آفاق ما بعد الحداثة، أم ما قبل الحداثة ؟! "تتمة " ( من قبل 1 أعضاء ) قيّم
وإذ يتحرر الأدبي من شرط الرسمي والجليل والبليغ، يتحرر معه النقدي أيضا وبالنتيجة، من الشرط البلاغي الذي يعلي من شأنه المكتوب. والشرط البلاغي بالضبط، هو الذي يخصص ويميز اللغة الأدبية عما سواها من اللغات، سواء بمقاييس البلاغة القديمة أم الجديدة، أي علم الأسلـوب أو الأسلوبية. واللغة الأدبية الفصيحة أو "الرسمية" حد تعبير الباحث، كانـت وما تزال هي موضوع النقد الأدبي ومادة اشتغاله كخطاب واصف أو قول على قول، وإلا لما علقت ولصفت به صفة "الأدبي" بحال. والتحـرر من الشرط البلاغي والشرط الكتابي في وضع حساس وفسيفسائي كوضعنا، هو في آخر المطاف، تحرر من شرط اللغة العربية ذاتـها التي من أخص خصائصها البلاغة والشعرية، تجريان منها مجرى النُّـسغ. وهذه اللغة هي مساك الـهوية العربية، وهي طوق نجاتنا المتبقى في خضم هذا اليم الكوني اللُّـجّى الفاغر أشداقه للابتلاع والاقتلاع. وليس هذا النفث صادرا عن تلك النـزعة المتحجرة الأرثوذوكسية أو الإيديولوجية التي يشجبها الباحث على امتداد كتاباته، بقدر ما هو صادر عن جدل التحدي والاستجـابة، والالتحام والانقسـام، والبقاء والفناء. وهذا من قبيل البدهيات والمسلمات، والثوابت واليقينيات، التي لا يختلف فيها، فيما أظن، اثنان عربيان، ولا يصح في الأفهام شيء، إذا احتاج النهـار إلى دليل. 4 ـ نأتي هذا إلى بيت قصيد المداخلة و"مربط الفرس" فيها، وهي الحداثة وآفاق ما بعد الحداثة، وفق صيغة العنوان. والدكتور الغذامي، للتذكير، هو أحد فرسان الحداثة البواسل والقلائل، الذين حملوها هما وسؤالا أكثر مما حـملوها يافطـة وشعارا، على امتداد رحلته الأدبية الدؤوب. ومداخلته هذه تنصب في صميم همومـه وشواغله، وتزودنا بجديد من عنده، حول مسالة الحداثة وما بعدها. يقول في هذا الصدد : "نحن في مرحلة (الـما بعد) : ما بعد الحداثة، ما بعد البنيوية، ما بعد الكولونيالية، ما بعد العصر الصناعي. وهي مرحلة تكشف عن حالة الانكسار المعرفي، ومن ثم هي (حالة) انتقال وبحث عن إجابات جديدة لأسئلة جديدة وقديمة لم تعد الحداثة كافية للإجابة عنها". وما سأقوم به هنا بالضبط وبإيجاز، هو (مواجهة طغيان المصطلح)، مصطلح الحداثة، (وذلك بتشريح هذا المتسلط وإغراقه بالأسئلة)، حسب تعبير ومسلك الباحث نفسه. وأول ما يستدعي التشريح والمساءلة في الفقرة الآنفة، هو هذا الضمير النحوي الجمعي (نحن في مرحلة ما بعد الحداثة). ترى على من يعود وينسحب على وجه التحديد؟ نحن هنا إزاء احتمالين : فإذا كان الباحث يتحدث من موقع المركزية الغربية بقطبيها الأوروبي والأمريكي، والأمر ليس كذلك، فإن ما قاله صحيح تماما. لأن هذه المركزية تعيش فعلا وقولا، ما بعد الحداثة، وما بعد البنيوية، وما بعد الكولونيالية (!)، وما بعد العصر الصناعي. وهي مرحلة تكشف عن حالة الانكسار المعرفي. وخطاب الغرب وواقعه شاهدان على ذلك. وإذا كان الباحث يتحدث من موقع المحيط العربي الغارق في مشاكل الـهوية والمصير، والأمر كذلك، فإن قول الباحث يبدو مجانفا للواقع، أو على الأقل يحمل هذا الواقع، ما لا يحتمل، ويرى فيه ما لا يمتلك. لأن هذا الواقع، ببساطة، ما يزال يتحسس خطاه نحو عالم الحداثة ويَشْـرَئِبُّ صوْبـَها، من خلال تجربة النهوض والسقوط، والإقدام والإحجام. ولقد أتى علينا حين من الدهر ليس بقصير، كانت فيه مقولة (الحداثة) هي المعزوفة الأثيرة والجهيرة التي تتردد على الألسن والأقلام وما تكف عن الترداد، من أقصى المحيط إلى أقصى الخليج.. ولكن للأسف، خرجنا من المزاد بلا زاد. وفي ظني أن الجدل الذي ثار نقعه حول إشكالية الحداثة والاشتجار الفكري والنقدي والإبداعي حول أسئلتها، في سياقنا العربي، هما على حد تعبير لويس بورخيس "كالعراك الذي يجري بين أصلعين من أجل مشط !". لماذا ؟! لأن (الحداثة)، كانت واحدة من المقولات التي ارتحلت إلينا من الشط الآخر، دون أن نقوم بتكييفها وتمثلها وتبْـيِـئتها، حد تعبير إدوار سعيد ولأن التربة لم تكن مهيأة لغراسها والبـُنى التحتية لم تكن ملائمة لاستقبالـها. أي أننا، وخلافا لما ذهب إليه الباحث، لم نجز بعد العصر الصناعي، ولم نتخط لحظة البنيوية ولا الحداثة، ولم نتخلص من ربقة الكولونيالية، ولم نصل إلى حالة الانكسار المعرفي. أي أننا، بعبارة، لم نجد بعد أجوبة شافية لأسئلتنا القديمة المزمنة. الشيء الذي يجعل حداثتنا في نـهاية التحليل، حداثة لُـوغوسية، نظرية وفوقية، أكثر مما هي حداثة أميريقية وقاعدية. والشيء الذي يدعونا تاليا، إلى التفرقة والتمييز بين الحداثة Modernité والعصرية Modernisme وفق مقاربة هنري لفيقر. ذلك أن العصرية "هي الوعي الذي تكونه عن نفسها العصور والحقب والأجيال المتتالية. فالعصرية بذلك تتمثل في ظاهرات الوعي وفي العصور وإسقاطات الذات، وفي التمجيدات المصنوعة من أوهام كثيرة ونفاذ محدود إلى لب الأمور". أما الحداثة فهي "تفكير بادئ وتخطيط أولي تتفاوت جذريته، للنقد والنقد الذاتي. إنـها محاولة للمعرفة… إننا ندرك الحداثة داخل مجموعة من النصوص والوثائق تحمل بصمة عصرها، ولكنها مع ذلك، تتعدى الدعوة إلى الموضة والجديد". ونحن، كعرب، نعيش العصرية Modernisme باعتبارنا أبناء لـهذا العصر، نتنفس هواءه ونساوق تياره وأنواءه. ونعيش الحداثة Modernité كمقولة ثقافية تطوف بالذهن وأشواق حرَّى تخالج الوجدان. أي نعيشها كمناخ للوقت L’air de temps حسب التعبير الفرنسي، ليس إلا. ومن ثم، فإن السؤال الأساس الذي يواجهنا ويبادهنا في تصوري، ليس هو سؤال (ما بعد الحداثة)، بل هو سؤال (الحداثة) ذاتـها. هل ثمة حداثة عربية فعلا، وسط طوفان الحداثة الغربية الكاسح؟! إن السؤال بصيغته هذه، يتضمن قلقه ومأزقه، كما يتضمن إحساسا ضاغطا بضرورة إعادة النظر في مقولة الحداثة، والتشريح النقدي لحقائقها وأوهامها، والرصد اليقظ لأسئلة ما بعد الحداثة، كما تتجلى أساسا عند الآخر، في الغرب، مع الإصغاء العميق لخوالج الذات ومواجعهـا، وذلك لأجل الخروج العربي من أفق ما قبل الحداثة، والدخول الفعلي في أفق الحداثة، بعد استكمال العدة والعتاد وتـهيئ التربة للغرس والحصاد، كيـلا تتحول الحداثة، كما قال جان بودريار، إلى مجرد بلاغة "تنتشر وسط التباس تام داخل مجتمعات العالم الثالث، لتعوض عن التأخر الحقيقي وعن غياب التنمية". والحداثة، كما نعلم، هي قرينة وثمرة العلم الحديث في أعلى مستوياته وآخر ابتكاراته. وفي عرض بولين ماري روزيفو، الذي استنـد إليه الباحث لرصد ونقد حالة الانكسار المعرفي الذي تسبب في النقلة من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، تشكل مقولة (العلم الحديث) اللازمة المتكررة في النقاط الخمس التي تعرضها الباحثة كمفاصل لنقد الحداثة ومداخل لما بعد الحداثة. والعلم الحديث بالضبط، في عالمنا العربي، هو ذلك المفقود المنشـود. هو ذلك الذي يأتي ولا يأتي. فكيف تُـرى، تكون حداثة بدون علم حديث ؟! لكن للسؤال، عند باحثنا الكريم الدكتور الغذامي، صيغة أخرى. يقول في ختام مداخلتـه: "والسؤال الآن : هل نستسلم للغرب في نقلاته السريعة… أم نتوقف عند الحداثة لنشبع نـهمنا منها أولا ثم ندخل ـ بعد ذلك ـ في حفلة الترف الفكـري الغربي ؟!". ويأتي الجواب من عنده، حاسما كالتالي : "إننا نحن اليوم في غمار عصر (ما بعد الحداثة). إننا فيه، في داخله وفي روحه وفي لغته، ولا معنى لطرح أسئلة زائفة لا تقوى على تقرير شـيء. والأجدر بنا هو أن نحث الخطى في مجاراة مخلصة للعصر وأن نزيـد من خطانا ونضاعف منها، فلعل ذلك يساعدنا على الوصول إلى الصفـوف الأولى في سباق الفكر والمعرفة". وأعتقد أن مسلكا كهذا، سيجعلنا دوما في الصفوف الخلفية، من حيث نريد الـهروب إلى الأمام. لأن "المجاراة" غير "المباراة". والمباراة هنا وإن تمت، غير متكافئة وغير عادلة. ولأننا ببساطة جارحة لنرجسيـة الذات، نعيش على هامش الحداثة، لا في غمارها وداخلها وروحها ولغتهـا. ولا يخفف من هذا الواقع المر قـول الباحث، بعدئذ، إننا "نستطيع أن نستغل ظروف التغيير لصالحنا"، فهو من قبيل الطموح النبيل والتمني الجميل. وما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ونستطرد مع المتنبي العظيم، فنقول بلسانه الحكيم : ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس. والسؤال مرة أخرى وأخيرة، هو كيف ننقل سفينة حداثتنا من اليبس إلى الماء، وكيف نقيها خطر الأمواج والأنواء ؟! وتحية شكر وتقدير للباحث المقتدر الدكتور عبدالله محمد الغذامي، الذي استثار لدينا هذه الشجون الفكرية، وأغرانا بهذا الشغب النقدي، مستحضرين، كمسك ختام، تلك القولة المأثورة لابن تيمية في تعقيبه على ابن حزم "وأبو محمد كبير عندنا، ولكن الحق أكبر منه". |