فتحت دراسة إدوارد سعيد حول الاستشراق آافق واسعة في مجال الدراسات الإنسانية والاجتماعية ، ولم تكن أهمية الدراسة نابعة من جدّة الموضوع في حدّ ذاته ، فقد أشبع بحثا وتنقيبا ، ولكن جاء منهج الدراسة متفرّدا بالاعتماد على آليات معرفية لم تكن البيئة العربية قد استأنست بها بعد ...
ومن حسنات هذه الدراسة أنّها مكّنت مجالات جديدة من البحث في العلوم الإنسانية من أن تأخذ لها مكانة على ساحة البحث الاكاديمي ، فطوّرت مفاهيمها وارست قواعد منهجها ، واصبح لها صرحا علميا ذا شاو في الجامعات الغربية على الخصوص ...
وهذا هو المطلوب ، إذ أنّ أهمية اي دراسة لا تكمن في حجم الإجابات التي تحاول أن تأتي بها ، بقدر ما ترتبط بشساعة مساحة الأسئلة التي تستثيرها ، مقلّصة بذلك فضاء " غير المفكّر فيه " داخل اي ثقافة ...
*****
وبالعودة إلى موضوعنا ، فقد قرات منذ مدّة دراسة في غاية الجدّة والطرافة ، ترتبط بنقد الرؤية الغربية الاستشراقية للآخر " الشرقي " على منهاج دراسة إدوارد سعيد ، ضمن ما يعرف حاليا بالدراسات ما بعد الكولونيالية Post Colonial Studies
الدراسة بعنوان : Supplementing the Orientalist Lack: European Ladies in the Harem
ويمكن ترجمتها بـ : محاولة تقليص هوّة الرؤية الاستشراقية من خلال اختراق السيدات الأوربيات لعالم الحريم
وهي دراسة للباحثة التركية مايدة ييغونوغلو ، يمكن الاطلاع عليها عل الرابط التالي :
********
تنطلق هذه الدراسة من بحث موضوع " وحدة " التصوّر الاستشراقي الغربي في مسلّماته واستنتاجاته حول عالم الشرق ...
إنّ هذه النقطة بالذات قد اثارت سجالا ، لا يزال صداه يتردّد في الأوساط الأكاديمية ، نقدا " لاتهام " إدوارد سعيد الاستشراق الغربي (الفرنسي والبريطاني على الخصوص) بإعادة إنتاج نفس المفاهيم والمناهج في دراساتهم للشرق ...
وتحاول باحثتنا أن تؤكّد أنّ التعميم لا يصدق فقط على المستشرقين المنتمين إلى فضاءات جغرافية وثقافية متنوعة ، بل كذلك على المستشرقات الاوربيات أيضا ...وهنا تكمن جدّة هذا الموضوع ..
فقد شكّل عالم الحريم فضاءً عصيا على الاختراق بالنسبة للمستشرق الغربي ، الذي عبّر في أحيان كثيرة عن حيرته وجهله أمام هذا الأفق الحصين "الممنوع من المعرفة " ... "forbidden zone"
إنّ الجهل بهذا الوسط قد استثار خيال المستشرقين ، واستثمر في وعيهم الباطن ، بشكل شهواني في احيان كثيرة ، يدلّ على ذلك كتاباتهم الادبية وابداعاتهم الفنية ...
هذا ما دفع لين Lane في دراسته الشهيرة حول " وصف مصر " إلى الاستعانة بأخته للنفاذ إلى هذا العالم ...
*****
وبعيدا عن تفاصيل الدراسة (التي يمكن الاطلاع عليها عبر الانترنت) فإنّ أهمّ ما تصل إليه يكمن في إعادة المستشرقات الأوربيات لنفس مسلّمات نظرائهن المستشرقين في رؤيتهم للمرأة وللحجاب وللحرية ولعلاقة الرجل الشرقي بالمرأة ، وهو تطابق عجيب على الرغم ممّا أتيح لهـــنّ من ولوج هذا العالم واستقراء دواخله ...
فهل يعدّ هذا مسمارا آخر يدقّ على نعش الاستشراق ، الراحل غير مأسوف عليه ?????
مع تحياتي
زين الدين
|