الريف خلال الحقبة الإسلامية.. ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم موضوع ذو صلة ــــــــــــــــــــ الريف خلال الحقبة الإسلامية بعد دخول منطقة الريف ضمن المجال الذي امتدت عليه الدولة الإسلامية في اتجاه الغرب بشمال إفريقيا منذ آواخر القرن الأول الهجري، وفي إطار تشجيع استقرار الأسر العربية بالمناطق المفتوحة، برزت أولى الحواضر في الريف، تلك الحواضر التي سيكون لها شأن عظيم في سيرورة الأحداث التاريخية المميزة المنطقة خلال العصر الوسيط، وهي أحداث نعتقد أنها لم تساهم قط في خلق ظروف وشروط الاستقرار لإنسان المنطقة حتى ينمي أنشطته المختلفة. فمع بداية القرن الثاني الهجري برزت مدينة نكور، وهي من أولى مدن الغرب الإسلامي والتي تذكر وتجمع المصادر التاريخية أنها عاشت بين 710 و 1015 ميلادية ( 91 - 406 هجرية )، وذلك على يد إحدى الأسر اليمنية حسب بعض الدراسات، أو أسرة أمازيغية حسب رأي آخر، مع ترجيحنا لكفة الرأي الأول تمشيا مع الاستراتيجية التي اتخذتها القيادة العسكرية الإسلامية آنذاك والمبنية على التقرب من السكان الأصليين ومحاولة الاندماج معهم لترسيخ الديانة الإسلامية ونفوذ الإدارة العربية الأموية ونشر ثقافتها ولغتها بحكم الرابطة القوية بين اللغة العربية والديانة الإسلامية، وباعتبار تلك اللغة لغة الدين. وبالرغم من محاولة أمراءها التعايش مع الكيانات السياسية الأخرى المؤثثة للمشهد السياسي المغربي آنذاك، إلا أن إرادة خصومهم كانت أقوى، فتوالت عليها النكبات، الواحدة تلو الأخرى. بعد التأسيس، وبعد مرحلة من استقرار قصيرة سمحت في حدود معينة بالشروع في بناء أجهزتها السياسية والإدارية، وبنوع من العمران والتعمير والتطور، جاءت مرحلة النكبات. ففي عام 144 هجرية غزاها المجوس لمدة ثمانية أيام حسب المصادر التاريخية، والمجوس هم سكان أوربا الشمالية الإسكندنافية، أي الفيكينغ الذين دفعتهم ظروفهم الطبيعية القاسية إلى الخروج نحو العالم بحثا عن الموارد الاقتصادية، وقد أعقبت هذا الغزو سلسلة من الحروب والتطاحنات الداخلية بين الأمراء حول السلطة في الوقت الذي بدأت فيه الأسرة الحاكمة سياسة التوسع في اتجاه الجنوب والشرق والغرب أيضا، وهذا ما زج بالإمارة في صراع مع القبائل الأخرى، بل وحتى باقي الكيانات السياسية المعاصرة لها. أما النكبة الثانية التي لحقت بهذه المدينة / الإمارة فتأتي في إطار الصراع المذهبي الشيعي السني، والتنافس السياسي بين الفاطميين الذين برزوا كقوة ترتكز على المرجعية الشيعية في بناء مشروعها السياسي والمذهبي، وبين الأمويين بالأندلس الحاملين لمشروع إعادة إحياء مجدهم السياسي الكامن في الخلافة الأموية السنية ولا سيما في عهد عبد الرحمن بن هشام، وذلك بعد طردهم من المشرق على يد العلويين وأبناء عمومتهم العباسيين. هذا الصراع الذي كان وبالا وخيما على المدينة / الدولة بحكم موقعها طيلة القرنين الخامس والسادس الهجريين. لقد بدأ تكالب النكبات العسكرية وما جرته من ويلات وعدم استقرار سياسي واقتصادي وعمراني سنة 405 هجرية على يد مصالة بن حبوس، قائد الخليفة الفاطمي عبيد الله المهدي، فكانت النتيجة انهزام الأمير النكوري سعيد بن صالح واستباحة المدينة وسبي النساء والأطفال، بينما باقي الأمراء عبروا إلى مالقة فرارا من البطش الفاطمي ولم يعودوا إلى النكور إلا بعد مدة من الزمن ( حوالي 6 أشهر ) بعد مغادرة مصالة لها والانتصار على قائده دلولا. ما يهمنا من هذا الحدث هو أنه ساهم في ربط الصلات السياسية بالأندلس الإسلامية السنية وفي بداية خضوع ودخول إمارة نكور تحت النفوذ الأموي الأندلسي. ذلك النفوذ الذي سيجر على منطقة الريف الويلات تلو الأخرى انتهت بتدميرها نهائيا على يد يوسف بن تاشفين في سياق حملته على شمال المغرب للعبور إلى الأندلس حيث تذكر المصادر التاريخية أنه دكها دكا ولم تعمر بعد. أما الحاضرة الثانية التي كان لها شأن عظيم في تاريخ الريف خلال العصر الوسيط فهي مدينة بادس والتي كانت صلة الوصل بين عدوتي الأندلس والمغرب بحكم موقعها الجغرافي المنيع الذي جعل منها مرفأ لتصدير واستيراد السلع، ومعبرا للمجاهدين وللحضارة الشرقية نحو الأندلس خاصة وأوربا بصفة عامة. وتأسيس هذه المدينة وتاريخ ظهورها كحاضرة يبقى غامضا، كما يلف الغموض أيضا مؤسسها، لكن من المرجح أنها برزت بعد مدينة النكور حسب بعض المراجع، وكانت تضم حوالي 320 دارا وجامعا أعظما كملتقى للعلماء الوافدين من الأندلس وفاس وسبتة، ثم مساجد أخرى، إلى جانب القلاع ورباطات للمجاهدين. وكانت، حسب بعض المصادر التاريخية مدينة تجارية وميناء لمدينة فاس على البحر المتوسط، تفد عليها سفن من الأندلس وجنوة والبندقية، وبلغت أوج نموها الحضري والاقتصادي خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر. وخلال عدة زيارات ميدانية قمنا بها لموقعها الأثري، كما أشرنا إلى وذلك سلفا، وقفنا على عدة أطلال وشواهد غطتها إرسابات الوادي، والبعض منها كشف عنها الجريان القوي لهذا المجرى المائي. أما الكشف النهائي عن هذه المعلمة التاريخية فإنه لن يتأتى إلا بالبحث الأركيولوجي الذي سيسمح لنا بالتعرف على عظمتها ونموها في تلك الحقبة الزمنية، ذلك الازدهار ، النسبي بطبيعة الحال، والذي لم يستمر. فلماذا? إن الإجابة عن هذا التساؤل تقودنا إلى الإشارة إلى ما تكالب عليها من نكبات ذلك أن ازدهار نشاط القرصنة البحرية في البحر المتوسط عقب سقوط آخر معقل إسلامي بالأندلس كان عاملا حاسما في تقهقر المدينة وبداية أفول نجمها، ذلك أن ملك البرتغال سواريث مونتانس عمد إلى تشييد حصن القلعة، وهو قلعة طوريس، وذلك بالقرب من المدينة في أفق كبح جماح القراصنة. أما في 1508 فقد تعرضت المدينة للغزو الإسباني لأول مرة على يد الكونت بدرو نفارو الذي قرر بناء قلعة على الصخرة المقابلة لليابسة والتي استقرت بها حامية عسكرية أخذت على عاتقها مهمة إضعاف المدينة سياسيا واقتصاديا وذلك بقنبلتها ومحاصرتها والحيلولة دون حصولها على مؤنها ومددها عن طريق البحر. في سنة 1554 ستدخل الصخرة والمدينة تحت حكم الأتراك بعد صفقتهم السياسية مع أبي حسون الوطاسي حينما ساعدوه على استرجاع عرشه ورغبة هؤلاء في جعلها قاعدة عسكرية في إطار التنافس التركي العثماني الأوربي الصليبي بالحوض الغربي للبحر المتوسط. لكن، وبعد عقد من الزمن، أي بتاريخ 2 شتنبر 1564 استعاد الإسبان سيطرتهم على الصخرة، بعدما تعززت آلتهم العسكرية بجنود مرتزقة ألمان وصقليين وإيطاليين في إطار التحالف الصليبي، بل عمدوا إلى تدمير المدينة نهائيا مع الاحتفاظ بالصخرة المقابلة لها إلى يومنا هذا. وتجدر الإشارة أيضا إلى أن التنافس بين القوى القبلية والسياسية في المغرب الوسيط قد كانت له تأثيرات عميقة على المنطقة وساهمت في تغييب واستتباب الأمن والاستقرار. وأعود هنا إلى الفترة الزمنية التي أعقبت وفاة إدريس الثاني وما شهدته من تطاحن بين الأمراء حول السلطة والحكم لا سيما وأن بعضهم عين على بعض جهات الريف، وأخص بالذكر هنا منطقة تيكساس، كممثل للسلطة المركزية. وحينما استشرى الصراع بين الإخوة الأعداء، وتفتتت الإمارة الإدريسية، شكل المجال الريفي ملاذا لبعض أمرائهم حيث استقبلوا لاعتبارات قد تكون سياسية أو دينية. وعموما تتواجد بالريف، حسب بعض الروايات، سواء المكتوبة أو المتواترة شفويا، أسر يعتقد أنها تعود في جذورها وأصولها إلى تلك الأسر الإدريسية، وهذا ما جعل أفراد هذه الأسر يحملون لقب الشرفاء، وفي كل قبيلة نصادف هذه الظاهرة والتي تحتاج إلى بحث وتدقيق وتمحيص لإزالة ذلك الطابع الأسطوري عليها. وحينما بدأت السلطة المرابطية، وفي معقل دارها بالجنوب المغربي، تواجه معارضة شرسة من لدن عصبية قبلية أخرى، وهي العصبية المصمودية، في إطار المشروع المذهبي السياسي التومرتي، تشير المصادر التاريخية إلى أن بعض جهات الريف الشرقي لم تسلم من هذا التنافس. ذلك أن الموحدين، وفي أفق استنزاف القوة المرابطية بعدما تولى القيادة السياسية والعسكرية عبد المومن الكومي، التجأ إلى مرتفعات الأطلس أولا، ثم الريف ثانية وذلك لعزل الآلة العسكرية المرابطية والتي انهارت قواها لينتهي بها المطاف إلى الاستسلام للأمر الواقع، وتنتهي فصول هذا الصراع بتأسيس الدولة الموحدية التي ستجعل من مدينة بادس أحد موانئها الرئيسية على الساحل المتوسطي كصلة وصل بين المغرب الموحدي وبعض المدن الإيطالية وحتى في اتجاه إفريقية والمغرب الأوسط، وخاصة أن السلطة الموحدية كانت تعتمد بشكل كبير على الأسطول البحري لربط غرب الإمبراطورية وشرقها. وبالطبع، فإن الموقع الساحلي للريف سيسمح له بلعب دور أساسي في هذا المجال مما كان له الأثر الكبير على هذه الحاضرة الريفية كما أوردنا فيما سبق. هكذا يظهر لنا أن منطقة الريف، حينما أتيحت لإنسانها ظروف استقرار نسبي في العصر الوسيط، برزت بها محاولات التطور والنمو العمراني والحضري والفكري، بدليل أن الحاضرتين المتحدث عنهما سلفا كانتا بمثابة مراكز استقرار للأدباء ورجال الفقه ومختلف حقول المعرفة البشرية المتداولة في ذلك الزمان. كما شكلتا صلة وصل بين ضفتي البحر المتوسط، وبين مشرق العالم الإسلامي وغربه، فساهمتا في التبادل الحضاري والفكر الإنساني، وكان بإمكانهما أن تبلغا أكثر من ذلك لو توفر شرط الاستفرار السياسي الذي أشرنا فيما سبق. أما إذا انتقلنا إلى العصر الحديث، العصر الذي خرجت فيه أوربا من قمقمها، مبرزة فتوتها، وبعد أن صفت حساباتها مع المسلمين بالأندلس أواخر القرن الخامس عشر الميلادي ونقل صراعاتها معهم نحو الضفة الجنوبية من المتوسط، أي في عقر دار الإسلام، فإننا نجد أن الساحل الريفي لم يشهد قط فترة هدوء ولا استقرار. ذلك أن المنطقة كانت مسرحا للتنافس المستمر والمسترسل بين الأوربيين، من جهة، إما دفاعا عن حدودهم الجنوبية أو بحثا عن الثراء والغنى سيما وأن الميركنتيلية بدأ نجمها في السطوع، وبين المسلمين المجاهدين من جهة أخرى ضد الكفرة الصليبيين المعادين. ومما نتج عن هذا الصراع الوجودي الحضاري السياسي الاقتصادي احتلال مدينة مليلية سنة 1497، وسبتة سنة في سنة 1415، وجزيرة نكور سنة 1673، وجزيرة بادس سنة 1564 كما أسلفنا الذكر، وإلى تكالب الأوربيين ولا سيما الفرنسيين والإسبان على الساحل الريفي خلال القرن التاسع عشر بحثا عن الإلدورادو وما تلاه من فوضى غدت تعرف في الأدبيات التاريخية بالريفوبليك، وهي الأحداث التي توجت بالثورة الريفية الأولى على يد محمد بن عبد الكريم الخطابي مع مطلع العقد الثاني من القرن العشرين مستفيدا من انتشار ثقافة ووعي مناهض للاستعمار حفاظا على الكرامة والحرية والحقوق السياسية وبحثا عن سبل التحديث بالاستفادة من تقدم الأمم الأخرى. وبعد الانتصارات العسكرية الأولى بما توافر من الأسلحة البسيطة وشدة ومراس المجاهدين الأشاوس على استعمالها، شرع في تنظيم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية معتمدا وموظفا الخصوصيات المحلية في أفق التطوير ومواكبة التحولات العالمية آنذاك. لكن هذا المشروع أثار مخاوف عدة، لذا قوبل بالجبروت والطغيان وضيق في الأفق السياسي للمؤسسات وبعض النخب المغربية آنذاك والمتخوفة من كل ما من شأنه أن يضر بمصالحها ومواقعها، فكان مصير هذا المشروع تأخير عجلة التنمية ردحا آخر من الزمن. ذلك أن الحقبة الاستعمارية الإسبانية بالشمال بصفة عامة وبالريف على الخصوص لم تساهم قط في توفير آليات لاستقرار الإنسان في هذا المجال من قبيل البنيات التحتية والمشاريع الصناعية والخدماتية، بل عمد الإسبان إلى استغلال الإمكانات الطبيعية المتوفرة والمتاحة خدمة لمصالحهم الاقتصادية والسياسية، قترك الريف والريفيون عرضة للتهميش والإقصاء والإبعاد عن كل ما يمكن أن يشجعه على الاستقرار للتفرغ للبناء والتطور. ومع فارق بسيط يكمن في اختلاف الممثلين، سيحدث نفس الشيء عقب انتفاضة الريف في أواخر خمسينيات القرن العشرين لما تبنت السلطات السياسية في البلاد أسلوب الانتقام الجماعي من المنطقة عقابا لها على مواقفها السياسية وتشبثها بتاريخها وبرموزه وخصوصياتها الثقافية والاجتماعية وبحقها في التعبير، وبذلك تعمق تأخر المنطقة مرة أخرى، بل وحتى لا تقوم قائمة لهذه المنطقة مستقبلا، وحتى لا تكون مصدر إزعاج، شرع في مسلسل اقتلاع إنسان المنطقة وتهجيره بعيدا عن جذوره ليظل مشتت الذهن والتفكير، قد يحقق بعض الطموحات الذاتية المادية، لكنه لا يمكن له أن يشكل عقلا يفكر، يبدع، في مختلف المجالات. فهل ما أوردناه من الوقائع التاريخية السابقة وفرت لإنسان الريف ذلك الاستقرار المادي والنفسي? وهل سنستمر على ما نحن عليه? أم أن الوقت قد حان لتجاوز مخلفات الماضي الأليم والتفكير فيما يمكن أن يخرجنا من هذه الدوامة? * بقلم جمال أمزيان . -أمزيان أو أكــوح تعني بالريفية الصغير. |