باشرت الأوساط الأدبية في فرنسا في الاحتفاء، الأول من تشرين الأول (اكتوبر) الجاري ببلوغ رواية ?مدام بوفاري? سنتها المئة والخمسين اذ أنهى صاحبها الاديب غوستاف فلوبير كتابتها العام 1856. وهو احتفاء له ما يبرره، لأن هذه الرواية أصبحت منذ منتصف القرن العشرين، منعطفاً بارزاً في مسار النوع الروائي وطرائق كتابته عبر الآداب العالمية. فعلاً، بعد قرن من الزمن على نشر ?مدام بوفاري? تبلور الاهتمام بالخصائص الغنية والشكلية التي ابتدعها فلوبير، وبدأت الدراسات والتحليلات النقدية المعمقة تنصب على تفاصيل الأسلوب، ومنظورات السرد، ودور الوصف المسهب، كما تم الرجوع الى الصيغ التي جرّبها فلوبير في مخطوطاته قبل أن يستقر على صيغة ?نهائية? للنشر. ولعل هذه الفجوة الزمنية في التقاط مقاصد فلوبير، راجعة الى الضجة التي صاحبت نشر ?مدام بوفاري? وتقديمه للمحاكمة بدعوة خدش الحياء والتهجم على قيم البورجوازية الآخذة بالتمركز في تلك الحقبة. وقراءة مرافعتي الاتهام والدفاع المقدمتين في تلك المحاكمة، تؤكد أن جانب المضمون والتأويل قد استأثر بالاهتمام، فأثر على التلقي وحدد فلكه لعقود عدة، مع استثناءات لم تغير مجرى القراءة، على نحو ما نجده من اشارات ذكية عند بودلير ومارسيل بروست.
إلا أن نفض غشاوات القراءات المضمونية عن روايات فلوبير، إنما بدأ في خمسينات القرن العشرين مع صعود مناهج نقدية شكلانية وبنيوية ولسانية، ومع إعلان رواد ?الرواية الجديدة? انتماءهم الى سلالة نصوص فلوبير وتأملاته المبثوثة في مراسلاته التي تبلغ آلاف الصفحات والتي تشكل عملاً أدبياً موازياً لرواياته القليلة العدد.
ولا شك في أن ?حالة? فلوبير تستدعي التفكير والتأمل، لأن سيرورة التلقي، على امتداد مئة سنة، قد جرأت مشروعه وتفاعلت مع الجوانب التي كان هو يتطلع الى تقليصها لإبراز أهمية الشكل والكتابة، وضبط ما كان يسميه ?سيناريو? السرد في شكل صور متحركة ومترابطة. ذلك أن فلوبير لم يكن يريد أن ?تدمج? نصوصه ضمن منظور القراءات الايديولوجية المهيمنة آنذاك والتي يتراوح تصنيفها بين الرومانسية والواقعية. لأجل ذلك، أولى اهتماماً بالغاً للشكل والأسلوب ليقيم جسر تواصل مع قارئ محتمل في المستقبل يدرك أبعاد تركيباته الغنية فيتوسل بها لإعادة خلق النص عبر المداخل والمسالك المختلفة التي تقترحها الرواية الفلوبيرية.
في طليعة عناصر الشعرية الجديدة التي دشّنها فلوبير، خصوصاً في ?مدام بوفاري? و?التربية العاطفية?، عنصر اللاذاتية الذي تحدث عنه في مراسلاته عندما كان يتفحص كتاباته الأولى المنجذبة الى الرومانسية. لقد لاحظ أن معظم الروائع الأدبية التي نالت إعجابه (هوميروس، سرفانتيس، شكسبير...) تتميز بغياب ذاتية الكاتب داخل النصوص، فلا نجده يتحيز لموقف أو شخصية، بل يكتفي يعرض وجهات النظر والزوايا المختلفة من دون أن ينسب ذلك الى نفسه. وقد عبّر عن هذه الفكرة في احدى رسائله الى صديقته كولي قائلاً: ?على الكاتب في عمله، أن يكون مثل الله تجاه الكون: حاضراً في كل مكان ولا يرى في أي موضع?. وعنصر اللاذاتية يستتبع عند فلوبير، إفساح المجال للوصف والتمازج مع طبيعة الأشياء المحيطة بالفضاء الذي يكتب عنه، وكأنه يطبق نوعاً من ?الحلولية? داخل كل ما له علاقة بالرواية. بتعبير آخر، فإن ادراك تقنيات الكتابة والتشكيل عند فلوبير، يغدو واضحاً من خلال مقارنتها بتقنيات بلزاك المعتمدة على السارد العليم والكاتب الذي يدسّ رأيه مباشرة داخل النص الروائي. عند فلوبير، كل سرد يمرّ عبر احدى الشخصيات، وهو غير حريص على توصيل ?رسالة? بذاتها، وانما على القارئ أن يبحث عن الدلالة المتشعبة، المبثوثة في مجموع النص ومن خلال توافقات وتعارضات وجهات النظر السردية...
ولعل من الأمثلة البارزة في هذا المجال، ذلك التعارض الذي نجده في ?مدام بوفاري? بين الكاثوليكية المتقوقعة عند القس بورنيسيان والنزعة العلموية المتبلدة عند الصيدلي المتفصح هومي: فهاتان الشخصيتان تحيلان على خلفية اجتماعية وسياسية تكشف ملامح من سيرورة التبرجز بفرنسا خلال منتصف القرن التاسع عشر، وانطلاقاً من بلدة ريفية هي بونفيل... لكن فلوبير يتوارى ولا يبدي تحيّزاً لأحدهما، بل يجعل السخرية هي الوسيلة لانتقاد مَن ينصبون أنفسهم وجوهاً مهيمنة على القيم.
وبالنسبة الى ?مدام بوفاري? تحديداً، فإن القراءة المنصفة تقتضي عدم اختزالها في معنى أو بضعة معان، بل لا بد من الالتفات الى العناصر الشكلية التي تؤشر – منذ 1856 – على كتابة روائية تختلف عما كان سائداً ومحصوراً في تصنيفات تعميمية. صحيح أن تأويل ?مدام بوفاري? يمكن أن ينطلق من انتقاد فلوبير للحساسية الرومانسية وانعكاساتها على سلوك إيما بوفاري التي لم تكن تعي انطلاقاً سيرورة هيكلة جديدة للمجتمع، يترابط مع التحولات الصناعية والعلمية، لأن مستواها الثقافي والاجتماعي يعوقها عن إدراك موقعها داخل مجتمع تحكمه آليات هي بمثابة القدر النافذ... بينما كان فلوبير في بيته الفخم بـ ?كرواسيه? المشرف على نهر السين، يطل على ساكني الريف والبلدات الصغيرة محاولاً أن يستوعب سيرورة التبرجز وعلاقة الشبيبة بين مصير الفرد ومنطق الصيرورة المجتمعية... إلا أن هذه الدلالة البارزة في الرواية، يجب ألا تخفي الانجازات الشكلية والاسلوبية الماثلة أمامنا والتي تجعل ?مدام بوفاري? نقطة تحول في تشكيل معمار النص الروائي على المستوى العالمي، مثلما كان الامر بالنسبة الى دون كيشوت و?ترسترام شانداي? في القرنين السابع عشر والثامن عشر.
بالفعل، فإن الفصل الذي يحكي عن مشهد عقد جمعية المزارعين في فضاء شاسع تجاوره بناية ذات طوابق، واختلاء إيما وعشيقها رودولف في الطابق العلوي لمتابعة التجمع... يقدم بالملموس نموذجاً لكتابة روائية جديدة ستجد أصداء لها وتجاوباً معها في الرواية الحداثية للقرن العشرين. ففي هذا الفصل، يحقق الكاتب نوعاً من التفضية التي تتيح مجاورة مشاهد متباينة داخل فضاء واحد، وسماع لغات مختلفة ذات دلالات متغايرة، من بينها حديث العشيقين في الطابق الأعلى يتقاطع مع عبارات وفقرات من خطب المسؤولين الرسميين وتعليقات الفلاحين، في الطابق السفلي... لكن إلحاح فلوبير على الاسهاب في الوصف، يجعل الشخوص والأشياء داخل المشهد تستقل بوجودها، وتفيض بايحاءات لا تستوعبها دلالة واحدة... بعد مضي مئة وخمسين سنة على ولادة ?مدام بوفاري?، عرفت الرواية عبر العالم، أشكالاً وتركيبات فنية بألوان الطيف، وتسللت الى فضاءات ومناطق، لكن بعض المكونات الشكلية والسردية المجاوزة لسياقاتها تظل تحظى بالاعتبار، ومنها ما أنجزه فلوبير، مثل تواري الكاتب خلف النص، وتعديد منظـــور السرد وتنسيبه، واللجوء الى الحوار المنقول غير المباشر، والبوليفونية، وأسبقية الايحاء على المعنى الاحادي... من هذه الزاوية، تكون ?مدام بوفاري? قد راهنت على قارئ لا يكف عن المجيء، لأن كاتبها حَدَسَ امكانات افتراضية ينطوي عليها شكل رواية المستقبل.
ومن ثم، ندرك سبب الحضور المستمر لمدام بوفاري عبر تجليات وحيوات متناسلة، تتبدى من خلال اقتباسات سينمائية للرواية (فيلما: فانسان منيللي 1949، وكلود شابرول 1991...)، أو من خلال نصوص روائية تستعير بعض شخصيات ?مدام بوفاري? لتدرجها في سياق سردي مختلف، على نحو ما فعل الكاتب البريطاني جوليان بارن في روايته ?ببغاء فلوبير?، ثم أخيراً في نص نشره بأسبوعية نوفيل أوبسرفاتور، يتخيل فيه نهاية أخرى لـ ?مدام بوفاري?: بدلاً من انتحار ايما بالزرنيخ، يتخيل بارن انها عالجت مشكلة الدين المالي بالارتماء في احضان كاتب العقود الذي سارع الى الغاء الدين، ثم اقنعت زوجها شارل بالانتقال الى قرية صغيرة لاستئناف حياة أخرى بعيداً عن كل ما يذكرها بمغامراتها الغرامية الفاشلة... وانجبت ايما طفلاً سمته لوران وتعلمت كيف تنسى احلامها الرومانسية لتستقبل بوادر الكهولة وهي مشدودة الى المسرات البسيطة ?لأن الازواج يعرفون كيف يستمرون في الحياة? كما قالت في نهاية هذا النص. وأظن ان هذه الاضافة التي كتبها جوليان بارن، لها ما يبررها، فالمرأة الفرنسية خلال 150 سنة أحرزت الكثير من الحقوق، ومعايير الاخلاق تغيرت، ومن ثم تستطيع ايما، لو عاشت اليوم أن تسلك سلوكاً مماثلاً لما تخيله بارن، أي ان تعتبر المغامرات تجربة حياتية عادية، والرومانسية تلائم المراهقة العابرة...
بعد 150 سنة، لم تشخ ?مدام بوفاري? بل ظلت مغرية بـ ?المعارضة? والتحليل واعادة الكتابة، لانها تستشير لدى القارئ حاسة الخلق والتفاعل الحر مع عالم متخيل تنبض داخله الاشياء والشخوص والحوارات، ويتألق النشر الروائي في حلية تنسجها الدقة في الوصف، وايقاع الجملة والنبرة الملائمة.