نقصد بالتراث العلمي العربي كل ما أبدعه العرب من أفكار ومكتشفات وطرق وخبرات في مجالات العلوم المختلفة والتي وضعت في مؤلفات وكتب ومخطوطات جزء منها محفوظ في المكتبات العربية والعالمية.ونعتقد أنه قد ضاع جزء كبير من تلك المخطوطات العربية أثناء الحروب والكوارث . ويضاف إلى ذلك التراث كل ما نقله العرب من علوم إلى اللغة العربية من اللغات اليونانية والسريانية والعبرية والفارسية والهندية وغيرها .
إن التراث العلمي العربي في ظل الحضارة العربية الإسلامية الممتدة من القرن 8 الميلادي وحتى القرن 16 للميلاد, غني جداً لدرجة أنه كان يتحتم على الإنسان المثقف الذي يريد الإلمام بكل جوانب علوم عصره أن يتعلم اللغة العربية وقد قال المؤرخ والفيلسوف جورج سارتون في كتابه تاريخ العلم[6]: " إن علماء الإسلام والعرب عباقرة القرون الوسطى ، وتراثهم من أعظم مآثر الإنسانية .إن الحضارة العربية الإسلامية كان لا بد من قيامها . وقد قام العرب بدورهم في تقدم الفكر وتطوره بأقصى حماسة وفهم, وهم لم يكونوا مجرد ناقلين كما قال بعض المؤرخين بل إن في نقلهم روحاً وحياة . فبعد أن أطلع العرب على ما أنتجته قرائح القدماء في سائر ميادين المعرفة نقحوه وشرحوه وأضافوا إليه إضافات هامة أساسية تدل على الفهم الصحيح وقوة الابتكار" .
وعند دراستنا لهذه الحضارة المزدهرة نوضح بعض النقاط:
1-إن كلمة " مسلم " تعني كل من أعتنق الإسلام بغض النظر عن قوميته وجنسيته. أي هناك علماء مسلمون ليسوا عرباً، كما أن هناك علماء عرب وغير عرب ليسوا بمسلمين ، ساهموا جميعاً في بناء الحضارة الإسلامية .
2-إن كلمة " عرب" لا تعني المنحدرين من العرق العدناني أو القحطاني فحسب ، إنما تشتمل في هذا الكتاب على كل من نطق أو تثقف العربية . وعندما نقول العلماء العرب والمسلمين نقصد كل العلماء الذين كتبوا باللغة العربية وعاشوا في ظل الدولة العربية الإسلامية .ولو كانت هناك جوازات سفر لحملوا الجواز العربي. لذلك نسميهم علماء عرب لأن ثقافتهم عربية بغض النظر عن جنسيتهم الأصلية . انظروا إلى أمريكا فيها علماء من جنسيات مختلفة ( عرب- ألمان - روس وغيرهم ) ولكنهم يعتبرون أمريكان لأنهم يحملون الجواز الأمريكي ولا يمثل هذا انتقاص من انتمائهم الأصلي لقومية ما بل إن الظروف هي التي أدت إلى ذلك .
إن دراسة تراثنا العلمي كعرب ومسلمين له أهمية خاصة,فهو واجب معنوي للتعرف على الدور الحضاري الريادي والعقلية المتطورة لدى أجدادنا في القرون الماضية في حين كانت أوروبا تعيش في ظلمة وجهل . وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها الجميل " شمس العرب تسطع على الغرب" : عندما كان في الأندلس المئات من المكتبات التي تضم ملايين الكتب والمجلدات فإن ملك فرنسا كان أمياً لا يعرف القراءة والكتابة .. وفي حين كانت شوارع المدن الأندلسية مضاءة بالقناديل فإن عواصم أوروبا كانت مظلمة في الليل .. وهناك أمثلة كثيرة على الرقي والحضارة السائدة في رحاب الدولة العربية الإسلامية, بينما كانت أوروبا تعيش في ظل هيمنة رجال الكنيسة والإقطاعيين الذين مارسوا الاستبداد وقمع الفكر ومحاربة العلم والعلماء . ومعروفة قصة العالم الإيطالي العظيم جاليليو الذي قتل نتيجة اضطهاده وقمعه من قبل رجال الكنيسة الذين اعتبروا أن الشمس تدور حول الأرض إلا أن جاليليو كان على حق من الناحية العلمية حين قال بعكس ذلك ولم يتراجع عن موقفه وذاق مرارة الاضطهاد والمرض حتى مات.
وقد كانت دمشق وبغداد والقاهرة ومدن الأندلس هدفاً للكثير من الباحثين الأوروبيين الذين أرادوا النيل من المعارف العلمية الواسعة المتوفرة في المكتبات والمدارس العربية .
إن الاطلاع على تراثنا العلمي وخاصة في الرياضيات يدفعنا للاعتزاز والفخر بتاريخنا وبدور الحضارة العربية الإسلامية العلمي والتقدمي في تطور العلم والمسيرة الإنسانية الطويلة. ويشكل ذلك برأينا دافعاً لأجيالنا الصاعدة لكي تدرس وتواصل البحث والابتكار وأن يعرف شبابنا بأن شعبنا جدير بحمل رسالة الحضارة والتقدم كما حملها أجدادنا قبل عدة قرون.ويقول المثل الشعبي : من ليس لـه ماض ليس لـه مستقبل " ومن المفيد في هذا الإطار الاستشهاد بآراء بعض المستشرقين الأوروبيين حول أهمية العلوم العربية وتأثيرها على الحضارة الأوروبية .
قال بريفو في كتابه " تكوين الإنسانية " عن دور العرب العلمي :
"العلم هو أجل خدمة أسدتها الحضارة العربية إلى العلم الحديث .فالإغريق عظموا أو عمموا ووضعوا النظريات ولكن روح البحث وتجميع المعرفة اليقينية وطرائق العلم الدقيقة والملاحظة الدائبة كانت غريبة عن المزاج الإغريقي وإنما كان العرب هم أصحاب الفضل في تعريف أوروبا بهذا كله وبكلمة واحدة أقول إن العلم الأوروبي مدين بوجوده للعرب ".
لقد قام العرب بدورهم في خدمة الحضارة والمساهمة في تقدم العلوم ، وهناك الكثيرين الذين يجهلون هذه الخدمات التي قدمها العرب للعلم والحضارة . أما موقف المستشرقين (أي العلماء الأجانب المهتمين بحضارة المشرق) إزاء العلوم العربية فينقسم إلى عدة اتجاهات:
1-هناك من تجنى على الحضارة العربية واعتبر أنها لم تقدم شيئاً يذكر للبشرية, وهذا إجحاف وظلم .إن أصحاب هذا الاتجاه مغرضون,فلديهم دوافع معادية للعرب و الإسلام ومتأثرين بالدعاية الصهيونية وعمدوا للانتقاص من قيمة العلوم العربية والإسلام, ولا نعتقد أنهم حقاً جاهلون بحضارتنا مع ملاحظة التقصير الكبير من قبل العرب في نشر ثقافتهم وتعريف الآخرين بتراثهم العلمي الغني . وتوجد كتب في تاريخ العلوم لمؤلفين أوروبيين لا تذكر أحياناً أو تشير بتواضع شديد إلى العلوم العربية .
2- الاتجاه الثاني يخدم الحقيقة لأنها حقيقة, ودافع عن الحق لأنه حق, أي ظهر علماء غربيون أنصفوا العرب لأن التاريخ يقضي بذلك ومن أبرزهم :جورج سارتون الذي قال : " إن بعض المؤرخين يجربون أن يستخفوا بتقدمة الشرق للعمران ويصرحون بأن العرب والمسلمين نقلوا العلوم القديمة ولم يضيفوا إليها شيئاً ما . إن هذا الرأي خاطئ . وإنه لعمل عظيم جداً أن ينقل إلينا العرب كنوز الحكمة اليونانية ويحافظوا عليها ولولا ذلك لتأخر سير المدنية بضعة قرون .." .
ويعتقد سارتون بأن العرب كانوا أعظم معلمين في العالم وأنهم زادوا على العلوم التي أخذوها وأنهم لم يكتفوا بذلك بل أوصلوها درجة جديرة بالاعتبار من حيث النمو والارتقاء.
وقال نيكلسون : ".. وما المكتشفات اليوم لتحسب شيئاً مذكوراً إزاء ما نحن مدينون به للرواد العرب الذين كانوا مشعلاً وضاءً في القرون الوسطى المظلمة ولا سيما في أوروبا". وقال دي فو "... إن الميراث الذي تركه اليونان لم يحسن الرومان القيام به . أما العرب فقد أتقنوه وعملوا على تحسينه وإنمائه حتى سلموه إلى العصور الحديثة ..".
ويذهب العالم الفرنسي سيديو إلى أن العرب هم في واقع الأمر أساتذة أوروبا في جميع فروع المعرفة .
وقال برتراند رسل في كتابه " حكمة الغرب ": ".. لم يكن واضحاً لفرسان المسيحية ( الحملة الصليبية ) في البداية أنهم إنما كانوا يواجهون في العالم الإسلامي ثقافة أسمى من ثقافتهم بما لا يقاس ".
ويقول كارل ميننجر عن نهضة العرب : " كانت بغداد وقرطبة ، الخلافتان العربيتان المشرقية والمغربية ، موضعين طرفيين لنظام عملاق يمتد إلى عدة قارات .. ومن بينهما .. تدفق التيار الحضاري .. عبر كيبل(سلك) فائق الموصلية بلغة عربية واحدة ...كان اتجاه التيار من الشرق إلى الغرب ..فالشرق – إذا تابعنا بأسلوب المجاز – هو المرسل والغرب هو المستقبل ".
ويقول جون ماكليش في كتابه " العدد ": "ومع أن العرب كانوا أشداء جداً في الحرب, ، فإن أسلوب حياتهم في السلم كان متسامحاً ومتحضراً . وقد أضافوا إلى الفنون والعلوم خاصة ، عناصر مهمة أنقذت النشاط الفكري من عبث اليونان ومن تعصب الرومان ، هذا وإن هذه السمة ما انفكت آثارها مائلة في الدراسة العلمية إلى يومنا هذا ".
كما يضيف ماكليش : " أقام العرب في كل مكان من مملكتهم الواسعة مكتبات عامة ومراصد ومراكز للبحث .. وجهد العلميون العرب في تسجيل كل قدر من المعرفة وصلت إليه البشرية ، وفي تطويره إلى آفاق أوسع . وقد نفذوا برامج ضخمة لنشر أعمالهم العلمية والرياضياتية ولترجمة أعمال من السريانية والفارسية والصينية واليونانية ولغات أخرى ، كما استثمروا ، أكثر من أي باحثين آخرين في أي حضارة قبلهم، معيار الممارسة والتجربة في البحث عن الحقيقة العلمية ، ربما يكون قد فاتهم التخيل المفرط الذي كان لدى اليونان ، لكنهم عوضوا عن ذلك بالشمولية وبالاستشراف العملي ".
لولا جهود العرب لبدأت النهضة الأوروبية في القرن الرابع عشر للميلاد من النقطة التي بدأ العرب منها نهضتهم العلمية في القرن الثامن للميلاد .
وهناك البعض من مفكري وعلماء وفلاسفة الغرب من يعرض التطور الحضاري, والعلمي منه خاصة, من الفترة اليونانية ويتكلم عن العبقرية اليونانية أو المعجزة اليونانية ، ويقفز إلى العبقرية أو المعجزة الأوروبية الغربية كاستمرار للحضارة اليونانية دون ذكر للحضارة العربية وهذا تجني وتحامل وعدم أمانة للتاريخ وعدم احترام للحقيقة التاريخية .
من الممكن أن يجهل البعض جوانب وصفحات من تاريخ العلم ولكن مع اكتشافها يجب أن نتوخى الدقة والأمانة العلمية وهذه مهمة العلماء العرب قبل غيرهم ..
ويجب أن ننسب الاكتشافات العلمية ، التي تعرف الآن بأسماء علماء غربيين ، إلى أصحابها الأصليين العرب الذين عرفوها قبل الأوروبيين بعدة قرون ( الأمثلة فيما بعد ) . يقول وايد مان :
" ... إن العرب اخذوا بعض النظريات عن اليونان وفهموها جيداً وطبقوها على حالات كثيرة ومختلفة ثم أنشئوا من ذلك نظريات جديدة وبحوثاً مبتكرة فهم بذلك أسدوا إلى العلم خدمات لا تقل عن الخدمات التي أتت من مجهودات نيوتن وفارادي وغيرهم ..".
نحن بأمس الحاجة لاستمداد الماضي ,واستلهامه عزماً وقوة لا مباهاة وفخرا ً , لمعرفة الحاضر والانطلاق نحو المستقبل بأمل وثقة .
ملاحظة: هذه مقتطفات من كتابي: "موجز في تاريخ الرياضيات وتطورها الفكري والفلسفي. 2002.