لم يُفْتِ بترك إقامة حد السرقة مطلقًا ، وإنما أفتى به في حالة خاصَّةٍ لها اعتباراتها التي تحيط بها ، وهذا لا ننفيه في التعدد ، ولا في أي حكم عامٍّ مثله ، فقد نمنع شخصًا من التعدد لِعِلْمِنَا - مثلاً - بفقره ، لأنه لن يقوم بحقوق إحداهن إلا بالجور على الأخريات ، فهناك إذًا فرقٌ بين إلغاء الحكم العام ، وبين استثناء فرد منه ، فالأول ما نمنعه ، والثاني ما نبيحه  ''.
وأنا مع الأستاذين الجليلين علالٍ ومطيعٍ, لم نزعم أن تَرْكَ الحكم يكون مطلقا, لا بل نقلت عن علالٍ رحمه الله ما يدل على التقييد بعصرٍ دون عصرٍ فهو يقول: ولذلك أرى أن تعدد الزوجات يجب أن يمنع في العصر الحاضر منعا باتا .
فأنت ترى تقييدَه للمنع بالعصر الحاضر, وأنا أدعوك بالتالي إلى اعتبار العصر الحاضر بالحالة الخاصة التي لها اعتباراتها التي تحيط بها, فقد تماثلت إذن الصورتان في المعنى العام, وإن افترقتا في الخصوصية الذاتية.
وجواب سؤالك عن الدليل الذي يفيد قتل المنافقين, بينما أعرض النبي عن قتلهم مصلحة وتأليفا, فانظر إن شئت إلى قول الحق: لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا .مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا . سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا.
وكذلك أوجه نظرك إلى أن وجوبَ قتلهم هو أيضا المفهومُ من مَنطوقِ عمر رضي الله عنه حين قال: يا رسول الله دعني أضرب عنقَ هذا المنافق. ولو لم يكن قتلهم أمرا مفروغا منه متقررا عندهم لما نطق عمر بهذه الكلمة بحضرة النبي عليه السلام, وثَبْتُ هذا: جوابُ الرسول لعمر بقوله: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه.  فلم ينكر عليه فعل القتل وإنما تلمح متناهياته في الناس, وسريانه في الأعراب, والقوم يومئذٍ حُدَثاءُ عهدٍ بإسلام, فإذا فشى فيهم الخبرُ تَزعزعَ اليقين الغَض, وتَطَرق إلى نفوسهم الشك المُتَلَبسُ, وتَنَادَوا جاهلين: إن محمدا يقتل أصحابه.(هذا وذو الخويصرة قد طعن على النبي في قسمته وعدالته, وقد قرر العلماء  أن مثل هذا يعد شتما يستوجب الحد ولو تاب صاحبه منه, انظر الشفا مثلا والصارم المسلول).
ثم دعني أخرق كُوتين بِقَدْرِ مَحْجِر العين في حائطنا الأصولي هذا, ونُرَقع تلك الكوتين بعيني وعينك, ثم نطلع معا إلى العالم الذي نريد أن نُسقط إليه هذه القواعد, ماذا ترى? لست ترى شُرَطَ بني العباس في البصرة يجوسون خلال الديار, ولا القاضي شريحا متربعا في مجلسه يُنْفِذُ ويقضي..لكنك سترى لا ريب وضعا آخر, يطول بنا المقام في ذكر موارده ومصادره, وأسبابه وعلله..
 
إنك إذا لم تُنزل سن الدولاب في محله المناسب من الآلة لم تُحسن تعمل, كما لا يجمل بك أن تُنزلها بأي محل عشواءَ, وكيفما اتفق, لا بل إذا تبَهْرَجَ التركيبُ لجأنا إلى حَل العُقَد, ونقْض بعض العُرى, لِعلة الاختلال وسُوءِ المُضطَرَب, ولِمُلاحَظة التنافُر, وقلة الملائمة, وضعف التلاحم. كالذي يُعالجُ اصلاحَ سلسلة دراجته اختل نظامُها, وفسد ترتيبُها, فإنه ربما رفع بعض العُقد من محلها, وقَدمَ وأخرَ بينها, وأرخى من هنا وشد من هناك, أو ابتغى لصدإ الحديد دُهْنا يَسلس به مرورُ العقد على السكة..ولا يزال يقارب ويسدد, ويلاين ويشدد, حتى تستويَ السلسة على أصلها, وتستقر تماما على متنها, فتدْرُج الدراجةُ على أقوم حال, وأعدل هيئة. أما  المضي هكذا, والسلسلة مُتدابِرَةُ المعاقد, مختبَلةُ المقاطع, فلا تلبث تخرج جملةً عن وضعها, وتفَرق شعاعا عُقَدُها, ولاتَ حينَ مناص.  
 
شكرٌ وثناء:
 
أستاذنا الكريم الدمنهوري أدام الله أيامه: لقد خصك الله بمواهب جمة من دقائق الفطنة وذخائر العقل, وإني لأرى فيك خيال العظماء, وعبقرية النبغاء, وليكونن لك بين العقلاء شأن, ولتبلغن من ذلك محلا ساميا, والله يحفظك ويحوطك.
أشكر لك هديتك الخطية الرائقة, وأثني عليك, ولم أكن أعلم أنك على درايةٍ بالخطوط وأصولها, متفننٌ في صنوفها وأنواعها, ولقد خف بي الطرب, وبلغ بي السرور منتهاه أن أرى اسمي موشى بأحلى صورة وأبدع زينة, وأُعجبت بنمط رسمه كل الإعجاب, وسأبعث بها إلى أستاذنا زهير لنشرها في زاوية الصور, فقد قعدت بي حيلتي في نشرها هناك.
 
 
*طه أحمد
1 - مايو - 2007
ابتهال وإزالة إشكال (1)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
أخي طه / هذا إطراءٌ كريمٌ نابعٌ من نفسٍ كريمةٍ ، لن أستطيع مقارضتَك بمثله ، ولكني أسأل الله لك ما تَمَنَّيْتَهُ لي من الرفعة والكرامة والتوفيق في الدنيا والآخرة ، ولم يكن من ضرورةٍ لأن تتعانى إرسال الصورة إلى الموقع مرة أخرى ، فما كنت أريد إلا أن يعلم الجميع مدى ما أُكِنُّه لك من محبةٍ وإجلالٍ ، وجزاك الله خيرًا .
وما دمت قد أحببت أن يستمرَّ النقاش بتعليقك السابق ؛ فقد وجدتني مضطرًّا إلى التذنيب بهذا التعقيب أيضًا ، ولكني قبل الشروع فيه أستأذنك في البداءة بهذا الابتهال لعل الله أن يجعله من الحسنات الماحية ما سيعقبه من لغو وهذر ولجاجة ما سوَّلتها لي إلا نفسٌ أمَّارةٌ بالسوء ازدهتها حروفٌ من العلم ربما شُبِّكت على غير وجهها ، فما اسْتَوْطَأَتْ مَرْكِبَ السَّلامَةِ ، بل ركبت متن الشطط ، وَلَكَمْ - ويحها - جَرَّتْنِي إلى موارد تلفٍ ومداحض زلقٍ ! ، كهذا المأْقط الْمَخْشِيِّ الْمُتَّقَى ، فارفع يديك معي : 
(( اللَّهُمَّ إِنَّا نَدْعُوكَ بِأَفْوَاهٍ مَا احْلَوْلَى فِيهَا الأَرْيُ إِلا بِذِكْرِكْ ، وَنَسْأَلُكَ بِقُلُوبٍ مَا تَجِبُ إِلا تَوْقًا لاسْتِيَافِهَا نَفْحَةَ عِطْرِكْ ، وَنَتَوَسَّلُ بِأَكُفٍّ ضَعِيفَةٍ لَهِيفَةٍ مَا لَهَا غَيْرُكَ مِنْ عَضُدٍ وَلا سَاعِدْ ، وَنَتَذَرَّعُ بِآمَالٍ يَتَخَوَّنُهَا الْيَأْسُ وَيَتَخَوَّذُهَا الْقُنُوطْ ، وَيَسْتَفِزَّانِ مُحَلِّقَ أَجْنِحَتِهَا إِلَى الإِسْفَافِ وَالْهُبُوطْ ، تَلُوذُ بِحِيَاضِ أَلْطَافِكَ الْمَشْفُوهَةِ الْمَوَارِدْ ، وَنَزْدَلِفُ إِلَى جَنَابِكَ عَلَى أَقْدَامٍ دَامِيَةٍ أَخَذَ مِنْهَا الأَيْنُ وَالرَّهَقُ وَالأَشْوَاكُ وَعَوَاثِيرُ الطَّرِيقْ ، وَنَتَذَلَّلُ بِأَيَادٍ آثِمَةٍ وَنَتَضَرَّعُ بِنَوَاصٍ خَاطِئَةٍ عَلَيْهَا - لِبُؤْسِهَا - مِنَ الشَّيْطَانِ وَالطَّوَاغِيتِ مَيْسَمُ الْحَرِيقْ ، جَمِيعُهَا أَمَامَ كِبْرِيَائِكَ وَجَبَرُوتِكَ وَعَظَمَةِ مَلَكُوتِكَ صُلْبُ رَاكِعٍ وَجَبْهَةُ سَاجِدْ ، فَافْتَحْ لِهَذَا الدُّعَاءِ مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ مَا هِيَ بِالإِجَابَةِ وَالْقَبُولِ مَحْفُوفَهْ . 
نَسْأَلُكَ يَا مُقَسِّمَ الْحُظُوظِ وَالأَرْزَاقِ أَنْ تُنِيلَنَا مِنَ الْعِلْمِ النَّافِعِ أَعْظَمَ نَصِيبْ ، وَأَنْ تَمْنَحَنَا مِنَ الْيَقِينِ الْمُطَمْئِنِ الْهَادِي فِي كُلُّ كُرْبَةِ شَكٍّ عَصِيبْ ، وَأَنْ تَعْصِمَنَا مِنْ أَن نُّسْلِمَ إِلَى أَهْوَائِنَا الْمَقَاوِدَ وَالأَزِمَّهْ ، وَمِنْ أَن نَّكِينَ لِمَصَالَةِ الطِّينِ فَيْقَطَعَ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرُّوحِ مِنَ الْوَسَائِلِ وَالأَذِمَّهْ ، وَأَلا تَقْطَعَنَا مِنْ حِلْمِكَ وَسَتْرِكَ وَعَفْوِكَ عَنِ الْحَبْلِ الْمَتِينْ ، فَيَا لِقُبْحِ السَّوْآتِ وَفَدَاحَةِ السَّيِّئَاتِ لَوْ انْزَاحَت طِّلاآتُ الطِّينِ وسَقَطَتْ أَوْرَاقُ التِّينْ ! ، وَأَنْ تَهَبَ لِعَزَائِمِنَا مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي لا تَهِي آسَاسُهَا ؛ فِي الأَمْوَاجِ الْمُتَتَايِسَةِ إِذْ تَخُونُ الزَّوَارِقَ أَمْرَاسُهَا ، وَأَنْ تُورِثَ قُلُوبَنَا الْحَلاوَةَ الَّتِي تُسْلِيهَا عَنْ كُلِّ طُعُومِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا ، فَلا تَطْمَئِنُّ جُنُوبُنَا عَلَى مِهَادِهَا إِلا إِغْضَاءً عَلَى قَذَاتِهَا ، نُعِيذُ مِشْكَاوَاتِ أَنْوَارِكَ - إِنْ طَرَدَ جُودٌ الْمَاتِحَ عَلَى ظَمَئِهْ - ؛ مِنْ أَنْ تَرُدَّ الْقَلْبَ التَّائِبَ عَلَى صَدَئِهْ ، إِنَّهَا إِنْ تُسْعِفْهُ لا تَدَعْ لَهُ مِنْ طَرِيقٍ مُظْلِمٍ وَلا دَرْبٍ مَخُوفَهْ . 
وَحَاشَ لِقَاصِدِكَ أَنْ يَطُولَ بِالْبَابِ ثَوَاؤُهْ ، وَلِسَائِلِكَ أَنْ يَضْطَرَّ إِلَى الإِلَحَافْ ، وَلِبَارِقِكَ أَنْ تَكْذِبَ أَنْوَاؤُهْ ، أَوْ أَنْ تَهْزُلَ الضُّرُوعُ وَالأَخْلافْ  ، مَا هِيَ يَا حَبِيبِي إِلا مَسْأَلَةُ الْمُدِلّْ ، وَاسْتِمَاحَةُ الْعَبْدِ الَّذِي كَوَاهُ الْحَنِينُ إِلَى الظِّلّْ ، فَإِنَّهَا لَوْلاكَ لَشُقَّةٌ بَعِيدَةٌ ، وَغَايَةٌ نَازِحَةٌ ، وَنُجْعَةٌ طَرُوحٌ ، عَلَى مَطَيَّةٍ لاغِبَةٍ وَرَمَقٍ مِنَ النُّورِ ، فَكُنِ الأَنِيسَ فِي وَحْشَةِ الطَّرِيقِ ، وَالْكَافِيَ فِيَ شُحِّ الزَّادِ ، وَالْقَمَرَ فِي لَيْلِ الْمُدْلِجِ ، وَالْمُعِينَ فِي وُعَثَاءِ السَّفَرِ ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ ، سُبْحَانَكَ ، إِنِّا كُنَّا مِنَ الظَّالِمِينَ )) .
هذا ؛ وقد أَدَرْتُ التعليقَ الآتِيَ على طريقةٍ من الاستفزاز مشاغبةً لك لا أكثر ، وأريدك أن تقرأه بالتمَهُّلِ والتمَعُّنِ وإِنْعَامِ النظر في صدوره وأعقابه أكثر من مَرَّةٍ ، فلا بد أنك واجدٌ فيه ما يَنْقَعُ الغُلَّةَ ويُذْهِبُ الْحَيْرَةَ إن شاء الله .
*محمود العسكري
3 - مايو - 2007
ابتهال وإزالة إشكال (2)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 

بسم اللـه الرحمن الرحيم

قضية المنافقين

المنافقون :-

جلاء شأن المنافقين : أن منهم من كتم الكفر في قلبه ، لكنه في الظاهر مع جماعة المسلمين ، وقائمٌ بشرائع الدين ، ولم يكن من شأنه تأريث نار الفتنة وإثارة نعرات الجاهلية ، ومنهم من كان كالأول في كتمان كفره وإسرار ضغينته وسخيمته ؛ إلا أنه كان يعمل على إضعاف المسلمين وتوهين صفهم بما وسعه طوق الإمكان من دعايةٍ مغرضةٍ ومقالات تثيرُ الشكوكَ وتقلقلُ الإيمانَ الغضَّ في بعض القلوب ، وكلا الفريقين يتحاشى جهده من افتضاح أمره وانكشاف كفره ومكره ، ومنهم من كاد أن يقعَ عند مواقف الامتحان ؛ كالذين انقلبوا مع ابن سلول في أحد ، والذين تخاذلوا عن المضي إلى الجهاد في غزوة تبوك ، والذين أيقظوا الفتنة يوم المريسيع ...

الآيات الفاضحة للمنافقين :-

... وقد فضح الله المنافقين في كتابه ، وأنزل من الآيات الكاشفة لما يبطنون من الكفر والحنق على الإسلام ؛ ما لعلهم يرتدعون به عن حمأتهم العفنة ، ويرعوون عن مرعاهم الوبيء ، فيستَوْبِلُون عاقبة أمرهم ، ويستقِرُّ الإيمان في قلوبهم إذا ما علموا أن الله مطلعٌ على نوايا القلوب وخبايا الصدور وما يُدَبَّرُ بِلَيْلٍ ، والآية التي ذكرْتَها هي من هذا القبيل ، فمن البيِّن أنه ليس فيها أمر بقتل المنافقين وإنما هو تخويفٌ وتهديدٌ لهم بأن الله سوف يفضح مساعيهم الخبيثة ، ويسلط عليهم نبيَّه والمؤمنين ، إن لم ينتهوا …

ما الدليل على الكف عن قتلهم ? :-

… ومع كفرهم وإفسادهم ؛ إلا أنه لم يكن من سبيلٍ أمام النبي r إلا أن يعاملهم بظواهرهم ، فهو وإن كان يعلمهم ، وإن كان بعض الصحابة استنشى منهم ريح النفاق ؛ إلا أن الآخرين من المسلمين والكفار لا يعلمونهم ، وما يرونهم إلا من المسلمين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وسيوفهم بإزاء سيوفهم في سبيل الله تجاهد ، أَوَكان يبقى المنافقون في المدينة مع المسلمين ؛ والمسلمون يعلمون أنهم منافقون كفرة ، ومع ذلك يعاملونهم ويبايعونهم ؛ وتصلهم بهم حبال الحياة وحاجاتها ?! ، ولو أنهم أتوا كبيرة من الزنا أو السرقة أو القذف أو تطاوُلِ أحدهم على النبي r بكلامٍ بذيءٍ ( وسيأتي الكلام على قصة ذي الخويصرة ) = لأقام عليهم النبي r حدود الله ، ولم يكن من ضيرٍ في ذلك لأنهم من جماعة المسلمين ، أَمَّا أن يقتلهم - وهم لم يأتوا بما يستوجب القتل في أعين الناس - فذلك أمر يستوجب التفسير ، فبأي شيء يفسر ?! ، إذًا سيكون نارًا من الشك تأتي على الإيمان الغض في قلوب الحدثاء فتذره هشيمًا ، فلذلك كان من البدهي ألا يأمر الله - عز وجلَّ -  نبيَّه r بقتلهم ، فعدم الأمر من الله هو الدليل أصلاً وهو العلة ، والعدم هنا يرجع بالأمر إلى النهي ؛ لأن الأصل في الدماء الحرمة ، لا إلى الإباحة وتَرْكِ الأمرِ إلى اختيار العقل كما قد يتوَهَّمُه قاصرٌ ، وتخيَّل نفسك صحابيًّا - حشرني الله وإياك في زمرتهم - في المدينة النبوية ، هل كنت تجد جموع الصحابة تتحادث وتتحاور في هذا الجدل الدائر بيننا ، وقد أخذ من اهتمامهم ذلك المكان العريض ، أم أن هذا التساؤل لا يكاد يطرح إلا في بعض مواقفَ مُريبةٍ تستفزُّ الغيورين كعمر - رضي الله عنه - ?! ...

سد الذريعة حكمة لا علة ( دقيقة مهمة ) :-

... أما كونه سدًّا للذريعة فهذه حكمة لا علة ، أي أنه أمر أشار به العقل بعد ثبوت الحكم ، ولم يكن هو باعثه ، ومن أين عرفنا ذلك ? ؛ مِنْ أَنَّ الأصوليين عند تمثيلهم لسَدِّ الذريعة يقرنون مثال عدم قتل المنافقين بمثال النهي عن سب الطواغيت ، فهل سبق أمرٌ من الله يقضي بسبِّ الطواغيت ? ؛لم يكن هذا ألبتة ، نعم يُبَيَّنُ زَيْفُها وبطلانُ عبادتها ، ولم يُشْرَعْ سَبُّها ، بل نُهِيَ عنه ، وهذا النهي المباشر هو مأخذ الحكم ، بخلاف ما سبق إيضاحه في قضية المنافقين ، فَيُتَنَبَّهُ إلى هذا الفرق ، إذًا فسدُّ الذريعة في كليهما هو حكمة لا علة ، وهذا هو ملحظ الأصوليين الذين أخرجوا سدَّ الذريعة من الأدلة كليَّةً ، وهم كثر ، وليس مقصودهم نفي أنه من الأمور المعتبرة في الشرع رأسًا ، فشنَّع عليهم من لم يفهم فحوى كلامهم ، ومنهم من أدخلها في الأدلة تغافُلاً منه - وليس غفلةً - ؛ لاعتمادِ كُلِّ ما يُمْكِنُ أن يُخَرَّج عليه من الفروع الفقهيَّة على أدلةٍ أخرى غيِره ، وهذه دقيقةٌ مهمَّةٌ ...

قصة ذي الخويصرة :-

... أما عن قصة ذي الخويصرة ؛ فأنا لم أفهم وجه إيرادك لها ، أتقصد أن النبيَّ r لم يأمر بقتله أو إقامة حدٍّ ما عليه سدًّا للذريعة ?! ، وذلك بعد غزوة حنين ، والإسلام قد ألقى على الجزيرة بِجِرانه ، ودخل الناس في دين الله أفواجًا ! ، كان في وسع النبي r أن يقيم عليه الحدَّ المناسب - غيرَ مُتَّهِمٍ له بكُفْرٍ ولا نفاقٍ ، بل كما رَجَمَ الزُّناةَ ، وقطعَ يد السارقة -  للكبيرة التي اقترفها بتطاوله على حضرته الشريفة ، ولكنه حلم النبي r ورحمته ورأفته وخلقه العظيم الذي لم يكن يحمله على الانتصار لنفسه ، صلى الله عليه وسلم  .

تلخيص :-

?   المنافقون كفار ، إلا من هدى الله قلبه فثبَّتَ إيمانه .
?   أن منهم من كان يسعى لتوهين الإسلام ، ومنهم من لم يكن كذلك .
?   أنهم جميعا كانوا يحاولون جاهدين التكتم والتستر وعدم البوح والجهر بكفرهم وكراهيتهم للدين .
?   أن منهم من كاد يفتضح أمره ، أو لِنَقُلْ : من صدر منه من القول أو الفعل ما يدعو إلى الريبة والشك .
?   أن اختلاطهم بالمسلمين ، وتخفِّيهم بزيِّ الدين ؛ كان يبعث الاعتقاد عند معظم الناس من الصحابة والمشركين بإسلامهم .
?   أنه لم يكن من سبيلٍ لذلك أمام النبي - صلى الله عليه وسلم – إلا أن يعاملهم بظواهرهم ، وأن يكل بواطنهم إلى الله .
?   أن الآيات الفاضحة لهم ، ما كانت إلا تهديدًا ووعيدًا للاتعاظ والازدجار ، وليس فيها ما يأمر بقتلهم .
?   أن الأصل في الدماء الحرمة ، ولذلك فإن عدم الأمر دليلاً وحكمًا يرجع إلى النهي كذلك .
?   أن سد الذريعة حكمة لا علة ، تطلب بعد ثبوت الحكم ، ولا تكون هي المورثة أو الباعثة له .

قصة السارق الذي لم تقطع يده

... كيف تُسوِّي يا أخي بين الخصوصية الزمانية والذاتية ?! ، وما هي الاعتبارات التي أحاطت بالتعدد في العصر الحاضر ?! ، أما يوجد في عصرنا هذا من لديه من القدرة المالية والجسدية ولديه من العدل والرعاية لحقوق الزوجية ومراقبة الله تعالى ما يجعلنا نبيح له التعدد مثلما كان في عصر عمر - رضي الله عنه - سارقون تقطع أيديهم إذ لم يكونوا كصاحبهم في معركة ?! ، أم أنه إلى ما قبل سنة 1900 م كان كل من يعدد الزوجات على ذلك الوصف الحميد المذكور آنفًا ؛ فلم يحتج الفقهاء إلى إيقاف تنفيذه ?! ، لماذا نأخذ الجميع بجريرة الفرد ?! ، إن كنا نحن من سيضع الحكم لا الله فسنجيب على الفور : الشر يعم والخير يخص ، ربما كانت الاعتبارات من جهة المرأة ! ، إن التعدد ينافي كرامتها وتقديرها ! ، أنقول هذا انهزاميَّةً أمام الغربِ ! ، الغربِ الذي نزل بالمرأة إلى الدرك الأسفل ، فأسقطها وهي أجمل ما في الوجود في الأوحال ! ، أوحال الإباحية والشذوذ الجنسي ! ، إن من نسائنا العاقلات من تأذن لزوجها في الزواج بأخرى عند تأخر إنجابها ، وربما كانت هي من تبحث له عن ضرتها ! ، وإن كانت المرأة تأنف أن يكون لها ضرائر ، وتعتبره جرحًا لكرامتها ؛ فقد أوجد الله لها مخرجًا بأن تشترط على زوجها ابتداءً عدم الزواج بغيرها ، وهو شرط صحيح أخذ به الحنابلة ، وهم مَّنْ تَوَسَّع في شروط النكاح ، وكثيرٌ من الفقهاء المعاصرين يرجحون مذهبهم في هذه المسألة ، والحمد لله ...

ضابط البعضية

... ثم ما هو ضابط البعضية ? ، أنت تقول : التعدد والسرقة ، وأنا سأقول على تفيئة ذلك : الزنا ، أو لأجامل ابتداءً وأقول : العادة السرية ( فيها قول لبعض الفقهاء الحنفية وأوردها مثالاً على الأرجح ) ، هل نقول : إنها مباحة ؛ لأن شبابنا أصبحوا أمام سيلٍ عارمٍ مفلوت الأرسان لا طاقة لهم به ?! ، وإلى الله المشتكى ، والزواج العرفي زنا ، فهل سنقيم الحد على جميع تلك الأرقام الكبيرة التي هي في تَنَامٍ ?! ، وسيقول آخر : التدخين ( وفيه أيضًا قول ) فهل نُأَثِّم السواد الأعظم من المسلمين بتحريمه ?! ، وسيقول غيره : حلق اللحية ( وفيه أيضًا قول ) ، وسيهتف بنا وبهؤلاء جميعًا هاتفٌ ؛ أين أنتم من ثلاثة الأثافي ?! ؛ ترك الصلاة ( لا أقوال فيه ) ، أنطالب بقتل نصف المسلمين إن لم يكن أكثر لإخلالهم بالصلوات - إذا لم يتوبوا - ?! ...

ما هكذا يكون الإصلاح ولا الدعوة

... لا يا أخي ، ما ينبغي لنا أن نعالج القضية على هذا النحو مطلقًا ، الإسلام دين كامل ، دين الأمس واليوم والغد ، والشريعة صالحة لكل زمان ومكان ، وأحكامها الفقهية لا بد أن تُقَرَّ ، ولا يجوز أن يمس حماها ألبتة فضلاً عن أن ينتهك ، مهما يكن عليه العصر من وهاء الدين وتردِّي الفضيلة وانحلال الأخلاق وتفاقم الشرور واستفحال بواعث العصيان ودواعي الفسوق ...

الغد المنتظر

... ثم ما الذي تنتظره في العصر بعد الحاضر ? ، أأن تقوم الحكومات الإسلامية ، وتستقيم الشعوب من جديدٍ على شرع الله ، فنبيح إذًا التعدد ونقطع يد السارق ? ، أما أنا فأنتظر وآمل وأرجو وأتمنى أن يكون الناس قديسين أبرارًا ، وأن تغدو العلاقة بين الرجل والمرأة وشيجةً سماويَّةً من نور الملائكة أطهر من ماء السحابة ، ولكن كلا الأمرين لن يتحققا ، وقد يتحققان ، ولكنه أمر في رحم الغيب لا نعلمه ، فهل نوقف أحكام الشريعة ونرجئ البعث أو الميلاد إلى ذلك الميعاد المعدوم أو الموهوم أو المرتقب عند خروج المهدي ? .

لا شيء اسمه : مواكبة الإسلام لروح العصر

نعم الإسلام يواكب روح العصر ؛ يعني : أنه لا ينبغي لنا أن نقف مُتَخَوِّفين حذرين من مستجدات الحضارة من المخترعات أو النُّظُم أو أنماط الحياة أو التقاليد الاجتماعية المستقلة عن الدين ، لا كما كان يقف بعض المتمشيخة الجامدين في عصور التقليد ؛ فيحرمون على المرأة القراءة والكتابة  ، ويحرمون ركوب السيارة  ، وسماع المذياع ، ولبس الساعة ، ويحملون عوضا عنها المزولة في جيوبهم ، هذا هو معنى الكلمة لا أكثر ولا أقل .

جدل عقيم

الدراجة لا تدرج رأسًا ، ولا تجدف حتى ، وليس إقرار الشريعة هو ما سَيُكَلِّفُها مِشْيةَ الْمُسَلْسَلِ ، الأمر لم يعد بيدي ولا بيدك ؛ فنتجادل في إثبات أو نفي التعدد وحَدِّ السرقة ، الأمر بيد عمرو ، بيد الطواغيت ، بيد الأغلال والأرباق ، بيد عصا الراعي الضرير ، هم في غنًى عن كل ما نقوله أو يقوله غيرنا ، نحن نثبت أحكام الله ونصدع بها ، وعلى من يخالفها من الأفراد أو الجماعات الإثم والوزر أمام الله ، وحسبنا نحن أمام الله ذمةٌ بريئةٌ ...

إذًا

فعلينا أن نعمل جاهدين على إصلاح هذا الوضع المختل الشائه من كل جوانبه ، على تنقية هذه الأجواء المغبرة الملوثة ، على تنوير هذه الظلم الملتاثة ، وأن نبذل حتى الْمُدَّ وشِقَّ التمرة والخردلة من وُسعِنا وطاقتنا وقوتنا في سبيل أوبة الفجر ، بالدعوة إلى الله ، وتقرير توحيده ، وبيان شريعته ، وجلاء ما فيها من محاسن المقاصد ونبيل الغايات ،  وأنها هي الطريق الوحيد لسعادة البشرية على هذه الأرض وفي هذه الدنيا ، نعمل ذلك كله وليس علينا – ونحن نرجو أن نكون ممن يأرز إليهم الدين - ولسنا في حاجةٍ من ثَمَّ إلى التملُّقِ بإضفاء الشرعية على هذا الواقع السيء بمثل هذه الأقوال أو بمثل هذا المقص الذي يتحيَّفُ الشريعة ويخرق ثوبها إلى الحد الذي نخشى أن يتَّسع على الراقع .
أريدك يا شيخ طه سلفيًّا في فقهك ، سلفيَّتَك في أدبك ولغتك ، ويأخذ الله بالأيادي إلى بر الأمان فيما يعثر فيه العقل والعلم ويضطرب فيه الإيمان واليقين .
*محمود العسكري
3 - مايو - 2007
تُكأةُ الاشكال    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
وهذه يدي ممدودةٌ بالدعاء, ولساني لاهجٌ بالتأمين, فاللهم استجب.
وبعد:
فلقد أُثبت بعضاً مما استنزفتَ فيه البحثَ من شأن المنافقين, وإن كان ليس أصلَ المفاوضة ابتداء, على أن ضُعف المثال المضروب ليس دليلاً على سقوطِ المبدأ, فتأمل.
 لكن يبقى عليكَ فيه أمرُ ذي الخويصرة من جهةِ استدلالي بالمفهوم من المنطوق, وجهة تعليلك لإمسكاك النبي عليه السلام عن قتله ومَنعِ عُمرَ من ذلك فإنه يكادُ يكونُ رجماً بالغيب, وقولاً بالحَدْس, ولي في هذا المقام كلامٌ ليس هذا موضعُ بسطه.
ولأشُدن الحبلَ هذه المرة حتى يستويَ البحثُ كما ينبغي على أصله, وأرد المُنتَشِرَ من هذا الشَعاع إلى فصله, فإن الكلام إذا حُرك تشعب, وعنانُ الأفكار إذا أُرخي أخَذَ في كل مذهب, فها أنا ألُم شعثَ المتفرق, وأوجه النَظرَ إلى القصد الواحد, حتى نَلزمَ طريقاً واضحاً, ومَهْيَعاً معروفاً.
فأقول:
إذا ثبتَ عندي وعندك- أن الشارعَ قد قصد بالتشريع إقامةَ المصالح الأخروية والدنيوية, ورَتب ذلك على وجهٍ لا يختل لها به نظام, لا بحسب الكليات ولا بحسب الجزئيات- وسواء في ذلك ما كان من قبيل الضروريات التي يتعلق بها حفظ الضروريات الخمسة -سواء من جهة الوجود كالعبادات أو العدم كالجنايات-, أو من قبيل الحاجيات كالمعاملات أو من قبيل التحسينيات وتجمعها مكارم الأخلاق- فإنها إذا طرأ عليها من غيرها ما يختل به نظامُها, ويتبهرجُ في المجتمع أصلُ وضعِها, لم يكن التشريعُ موضوعاً لها, إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد, لكن الشارعَ قصدَ بها أن تكونَ مصالحَ على الإطلاق, فلا بد في تحقق القصد: أن يكون وضعها على النصاب الأول.
على أنني أقرر هنا أنه لا يلزم من اختلالِ بعض الضروريات أو ابطال العمل بها, اختلال الحاجيات أو التحسينيات أو ابطالها, لكنها تتأثر ولا ريب لِعِلة التشابك.
وهذا التشابك بين هذه الأمور الثلاثة إنما يدل في حقيقته على كمال النظام في التشريع وتناسقه وتلاحم أجزائه, حتى كأن بعضَها يأخذُ بحُجَزِ بعض, فإذا مس الخللُ بعضَها تَطَرق إلى كل جزئياتها.
كما أن هذه الشريعةَ المنزهةَ ليست تكاليفُها وأحكامُها موضوعةً كيفما اتفق, لمجرد ادخالِ الناسِ تحت السلطةِ الدينية, بل وضعت لتحقيقِ مقاصدِ الشارع في قيام مصالحهم في الدين والدنيا, وروعي في كل حكمٍ منها حفظُ: النفس, والدين, والعقل, والنسل, والمال, والتي هي أساس العمران الانساني المرعية في كل الأمم. فإذا كان ذلك, فلا يكفي النظر إلى خطاب الشارع دون الإحاطة بالواقع الذي هو موضوعه, ولا تنفع تلك الإحاطة دون تلمح الكليات المقصودة, والمقاصد المطلوبة, التي هي روح التشريع.
فإذا صح هذا عُجْنا على غايتنا الأولى من هذا الكلام وهي مَنعُ العمل ببعض الأحكام القرآنية لهذا العصر, وضربنا لذلك مثالاً من الضروريات يتعلق بالجنايات- التي تحفظ المصالح من جهة العدم أي ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها- وأزيد المثال بياناً إلى بيان: كيف يقام حد السرقة على رجل سَرَق ما ربا عن ثمن المجن- وثمن المِجَن لعهد النبوة ربعُ دينارٍ فصاعداً- أو على مذهب من قال تقطع في القليل والكثير من الظاهرية- كيف يحد هذا السارقُ في مجتمعاتنا الاسلامية والنظام فيها رأسمالي مُذْهَبُ البركة مُسْحَتُ النماء, والربا من قوانينها الثابتة, والمعمول بها ضرورة, وهذا عين السرقة والاحتيال على الناس, وأكل أموالهم باطلاً وإغلالاً. كما لن يؤتي التشريعُ ثمارَه الناضجةَ اليانعة, وغَلتَه المرجُوة النافِعة, بين يدي نظامٍ سياسي مبني على المبدأ الطبقي المتشبه بإحدى الأمم في مقالته: إنا كنا إذا سرق منا الشريف تركناه, وإذا سرق الوضيع قطعنا يده, ولك في بعض البلاد العربية مثالٌ وعبرة, فأَعْمِل الفكرة.
فإذا نحن ذهبنا نقيمُ الحدودَ ألبسناها لَبْسَةَ الحرج والعَنَت, وأصل أمرها الرفق والسماح, قال الحق: (وما جعل عليكم في الدين من حرج), ووصفناها بضد ما يستحسن منها لو حلت في محلها, وصدرت عن وردها, فصار هذا الواجب الضروري غير صافٍ في النظر الذي وضعت عليه الشريعة.
 
الخصوصية الزمانية والذاتية:
أما اعتراضك عن التسوية بين الخصوصية الزمانية والذاتية, فلا وجه له لأن الزمان فصول انطوت على أحداث ووقائع فهو بهذا الاعتبار في الحقيقة حمل لعلل الوقائع السابقة( قضية عمر والسارق مثلا) على علل الوقائع الحادثة( كالسرقة لهذا العهد مثلا) مع اختلاف في الذاتية كما سبق.
وأنت كما ترى توَجَه رَدكَ على مثالِ التعدد لا على المبدأ نفسه, فاستغرقتَ سطوراً طويلةً دون نقضه, وبقي الاشكال الذي تزعمُ رفعَه قاعداً, بل متكئاً على أريكته, لأن الأمثلة غير متناهية, فأهْوَنُ عليك أن تُبَهرِج المبدأَ ابتداء, فتكفي نفسك مؤنة ما يتعلق به, لكن هيهات فالعلة العقلية فيه ساطعة, وليتك تفعل فتكون قد استنقذتَ أخاكَ من الحيرة, والاضطراب الذي لا مساك له.
على أن معظم الذين يُعددون من البؤساء والفقراء أهل العَوَز والعَجْز, والأقلية أهل السَعَة والطراوة والغضاضة, والغالب الأكثري معتبرٌ في الشريعة اعتبارَ العام القطعي, لأن المغلوبَ الأقلي لا ينتظم منه كُليٌ يعارضُ هذا الكلي المتعاظم.
 
ما سميتَه ضابطَ البعضية:
وهذا له حظٌ من التفصيل بعد الاقرار بالمبدأ,إذ أنه يخضعُ لنَقدِ أهل النظر الصحيح والفقه بأصول التشريع, وأمور الاجتماع, فليس الأمر فيه موكولاً للأهواء تَنتهِبُه انتهاباً, ولا إلى المنازع الشخصية أو العقول الخاوية تَتَخَلى له فتديرُه على نمطٍ من الفوضى. على أن عُظْمَ ما جَلَبتَه من الأمثلةِ ليسَ من باب التشريع الذي نحن بصدد منه, وإنما يدخل في باب الأحكام الفقهية التي يتعلق بها الوجدان العام, والاختيار المذهبي الذي يختص بالأفراد, ولا يرقى لأن يدون في القانون الجنائي وغير الجنائي, كجَلْدِ عُمَيرة, وحلق اللحية, وأين هذا مما نحن فيه.
وإنه لمجدرةٌ أن أشير إلى أن هذا المنع نفسه ليس شيئاً إلا خطاب الشرع -اجتهاداً ممن قرره طبعاً من أهل العلم- إذ أن الشريعة تراعي المصالح فهي حين تمنع على لسان الفقيه بالاجتهاد تطيبق حكمٍ شرعي للمفاسد المترتبة على اِعمالِه, فإنها في الحقيقة تعملُ عملَها المنوطَ بها في تلك الحالة سواء إيجاباً للحكم, أو سلباً له, إذ أنها مُراعى فيها مجرى العوائد المستمرة, فهي مادة المرونة والسلاسة, لا الجمود والصلابة.
 
وليس علينا:
ومبدأ (وليس علينا) هذا: هو جرثومة التقليد والخمول, ومبعث الاخلاد والركون, وكيف تستمرئه النفسُ وما أحمضَه, وعلى أي كاهلٍ تحملُه وما أثقلَه, وبأي مأخذٍ مِن الفكر تستجيدُه وما أبردَه, فليس على الضَعَفَة أملسُ منه ملمساً, ولا على الخامدين ألينُ جِلداً, لأنه مادةُ :متنٍ وشرحٍ وحاشيةٍ ثم ليس بعده إلا متن وشرح وحاشية.
 
 
 
*طه أحمد
4 - مايو - 2007
تعليق أخير    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
t حِلْمًا ورِفْقًا وصَدْرًا أرحبَ يا أستاذ طه ، واسمح لي بالتحدُّثِ عن نفسي قليلاً : لقد كان هذا الحوار مُفيدًا جِدًّا بالنسبة لي ، بغَضِّ النظر عما انتهى إليه من اتِّضاحِ خَطَأِ أو صوابِ ما كُنْتُ أقوله ، أَعْمَلْتُ فِكْرِي ، أَثَرْتُ معلوماتي ، مَرَّنْتُ قلمي ، مَارَسْتُ النَّقْدَ ، حاولْتُ التحلِّيَ بأَدَبِيَّاتِه ، نَظَرْتُ في عَدَدٍ من الكتب لم أنظر فيها منذ مُدَّةٍ . أَنْتَ تَعْرِفُ أن معظم الموضوعات التي تنشر في مجالس الوراق يُمْكِنُنَا القول : بأَنَّها من قبيل الثقافة العامة ، أو من ضِمْنِ الاهتمامات المشتركة ، أو من تلك التي لا تَحْتَمِلُ الكثيرَ من وجهات النظر الْمُتَبَايِنَةِ حَوْلَهَا ، لِذَلِكَ ؛ فقد كان موضوعُك فريدًا . وبالنسبة لي أيضًا = فإِنَّ الوقتَ ما زال مبكِّرًا لِكَيْ آسِرَ نفسي بعقيدةِ الولاءِ والبَرَاءِ ، ما زِلْتُ على الساحل ، ولَسْتُ بذلك الفقيه أو الْمُفَكِّر : الناسُ رَهْنُ الكلمةِ الواحدةِ التي يقولُهَا كيما تُطاعَ وتُتَّبَع ، أمامي الكثير من الطرق والدروب ، والنِّحَل والمذاهب ، والألوية والرايات ، ولَسْتُ مُضْطَرًّا الآن إلى أن أَحْجُرَ على نفسي فَأَسْلُكَ واحدًا منها بعينه ، أو أن أعتنقَه ، أو أن أنضويَ تحته ، جميعُ ما قُلْتُه هنا في هذا الموضوع سَأَضْرِبُ عنه صَفْحًا ، وسَأُومِنُ بفِكْرَتِكَ  ، وأُنَافِحُ عنها وأُحَامِي ، سَأُلْقِي بالشكِّ في كل ما كان لديَّ من الْمُسَلَّمَاتِ والثَّوَابِتِ ، وأُعِيدُ النَّظَرَ فيها من جديدٍ ، سأَكْتُبُ مِثْلَ شِعْرِ امرئ القيس ، وآخرَ مِثْلَ شِعْرِ أدونيس ، الشكُّ طريقُ اليقين ، والجهلُ سبيلُ العلم ، والسَّلْبُ يُؤَدِّي إلى الإيجاب ، وما يزال الوقت مُبَكِّرًا عند العاقل ما دام على قَيْدِ الحياة .
t أما بخصوص موضوعنا ؛ فأوَّلاً : سأستميحك العُذْرَ ؛ وأدعُوكَ إلى إعادةِ قراءةِ ما كتبناه أنا وأنت جميعًا بأعصابٍ أهدأَ وتروٍّ أكثرَ ، ولن أُكَرِّرَ ما قُلْتُه مرَّةً أخرى . ثانيًا : سأستثني من هذا الحكم هذه الفقرة التي سأَخْتِمُ بِهَا :-
t عندما نقول : (( الإِسْلامُ دِينٌ كَامِلٌ )) ؛ فَتَحْتَ هذه المقولة مَعْنَيَانِ يتفرَّعان عنها ، الأَوَّلُ : أنه صالحٌ لكل زمانٍ ومكانٍ ، فلا بُدَّ أن تُقَرَّ أحكامه ، ولا يجوز أبدًا أن تُمَسَّ ؛ مهما كانت الظروف والأوضاع . الثَّانِي : أن تَحَقُّقَ أهدافِه وغاياتِه من سعادةِ البشريَّة وتَكْريمِ الإنسانِ مَرْهُونٌ بالأخذ به جُمْلةً واحدةً ، بكُلِّ ما فيه كُلِّيَّاتٍ وجُزْئِيَّاتٍ ، وأَنَّهُ متى حصل الإخلالُ بهذا الشَّرْطِ فَإِنَّ العاقبةَ قد تكونُ وَخِيمَةً أكثرَ مِمَّا لو تُرِكَ الأَخْذُ به جُمْلَةً واحدةً ، ويُمْكِنُنَا أن نُّفَسِّرَ هذه العاقبةَ الْوَخِيمَةَ بقَوْلِنَا : كم مِّن الجرائِمِ تُرْتَكَبُ بِاسْمِ الدِّينِ ! ، ولذلك ؛ فنحن إذ نأمر بإقرارِ وتطبيقِ حَدِّ السرقة = لا نَأْمُرُ به رَاضِينَ بهذه الأوضاع الاقتصادية الشائهة التي قد تدفع إلى شَتَّى الجرائمِ وليس إلى السرقة فحَسْبُ ؛ بل نَأْمُرُ به مُطَالِبين بتَغْيِيرِها وإِحْلالِ اقتصادٍ إسلاميٍّ نظيفٍ عادلٍ يُحَقِّقُ مُسْتَوَى المعيشة الكريمة لكل طبقات المجتمع ، ونحن إذ نَأْمُرُ بإقرارِ وتطبيقِ التعدُّدِ = لا نَأْمُرُ به مُوَافِقِينَ على هذه العَلاقات الأُسَرِيَّة التي خَلَتْ من المودة والرحمة ، وتَوَتَّرَتْ بالاضطهاد والعنف ، وتَأَثَّرَتْ بالنظرات الشَّهْوَانِيَّةِ والمادِيَّة ؛ بل نَأْمُرُ به دَاعِين ومُقَرِّرينَ لصُورَةِ الأُسْرَةِ الْمُسْلِمَةِ بكُلِّ ما فيها من دِفْءٍ وحنانٍ وتَفَاهُمٍ ، ولصُورَةِ الزَّوَاجِ الإِسْلامِيِّ بكُلِّ ما فيه من عَدْلٍ واحْتِرَامٍ للحُقُوقِ وقيامٍ بالواجبات . إِذَنْ ؛ نحن نَأْمُرُ بإقرار أحكامِ الشَّرِيعَةِ كُلِّها ، وبتطبيقِها كُلِّها ، وَنَرْفُضُ أن يَحْصُلَ أَيُّ استثناءٍ في الإقرارِ أَوِ التَّطْبِيقِ .
t  إِنَّ كمالَ الإسلامِ لم يَكُنْ فقط من أنه حَدَّدَ ووَضَّحَ علاقةَ الإنسانِ بِرَبِّهِ بِمَا وَضَعَ مِنْ عقائدَ صافيةٍ وعباداتٍ معقولةٍ ، ولم يكن كذلك فقط مِنْ أنه وَضَعَ مِنْ أحكام المعاملات المالِيَّةِ والعلاقاتِ الأُسَرِيَّةِ والعقوبات الجنائِيَّةِ والتَّدابِيرِ السِّيَاسِيَّةِ ما يُنَظِّمُ علاقاتِ الأَفْرادِ بالأَفْرادِ والجماعاتِ بالجماعاتِ على أكمل الوجوه وأَتَمِّهَا ، لم يَكُنْ كمالُ الإسلامِ مِمَّا سَبَقَ فقط ؛ بل مِنْ أَنَّهُ تَخَطَّى هذه القُيُودَ والضوابط الظَّاهِرِيَّةَ التي تَخُصَّ الْجَوَارِحَ ، ونَفَذَ إلى الضَّميرِ والوجدان والعَوَاطِفِ الإِنْسَانِيَّةِ ، فخاطبَها وأَفْسَحَ لها مجالاً من حِسَاباته ، وألقى عليها من العِبْءِ ، وأَلْزَمَها من التكاليف ، وحَمَّلَها من الْمَسْؤُولِيَّةِ ؛ في سبيلِ هذه السَّعَادَةِ الْخَالِدَةِ التي تَنْشُدُهَا البشرِيَّةُ لِنَفْسِها ، وبدون الضَّميرِ والوجدان والعَوَاطِفِ الإِنْسَانِيَّةِ يتحوَّلُ الإسلامُ من دينٍ إلى قانونٍ ، والقانونُ مهما امْتَلَكَ - بإِحْكَامِه وإِتْقانه - من مُقَوِّمَاتِ الحياةِ والبقاءْ ؛ فإِنَّ مصيرَه القريبَ أو البعيدَ هو الموتُ والفناءْ ، لإنَّ عِظَمَ الشَّجَرَةِ لا يُغْنِي عنها من الرِّياحِ شيئًا ما لم تَكُنْ عَمِيقَةَ الْجُذُورِ .
*محمود العسكري
5 - مايو - 2007
الضرورات الخمس..    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
من أجل ثقافة السلام ... 
    سأنطلق في هذه المقاربة الأولية الهادفة إلى رسم معالم القيم المشتركة بين الأديان السماوية الثلاثة والتي من شأنها أن تساهم في إرساء ثقافة السلام في عالمنا المعاصر الذي يواجه الإنسان فيه تحديات شتى، سأنطلق من قضية أصولية، قضية تنتمي إلى علم أصول الدين في الإسلام: علم التوحيد أو أصول العقيدة. يتعلق الأمر بالبحث في مقصد الشرع من إرسال الرسل إلى الناس، والحال أن الله غني عن العالمين.
    وبما أن الأمر يتعلق برسل وأنبياء تعاقبوا منذ آدم، وليس برسول واحد، وبما أن الإسلام يدعو إلى الإيمان بجميع الرسل والأنبياء فقد عمد علماء أصول الدين في الإسلام إلى التماس الجواب لا من الدين الإسلامي وحده بل من جميع الأديان السماوية. وهكذا قاموا باستقراء الغايات والأهداف والمقاصد التي تشترك فيها الأديان السماوية والتي تبرر بعثة الرسل، فوجدوها ترجع إلى مبدأ واحد، وهو أن جميع الديانات السماوية إنما تهدف من وراء مختلف تعاليمها، أوامرها ونواهيها، إلى شيء واحد، هو مصلحة الناس، مصلحة البشرية كلها. ومن هنا برز الجواب عن السؤال الذي طرحوه: لماذا بعث الله الرسل? بعثهم من أجل أن يبينوا للناس منافعهم في الدنيا والآخرة.
هذا الجواب يطرح سؤالا آخر هو الذي سينطلق بنا مباشرة إلى موضوعنا. هذا السؤال هو: إذا كانت الديانات السماوية إنما جاءت لتقرير مصالح الناس، فما هي المصالح التي تشترك الديانات السماوية في تقريرها والدعوة إلى الحفاظ عليها.
    قام علماء أصول الدين إذن باستقراء المصالح التي تشترك الأديان الثلاثة في تقريرها فوجدوها ثلاثة أصناف:
1 - مصالح ضرورية لوجود الإنسان المادي والمعنوي وسموها الضروريات: ضروريات الحياة.
2 - مصالح يحتاج إليها الإنسان لاستقامة حياته ماديا ومعنويا وسموها الحاجيات.
3 - مصالح ترتقي بحياة الإنسان نحو مزيد من السعة والفضل والتحلي بكل ما هو مفيد وحسن، وسموها التحسينات.
    هناك فروق واختلافات بين الأديان الثلاثة في تقرير الحاجيات والتحسينات، ولكنها تتفق كلها في تقرير الضروريات، وهذا ما سنركز عليه هنا. وهذه الضروريات خمس وهي: حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ النسل، حفظ المال، حفظ الدين. وعليها تبني الحاجيات والتحسينات والتكميليات.
أعتقد أن من جملة الموضوعات التي يمكن أن يهتم بها الحوار بين الديانات السماوية الثلاث من أجل بناء تصور مشترك لثقافة السلام موضوع الضرورات الخمس المذكورة. ذلك لأن هذه الضرورات، أعني حفظ النفس والعقل والنسل والمال والدين هي أساس كل سلام وبدونها لا يتحقق السلام، لا السلام مع النفس ولا السلام مع الجار ولا السلام بين الأمم. وفي هذا الصدد أرى أنه بالإمكان تأسيس رؤية جديدة سلمية وسليمة للمشاكل والتحديات التي يواجهها الضمير الديني والأخلاقي في عصرنا، وذلك بالارتكاز على هذه الضرورات الخمس. وفيما يلي أمثلة:
    1 - ففي مجال حفظ النفس يمكن بناء تصور جديد لمفهوم "الحفظ" يستجيب لمتطلبات عصرنا. إن الأصل في مفهوم "حفظ النفس" هو كف الأذى عنها مهما كان نوعه، والإذاية التي تلحق النفس البشرية تمتد على مسافة واسعة، لا نهائية الصغر ولا نهائية الكبر معا: من الخبر المشؤوم والمنظر القبيح والكلمة غير الطيبة والتمييز بجميع أشكاله، العرقي والديني والاجتماعي والاقتصادي والحقوقي الخ… إلى التعذيب والقتل الفردي والإفناء الجماعي الخ… لقد شرع الله في الديانات الثلاث أن النفس بالنفس، ولكن ليس انتقاما ولا ثأرا، بل كبحا للميول العدوانية وردعا لها. فليس القصد الإلهي من "النفس بالنفس" أن القاتل يجب أن يقتل انتقاما أو ثأرا، بل إن القصد الإلهي أسمى من ذلك. إنه تنبيه للناس إلى أن الذي يقتل غيره أو يهم بقتله هو كمن يقتل نفسه أو يهم بقتلها. ولذلك قرر الشرع "وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ" (النساء: 92).
    يدور الحديث اليوم حول "أسلحة الدمار الشامل". ولكن ما هو "الدمار الشامل"? هل هو الذي تقوم به القنبلة الذرية وحدها كتلك التي ألقيت على هيروشيما ونكازاكي مثلا، أم أنه القتل الجماعي سواء كان بقنبلة تلقى باليد أو تطلق من الطائرة أو من الصواريخ الموجهة البعيدة المدى التي تقلق من البواخر الحربية أو كان بالغاز أو بالجراثيم الخ… إن حفظ النفس يجب أن يشمل ليس فقط نفس الفرد البشري من القتل الذي من هذا النوع الفردي والجماعي بل يجب أن يشمل كذلك، في نظرنا، توقيف العمل بعقوبة الإعدام، وهي عقوبة صار من الممكن الآن أداء القصد منها بالسجن المؤبد. فالسجن المؤبد لم يكن ممكنا في الأزمنة القديمة ولا في جميع المجتمعات، لأنه يتطلب وجود دولة تتصف بالاستمرارية في مؤسساتها وقوانينها مما يجعل من عقوبة السجن المؤبد حكما بالإعدام مؤجل التنفيذ إلى حين حلول الأجل المحتوم. ويجب أن يشمل مفهوم حفظ النفس ليس فقط نفس الفرد البشري الواحد، بل أيضا نفوس الجماعات والشعوب والأمم. ومن هنا ضرورة منع الأسلحة التي تؤدي إلى القتل الجماعي مهما كان مستواها ونوعها.
    باختصار تقرر الديانات السماوية الثلاث أن "الله خلق الإنسان على صورته". وحفظ النفس يجب أن يرقى إلى مستوى حفظ صورة الله، حفظها في الأفراد والجماعات والشعوب والأمم.
    2 - هذا النوع من الفهم لـ"حفظ النفس" يتطلب عقلا سليما، عقلا يعقل، يكبح ويحبس، الميول العدوانية في الناس مهما كان نوعها. ومن هنا ضرورة بناء فهم جديد لـ"حفظ العقل".
العقل في أصل معناه هو القدرة التي تمكن الإنسان من التمييز بين الأشياء، بين الخير والشر، بين الحسن والقبح، بين الصواب والخطأ. وكلمة "عقل" في اللغة العربية، كما في لغات أخرى، تفيد الكبح والتقييد، وعندما يوصف بها الإنسان فالمعنى ينصرف إلى أنه قوة كابحة للميول العدوانية مقيدة للشهوات الخ… بعبارة قصيرة العقل معيار يمكن الإنسان من التمييز بين الصواب والخطأ على صعيد المعرفة، وبين الخير والشر على صعيد الأخلاق، وبين الحسن والقبح على صعيد الفن والجمال.
    ومن خلال التمييز بين الصدق والكذب أو الصواب والخطأ، وبين الخير والشر، وبين الحسن والقبح تبرز وظيفة أخرى للعقل تأتي في الحقيقة كنتيجة، وظيفة التمييز بين النافع وغير النافع، بين المفيد وغير المفيد، بين ما يؤدي إلى النجاح وبين ما ينتهي إلى غير نجاح. وهكذا فالنافع في الأصل هو المبني على الصواب والصحة والخير والحسن. وغير النافع هو المبني على عكس هذه. ذلك هو العقل المعياري، العقل كما يذكره الدين ويمجده وتتحدث عنه الأخلاق وتشيد به، وهو الذي كانت له القيمة الأسمى في العصور الماضية.
    أما اليوم فنحن نشاهد العقل يتحول من معيار منطقي وأخلاقي إلى مجرد أداة حتى أصبح يوصف بالعقل الأداتي: مهمته تحقيق النجاح بدون اعتبار لأي شيء آخر، فأصبح النافع هو الحق وليس العكس. وبعبارة أخرى تعرفون مرجعيتها الفلسفية: العقل الأداتي هو العقل الذي يربط الحق والخير والحسن بالمنفعة والنجاح، شعاره كل ما يحقق النجاح فهو حق وصواب وجميل. ومن الطبيعي أن ينساق هذا "العقل الأداتي" مع شعار "الغاية تبرر الوسيلة".
    حفظ العقل عملية يجب أن ترمي إلى إعادة الاعتبار للعقل المعياري الذي شعاره: الحق هو النافع وليس العكس.
    الإنسان حيوان عاقل، بالعقل ينفصل عن الحيوان، ولكن في أي مجال? هل في مجال العمليات الحسابية الراقية وحدها التي يعجز الحيوان عن القيام بها، وقد أصبح الحاسوب يقوم بها? هل في المهارات اليدوية التي تبتدئ من الأكل باليد والفرشاة بدل تناول الطعام بالفم كما يفعل الحيوان? الروبوات تفعل ذلك وأكثر.
    3 - أعتقد أن أول واقعة سلوكية يتحقق بها انفصال الإنسان عن الحيوان هي الواقعة الطبيعية الأولى المعبر عنها بـ"حفظ النسل". الإنسان وحده يميز بين أولاده وإخوته وآبائه وبين غيرهم. الإنسان وحده يقال عنه إنه ابن فلان. إذن يمكن القول: الإنسان حيوان له نسب. أجل على الإنسان وحده تصدق العبارة التالية "النسب" "الأرحام" "الوالدين" "الحفدة" الخ… والإنسان وحده يبني لنفسه "مدينة" فهو حيوان مدني، اجتماعي، سياسي. كل ذلك يدخل في مجال الضرورة الثالثة ضرورة "حفظ النسل". ولكي ندرك أهمية هذه الضرورة في عالمنا المعاصر قد يكفي أن نتصور ما أصبح بإمكان التقدم العلمي القيام به في مجال البيولوجيا والطب، من أطفال الأنابيب إلى التدخل في الهندسة الوراثية إلى ما يعرف اليوم بالاستنساخ. ومنذ سنين ارتفعت أصوات بضرورة وضع أخلاقيات للبيولوجيا والطب، وأعتقد أن ضرورة "حفظ النسل" تتطلب فعلا وضع أخلاقيات في هذا المجال مجال حفظ النسل.
    4 - حفظ المال، والمقصود: الخيرات المادية بمختلف أنواعها والتي هي ضرورية لحياة الإنسان. وحفظها يعني حمايتها من الضياع والتبذير والاحتكار وسوء الاستعمال الخ.. لقد سنت الديانات السماوية قوانين لذلك بعضها على سبيل الأمر الملزم، وبعضها على سبيل الحث والندب والترغيب. ومعلوم أن الديانات السماوية تقرر أن المال مال الله، باعتبار أنه وحده خالق كل شيء ومالك كل شيء. وغني عن البيان القول إن الحث على التوزيع العادل للثروة أمر تشترك فيه الديانات السماوية، وقد شرعت لتطبيقه بأساليب متنوعة ومرنة بحيث يمكن تطبيقها في كل عصر حسب معطياته الخاصة.
    وما يتحدى عصرنا اليوم، على صعيد المال والاقتصاد، هو هذه الظاهرة التي يكثر عنها الكلام الآن، ظاهرة العولمة. العولمة ظاهرة حضارية جديدة، وهي كجميع الظواهر الحضارية لها إيجابيات ولها سلبيات. وأخطر سلبياتها في نظرنا هو ذلك المبدأ الاقتصادي الذي تقوم عليه والذي يتلخص في الشعار التالي: "أكثر ما يمكن من الربح بأقل ما يمكن من العمال". ومن هنا ظاهرتان خطيرتان: "تسريح العمال وانتشار البطالة من جهة، وتشغيل الأطفال والنساء" بأقل أجر من جهة أخرى.
    يمكن القول بصفة عامة إن اقتصاد العولمة يتجاهل الأخلاق إن لم يكن يتنكر لها. لقد ظهر ذلك واضحا في المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية الذي انعقد بسنغافورة في ديسمبر 1996، حيث رفضت معظم الوفود مناقشة قضية تشغيل 250 مليون طفل في العالم، أغلبهم بين السادسة والرابعة عشرة من أعمارهم. وقد انتهت المناقشات في هذا الموضوع بالمناداة بضرورة "الفصل بين التجارة والسوق، وبين معايير العمل والقيم الثقافية والاجتماعية".
نحن إذن أمام تنكر صريح للجانب الأخلاقي وللتعاليم الدينية، في ميدان العولمة الاقتصادية. يجب إذن "حافظ المال" والاقتصاد من هذا الاتجاه الخطير الذي يكرس مبدأ المال من أجل المال. ومن هنا ضرورة التفكير في صياغة أخلاق للعولمة يطلب لها الإلزام من ثقافة السلام.
    5 ـ حفظ الدين: وحفظ الدين من منظور ثقافة السلام يقتضي أولا وقبل كل شيء حفظ المنطلق الذي انطلقنا منه: أعني كون الديانات السماوية إنما تقصد إلى مصلحة الناس. ومن هنا يكون حفظ الدين معناه حفظ الضرورات الأربع السابقة: حفظ النفس والعقل والنسل والمال. وهكذا فإذا كنا قد وضعنا حفظ الدين في المرتبة الخامسة فمن أجل أن نجعل من الضرورات الأربع الأولى موضوعا له، وهل يهدف حفظ الدين إلى شيء آخر غير حفظ النفس والعقل والمال والنسل وما تفرع عن ذلك?
    ولكي يقوم الدين بوظيفته هذه يجب حفظه من داء الغلو والتطرف: التطرف في الدين يلغي وظيفة الدين التي هي حفظ المصالح ويجر إلى توظيفه في غير ما وضع له، بل إلى استعماله ضد النفس والعقل والنسل والمال.
    تلك في نظرنا هي القيم الأساسية المشتركة بين الديانات السماوية الثلاثة والتي يمكن انطلاقا منها تشييد ثقافة للسلام، تضمن السلام للإنسان مع نفسه ومع نسله وجيرانه، وتضمن للشعوب والأمم السلام والعيش المشترك في إطار من التعاون والتضامن.
    وأخيرا، دعوني أؤكد: ثقافة السلام هي، أولا وقبل كل شيء، ثقافة للسلام مع الله، وبالتالي فهي ثقافة للسلام مع خلقه، أفرادا وجماعات، ثقافة ضد التطرف سواء بدافع القوة الغاشمة، قوة السلاح وأساليب الهيمنة، أو باسم الدين، أعني ادعاء احتكار حقيقته". انتهى
**من حوار للجابري مع جريدة الأيام .
*abdelhafid
5 - مايو - 2007
***** *****    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
 
 * تأبطنا ألواننا هذا الصباح (أنا وندى) .. تفيأنا ظلالها الربيعية..فكانت هاتان البطاقتان ..  مع كامل المودة والمحبة .
 
 
Image hosted by allyoucanupload.com Image hosted by allyoucanupload.com
                  *عبد الحفيظ .                                                     *ندى .
 
 
 
* ملاحظة : تصر ندى على أن بطاقتها هي الأفضل !!!!!!!!  هل هذا صحيح ?
*abdelhafid
6 - مايو - 2007

 
   أضف تعليقك
 1  2