فضاءات المقدس في الرحلة العياشية* د. سليمان القرشي www.slimane.fr.cc - تقديم: "هل بالفعل أن الرحالة لا يتجول في العالم، وإنما في نظرات إلى العالم? بمعنى، ألا يمكن النظر إلا بالغير ومعه، أي بعين متعددة تصنع المعنى من تدفقات العالم إلى بصر لاحق تبصمه بصيرة سابقة?، وهل يكون الإدراك شيئا آخر غير تجربة أنطولوجية يجاور، وأكاد أقول يحاور فيها الذاتي الموضوعي" أسئلة مشروعة ومفتوحة، اقتبسناها من الدكتور عبد النبي ذاكر في تقديمه لترجمة كتاب "رحالة الغرب الإسلامي" للراحل الدكتور صالح مغيربي. لا شك أن الرحلة من حيث كونها حركة سفر وانتقال إنما تترجم الرغبة في العبور من الهنا إلى الهناك، من الأليف إلى المجهول، من المحدود الضيق الخانق إلى المطلق، الرحلة ليست حدث سفر وتجوال في المكان أو في الوهم والخيال فحسب، بل هي ترجمة فعلية لرغبة الكائن في الخلاص من شرطي الزمان والمكان"([1]) ، إنها رحلة من الذاتي إلى الموضوعي، من المقيد إلى المطلق، من الذات إلى الآخر. واعتبارا لهذا البعد كيف تبدو الفضاءات في الرحلات الحجية المغربية. - الرحلة العياشية؛ سِفر الأسفار: على امتداد ثلاثمائة وأربعين صفحة بعد الألف تقع الرحلة العياشية التي تستمد قيمتها الحقيقية من مضمونها الغني الدسم الذي جعل متنها يتسع لاحتضان عدد كبير من النصوص والأشعار والتراجم والأخبار، الشيء الذي أضفى عليها طابع الموسوعية، كما تستمد هذه الرحلة قيمتها من مكانة صاحبها، فالعياشي عالم من كبار العلماء، وفقيه من جلَّة الفقهاء، وهو بعد هذا شخص يبدو متزن الخطى رصين النزعات. ثم إنَّ مسار الرحلة، وهو مسار مقدس، قد رسم معالمها العامة وحد حدودها التي آلفت بين جغرافيا الأرض والفكر، وزاوجت بين متطلبات الروح والعقل، وفي تساوق تام مع مسار الرحلة، فإن صاحبها بدا مسكوناً بالتعَرُّض لعلماء الأمصار وذكر تآليفهم وعرض لقاءاته بهم، وإيراد القضايا الفقهية والعلمية التي تطارحها معهم، كما أنَّه كان بين الفينة والأخرى يُلمح إلى طرف من مؤلفاتهم، ويشير إلى النوازل التي يطرحها الارتحال والسفر من أفق إلى آخر، كما كان يهتم بكل ما يتخَلَّل العبادات والمعاملات، هنا وهناك، من شوائب وزيادات. ولعل هذا ما حفظ للرحلة العياشية مكانتها منذ أن خرجت للوجود، فكانت نبراسا اهتدى بضوئه كثير من الرحالة، وتتبع خيوطه وخطوطه عدد من الكتاب والمصنفين، سواء في مجال الرحلة أو مجال التراجم والسير، وبالنظر إلى قيمتها العلمية الكبيرة فإن الرحلة العياشية قد طبعت أكثر من مرة؛ الأولى على الحجر والثانية مصورة عنها، كما صدرت بعض مقتطفاتها وأجزائها([2]). قبل أن أعمل على تحقيقها بمعية الراحل الدكتور سعيد الفاضلي رحمة الله عليه، حيث صدرت ضمن منشورات ارتياد الآفاق هذه السنة. - فضاءات المقدس في الرحلة العياشية: لا توجد في جغرافيا المسالك والممالك قطعة من الأرض حظيت بعناية الرحالين والمؤرخين مثل الطرق الكبرى والصغرى المؤدية إلى الحجاز التي صنفت فيها الكتب المختلفة المنازع والأساليب ومئات القصائد الحافلة بوصف المنازل والمراحل، علاوة على ما تطفح به من مشاعر الحنين التي جعلت هذه الطرق لا متعبدات فقط، بل مجمعات استوثقت عبرها الصلات بين الشعوب الإسلامية ومبادلة الإجازات بين العلماء وتلاقح معطيات الفكر العربي الإسلامي([3])، الشيء الذي جعل محطات الطريق نحو الحج محطات للزهد والعبادة والخلوة و مراكز للعلم والمعرفة، ونقط للتزود والاستراحة والعلاج. ومن هنا فإن الرحالة حين يزاوج بين فعل السفر والكتابة، على اعتبار أن العلاقة التي تربطنا به كمتلقين لا تتم إلا من خلال هذه المزاوجة وعبر جسرها، فإنه يطلق جداول أحاسيسه لتنساب فياضة وهي ترصد المسار، وهو هنا مسار مقدس، وتمسك بخيوط زمن الرحلة الذي يستمد ألوانه من صبغة القداسة، حتى يغدو فضاء الرحلة الحجية فضاء مقدسا بامتياز. بل إن فعل السفر بذاته يصبح مقدسا لوجوده ضمن دائرة المقدس؛ الحج، يقول أبو سالم العياشي في فاتحة رحلته: " الحمد لله الذي قرن ممدوح السفر بممدوح الظفر، وحثَّ عليه في طلب السعادة فقال تعالى: "فلولا نفر"، فيا سعادة من نفَر إلي الله مع ذلك النفر، ولم يمل السُّرى في الليل إذا أدبر، والسيرَ في الصبح إذا أسفر".([4]) واعتبار لقدسية فعل السفر في مدونة الرحلة الحجية، فإن الرحالة يستهل هذا الفعل بنوع من التطهير الذاتي الذي يعد بمثابة التذكرة الروحية للسفر نحو فضاءات المقدس، وأقترح عليكم أن ننصت ها هنا لأبي سالم العياشي الذي يعترف بلطف بتجاذبه بين عالمي المدنس والمقدس، تجاذب يتنازع فيه الجسم والروح، الأول مقيد مشدود، والثانية ترفرف بعيدا في عوالم الطهر والنقاء، يقول:" أما بعد ... فيقول العبد الفقير، الذليل الحقير، المستجير بالله ورسوله، الملتجئ إلى كرم الله في حصول أمله من الخير وسؤله، أبو سالم عبد الله بن محمد بن أبي بكر العياشي المغربي المالكي، جعل الله جميع تصرفه فيما يرضاه ابتغاء مرضاته، وغمره بلطائف إحسانه في حياته، وعند وفاته وبعد مماته، ولقاه في كل المخاوف أنسا وتأمينا، ويرحم الله عبدا قال آمينا: إني كنت منذ عقدت يداي إزاري، وتلوث مبيض صحيفتي بسواد أوزاري، متتابع الزفرات والأنين، كثير الاشتياق والحنين، إلى تكحيل إنسان العينين بمشاهدة مشاهد الحرمين، ويتضاعف الوجد والتوقان، ويتزايد الشوق واليرقان، في أوان تجاوب أصداء الرفاق، إذا أهاب بهم مهيب التوفيق من جوانب الآفاق، فيطير الروح بأجنحة الشوق إلى ذلك المكان ويود مرافقتهم على أي حال كان، فإذا استتبع الجسم المثقل بالآثام إلى ذلك المحل، تمشت به مشي المقيد في الوحل، فربما فزعتُ إلى مدح الرسول، لأدرك به المنى والسُّؤل، وربما أغضيت الجفون على قذاها، وكظمت الجوانح على أذاها، إلى أن دعا داعي الفلاح فلبيت، وهدى رائد الهداية فاهتديت".([5]) إن ملامسة الفضاء المقدس في الرحلة العياشية لا يبعث لدى الرحالة نزوعا نحو التطهير والتسامي فقط، ولكنه يثير عنده بالإضافة إلى ذلك الرغبة في التخلص من كل القيود، بما فيها قيود الانتماء إلى فضاء جغرافي محدد، ولهذا فإن المكان المقدس يصبح حافزا على الرغبة في التماهي مع المسلكيات الخيرة، ودموع الرحالة لا تتوقف عن إعادة صياغة ذات تخلق من جديد([6]) وفقا لخصوصيات الفضاء الرحلي. يقول أبو سالم العياشي معترفا: " ولقد بكيت في ذلك اليوم بدموع غزيرة، كادت أن تنفضح منها السريرة، فظللت أتفكر في ذلك، وأقول لقلبي عجبا لحالك، كم شاهدتِ للبين قبل هذا من مواقف، وفارقت اليوم من أصحاب ومعارف، وتجرعت من كؤوس الفراق، الذي لا يرجى بعده تلاق، وما كان الجفن في كل ذلك يسمح بقطرة، بل غاية ما يقع زفرة تثيرها حسرة، وأراك لهذا الفعل المرتضى، قد خالفت عادتك فيما مضى، فما السبب في هذا، وخرق هذه العادة لماذا ?. فألقي في روعي أن القلب لما قسا قسا في كل شيء، ولما لان بفضل الله لان في كل شيء. فحمدت الله وشكرته، وعلمت أن العلة ما ذكرته، وما يقضي الله من قضاء لعبده المؤمن إلا كان خيرا له".([7]) إنه خلق جديد في فضاء لا عهد للرحالة به، خلق تأتى في سياق الاحتكاك بالفضاء والالتحام به، وهو التحام مع سبق إصرار وترصد، ولا شك أن طبيعة العلاقة مع هذا المكان الطاهر هي التي سمحت بانسياب الأحاسيس المشار إليها سابقا، كما أنها أثرت في خطية الزمن الفيزيائي، " لفضيلة الوقت والمكان"كما يقول العياشي. إن العلاقة بين الزمان والمكان تتأسس على المقدس، ومن ثم فالحديث عن الفضاء من خلال هذا التفاعل يصبح ضرورة لا مفر منها، ما دام الفضاء مثوى لكل الفضائل التي تدفع بالرحالة إلى مدح مكونات هذا الفضاء وتقريض أجزائه والحفر في أركيولوجيته، والإلحاح على ألفته، إلى الحد الذي يحول فيه إلى جُنة (وقاية) تحمي الرحالة ذهابا وإيابا من كل العوادي([8]) وفي ظل هذا التعالق المتين بين الزمان والمكان في رحاب الفضاء المقدس، فإن وحدات قياس الزمن تتخلى مجبرة عن منطقها المألوف لتأخذ أبعادا أخرى، ولهذا فقد أصر العياشي على جعل يوم الخميس يوم انطلاق لرحلتـــه، " رجاء بركة قول النبي، صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك لأمتي في بكورها يوم الخميس".([9]) لقد غاب الزمن الفيزيائي الذي لازم الرحالة في مساره الخطي ليصبح في مرحلة أولى زمنا شعائريا، قبل أن يختلط فيه الواقع بالخيال، والحلم بالحقيقة، وللحلم مكانه الخاص في الرحلة، لعلنا نقف عنده في لقاء قريب، في رحلة أخرى. تبدو فضاءات الرحلة العياشية غنية ودسمة بتيمة القداسة التي تتمطط في كل الاتجاهات وتشمل كل المجالات، فبالإضافة إلى البؤرة؛ مكة والمدينة، فإن إطار الرحلة مشبع بالقداسة؛ أو بالأصح التقديس، حيث لا يتردد أبو سالم العياشي وهو يتحرك في فضاء الرحلة من زيارة قبور الأولياء ولقاء العلماء، والتمسح بعتبات الفقراء والصلحاء، مما جعل الرحلة العياشية تدور في فلك الصوفي وتنحى منحاه في الاتكاء على الإشارة وتحميل العبارة محمولات تذهب بنا بعيدا في عوالم تثير أكثر من سؤال وتحيل على أكثر من مرجعية. * ألقيت هذه الورقة برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير يوم الأربعاء 20 دجنبر 2006، وذلك بدعوة كريمة من عمادة الكلية والمركز المغربي للبحث والتوثيق في أدب الرحلة وفرع اتحاد كتاب المغرب بأكادير. [1]- حركة المسافر وطاقة الخيال، د. محمد لطفي اليوسفي، ضمن كتاب: الرحالة العرب والمسلمون اكتشاف الذات والآخر، منشورات وزارة الثقافة، المغرب، ص: 281. [2]- من هذه المقتطفات نذكر: المدينة المنورة في رحلة العياشي لمحمد أمحزون. و مقتطفات من رحلة العياشي لحمد الجاسر. وما الموائد ليبيا طرابلس وبرقة لسعد زغول عبد الحميد ومحمد عبد الهادي شعيرة ومحمود حسن عطية السعران ونبيلة حسن محمد. [3] - الرحالة العرب والمسلمون من المغرب وإليه، عبد العزيز بنعبد الله، ضمن كتاب:الرحالة العرب والمسلمون اكتشاف الذات والآخر،ص: 204. [4] - الرحلة العياشية، عبد الله بن محمد العياشي، حققها وقدم لها: د. سعيد الفاضلي، د. سليمان القرشي، دار السويدي للنشر والتوزيع، ارتياد الآفاق، الإمارات العربية المتحدة، 2006. 49:1. [5] - الرحلة العياشية 52:1. [6] - الرحلة في الأدب المغربي، عبد الرحيم مودن، إفريقيا الشرق، 2006. ص: 20. [7] - - الرحلة العياشية 70:1. [8] - الرحلة في الأدب المغربي، ص:21 [9]- الرحلة العياشية 67:1. |