التركيب والتكوين ( من قبل 4 أعضاء ) قيّم
استراتيجيات الخطاب الغربي د.إسماعيل نوري الربيعي أفرزت مراحل تطور العقل الغربي، عن ظهور حالة من التحديد والتنميط إزاء الآخر. وهذا الأمر لم يكن وليد ممارسة فردية صدرت عن جهة أو فريق عمل، بقدر ما تماثلت فيه المكنونات الخاصة داخل البنية المعرفية الغربية. فالأمر لا يرتبط بعناية متوجهة نحو الشرق فقط، بل أن التطلّع يحور في داخله الكثير والعديد من التطلّعات. والأمر كما يشير في ذلك د. عبد الله إبراهيم(11)، إلى أنه لا يرتبط بجعل الموضوع غريباً، بقدر ما هو تجلّ فكريّ اقتضته مكّونات العقل الغربي، حيث السياقات الكلّية التي تجعل من الغرب نازعاً لاحتواء جميع الموضوعات ودرجها تحت عباءته، استناداً إلى تراث عقلي وفكري ضارب الجذور في الفعاليات والممارسات التاريخية. يعود في أصوله إلى الإغريق الذين اعتبروا الحضارة اختراعاً شديد الخصوصية، فيما اعتبروا ما دونهم مجرد برابرة يأكلهم التخلف ويعبث في مصائرهم الانحطاط. وعبر الممارسة العقلية حيث الرافد الأصيل لها، والمتمثل بالفلسفة حقق الغرب خطوته اللاحقة للتوافق مع المعطى الديني بنظام عقلاني، أفضى إلى تحقيق نوع من الموازنة داخل العالم الطبيعي. ومن هنا برزت حالة التوافق ما بين التصورات التي يقدمها العقل، والالتزامات التي يفرضها الدين، لتتبلور بالتالي المكونات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأثرها في ظهور التكييفات التي تساهم وبشكل مباشر في صياغة حركة التطور الاجتماعي والثقافي عبر الحامل التشريعي والقانوني. والواقع أن الفعاليات هذه وإن تصدرت مكنون الحياة الغربية خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، فإنما يعود الفضل فيها، إلى حالة الاتصال مع الشرق العربي الإسلامي، عبر منافذ متعددة كان الأبرز منها؛ الأندلس، الحروب الصليبية 1095-1291، سعة الاتصال التجاري في البحر المتوسط. وهكذا تم إعادة اكتشاف التراث الفلسفي اليوناني عن طريق الجهود التي بذلها العرب المسلمون "ترجمة وبناء معرفيا"، لتبدأ ملامح النهضة في الغرب، من خلال ظهور الجامعات والمدارس وإنشاط الحياة المدنية وتفعيلها، عبر العناية بالدراسات الفلسفية والدينية والقانونية والعلمية. في خضم التحولات الاقتصادية التي شهدتها أوروبا، حيث زيادة حجم التبادل السلعي. برزت التربة الخصبة لتلامح الاتجاهات وتجاوبها، عبر تصدّر النشاطات والفاعلية لبعث التشريع الروماني القديم والاتجاهات الجديدة التي ظهرت من لدن رجال الدين المسيحي. فيما كان الحامل الفلسفي "الإفلاطوني" تحديداً، من أهم العوامل التي ساهمت في تكريس واقع الفعل العقلاني ما بين الطبيعة وما بعد الطبيعة. لكن هذا الفصل قام على علاقة الانسجام ما بين الروحي والمادي عبر فكرة التلازم. استجاب الغرب الأوروبي خلال القرن الثاني عشر الميلادي، إلى قانون السببية المستند إلى "العلة والمعلول"، وفقاً للمدركات التي وضعها "أفلاطون". وهكذا صار مجال البحث يقوم على أهمية استنباط العلّة وصولاً إلى سبب الوجود إن كان في المجال الطبيعي أو ما وراء الطبيعة، ومن هنا تحديداً أتيح المجال لأهمية دور الفيلسوف في استقراء الروابط والأنساق والعلل الكامنة في الطبيعة. وعبر هذه التجلّيات لم يتردد فلاسفة الغرب في تغليب عامل "العقل" لفهم أوسع للنظام الكوني، بل أن الكثير منهم أشار صراحة إلى تحديد أهمية الكتاب المقدس في تحديد الواجب والالتزام. في حين أن وظيفة التفسير والتركيب، قد أنيطت بالعقل الذي يمنح الإنسان القدرة على التكيّف والتفاعل داخل النطاق الطبيعي. فيما برزت مساهمات رجال الدين في تحديد الاتجاهات داخل نطاق البحث العلمي، حتى غدت التوصيفات تتعلق بأهمية العقل في قراءة جديدة للطبيعة، وضرورة الاعتماد على التقنيات المنهجية المتنوعة، مع التأصيل لحرية البحث العلمي واستقلاله عن كل سلطة أو تأثير، بل يكون الخضوع للعقل. ومن خلال كل هذا(12) فإن عمليات التفكير والشك المنهجي، غدت بمثابة الأساس الذي تحرك فيه العلم وصولاً إلى الروح الجديدة. في مجال تكوين العقل العلمي يعمد "غاستون باشلار" إلى تحديد ثلاث مراحل مر بها ذلك العقل، ممثلة في الحالة الما قبل علمية والتي تبدأ من العصور القديمة حتى القرن الثامن عشر، والحالة العلمية والتي تبدأ من أواخر القرن الثامن عشر من بداية القرن العشرين، والقول العلمي الجديد الذي يبدأ تحديداً من ظهور نظرية آينشتاين عام 1905. لكن هذه المراحل لا يمكن الوقوف عندها بشكل إنهائي، فهي لا تخلو من تسرب المقايسات الداخلية والخارجية. وعلى هذا يعمد "باشلار"(13) للإفادة من قانون الحالات الثلاث "الذي وضعه أوغست كونت" حيث؛ الحالة الملموسة والمستندة إلى المظاهر الأولى التي يلتقي بها العقل، والحالة الملموسة –المجردة حيث يكون العقل واقعاً ما بين التجريد والحدس، والحالة المجردة حيث يكون الحدس الأداة الأولى للعقل. الغرب من التكوينية إلى المحافظة نهل العقل الغربي وبغزارة من المعين الفلسفي، حيث التيارات والاتجاهات والمدارس. إلا أن هذا المنهل لم يكن يمثل حالة الخضوع المطلق، بقدر ما أنتج العديد من الممارسات المصرفية، التي كان لها الإسهام المباشر في توظيب المناهج وتحديد تطلعاتها في أفق رحب واسع من المعطيات المتجددة. ولم يتركز "الكمون" في معرفة واحدة، فقد كانت الساحة تقدم التطلّعات الفكرية في قوام لا يعرف السكونية. وعبر هذا القوام لم يتردد "جون ستيوارت مل" ت 1873 من الإفصاح عن مكنون فلسفة التاريخ الأوروبي وخضوعه المتناوب للحقب "العضوية" و"النقدية" حيث الأثر المباشر لحدوث التقدم. وباعتبار الرسوخ العقيدي الذي يوحد مجموعة بشرية بعينها، كانت الإشارة إلى أن الحقب "العضوية" التي مرت بها أوروبا قد تمثلت في؛ "اليونان والرومان، المسيحية والقرون الوسطى، عصر الأنوار وروح الابتكار العلمي"(14). إلا أن حالة الرسوخ العضوي ما كان لها أن تتبدى ملامحها واضحة، لولا تداول مؤثرات الحقب النقدية المتطلعة إلى تحليل العوامل، فالحقبة العضوية الثالثة التي مرت بها أوروبا، ما كان لها أن ترى النور لولا مؤثرات العديد من الحقب النقدية والممثلة في حركة الإصلاح الديني، الكشوفات الجغرافية، الإصلاح القانوني، المخترعات العلمية، الثورة الفرنسية. وعبر تلاقح النقدي بالعضوي، تهيأ لأوروبا من الوقوف على تكوينها المعرفي والعقلي الذي بدا عليه ملامح التشظي والتعددية. فالتكوينية شديدة الحراك والفاعلية، باتت نهباً لظهور ملامح الإيغال في ظهور النزوع الذاتي والانقسامية داخل الكيانات الأوروبية. وغدت العلوم موزعة في تفريعات جديدة، هذا مع أهمية الملاحظة بأن التصدر بات للعلوم على حساب اللاهوت والفلسفة. كان الفرز الأهم قد تبدّى في ملامح الفكر السياسي والتاريخي، حيث التحول من الكلياني إلى النسبي، حيث الاتجاه للعناية بالجزئيات. وبقدر التنوع والتعدد في الأفكار، برزت ملامح الانقسام والتعارض وسط هذا الاختلاف. لينزوي التأمّل جانباً في ظل الأهداف والغايات المتعددة التي نادت بها الفردية في ظل الليبرالية. ليتم تعزيز الاتجاه نحو الانقسام والتعدد في النظرة إلى العالم، حيث النظريات(15) التي ظهرت في مجال القومية والحضارة والسياسة. وهكذا صار الغرب الأوروبي خاضعاً لعاداته الفكرية، باعتبار الإجابات التي قدمتها تجربته المعرفية، ومن هنا تعرض "السؤال" للضمور، مقابل حضورية واضحة القسمات لجاهزية الأجوبة، لتتبدى ملامح المحافظة في الفكر الغربي. الخصومة الثقافية ما يميز الاستشراق؛ تلك الحراكية الفائقة في توظيب معالم الاتصال مع الآخر، وهنا تحديداً الشرق الإسلامي. هذا بخضوع الموضوع لطبيعة اللقاء التاريخي التي تم بين الطرفين. ويوضح العديد من المؤرخين إلى أن الفعاليات الاستشراقية كانت قد بدأت منذ القرن السابع الميلادي، باعتبار الظهورية التي بدا عليها الإسلام في تلك الحقبة، وحالة النشاط الدافق، والذي تمثل في الانتصار الإسلامي الساحق على القوات البيزنطية في معركة اليرموك. هذا باعتبار لحظة التنبيه إلى التزاحف الجديد الذي لا تملك المقومات الحربية والعسكرية فقط، بقدر ما يحتوي على القيم والاتجاهات الواضحة والمتمثلة في الثقافة والحضارة ذات المعطى الواضح. والتي تجلّت في الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، وتوجّه العديد من طلاب العلم الأوربيين للدراسة في المعاهد العلمية التي انتشرت في تلك الربوع. حتى غدت اللغة العربية الوعاء الذي يستوعب المادة العلمية. ومن هنا تحديداً كان التطلع لتعلّم هذه اللغة، والتي بلغت مداها حين تم ترجمة معاني القرآن الكريم على يد مجموعة من رجال الدين المسيحي، خلال القرن الثاني(16) عشر الميلادي. فعالية الاستشراق كانت تبديّاً واضحاً للانتقال من محور العلاقات بين الغرب والشرق، إلى محور العمليات، حيث الاتجاه المركّز والمكثّف نحو صياغة المعنى. من خلال الغور في مجال تصنيف المعطيات الموضوعية داخل النموذج، ومحاولة استنطاق وتوليد قيم وأنساق مرتبطة بالمعنى الداخلي الذي تستبطنه الذات، من خلال التركيز على إنتاج أنماط خاصة من الخطاب. للوقوف على بنية دلالية بعينها، يتم عن طريقها تحديد مكوّنات الموضوع. حيث التطلّع نحو الكشف عن الموجّهات الثقافية والأيديولوجية بأشكال مختلفة ومتنوّعة. وموضوع الدلالة التي ينشغل بها الاستشراق يرتبط بالمكونات الذاتية داخل نطاق الغرب، حيث آليات الاشتغال المتوجّهة نحو نقل المفاهيم من بعدها التجريدي إلى بنية محسوسة ذات بعد تركيبي، وصولاً إلى المعنى الذي تقدّمه جهة بعينها، عبر الحامل اللغوي والفكري المتمثل بالخطاب والشروط المحددة لاتجاهاته ورهاناته ضمن مجموعة ثقافية خاصة، استناداً إلى القواعد المبرزة لجملة من المنطوقات المنظوية تحت لواء هذا الحامل، المتمثل بالخطاب(17) الجامع للمواضيع وتوزيعاتها والمقولات والمفاهيم والمضامين التي تشكل وحدتها العبارات. في علاقة التحويل التي نسعى نحوها في مجال درس الاستشراق، يكون الوقوف على معطيين، يتمثّل الأول بالانفصال حيث تحوّلات النفي، فيما يكون الثاني اتصالاً حيث تحوّلات الإثبات. وعبر علاقة الانتقال بين هذه العمليات يتم تحديد السمات الخاصة بتركيبة العلاقات القائمة بين العوامل، وصولاً إلى فسحة الدلالات وإنتاج المعنى الذي يمكن أن تقف عليه الذات. لا بد من الإشارة هنا إلى علاقة التناقض التي تقدمها عملية النفي والإثبات، ستؤدي إلى إبراز ذاتين يقوم بينهما الصراع من أجل الوقوف على موضوع محدد لكل منهما. وهذا بالضبط ما تعاني منه الدراسات الاستشراقية. حيث يتجه قسم منها لتوكيد النزعة الانقسامية وتعزيز روح العداء تجاه الشرق، فيما يحاول قسم آخر أن يتسم بالموضوعية والحياء عند التعامل مع موضوع هوية الشرق ولكن في أضيق الحدود. العوامل التركيبية لبنية الخطاب الاستشراقي في محور الرغبة تبدو العلاقة وطيدة جداً، بين عاملي الذات والموضوع. حيث تتوجه الذات "الاستشراق" لإثبات أو نفي حالة بعينها. من خلال توطيد علاقتها بموضوع "هوية الشرق" لإثبات فاعليتها وتوكيد حضورها. كذلك الأمر بالنسبة للموضوع الذي لا يمكن الوقوف على محدداته وتجلياته من دون العلاقة بـ "ذات". ولا بد من الوعي هنا، بأن المبادرة ومصدرية الفعل ترتبط بفعل الذات الذي يمنح العلاقة حالة من التقابل في المفاهيم من خلال عمليات التحوّل. فعلاقة مثل؛ "التخلّف – التحضّر" تعكس حالة التحوّلات في النفي والإثبات. فالتحضّر يمثل الصورة الأفضل إذا ما قورن بالتخلف، وباعتبار القدرة على توزيع العلاقات، فإن عنصر التحريك يكمن في الذات باعتبار الغاية التي تكتنز بها. |