تكشف هذه الصفحات النقاب عن كنز استشراقي عظيم الشأن هو رسائل ووثائق كتبها المستشرق الفرنسي الكبير لويس ماسينيون باللغة الفرنسية وأرسلها إلى الأب أنستاس ماري الكرملي على مدى الثلث الأول من القرن العشرين.
هذا الكنز الاستشراقي يصدر قريباً في كتاب بالعربية لدى دار الجمل في ألمانيا بعدما عرّب صفحاته ووثّقها ووضع فهارسها وإحالاتها المرجعية الباحث والمترجم العراقي علي بدر.
أكثر من مئتين وثمانين نصاً تلقي الضوء على معلومات وجوانب مذهلة وغير معروفة من شخصية هذا العلاّمة الاستشراقي الذي اضطلع بأدوار حاسمة في فهم أغوار العلاقة بين الغرب والشرق والإسلام والمسحية ، وفي الغوص على عوالم التصوف والروحانية والفلسفة والوجد، وفي درس الحلاج وشؤون أخرى.
إلاّ أن ما تكشف عنه هذه الوثائق في شكل خاص، أن ماسينيون كان ماثلاً بقوة على مقربة من الأحداث التي صنعت (اتفاق سايكس - بيكو)وخصوصاً عمله الى جانب هذا الأخير ومشاركته في سياسة بلده، ومحاولة إقناع المثقفين العرب، ربما، بالفكرة الكولونيالية. الكتاب في جزءين، الأول يغطي الفترة من 1908 الى 1919، والثاني حتى العام 1936. وفي ما يأتي نزر قليل من هذه الرسائل وفهارسها مع شذرات من تقديم علي بدر.
................................................................................................................................................
وكان على الكاتب أن يقول ما ظللته بالأحمر لينشر كتابه
إن أهمية هذه الرسائل تكمن في كشفها بشكل واضح وصريح عن العلاقات الثقافية والفكرية والمعرفية بين المثقفين العرب والمستشرقين في الثلث الأول من القرن العشرين، وتبيّن على نحو فعال الآليات التي ينتظم فيها الخطاب الاستشراقي عبر رسائل واحد من أهم المستشرقين لا في ذلك القرن فحسب، إنما منذ تأسيس مدرسة الاستشراق في وصفها المعرفة الخابرة بالشرق من أجل وصفه وفهمه، والاحتياز عليه وضمّه. وتبيّن على نحو جلي الانشباك الفوري والسريع لهذا الخطاب مع الفعاليات السياسية والممارسات الكولونيالية في المنطقة في الثلث الأول من القرن العشرين، وتبيّن كيف أن هذا الخطاب لم يكن بأجمعه قائما على الفكرة الكولونيالية في تفضيل المصالح الآنية إنما هنالك المعرفة الخالصة والمستقلة. صحيح أن بعض هذا الخطاب قد أستخدم كقوة واسعة النطاق لتبرير الهيمنة والسيطرة والضم من جهة، ومن جهة أخرى قوة للاجتثاث وتفكيك الهوية وتبرير الميكيافيلية السياسية، وتدفق الأحقاد، ولكن هنالك وفي الموازاة منه كان الخطاب العلمي والثقافي الذي يقارب بين هذه الثقافات والمجتمعات.
.............................................................................................................................................
وربما تكشف هذه الرسائل بشكل جلي عن طرف لامع ومتميز من ثقافتنا المعاصرة التي نشأت وتأسست أول القرن المنصرم. نشأت في القرن الذي شهد حقيقةً وواقعاً كل أنواع المواجهات الثقافية والسياسية مع الغرب، وتكشف بشكل واضح عن طرف مهمّ ومتنوّع من حياة النخبة المثقفة التي صاغت وأسست معارفها في تلك الحقبة والتي ترد مراراً عديدة في رسائل ماسينيون، وهم الزهاوي والرصافي والكرملي ومحمد رشيد رضا وجمال الدين الأفغاني ومصطفى جواد وكاظم الدجيلي وروفائيل بطي والشبيبي ومحمد كرد علي والقاسمي وتيمور وغيرهم. إن هذه الرسائل ترينا وعلى نحو فعال قائمة الفروق الظلية الكامنة في ثقافة الغرب، وقائمة الفروق الظلية بين المثقفين الغربيين أنفسهم، ولا سيّما أولئك الذين عملوا وتدربوا ونشطوا في مؤسسة الاستشراق، كما أنها ترسم أمامنا الخطوط الصحيحة للمواجهة الثقافية الممكنة اختلافاً والتقاءً، وربما تمكّننا عندما يكون الحوار حقيقياً وأصيلاً وقائماً على المعرفة، من أن نضفي على ثقافتنا معنى عملياً ونفعياً، وتشعرنا بأننا نقف مرة أخرى أمام أوروبا مثلما تقف أوروبا أمامنا، ومثلما نسوح نحن في التواءات ثقافتها يسوح ماسينيون سياحةً هائلةً في عدد كبير وضخم من المخطوطات في التراث العربي والإسلامي. إن هذه الرسائل تكشف لنا عن هذا الطابع الذي يعدُّ طابعاً ملغزاً وملتبساً في عمل ماسينيون حين قرّب بين الإسلام والمسيحية في صلب الحلاج، وقرّب بين الإسلام والمسيحية في شخصيتي فاطمة ومريم، وقرّب بين الأديان السموية الثلاث في شخصية إبرهيم. ففي هذه الرسائل التي لا تشبه الرسائل الشخصية أبداً، تتحدد المواقف بشكل واضح وصريح، وتتجلى على نحو كامل المواقف الثقافية والمعرفية والدينية والسياسية، وتتضح مواقف ماسينيون من التصوف الإسلامي ومن الثقافة العربية برمتها، كما أنها تكشف عن انشباك ماسينيون الكامل، واهتمامه بكل ما ينتج من ثقافة في العالم العربي من صحف ومجلات وكتب وأخبار، وترسم لوحة واضحة لماسينيون الشخص - الإنسان وتفصح عن مواقفه من بعض المستشرقين ومن بعض المثقفين العرب، وترينا اللحظات التاريخية الحاسمة من مصير الشرق العربي بعد التحرر والاستقلال من الإمبراطورية العثمانية، حيث تكشف عن عمل ماسينيون السياسي في المنطقة العربية وعمله كداعية للكولونيالية ومنفذ لسياساتها في المنطقة في أخطر مرحلة من مراحل التاريخ العربي، وهي مرحلة الحرب العالمية الأولى، ومن ثم مرحلة الاستقلال وبناء المجتمعات الحديثة.
يبدأ الجزء الأول من العام 1908 وهو العام الذي غادر فيه ماسينيون بغداد، بعدما أنقذه علي الآلوسي من حكم بالموت أصدره العثمانيون مشتبها فيه بالجاسوسية، وتؤشّر هذه الرسائل الى اهتدائه الديني وتعرّفه على الحلاج، وبحثه عن المخطوطات التي تفيده في تأسيس نظريته عن مسيحية الحلاج، وينتهي في العام 1919 بعدما أصبح ماسينيون مستشاراً لجورج بيكو الطرف الثاني من اتفاق سايكس بيكو، وانخراطه العملي في سياسة بلده، وتؤشر هذه الرسائل الى محاولات ماسينيون السياسية لهداية المثقفين العرب وإقناعهم بالفكرة الاستعمارية أو الكولونيالية.
بينما سيبدأ الجزء الثاني من العام 1919 وحتى العام 1936 (العام الذي تنقطع فيه الرسائل تماما بعد مرض الأب الكرملي ووفاته) وسيتحرك هذا الجزء على مساحة واسعة ومتجدّدة في تفكير ماسينيون، اهتمامه الأكبر بالسياسة (انخراطه في التبشير للانتداب الفرنسي في سوريا ومعركة ميسلون) اهتمامه بمساحة أوسع في التصوف، وأكثر شمولاً من النقطة التي بدأ معها في الحلاج، دراساته عن ابن عربي والسهروردي القتيل، والتستري، والقونوي، وملاّ صدر الشيرازي، والعطار، وروزبهان البقلي، ودراساته الفلسفية في الفلسفة الغنوصية الإسلامية، وانشباكه في علاقات أكثر تنوعا مع المثقفين العرب والعراقيين، ولا سيما بعد عمله في الجامعة المصرية، وانشباكه في علاقات مع النخبة السياسية في العراق وفي العالم العربي ، ودراساته وأبحاثه عن فاطمة، وسلمان الفارسي، وأهل الكهف، وعلاقة الشيعة بالتصوف، وابن سينا والغزالي والفارابي، والأبحاث البلدانية عن القاهرة ودمياط والقدس والخليل والمدينة المنورة وبغداد والبصرة والكوفة.
وهذه إحدى الرسائل :
القاهرة منيرة ص ب 246
أبتي العزيز وصديقي
أرد وفي وقت واحد على رسالتيك 20 كانون الثاني و4 كانون الثاني (وماذا حصل كي لا تصلني هذه الأخيرة إلا هذا الصباح?)
(من المحتمل حدوث خطأ في 24)
رأيت نسخة الأعوام 250-310 هجرية من الجزء الخامس من تأريخ الذهبي (1) في مكتبة مرجان.
اطلعت على أربع مخطوطات من سيرة الحلاج للذهبي إنها مأخوذة من مونوغرافية لابن باكويه حول الحلاج(2) وقد امتلكت منها مخطوطة كاملة منذ الربيع الفائت.
لا تعتقد بالذهبي ! له أكثر من عشرين مجلدا!
الجزء الأول عام 10-40 باريس 188 الخ.
الجزء الثاني عام 41-130
الجزء الثالث 131-190
الجزء الرابع 191-240
الجزء الخامس 241-300 اسطنبول
الجزء السادس 301-351
الجزء السابع 351-400
لقد كان لطفا منك أن تشير لي إلى هذه المخطوطة حول الحلاج، المجموعة فيها ست صفحات مكرسة له وأربع لمن قبله.
بودي أن أشتري فعلا بسبعة مجيديات هذه المخطوطة (ما يعادل 35 فرنكا وهذا هو أعلى سعر أدفعه) ولكن في حالة واحدة هي أن تكون غير منشورة.
ذلك لأن أمر فقدان صفحتها الأولى يبدو لي أمر ا مشبوها، فقد يتعلق الأمر ببساطة بمقطع من الترجمة العربية ل تذكرة الأولياء (3) لفريد الدين العطار (نص فارسي طبعه نيكلسون) ومن نفحات الأنس (4) لمولانا جامي (نص فارسي طبعه سلفستر دوساسي ) فلتتكرم علي وتشتره لي بعد أن تقابله مع نص العطار وجامي، وأن تلاحظ إنها سيرة غير منشورة، شكرا مقدما.
إني مسرور جدا لأن مستشفى الأخوات الراهبات قد شيدت وإن بإمكانك مساعدتهن، فليحفظهن الله ويجعل عملكم المشترك يزدهر.
أما في ما يتعلق بديوان الحلاج، فإن التعب الذي تسببه لي محاضراتي إلى الدرجة التي يجبرني على إرجاء نسخ المقالة التي كان بودي إرسالها إلى لغة العرب المقدامة، سامحني وصلّ لي كي أستطيع إتمام دروسي دون الإصابة بمرض خطير.
إني لست نحويا على الإطلاق، وا أسفاه، وأرى مذكرتي حول لهجة بغداد (5) قد جعلت شعرك ينتصب في الواقع. ما كنت أريده هو على الأخص:
أولا: الإعلان عن نشر مخطوطة الأمثال البغدادية (6) التي صورتها كاملة هذا الربيع.
ثانيا: الشروع بفتح نقاش هنا مع المثقفين حول المعجم ومستقبل الموسيقى العربية بيد أني كنت مخطئا عندما لم أركز جهدي على نحو أكيد على الجانب النحوي والصوتي والمورفولوجي والتركيبي البحت.
نعم إن تلامذتي ينسخون محاضراتي في تاريخ المذاهب الفلسفية، لا بد أن يكون الجزء الثاني من كتابي قد وصلك.
لم أبرق إلى السيد كاظم الدجيلي(7) وذلك لأني لا أملك الوسائل الكفيلة من الناحية المادية للعيش في الغرب.
أولا لأني عملت وحيدا دائما (ومن هنا نشأت أخطائي).
ثانيا: لأنك لم تقل لي شيئا عن قيمته المعنوية.
ولولا هذا لكنت مسرورا جدا لفحص هذا الموضوع.
في ما يخص الأمثال، وقفت سلفا الظروف المادية للنشر هنا، وبما أن آل الآلوسي هم أول من اهتم بالموضوع فقد أصبح لديهم نوع من الحق المعنوي بالأفضلية، أما ما أنشره أنا بنفسي (فإني تعب وغير مؤهل) ولذا سأرسل لك نسختي المصورة، وإنه من المهم أن نتفق على هذا الأمر لكي يحمل المنشور على الأقل أسماءهم.
ما رأيك ? سوف لن يكون بمقدوري أن أعهد لك بالمخطوطة إلا إذا كنت مصمما على نشرها مباشرة (وليس على استرجاع نسخة) وأن تتم مراجعة التعليقات والحواشي بالاشتراك مع شكري أفندي في سبيل المثال الذي يهتم بوضع مبحث عن أمثال بغداد منذ أعوام عديدة، وربما سيتم إنجاز المشروع هنا.
شكرا على الإشارة إلى خدمات النقل في الباص بين بغداد وبعقوبة(8).
في الوحدة الموقرة للصلوات مع ذويك في مشاركة الكنيسة أطلب من الأخوات أن يصلين قليلا من أجل والدنا.
لويس ماسينيون