مجلس : الأدب العالمي

 موضوع النقاش : الإستشراق الإحالة و الإحالة المضادة    قيّم
التقييم :
( من قبل 9 أعضاء )
 اسماعيل نوري 
14 - يوليو - 2006
الاستشراق ؛ الإحالة والإحالة المضادة
د.إسماعيل نوري الربيعي
يحيل مصطلح الاستشراق إلى المزيد من سوء التداخل والفهم، هذا بحساب حالة المباشرة التي يحتويها، بين السياقات الثقافية والمعرفية وتمييز حالة الاختلاف القائمة بينهما.وإذا كان الملمح الأكثر حضورا، يقوم على حالة التمييز في فواصل القوة التي تنطوي عليها ملامح العلاقة بين طرفين ، يكون المسعى الأوضح فيه وقد استند إلى السيطرة والهيمنة والاختراق من خلال المعرفة، وصولا إلى محاولة بسط النفوذ الذي يتمثل في السلطة.وبالقدر الذي يكون فيه الاستشراق عرضة للهجوم والنبذ واللعن، فإن كم الافتراء الذي يختزن به المصطلح ، يكون بمثابة الموجه نحو أهمية التبصر لا بكم المعرفة الذي يقوم عليه ، بقدر ما تبرز أهمية المقاصد والنوايا والغايات والأهداف، خصوصا وأن السياقات التي يبرز نشاط الاستشراق فيها ، يكون في الغالب مرتبطا بحجم النشاط السياسي الصادر عن الغرب، الذي لم يتوان عن الزحف نحو الشرق، في اندفاعات عبرت عنها الموجة الغربية الأولى ممثلة في الحروب الصلييبية 1095 – 1291 والموجة الثانية 1507- حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، فيما تبرز تمثلات الموجة الثالثة في أعقاب نهاية الحرب الباردة بين الغريمين الشيوعي والرأسمالي، والتنظيرات التي راح يتصدى لها الخبراء الاستراتيجيون في رسم طبيعة ومحتوى طبيعة العلاقة بين الغرب بوصفه نظاما معرفيا وثقافيا وسياسيا، والشرق الأوسط تحديدا، باعتبار ماتمخض عن مسار الصراع الحضاري الذي أسس له هنتغتون في صدام الحضارات، والتي استقاها من طروحات المستشرق المحافظ بيرنارد لويس.
ابتذال الآخر
مابين الركام التقليدي الذي يقف عليه التراث الاستشراقي، والرؤى والتصورات والرهانات التي قام عليها، والمنظور المحّور للاستشراق الجديد الذي راح يتماهى مع ترسيم ملامح ومخططات السياسة الغربية، وما يند عنه من معارف ومفاهيم وسياقات، تكون بمثابة الدلالة الراسخة على حالة التعيين للموجهات التي قام عليها الاستشراق كمجال نازع نحو تكريس رهانات المعنى وارادة الهيمنة، حيث السعي المباشر نحو التطبيق وحث اللوازم الممكنة في شرعنة المعنى الصادر الذي يترسمه طرف المعادلة القوي.
ماهي القطائع المعرفية الممكنة بين الاستشراق التقليدي الذي أسست له المؤسسة الاستعمارية ، بوصفه طليعة للمصالح الامبريالية الزاحفة نحو الشرق بكل غموضه  وطلاسمه وثرواته وبسطه الطائرة ولياليه الساحرة.حيث حملة الصليب الذين أرادوا تصدير مشكلاتهم الداخلية إلى الشرق تحت دعوى الحج المقدس والطريق إلى الله، حتى كان صراع المصالح والبحث عن السلطان بمثابة الهدف الأسمى للأمراء الصليبيين، طيلة ثلاثة قرون من الزمان، فيما مثلت رحلة ماركو بولو التي بدأها عام 1271 عابرا الموصل – بغداد-خراسان البامير –كشغر وصولا إلى بلاط قوبلاي خان في 1275، هذا الأخير الذي لم يتردد عن طرح السؤال عن)) القسم الغربي من العالم، وامبراطور الرومان وغيره من الملوك والأمراء المسيحيين، والطريقة التي يقام  بها ميزان العدل في ممالكهم وكيف سلوكهم في الحرب، وأخرى تتعلق بوجه خاص بالبابا وشؤون الكنيسة، ومالى المسيحيين من العبادات الدينية والمذاهب))رحلات ماركو بولو، صص35-36 .أو قدوم الفاتح البرتغالي الذي تكللت له مظاهر الظفر عبر سقوط الأندلس واكتشاف العالم الجديد عام 1492 وعبوره لرأس الرجاء الصالح عام 1498،عابرا الطريق إلى الهند بمحاربيه ومبشريه وتجاره.
تمجيد الصراع
في عملية الصراع التي راحت تحيل إلى المجمل من فعاليات التركيب العقلية ، باعتبار ما تحصل عليه الغرب من رؤى وتصورات باتت تصطف لصالح الموضوعي والمعرفي، تبقى اشكالية فعالية الاستشراق والتي راحت تعتاش على حالة الانتهاك والحذف والتبديل وقسر المعاني ، باعتبار تملك العقل ومعطياته العلمية ، حتى باتت ملامح المستشرق الكلاسيكي تتبدى في هذا التشكل الصارم والنازع نحو تحديد المدى والهدف والغاية ، والذي غالبا ما يستهدف الإسلام الذي كان في مواجهة الغرب موحدا ثابتا، في الوقت الذي عانى الغرب من الانقسامات ولوثة الصراعات، حتى أن هشام جعيط لا يتوانى من الإشارة إلى حالة التعاضد التي يقوم عليها الاستشراق بشقيه الديني والعلماني في توجيه معالم نقده إلى الإسلام باعتبار العواقب الناجمة عن حالة التواصل الثقافي، والتمثلات المنقوصة القائمة على سوء الفهم والتداخل في المعاني.
القوام المنهجي الذي يستند إليه الاستشراق يسعى نحو الخارج بداهة، ومن هذا فإن التطبيقات تبقى تعاني من الإدراكات الذاتية والأحكام المسبقة والبديهيات والمسلمات التي تفرضها مكنونات النموذج الجاهز، بحساب أن المستشرق يستدعي حالة من المواجهة المبطنة ، يستحضرها من نموذجه الخاص، ليعمل على اسقاطها على النموذج الآخر قيد الدرس، ليتبدى في النهاية وكأن الأمر ينطوي على صراعية ناشبة بين الغرب النابه والعاقل والدارس والشارح والواصف، والشرق الجامد الذي يتلقى ويستقبل، بل أن الدارس الغربي كثيرا ما يقع في فلك الدفع والتوجيه انطلاقا من الخصوصيات والسياقات التي يضمرها، ليكون الغرب وقد حضر في المجمل من التفاصيل التي يخوض فيها المستشرق، بكل مالديه من حصانة عقلية وتدبرات منهجية واشتقاقات معرفية.ولا يسلم الأمر من حالة الولوج في متاهة المقارنات المتعسفة، بين غرب متحضر وشرق متخلف، إنساني وحشي، متقدم متأخر، ليكون الوصف وقد طغى على المجمل من الفعاليات التي تتلفع بالموضوعية وتسعى إليها بجدية وصرامة، فيما تبقى التسربات الذاتية والتسللات الخاصة ، بالمقابل يكون الوعي الذاتي وجدل الهويات بمثابة  آلة الدفاع الحاضرة، بإزاء لعبة الروحي و الثقافي التي يتم استحضارها وفق غائية وأهداف، لا ينجم عنها سوى سوء الفهم أو الافتراء أو تعميق الفواصل والمسافات.
imseer@yahoo.com
 
 


*عرض كافة التعليقات
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
حول موضوع الاستشراق ....    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
الأستاذ الفاضل إسماعيل ...
السلام عليكم ورحمة الله ...
مقالتكم حول الإستشراق " الإحالة والإحالة المضادة" يحتاج " قراءة وقراءة مضادة " بما يستثيره من اسئلة واستفهامات جديرة بالتحليل والمناقشة ...
******
لا شكّ أنّ التاسيس لدراسة الخطاب الاستشراقي في الاوساط العربية قد ابتدأ (ولا ندري متى سينتهي) مع دراسة إدوارد سعيد عن الإستشراق : المعرفة ، السلطة ، الخطاب (بدلا عن لفظ الإنشاء العزيز على نفس أبو ديب) ...
 
وقد يحتج البعض ضد هذا الحكم بالرجوع إلى الكتابات المؤسسة لنقد الاستشراق في الوسط العربي ، بدءا بحنا الفاخوري (كما يقترح د. خيري منصور) وصولا إلى أنور عبد الملك في مقالته " الاستشراق في أزمة " ...
 
بعيدا عن هذا ، إستطاع إدوارد سعيد بالاعتماد على المنهج "الغربي" ، نقد شطر شاسع من بنية المعرفة الغربية حول الشرق ، معتمدا على مقولات الهيمنة (ألتوسير) ، الخطاب (فوكو) ...
 
غير أنّ رؤيته العدمية للمعرفة ، ونفيه إمكان تحقيق التطابق بين الذات العارفة وموضوع معرفتها ، عندما تكون هذه الذات غريبة ، بل ومعادية ومهيمنة لموضوع معرفتها ...
 
لم يتأخر د. صادق جلال العظم في الرد على " الاستشراق" من خلال رؤيته " الاستشراق والاستشراق معكوسا" ، وقد يكون - في رأيي - مشروع رد أكثر منه نقد للكتاب ولمضمونه ...
 
على كل ، تواصلت الكتابات التي ترفد المشروع السعيدي ، مع ربطه بمجالات جديدة من قبيل الانثروبولوجيا ، الدراسات الإثنية ، الكتابات الأدبية و النقد مابعد الإستعماري ، فيما تواصل الدفاع المستميت عن " الرجل المريض " في كتابات برنارد لويس ، رودنسون ... وغيرهم ( أنظر : كتاب هاشم صالح حول : الاستشراق بين دعاته ومعارضيه ) ...
 
********
يفتتح " جون بول شارنييه"  كتابه " أضداد الشرق " بمقولة هي اقرب إلى اللعنة الأبدية : " لن تعرف أبدا سرّ المايا "
لا شكّ أنّ هذا المقطع يختصر إشكالا معرفيا كبيرا يكمن في موقف الذات من موضوع معرفتها ، حينما يتغاير هذين العنصرين ... هل ابتذال الآخر موقف لا مندوحة منه حين تكون الذات مهيمنة ، قوية ، عقلانية ... وترى شطرها الآخر مستلبا ، عاطفيا ، خياليا ... بل أنثويا أحيان أخرى ...
 
الإحالة على الإستشراق الكلاسيكي يعطينا أمثلة - لا يمكن حصرها - لكن ماذا عن الاستشراق الحديث ?
 
السؤال الآخر كيف يمكن تفسير تواصل هذا الخطاب وتماسكه وحيويته ، على الرغم من جماع النقد الموجه له ، ليس من قبل العرب والمسلمين فحسب (مع ملاحظة الأصول المسيحية لإدوارد سعيد ولأنور عبد الملك) ولكن من قبل كتاب الغرب ذاتهم مثل نقد بيرك للانثروبولوجيا الاستعمارية ، بل ومحاولة ردم هذا المصطلح سنة 1973 واستبداله بدراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ?
 
أعتقد أنّ نظرية " البقايا " الألتوسيرية تفسّر بامتياز إستمرار سريان الدم الإستشراقي في اوردة النظرة الغربية للشرق (أنظر مثلا موقف الصحفي الفرنسي من الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975 في كتاب " الاستشراق " ) ... ولكن أيضا في الخطابات السياسية والإعلامية التي تطلع علينا يوميا ....
 
*****
أرجو أن يستزاد الموضوع بحثا في ما يأتي من الأيام القادمة إن شاء الله
 
زين الدين
*زين الدين
15 - يوليو - 2006
الاستشراق والخصومة الثقافية    ( من قبل 3 أعضاء )    قيّم
 
الاستشراق؛ تجليات الخصومة الثقافية

             "الآخر المفترى عليه دائماً"

د.إسماعيل نوري الربيعي

 

 
 
 
"الأفكار وحدها لا تصنع التاريخ فالقوى الاجتماعية والاقتصادية تؤثر هي أيضاً؛ لكن الأفكار ليست في الوقت نفسه نتيجة سلبية. إنها في البدء تجعل الأفعال ممكنة، ومن ثم تسمح بأن تجعلها تقبل"
                                                                                             تودوروف    
 في لجة الانقسام
تمثل ظاهرة الاستشراق هماً قديم الحضور في الذهنية العربية والإسلامية، ولعل حضورية هذا الهمّ، تتبدى ملامحه، في صدور خطابه عن الغرب المزدحمة صورته بالتآمر والهيمنة والسيطرة، وجميع ما يمكن إدراجه من مكامن الخشية والحذر، بل والخوف أيضاً. لعل الجاهزية الانقسامية في تحديد مواقف الآخر، تعد الثيمة  البارزة والأكثر ملمحاً في تحديد طبيعة العلاقة الصراعية في جدلية "الذات والآخر". وبقدر مكامن القدرة العالية التي تحظى بها المدرسة الغربية في تطلعها نحو رصد الظواهر المختلفة، هذا على صعيد جهاز اشتغالها في المجال الذهني والفكري. فإن حالة النفور، وتحديد المواقف المسبقة، ونظرة التشكيك، كانت تمثل المفاصل الرئيسة في الموقف من الظاهرة الاستشراقية، حتى كانت الرواسب قد تبدت في تبديد مواطن القوة المفترضة ومناشط التفعيل داخل البيئة المعرفية التي تقدمها. ولا بد من التأكيد هنا "ومن دون الشعور بارتعاد الفرائص إزاء تحديدات الانضواء" على أهمية موضوعة "التجاوز"، والتوقف ملياً عند حالة "التجاور" المفضية إلى تفعيل حالة الحوار الجاد والبحث الهادئ، في المضامين المعرفية التي يحتويها الخطاب حيث المكونات الذهنية والعقلية.
على أية حال لا يمكن التغافل عن حالة التقابل التي تفرضها الوقائع بين مكونين معرفيين، الأول ويجسده الخطاب الاستشراقي الغربي بكل ما يحمله من مضامين واتجاهات عقلية وذهنية. فيما يتشكل الثاني من خلال المعطيات التي تقدمها العروبة والإسلام بجميع الحيثيات واللوازم الفكرية الكامنة فيهما. وإذا ما كانت الموجهات بين الشرق والغرب قد خضعت في الكثير من اللحظات التاريخية، لمفصل المواجهة المباشرة والصراعات العسكرية والحربية(1). فإن وجهة الديمومة فيها، إنما تخضع لطبيعة الخطاب الذهني الصادر عن كلا الطرفين، بل أن هذا الخطاب يعّد الموّجه الأهم في تحديد حالة الهياج والهدوء في مفصلية التقابل القائمة. ومن دون الاتكاء على المعطيات الذاتية، لا بد من الإقرار بأن المبادرة والتص
والتصدّر في موضوعة القراءة والفحص، إنما تصدر عادة عن الغرب، وعلى هذا وسمت الظاهرة بعمومها "بالاستشراق"، انطلاقاً من العناية بفحص وتبصّر يصدر عن جهة بعينها، تمثلت بالغرب الذي قيّضت له الأدوات والوسائل من الإمساك بلحظة الإنجاز، باعتبار ما تحصلت عليه من إمكانات ضبط معرفي ومنهجي، ساهم في بلوّرة نقلتها الحضارية من الظلامية التي كانت تسود عموم الغرب خلال العصور الوسطى، إلى فضاءات من الانفتاح عبر عصور؛ النهضة والأنوار(2) والحداثة. متكئة في هذا على الثورات المعرفية الكبرى، التي تجلّت في عمق البنية الاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية. لتتمظهر في ثورة المخترعات العلمية التي تركزت أنشطتها في الجزر البريطانية، وحركة الكشوفات الجغرافية التي أسهمت في إنجازها أسبانيا والبرتغال وحركة الاحتجاج الديني "البروتستانت" على يد مارتن لوثر في ألمانيا، وتميز قسمات حركة الأنوار الفلسفية، والمؤثرات والاستتباعات التي أفرزتها الثورة الفرنسية. وعبر هذه المدركات وفق الغرب لاستجلاء ملامح منهج ذهني وفكري بارز، قوامه المعالجات العلمية الواضحة، لكن هذا القوام لم يكن ليخل من التعاليات المركزية، وشيوع نظرة الدونية والتخلف إلى الآخر، بل وتماهيه في إرادة التطلع نحو الهيمنة والسيطرة وفرض الحضور في الكثير من الحالات واللحظات.
في الطرف المقابل، كان العرب المسلمون يدورون في فلك المقولات التقليدية، المستندة إلى العاطفة والشغف بالحماس والتتطع  بالمقولات المكرورة عن الماضي التليد والأمجاد القديمة، فيما توجه الكثير منهم إلى الإعراض عن قراءة النصوص الاستشراقية دامغينها بالكفر والإلحاد والشذوذ. ومن هنا تحديداً تم ابتناء التصور الجاهز حول الإنجاز الاستشراقي، حيث عمومية النظرة إليه، باعتباره سياقاً معرفياً "آخر" غايته انتزاع مكنون الأصالة، وهدم المحتوى الداخلي للنسق(3) المعرفي داخل بنية الثقافة العربية الإسلامية وتشكلاتها الذهنية.
المرجعية التي يستقي منها خطاب الاستشراق مكنونه المنهجي، يندرج في سياقات ورهانات ومعاني وارادات ذات طبيعة واحدة. لكن هذا التوصيف لا يمثل الحالة بعمومها، إذ تشير القراءة المتأنية والمدققة إلى الكثير من الفواصل والتقاطعات في آليات المشتغلين من المستشرقين، كل حسب رؤاه وتصوراته ومنطلقاته النظرية. وإذا ما كانت الوجهة واحدة، فإن الوسائل والطرائق مختلفة ومتعددة، يحفزها في هذا الحراكية الفكرية العالية التي عاش في كنفها العقل داخل النطاق الغربي، وحالة القطائع المعرفية التي دشنها المفكرون والفلاسفة داخل البنية المعرفية. حتى كان تاريخ الفكر الغربي عبارة عن فسيفساء معرفية، تجلت فيها الكثير من المدركات والتبصرات من؛ مادية ومنطقية وتاريخية، وصولاً إلى الحداثة، وحتى مرحلة ما بعد الحداثة، والخوض في مضامين اللامركز والاختلاف والبنيوية والتفكيك. والواقع أن التنوع المنهجي هذا الذي يطبع الغرب، يمثل مكنوناً جوهرياً في ترسيمة  تحديد الموقف إزاء الاستشراق. ولعل عمق الإشكالية تتبدى في استجلاء ملامح العلاقات والروابط التي تقوم عليها المناهج الغربية. فليس الأمر منوطاً بحالة الانبهار حول المناهج الحديثة واعتناقها وتحميلها الجوهر المطلق واعتبارها الحامل الموضوعي للحقيقة الواحدة، بقدر أهمية الخوض في كنهها واستشراقاتها، للوقوف على بلورة موضوعية لتحيناتها وافتراضاتها المنهجية وطبيعة المواقف الصادرة عنها، عبر دراسة الحامل المعرفي الذي تخوض فيه، فعلى سبيل المثال يتوقف المنهج البنيوي، عند تركيبات بالغة الاستقرار والسكونية في مجال النطاق الذي يغور فيه، اعتماداً على اعتناق المقولة المغلقة؛ حول العقل العربي والإسلامي، هذا إذا ما تم أخذها نظيراً لظاهرة التأخر في هذا النطاق، في حين أن المنهج السوسيو_تاريخي تكون دالة الانفتاح فيه أوسع، باعتبار تعامله الموضوعي مع حالة التغير الحادث في الظواهر، فإذا ما زالت الظواهر المرتبطة بالتأخر، يكون الانفتاح نحو التغيير وبالتالي التحويل بالمعاني(4) وصولاً إلى الحالة المثلى والأفضل، حيث الارتباط بالظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية.
*اسماعيل نوري
15 - يوليو - 2006
الأنساق والمكونات    ( من قبل 2 أعضاء )    قيّم
 

 

الأنساق والمكونات

د.إسماعيل نوري الربيعي

ساهمت جملة من العوامل في إظهار التصورات الاستشراقية وتركيز محتواها في المجال العربي الإسلامي، باعتبار أن المبادرة تكون لدى "الغالب" الذي تهيئ له قدراته وإمكاناته من تعزيز رؤاه وتصوراته. فيما كان للمحتوى الفكري الذي ساد الغرب خلال القرن التاسع عشر، أثره في تعميق حدة الفواصل وتثبيت العوامل العرقية كأساس في توجيه النظرة وتحديدها نحو الآخر. وعلى الرغم من جميع التحولات التي طرأت على الغرب، والتي كان لها الأثر المباشر في خلخلة المرتكزات الذهنية والفكرية السابقة، إلا أن حالة التعالي الغربي بقيت ماثلة وحاضرة في الواقع الموضوعي. ليعزز من رصيدها التوجهات الحثيثة والمستمرة من لدن الآخر لاعتناق جميع ما يجود به الغرب من مناهج وأفكار ومفاهيم. بل أن الأمر يبلغ مداه حين يكون الغرب بمثابة الحامل الأوحد للحقيقة العلمية، باعتبار ريادته وأسبقيته في المجال. ومن دون تحميل هذه الظاهرة جميع المثالب، لا بد من التوقف عند مسألية التطبيقات المنهجية. فالغرب وبحكم التحولات التاريخية والاجتماعية والسياسية، قيض له من تعزيز انتشار خطابه الذاتي لدى المنظومة المعرفية للآخر. بل أن مبدأ المقايسة الذاتية لدى الآخر، صار جل اهتمامه يتطلع نحو النهل من هذا الغرب. ولعل الواقع الذي تعيش في كنفه الجامعات العربية، يفصح عن تدبيج شروط جديدة لإتاحة فرص العمل فيها أمام حملة المؤهلات العالية، يكون البند الأول؛ أهمية الحصول على الشهادة من جامعة غربية معترف بها. ولا يقف الأمر عند هذه الحدود، بل يعمد الكثير من الأكاديميين العرب من المدافعين عن أصالة الحضارة العربية والمنبهين إلى خطر المناهج الغربية، إلى التنافح والتباهي أمام زملاءهم، على أنهم من خريجي السوربون وأوكسفورد وهارفارد، وأن المساواة مع خريجي الجامعات الأخرى، ما هي إلا قسمة ضيزى!

تبقى القيمة التي تقدمها المناهج العلمية، كامنة في هدم محتوى التصورات السابقة، وحفز الذهن والعقل نحو الانفتاح برؤية جديدة قوامها ديناميكيا الموضوع. وإذا ما سادت في الوسط الثقافي العربي اعتبار التحولات في المعاني مثلبة ومثار غمز ولمز، فإن الغرب استند في بناء مدركاته المعرفية على هدم مرتكز اليقينيات الفكرية، وانطلق في فضاءات متجددة من التحليل والتنظير والحفر المعرفي والتفكيك والثورات المنهجية التي لا تنقطع ولا تتوقف. حيث شملت جميع العلوم والمعارف، وراحت تؤسس لمفاهيم جديدة. وعبر كل هذا برزت ملامح التبدل في مكنون الخطاب الغربي، حيث لم يعد شرط التقدم مرهوناً بالمقايسة مع خطوط التجربة الغربية، بل صار الارتباط بعاملي الفاعل الاجتماعي والتحولات السياسية، الذي تقدمه فرضيات المنهج "الاجتماعي – التاريخي" وسياقاته، حيث الارتباط العميق بعنصر المبادرة الاجتماعية، وما يحمله من مضامين تحدد ملامح "الهوية"، ومدى الفاعلية الاجتماعية على التعامل مع المعاني في سياقاتها ورهاناتها والقدرة على تحليل العلاقات من خلال التأويل وصولاً إلى فهم أدق لخصوصية(5) الظاهرة.
وكان القرنان التاسع عشر والعشرون قد شهدا تطلعاً حثيثاً من قبل العرب والمسلمين للنهل من معين التجربة الغربية، والتي تمثلت في بروز حركة الإصلاحات العثمانية، حيث عمد السلطان محمود الثاني إلى إصدار "خطي شريف كولخانة" الإصلاحات الخيرية عام 1839، والتي أفصحت عن النوايا الغربية في مسألة المعتقدات الدينية، حيث أشار مرسوم الإصلاح إلى كفالة حرية الأقليات داخل حدود السلطنة، لتبدأ سلسلة التدخلات في الشؤون الخاصة للإمبراطورية العثمانية. أما "خطي شريف همايون" والصادر عام 1856 فقد جعل من هذه الإمبراطورية مرتعاً للمصالح الرأسمالية الغربية. والواقع أن ملامح التغريب، كانت قد تبدت منذ بواكير القرن الثامن عشر حين تطلع السلطان أحمد الثالث لتقليد النموذج الأوروبي في تحديث المؤسسة الحكومية. وإذا ما ركنا عامل الفاعل الاجتماعي جانباً، وتوقفنا عند عامل التحولات السياسية، لوجدنا أن "التنافس"(6) يأخذ مداه في سياق بروز الفعل السياسي وتوجيه المعاني. فالقناعات الداخلية شيء، والواقع شيء آخر، ولعل مقولة السلطان عبد الحميد الثاني تفصح عن هذا المكنون بقدرٍ وافٍ حين يقول: "إن الإسلام لا يعادي التطور والرقي، لكنه يرفض التطور المستند إلى مبادئ غريبة عنه، فلا بد أن تكون مبادئ تطورنا من صميمنا وواقعنا"(7). ومن هذا يمكن الوقوف على عمق الأزمة التي كانت تعتلج داخل المكنون الذهني لدى أعلى سلطة في العالم الإسلامي ممثلة بالسلطان عبد الحميد، حين تتقاطع مدركات الهوية الاجتماعية والتاريخية، لحالة التجاوب التي تعكسها مدركات النقل والتحويل حيث الارتباط الحميم بالاستراتيجيات والمصالح الدائرة في فلك الغالب.
خضع الفاعل الاجتماعي لمكنونات النقل والاقتباس المباشر. حيث تطلعت النخبة العربية للنهل من تيار "التحديث" الذي يمثل شرط الإصلاح للأوضاع المرتبكة والمضطربة التي عانت منها الولايات العثمانية. فيما غدا "التغريب" هاجساً شديد النجزية، حتى لدى المنورين، لاعتبارات تتعلق بسكونية العلاقات الاجتماعية وارتباط حركة الإصلاح بالمركزية العثمانية، فيما بقي الغرب يمثل دار الحرب المحمل بالأطماع وسوء النوايا والوريث الطبيعي للقوى الصليبية.
وعلى ذات الوتيرة يتصدر عامل "التحولات السياسية" الواجهة في السياق التاريخي – الاجتماعي للعلاقة بين الإسلام والغرب، عندما عمدت جمعية الاتحاد والترقي ذات التطلع العلماني، إلى قيادة ما يعرف بـ"الانقلاب العثماني عام 1908". والمعتنقة لأهداف الثورة الفرنسية "حرية، إخاء، مساواة"، حيث عملت على إعادة العمل بالدستور وأعلنت عن حرصها على تطهير الجهاز الإداري والحكومي من الفساد(8) والترهل الذي عم السلطنة.
تداخل الأنساق والرهانات
وجدت النخبة العربية الإسلامية نفسها في لجة من التطلعّات المنقسمة، غير محددة الأبعاد والملامح. حيث الاتجاه نحو اللامركزية والتي طبعت محمد علي بك في مصر وحمودة باشا في تونس والرايات في الجزائر وداود باشا في العراق والمقر منليون في ليبيا. والواقع أن القياد كان يشير إلى استحكامه بيد العناصر غير العربية حيث المماليك الذين قيّض لهم السيطرة على مقاليد الأمور، فيما وقع العبء الأكبر على العنصر العربي. لكن هذا القوى لا يعني إغماط خصوصية تجربة التحديث في مصر والتي تم القضاء عليها بتحالف بريطاني _ عثماني عام 1840. لينجم عن هذا توّجه الحكام اللاحقون لاعتناق تيار "التغريب"، والذي جعل من مصر سوقاً لتصريف البضائع البريطانية وحقلاً واسعاً لإدامة زخم مصانع النسيج في إنكلترا. وبقدر ما برزت سمات المقاومة والرفض للتدخل الأجنبي الاستعماري، من قبل النخبة الوطنية، فإن هذه السمات بقيت غير واضحة المعالم، لاعتبارات تتعلق بالواقع الاجتماعي الذي كانت تعيش في كنفه. وعليه غدا الرفض مجرد معرفة غائبة عنها الإرادة والسلطة. ولعل عمق المأزق الذي وقعت فيه النخبة العربية يتبدّى ماثلاً، في توّجه القوميين العرب(9) نحو الحلفاء خلال الحرب العالمية الأولى، بل وإعلان الثورة العربية الكبرى عام 1916 ضد العثمانيين بدعم ومباركة بريطانية. وهاهي ذي التحوّلات السياسية تقصي مرة أخرى عامل الفاعل الاجتماعي. والتي أثمرت عن ولادة الدولة القطرية والتي كانت من النتائج المباشرة للسيطرة الاستعمارية المباشرة على الوطن العربي.
مثلت مرحلة ما بين الحربين العظميين مخاضاً فكرياً له حضوره الواضح في ترسية الوعي العربي، حيث الارتباط بظهور تشكيلات اجتماعية جديدة تمثلت بالدور الذي لعبته البورجوازية الصغيرة، والتي قيّض لها قطف ثمار النهضة التعليمية، وحاجة الدولة القطرية إلى الكوادر الوسطى. لتشهد هذه المرحلة ضمور فعاليات الطبقات القديمة من تجار وحرفيين ورجال دين، فيما تعزز الاتجاه نحو النزعة القومية من قبل هذه الفئة "البورجوازية الصغيرة"، حيث وجدت أن مكمن إرادتها المعرفية يقوم على "مطلب الوحدة العربية" في حين أن إرادة السلطة كانت تتقاطع مع هذا الاتجاه في الواقع الفعلي. وهكذا بقي صراع الإرادات يتخذ من الخطاب السياسي أداة للمراوغة والالتفاف من قبل الدولة القطرية والتي لم تتورع عن إعلان شعار الوحدة العربية في مطالع ديباجاتها السياسية. فيما أغرقت البورجوازية الوطنية الناهضة نفسها في اعتناق المقولات(10) الأيديولوجية الجاهزة ذات المرجعية الغربية.
*اسماعيل نوري
15 - يوليو - 2006
التركيب والتكوين    ( من قبل 4 أعضاء )    قيّم
 
استراتيجيات الخطاب الغربي
د.إسماعيل نوري الربيعي
أفرزت مراحل تطور العقل الغربي، عن ظهور حالة من التحديد والتنميط إزاء الآخر. وهذا الأمر لم يكن وليد ممارسة فردية صدرت عن جهة أو فريق عمل، بقدر ما تماثلت فيه المكنونات الخاصة داخل البنية المعرفية الغربية. فالأمر لا يرتبط بعناية متوجهة نحو الشرق فقط، بل أن التطلّع يحور في داخله الكثير والعديد من التطلّعات. والأمر كما يشير في ذلك د. عبد الله إبراهيم(11)، إلى أنه لا يرتبط بجعل الموضوع غريباً، بقدر ما هو تجلّ فكريّ اقتضته مكّونات العقل الغربي، حيث السياقات الكلّية التي تجعل من الغرب نازعاً لاحتواء جميع الموضوعات ودرجها تحت عباءته، استناداً إلى تراث عقلي وفكري ضارب الجذور في الفعاليات والممارسات التاريخية. يعود في أصوله إلى الإغريق الذين اعتبروا الحضارة اختراعاً شديد الخصوصية، فيما اعتبروا ما دونهم مجرد برابرة يأكلهم التخلف ويعبث في مصائرهم الانحطاط. وعبر الممارسة العقلية حيث الرافد الأصيل لها، والمتمثل بالفلسفة حقق الغرب خطوته اللاحقة للتوافق مع المعطى الديني بنظام عقلاني، أفضى إلى تحقيق نوع من الموازنة داخل العالم الطبيعي. ومن هنا برزت حالة التوافق ما بين التصورات التي يقدمها العقل، والالتزامات التي يفرضها الدين، لتتبلور بالتالي المكونات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأثرها في ظهور التكييفات التي تساهم وبشكل مباشر في صياغة حركة التطور الاجتماعي والثقافي عبر الحامل التشريعي والقانوني. والواقع أن الفعاليات هذه وإن تصدرت مكنون الحياة الغربية خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، فإنما يعود الفضل فيها، إلى حالة الاتصال مع الشرق العربي الإسلامي، عبر منافذ متعددة كان الأبرز منها؛ الأندلس، الحروب الصليبية 1095-1291، سعة الاتصال التجاري في البحر المتوسط. وهكذا تم إعادة اكتشاف التراث الفلسفي اليوناني عن طريق الجهود التي بذلها العرب المسلمون "ترجمة وبناء معرفيا"، لتبدأ ملامح النهضة في الغرب، من خلال ظهور الجامعات والمدارس وإنشاط الحياة المدنية وتفعيلها، عبر العناية بالدراسات الفلسفية والدينية والقانونية والعلمية.
في خضم التحولات الاقتصادية التي شهدتها أوروبا، حيث زيادة حجم التبادل السلعي. برزت التربة الخصبة لتلامح الاتجاهات وتجاوبها، عبر تصدّر النشاطات والفاعلية لبعث التشريع الروماني القديم والاتجاهات الجديدة التي ظهرت من لدن رجال الدين المسيحي. فيما كان الحامل الفلسفي "الإفلاطوني" تحديداً، من أهم العوامل التي ساهمت في تكريس واقع الفعل العقلاني ما بين الطبيعة وما بعد الطبيعة. لكن هذا الفصل قام على علاقة الانسجام ما بين الروحي والمادي عبر فكرة التلازم.
استجاب الغرب الأوروبي خلال القرن الثاني عشر الميلادي، إلى قانون السببية المستند إلى "العلة والمعلول"، وفقاً للمدركات التي وضعها "أفلاطون". وهكذا صار مجال البحث يقوم على أهمية استنباط العلّة وصولاً إلى سبب الوجود إن كان في المجال الطبيعي أو ما وراء الطبيعة، ومن هنا تحديداً أتيح المجال لأهمية دور الفيلسوف في استقراء الروابط والأنساق والعلل الكامنة في الطبيعة. وعبر هذه التجلّيات لم يتردد فلاسفة الغرب في تغليب عامل "العقل" لفهم أوسع للنظام الكوني، بل أن الكثير منهم أشار صراحة إلى تحديد أهمية الكتاب المقدس في تحديد الواجب والالتزام. في حين أن وظيفة التفسير والتركيب، قد أنيطت بالعقل الذي يمنح الإنسان القدرة على التكيّف والتفاعل داخل النطاق الطبيعي. فيما برزت مساهمات رجال الدين في تحديد الاتجاهات داخل نطاق البحث العلمي، حتى غدت التوصيفات تتعلق بأهمية العقل في قراءة جديدة للطبيعة، وضرورة الاعتماد على التقنيات المنهجية المتنوعة، مع التأصيل لحرية البحث العلمي واستقلاله عن كل سلطة أو تأثير، بل يكون الخضوع للعقل. ومن خلال كل هذا(12) فإن عمليات التفكير والشك المنهجي، غدت بمثابة الأساس الذي تحرك فيه العلم وصولاً إلى الروح الجديدة.
في مجال تكوين العقل العلمي يعمد "غاستون باشلار" إلى تحديد ثلاث مراحل مر بها ذلك العقل، ممثلة في الحالة الما قبل علمية والتي تبدأ من العصور القديمة حتى القرن الثامن عشر، والحالة العلمية والتي تبدأ من أواخر القرن الثامن عشر من بداية القرن العشرين، والقول العلمي الجديد الذي يبدأ تحديداً من ظهور نظرية آينشتاين عام 1905. لكن هذه المراحل لا يمكن الوقوف عندها بشكل إنهائي، فهي لا تخلو من تسرب المقايسات الداخلية والخارجية. وعلى هذا يعمد "باشلار"(13) للإفادة من قانون الحالات الثلاث "الذي وضعه أوغست كونت" حيث؛ الحالة الملموسة والمستندة إلى المظاهر الأولى التي يلتقي بها العقل، والحالة الملموسة –المجردة حيث يكون العقل واقعاً ما بين التجريد والحدس، والحالة المجردة حيث يكون الحدس الأداة الأولى للعقل.
الغرب من التكوينية إلى المحافظة
نهل العقل الغربي وبغزارة من المعين الفلسفي، حيث التيارات والاتجاهات والمدارس. إلا أن هذا المنهل لم يكن يمثل حالة الخضوع المطلق، بقدر ما أنتج العديد من الممارسات المصرفية، التي كان لها الإسهام المباشر في توظيب المناهج وتحديد تطلعاتها في أفق رحب واسع من المعطيات المتجددة. ولم يتركز "الكمون" في معرفة واحدة، فقد كانت الساحة تقدم التطلّعات الفكرية في قوام لا يعرف السكونية. وعبر هذا القوام لم يتردد "جون ستيوارت مل" ت 1873 من الإفصاح عن مكنون فلسفة التاريخ الأوروبي وخضوعه المتناوب للحقب "العضوية" و"النقدية" حيث الأثر المباشر لحدوث التقدم. وباعتبار الرسوخ العقيدي الذي يوحد مجموعة بشرية بعينها، كانت الإشارة إلى أن الحقب "العضوية" التي مرت بها أوروبا قد تمثلت في؛ "اليونان والرومان، المسيحية والقرون الوسطى، عصر الأنوار وروح الابتكار العلمي"(14). إلا أن حالة الرسوخ العضوي ما كان لها أن تتبدى ملامحها واضحة، لولا تداول مؤثرات الحقب النقدية المتطلعة إلى تحليل العوامل، فالحقبة العضوية الثالثة التي مرت بها أوروبا، ما كان لها أن ترى النور لولا مؤثرات العديد من الحقب النقدية والممثلة في حركة الإصلاح الديني، الكشوفات الجغرافية، الإصلاح القانوني، المخترعات العلمية، الثورة الفرنسية. وعبر تلاقح النقدي بالعضوي، تهيأ لأوروبا من الوقوف على تكوينها المعرفي والعقلي الذي بدا عليه ملامح التشظي والتعددية. فالتكوينية شديدة الحراك والفاعلية، باتت نهباً لظهور ملامح الإيغال في ظهور النزوع الذاتي والانقسامية داخل الكيانات الأوروبية. وغدت العلوم موزعة في تفريعات جديدة، هذا مع أهمية الملاحظة بأن التصدر بات للعلوم على حساب اللاهوت والفلسفة.
كان الفرز الأهم قد تبدّى في ملامح الفكر السياسي والتاريخي، حيث التحول من الكلياني إلى النسبي، حيث الاتجاه للعناية بالجزئيات. وبقدر التنوع والتعدد في الأفكار، برزت ملامح الانقسام والتعارض وسط هذا الاختلاف. لينزوي التأمّل جانباً في ظل الأهداف والغايات المتعددة التي نادت بها الفردية في ظل الليبرالية. ليتم تعزيز الاتجاه نحو الانقسام والتعدد في النظرة إلى العالم، حيث النظريات(15) التي ظهرت في مجال القومية والحضارة والسياسة. وهكذا صار الغرب الأوروبي خاضعاً لعاداته الفكرية، باعتبار الإجابات التي قدمتها تجربته المعرفية، ومن هنا تعرض "السؤال" للضمور، مقابل حضورية واضحة القسمات لجاهزية الأجوبة، لتتبدى ملامح المحافظة في الفكر الغربي.
الخصومة الثقافية
ما يميز الاستشراق؛ تلك الحراكية الفائقة في توظيب معالم الاتصال مع الآخر، وهنا تحديداً الشرق الإسلامي. هذا بخضوع الموضوع لطبيعة اللقاء التاريخي التي تم بين الطرفين. ويوضح العديد من المؤرخين إلى أن الفعاليات الاستشراقية كانت قد بدأت منذ القرن السابع الميلادي، باعتبار الظهورية التي بدا عليها الإسلام في تلك الحقبة، وحالة النشاط الدافق، والذي تمثل في الانتصار الإسلامي الساحق على القوات البيزنطية في معركة اليرموك. هذا باعتبار لحظة التنبيه إلى التزاحف الجديد الذي لا تملك المقومات الحربية والعسكرية فقط، بقدر ما يحتوي على القيم والاتجاهات الواضحة والمتمثلة في الثقافة والحضارة ذات المعطى الواضح. والتي تجلّت في الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، وتوجّه العديد من طلاب العلم الأوربيين للدراسة في المعاهد العلمية التي انتشرت في تلك الربوع. حتى غدت اللغة العربية الوعاء الذي يستوعب المادة العلمية. ومن هنا تحديداً كان التطلع لتعلّم هذه اللغة، والتي بلغت مداها حين تم ترجمة معاني القرآن الكريم على يد مجموعة من رجال الدين المسيحي، خلال القرن الثاني(16) عشر الميلادي.
فعالية الاستشراق كانت تبديّاً واضحاً للانتقال من محور العلاقات بين الغرب والشرق، إلى محور العمليات، حيث الاتجاه المركّز والمكثّف نحو صياغة المعنى. من خلال الغور في مجال تصنيف المعطيات الموضوعية داخل النموذج، ومحاولة استنطاق وتوليد قيم وأنساق مرتبطة بالمعنى الداخلي الذي تستبطنه الذات، من خلال التركيز على إنتاج أنماط خاصة من الخطاب. للوقوف على بنية دلالية بعينها، يتم عن طريقها تحديد مكوّنات الموضوع. حيث التطلّع نحو الكشف عن الموجّهات الثقافية والأيديولوجية بأشكال مختلفة ومتنوّعة. وموضوع الدلالة التي ينشغل بها الاستشراق يرتبط بالمكونات الذاتية داخل نطاق الغرب، حيث آليات الاشتغال المتوجّهة نحو نقل المفاهيم من بعدها التجريدي إلى بنية محسوسة ذات بعد تركيبي، وصولاً إلى المعنى الذي تقدّمه جهة بعينها، عبر الحامل اللغوي والفكري المتمثل بالخطاب والشروط المحددة لاتجاهاته ورهاناته ضمن مجموعة ثقافية خاصة، استناداً إلى القواعد المبرزة لجملة من المنطوقات المنظوية تحت لواء هذا الحامل، المتمثل بالخطاب(17) الجامع للمواضيع وتوزيعاتها والمقولات والمفاهيم والمضامين التي تشكل وحدتها العبارات.
في علاقة التحويل التي نسعى نحوها في مجال درس الاستشراق، يكون الوقوف على معطيين، يتمثّل الأول بالانفصال حيث تحوّلات النفي، فيما يكون الثاني اتصالاً حيث تحوّلات الإثبات. وعبر علاقة الانتقال بين هذه العمليات يتم تحديد السمات الخاصة بتركيبة العلاقات القائمة بين العوامل، وصولاً إلى فسحة الدلالات وإنتاج المعنى الذي يمكن أن تقف عليه الذات. لا بد من الإشارة هنا إلى علاقة التناقض التي تقدمها عملية النفي والإثبات، ستؤدي إلى إبراز ذاتين يقوم بينهما الصراع من أجل الوقوف على موضوع محدد لكل منهما. وهذا بالضبط ما تعاني منه الدراسات الاستشراقية. حيث يتجه قسم منها لتوكيد النزعة الانقسامية وتعزيز روح العداء تجاه الشرق، فيما يحاول قسم آخر أن يتسم بالموضوعية والحياء عند التعامل مع موضوع هوية الشرق ولكن في أضيق الحدود.
المرسل " الغرب"
الموضوع " هوية الشرق"
المرسل إليه " الشرق"
المعيق " الإسلام
الذات "الاستشراق"
المساعد "العلمانية"
 
 
 
 
 

العوامل التركيبية لبنية الخطاب الاستشراقي
في محور الرغبة تبدو العلاقة وطيدة جداً، بين عاملي الذات والموضوع. حيث تتوجه الذات "الاستشراق" لإثبات أو نفي حالة بعينها. من خلال توطيد علاقتها بموضوع "هوية الشرق" لإثبات فاعليتها وتوكيد حضورها. كذلك الأمر بالنسبة للموضوع الذي لا يمكن الوقوف على محدداته وتجلياته من دون العلاقة بـ "ذات". ولا بد من الوعي هنا، بأن المبادرة ومصدرية الفعل ترتبط بفعل الذات الذي يمنح العلاقة حالة من التقابل في المفاهيم من خلال عمليات التحوّل. فعلاقة مثل؛ "التخلّف – التحضّر" تعكس حالة التحوّلات في النفي والإثبات. فالتحضّر يمثل الصورة الأفضل إذا ما قورن بالتخلف، وباعتبار القدرة على توزيع العلاقات، فإن عنصر التحريك يكمن في الذات باعتبار الغاية التي تكتنز بها.
*اسماعيل نوري
15 - يوليو - 2006
المواجهة المباشرة    ( من قبل 4 أعضاء )    قيّم
 
في محور الإبلاغ تكمن العلاقة بين المرسل "الغرب" والمرسل إليه "الشرق" لكن هذه العلاقة لا يمكن لها أن تتم من دون الارتباط بالذات "الاستشراق" الذي يمثل الدافع للفعل، والموضوع "هوية الشرق" الذي غاية الفعل. وعبر هذه العلاقة التكوينية، يقوم الغرب بتقديم موضوع هوية الشرق، ليقوم الاستشراق بتبنيه والبحث في مداركه وفرضياته. لكن تكويناً كهذا لا يعد توزيعاً إنهائياً، إذ لا يمكن الوثوق بمصدرية أحادية الجانب على حساب الجانب الآخر. هذا إذا ما أخذنا بالاعتبار أن كل محور يحتوي في داخله عناصر التضاد والتناقض. بالإضافة إلى تركيب العناصر في هذا النموذج يرتبط بعلاقات ثقافية يسودها التداخل في المعطيات والقيم. وعبر هذا المنطق يكون موقع الغرب، بمثابة نقطة قياس يتم من خلالها دراسة أنماط التحوّلات وليس مصدراً لإنتاج القيّم والمفاهيم.
في محور الصراع تتبدى العلاقة بين المساعد "العلمانية" والمعيق "الإسلام". وإذا كانت العلمانية تعدّ ثمرة عن رسوخ العلاقة مع الغرب، فإن عامل الإسلام بمعطياته الثقافية والحضارية يحدد مكامن وملامح الصراع في وجه الذات الاستشراقية، لكن هذا الأمر لا يخلو من مكونات التفاعل الداخلي. إذ يظهر المعيق في الكثير من الحالات معيقاً لنفسه، هذا باعتبار الفهم السلبي للقيّم الإسلامية، ومن خلال هذه العلاقة، تمكن الاستشراق من الانسلال والتسرب داخل منظومة الشرق المعرفية، ليؤسس مقولاته من خلال الحضور المكثّف وامتلاك المبادرة في صياغة خطابه وممارساته.
*اسماعيل نوري
15 - يوليو - 2006

 
   أضف تعليقك