أهو التداخل أم باب آخر ? ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
قال ابن سينا في تعريف الإيقاع : "الإيقاع هو تقدير ما لزمان النقرات ، فإذا اتفق أن كانت النقرات منغمة كان الإيقاع لحنيا ، وإن اتفق أن كانت النقرات محدثة للحروف المنتظم منها كلام كان الإيقاع شعريا ، وهو بنفسه إيقاع مطلقا" .
وفي علم العروض العربي فإن النقرات المحدثة للحروف المنتظم منها كلام هي التي يعرفها العروضيون باسم الأسباب والأوتاد . وبذلك ترى أنه في وزن الشعر يجب التمييز بين ما يعرف بالبنية السطحية surface structure وهي المقاطع اللفظية أو الحروف المتحركة والساكنة ، وبين البنية العميقة deep structure وهو التيار الإيقاعي الذي ينتظم المقاطع اللفظية في سلكه ، ولا يمكن رؤية هذا التيار أو التعرف على نسقه إلا من خلال تجسيده بمقاطع صوتية ينتظم منها كلام ننشده فنطرب له ونسميه الشعر ، أو نجسده بالنغم الموسيقى وحده فلا نسمع عندئذ إلا لحنا غفلا .
وفي القرآن الكريم عبارات تمر على سمعنا حين تتلى فلا ينتابنا ولو للحظة واحدة شعور بأن ما نسمع هو شيء له صلة بالشعر ، فإذا أقدم أحد الخبثاء وأوصل بهذه العبارات تيار الإيقاع الشعري أدرجها في خانة الشعر ، وذلك كقول أبي نواس :
خُطَّ في الأرداف سطر ======في عروض الشعر موزونْ
لـن تنـالـوا البـرّ حتـى =========تـنـفـقـوا مـما تـحـبـونْ
فمن إذن يخطر على باله وهي يستمع إلى آيات الله تتلى أنها تندرج في إطار الوزن الشعري ، ومن ذلك أمثلة عديدة نحو قوله تعالى : فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فيراه من الطويل ، أو إلى قوله : ويعلم ما جرحتم بالنهار ، فيعده من الوافر ?
وثمة عبارات نثرية إذا روعي فيها السجع ، فقد يصدف أن تجيء على وزن بيت من الشعر ، وهي أبعد ما تكون عن مقام الشعر ، ومن أمثلتها عنوان كتاب معروف للبيروني يدعى : تحقيق ما للهند من مقولة ، مقبولة في العقل أو مرذولة
فهذا العنوان يصلح لأن يكون بيتا أو بيتين على وزن الرجز أو السريع .
وكذلك الحال في قول النبي صلى الله عليه وسلم ( ويروى لعبد الله بن رواحة ) :
ما أنت إلا إصبع دميت ، وفي سبيل الله ما لقيت
أو قوله :
أنا النبي لا عجب ، أنا ابن عبد المطلب
وفي بعض أدبيات العروض تواجهنا ظاهرة يطلق عليها مصطلح (التداخل) ، نحو ما نراه في الشواهد الثلاثة التالية وهي كلها على بحر الرجز ، والأول قوله :
دارٌ لِسَلمى إذ سُلَيمى جارة ========قَفرٌ تُرى آياتُها مِثلَ الزُبُر
والثاني قوله :
القَلبُ منها مُستَريحٌ سالِمٌ ========والقَلبُ مِنّي جاهِد مَجهودُ
والثالث قوله :
قد هاجَ قلبي مَنزِلٌ=========مِن أمّ عَمرو مُقفِرُ
فهذه الأبيات كلها يمكن أن تصلح للإنشاد على إيقاع الكامل صلاحيتها للإنشاد على إيقاع الرجز .
وكذلك يعد من التداخل ما يكون من الطويل إذا أصابه الخرم والكامل التام نحو قول المتنبي :
لا يحزن الله الأمير فإنني ========== لآخذ من حالاته بنصيب
ونخلص من ذلك إلى أن الشعر في المقام الأول هو نمط من الإيقاع ، ولذلك يلزم أن ينشد الشعرإنشادا، ومن لا يجيد إنشاد الشعر فإن ما يقرأه من أبيات يخرج بها عن نطاق الشعر إلى خانة النثر . ومن هنا يتبين لنا لماذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمد إلى تغيير ترتيب بعض كلمات البيت الشعري ليخرجه من نطاق الشعر إلى النثر، ومن ذلك قراءته صلى الله عليه وسلم لشطر بيت طرفة على النحو التالي:
ويأتيك من لم تزود بالأخبار
وأما ما جاء به الأخ زهير في مداخلته التي افتتح بها هذا الموضوع من نحو قوله :
أنا فيه لي شفة وفم
أو قوله في مداخلة أخرى :
أنا لست بالحسناء أول مولع
فلا يعد من التداخل الذي ذكرنا أمثلة له ، ففي هذه الأمثلة لاحظنا أنه لا يتغير شيء من الأصوات اللغوية بين وزن ووزن . وليس كذلك أمثلة الأخ زهير التي يلزم لجعلها تندرج في أوزان أخرى تقصير بعض حروفها أو إشباع المد فيها .
وفي ظني أن الأخ زهير فتح لنا بابا جديدا ذا نسب وقربى من التداخل بين الأوزان ، وإن كنا لا نعرف لهذا الباب اسما يميزه من التداخل .. فلو تفضل شيخنا وأكمل جميله بوضع الاسم المنشود لبابه المبتكر هذا .
سليمان أبو ستة |