مجلس : الأدب العربي

 موضوع النقاش : الجاحظ والقرآن    قيّم
التقييم :
( من قبل 1 أعضاء )

رأي الوراق :

 زهير 
21 - فبراير - 2006

هذا ملف أفتتحه تكريما للجاحظ في خدمته للقرآن، أذكر فيه ردوده على مطاعن الزنادقة على القرآن، ونوادر ما حكاه مما له صلة بالقرآن وتفسيره. وألتمس من الأخوة القراء أن يدلوا بدلوهم في تطوير هذا الملف وإثرائه، سيما بما هو منشور على الوراق.

 



*عرض كافة التعليقات
تعليقاتالكاتبتاريخ النشر
شبهة استراق السمع والرد عليها    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 

قال في الحيوان (الوراق: ص 553):

وقد طعن قومٌ في استراق الشَّياطينِ السمعَ بوجوهٍ من الطَّعن، فإذْ قد جرى لها من الذّكر في باب الهزْل ما قد جرى، فالواجبُ علينا أن نقول في باب الجدِّ، وفيما يرد على أهل الدِّين بجملة، وإن كان هذا الكتابُ لم يُقصد به إلى هذا الباب حيثُ ابتدئ، وإن نحنُ استقصيناه كنَّا قد خرجْنا من حدِّ القول في الحيوان، ولكنا نقول بجملةٍ كافية، واللّه تعالى المعين على ذلك.
رد على المحتجّين لإنكار استراق السمع بالقرآن
قال قوم: قد علمنا أن الشياطينَ ألطف لطافةً، وأقلُّ آفَةً، وأحدُّ أذهاناً، وأقلُّ فضُولاً، وأخفُّ أبداناً، وأكثرُ معرفةً وأدقُّ فِطنةً منّا، والدّليلُ على ذلك إجماعهم على أنّه ليس في الأرض بدعةٌ بديعةٌ، دقيقةٌ ولا جليلة، ولا في الأرض مَعصِيةٌ من طريق الهوى والشّهوة، خفيّةً كانت أو ظاهرة، إلاّ والشَّيطانُ هو الدَّاعي لها، والمزيِّنُ لها، والذي يفتحُ بابَ كلِّ بلاء، ويَنصِب كلَّ حبالةٍ وخدعة، ولم تَكن لتَعرِف أصناف جميع الشرور والمعاصي حتى تَعرف جميعَ أصناف الخير والطّاعات.
ونحن قد نجدُ الرّجلَ إذا كان معه عقْل، ثمّ عِلم أنّه إذا نقب حائطاً قُطِعت يدهُ، أو أسمع إنساناً كلاماً قطع لسانه، أويكونُ متى رام ذلك حِيلَ دونَه ودونَ ما رام منْهُ - أنّه لايتكلّف ذلك ولا يرُومه، ولا يحاولُ أمراً قد أيقَنَ أنّه لا يبلغهُ.
وأنتم تزعمون أنّ الشّياطين الذين هم على هذه الصِّفة كلّما صعِد منهم شيطانٌ ليسترقَ السّمعَ قُذِف بشهاب نار، وليس له خواطئ، فإمَّا أن يكون يصيبه، وإمَّا أنْ يكون نذيراً صادقاً أو وعيداً إنْ يقدمْ عليه رمى به، وهذه الرُّجوم لا تكون إلا لهذه الأمور، ومتى كانت فقد ظهر للشَّيطان إحراق المستمع والمسترِق، والموانع دون الوصول ثمَّ لا نرى الأوَّلَ ينهي الثّاني، ولا الثّاني ينهي الثّالث، ولا الثّالث ينهي الرّابع عَجَب، وإن كان الذي يعود غيرَه فكيف خفي عليه شأنهم، وهو ظاهر مكشوف?.
وعلى أنّهم لم يكونوا أعلَمَ منّا حتّى ميّزوا جميع المعاصي من جميع الطاعات، ولولا ذلك لدعوا إلى الطّاعة بحساب المعصية، وزينّوا لها الصَّلاح وهم يريدون الفساد، فإذا كانوا ليسوا كذلك فأدنى حالاتهم أن يكونوا قد عرفوا أخبار القرآن وصدقوها، وأنّ اللّه تعالى محقّق ما أوعَدَ كما يُنجِز ما وعد، وقد قال اللّه عزّ وجل: "وَلقَدْ زَيَّنّا السَّماء الدُّنيا بِمَصابيح وجَعَلْنَاها رُجُوماً للشَّياطينِ"، وقال تعالى: "وَلَقَدْ جَعَلْنَا في السَّماءٍ بُرُوجاً وَزَيَّنّاها للنَّاظِرينَ، وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كلِّ شَيْطان رَجيمٍ" وقال تعالى: "إنّا زَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينةٍ الْكَوَاكِبِ وحفْظاً منْ كلِّ شَيْطانٍ ماردٍ" وقال تعالى: "هَلْ أُنَبِّئكمْ عَلَى مَنْ تَنَزّلُ الشّياطينُ تنَزَّلُ على كلِّ أفّاكٍ أثيمٍ، يُلْقون السَّمعَ وأكثَرُهم كاذِبُون" مع قولِ الجنّ: "أنَّا لا نَدْري أشَرٌّ أُرِيدَ بمَنْ في الأرْضِ أمْ أرَاد بهمْ رَبُّهم رَشَداً" وقولهم: "أَنَّا لَمسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلئَتْ حَرساً شديداً وَشُهُباً، وأنّا كنَّا نقعُدُ منْهَا مقَاعِد للسَّمع فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآن يَجدْ لَهُ شِهَاباً رصَداً".
فكيف يسترق السَّمع الذين شاهدوا الحالَتين جميعاً، وأظهروا اليقين بصحَّة الخير بأنَّ للمستمع بعد ذلك القذْفَ بالشُّهب، والإحراقَ بالنار، وقوله تعالى: "إنَّهُمْ عَنِ السَّمعِ لَمعْزولُونَ" وقوله تعالى: "وَحفْظاً مِنْ كلِّ شيْطاَنٍ مَاردٍ، لا يَسَّمَّعُون إلى الْملإ الأعْلى وَيُقْذَفُون مِن كُلِّ جانبٍ دُحوراً وَلَهُمْ عذَابٌ وَاصِبُ" في آيٍ غيرِ هذا كثير، فكيف يعُودُون إلى استراق السَّمع، مع تيقنهم بأنَّه قد حُصِّن بالشهب، ولو لم يكونوا مُوقِنين من جهة حقائق الكِتاب، ولا من جهة أنّهم بَعْدَ قعودِهم مقاعدَ السَّمْع لمَسُوا السَّماء فوَجَدوا الأمرَ قد تغيَّر - لكانَ في طول التَّجْربة والعِيان الظّاهِر، وفي إخبار بعضِهم لبعض، ما يكونُ حائلاً دُونَ الطّمع وقاطعاً دون التماس الصُّعود،   وبعد فأيُّ عاقل يُسرُّ بأنْ يسمع خبراً وتُقطعَ يدهُ فضْلاً عن أن تحرقه النَّار? وبعد فأيُّ خبر في ذلك اليوم? وهل يصِلون إلى النَّاس حتَّى يجعلوا ذلك الخبَر سبباً إلى صرْف الدّعوَى? قيل لهم: فإنّا نقول بالصّرْفة في عامَّة هذه الأصول، وفي هذه الأبواب، كنحو ما أُلقي على قلوب بني إسرائيل وهم يجُولون في التِّيهِ، وهم في العدد وفي كثرة الأدِلاَّء والتجّار وأصحاب الأسفار، والحمّارين والمُكارينَ، من الكثْرَة على ما قد سمعتم به وعرَفْتموه؛ وهم مع هذا يمشُون حتّى يُصبِحوا، مع شدّة الاجتهاد في الدَّهر الطويل، ومع قُرْب ما بينَ طرفي التِّيه، وقد كان طريقاً مسلوكاً، وإنّما سمَّوه التّيه حين تاهوا فيه، لأنَّ اللّه تعالى حين أرادَ أن يمتحِنَهم ويبتلِيهم صرَف أوهامَهم.
ومثل ذلك صنيعُه في أوهام الأُمة التي كان سُليمان مَلِكَها ونبيّها، مع تسخير الريح والأعاجيبِ التي أُعطِيَها، وليس بينهم وبين ملِكهم ومملكتهم وبين مُلك سَبأ ومملكةِ بِلقيس ملِكتهم بحارٌ لا تُركب، وجبالٌ لا تُرام، ولم يتسامَعْ أهل المملكتين ولا كان في ذكرهم مكانُ هذه الملِكة.
وقد قلنا في باب القول في الهُدهُد ما قلنا، حين ذكرنا الصَّرفة، وذكرنا حالَ يعقوب ويوسف وحالَ سليمان وهو معتمدٌ على عصاه، وهو مَيِّتٌ والجنُّ مُطيفة به وهم لا يشعُرون بموته، وذكرنا من صَرْف أوهام العرَب عن محُاولة معارضة القرآن، ولم يأتوا به مضطرِباً ولا مُلَفَّقاً ولا مُستكرَهاً؛ إذا كان في ذلك لأهل الشَّغبِ متعلّق، مع غير ذلك، ممّا يُخالَف فيه طريقُ الدُّهريّة، لأنّ الدّهريّ لا يُقر إلاّ بالمحسوسات والعادات على خلاف هذا المذهب.
ولعمري ما يستطيعُ الدّهريّ أن يقولَ بهذا القول ويحتجَّ بهذه الحجّة، ما دام لا يقول بالتّوحيد، وما دام لا يعرف إلا الفَلك وعمَلَه، ومادام يرى أن إرسال الرسُل يستحيل، وأن الأمر والنَّهي، والثوابَ والعقاب على غير ما نقول، وأنّ اللّه تعالى لا يجوز أن يأمر من جهة الاختبار إلا من جهة الحزْم.
وكذلك نقول ونزعم أن أوهَام هذه العفاريت تُصرف عن الذكر لتقع المحنة، وكذلك نقول في النبي صلى اللّه عليه وسلم أنْ لو كانَ في جميع تلك الهزاهز مَنْ يذكر قوله تعالى: "واللّه يَعصِمُك من النّاسِ" لسَقَطَ عنه من المحنة أغلظها، وإذا سقطَت المحنة لم تكن الطاعة والمعصية، وكذلك عظيم الطاعة مقرونٌ بعظيم الثّواب.
وما يصنع الدهري وغير الدّهري بهذه المسألة وبهذا التسطير? ونحن نقول: لو كان إبليس يذكر في كلِّ حال قوله تعالى: "وَإنَّ عَليْكَ اللّعْنَةَ إلى يَوْمِ الدِّينِ" وعلم في كلِّ حالٍ أنّه لا يُسْلِمُ لوَجَبَ أن المحنة كانت تسقط عنه، لأن من علِم يقيناً أنّه لا يمضي غداً إلى السوق ولايقبض دراهمَه من فلان، لم يطمع فيه، ومن لم يطَمعْ في الشيء انقطعت عنه أسباب الدواعي إليه، ومن كان كذلك فمُحالٌ أن يأتيَ السّوق.
فنقول في إبليس: إنه يَنْسى ليكون مُختَبراً ممتَحناً فليعلموا أن قولنا في مسترقي السمع كقولنا في إبليس، وفي جميع هذه الأمور التي أوْجَبَ علينا الدِّين أن نقولَ فيها بهذا القول.0 وليس له أن يدفَع هذا القولَ على أصل ديننا، فإن أحبَّ أن يسأل عن الدين الذي أوجب هذا القول علينا فيلفعَلْ، واللّه تعالى المعين والموفِّق.
وأما قولهم: منْ يُخاطر بذَهابِ نفْسِه لخبرٍ يستفيده فقد علِمْنا أن أصحاب الرِّياساتِ وإن كان متبيَّناً كيف كان اعتراضهم على أنّ أيسر ما يحتملون في جَنْب تلك الرِّياسات القتل.
ولعلّ بعض الشّياطين أن يكون معه من النّفْخ وحب الرِّياسة ما يهوِّن عليه أن يبلغ دُوَين المواضع التي إن دنا منها أصابه الرَّجْم، والرَّجمُ إنما ضمن أنه مانع من الوصول، ويعلم أنه إذا كان شهاباً أنه يُحرقه ولم يضمن أنه يتلف عنه، فما أكثر من تخترقه الرِّماح في الحرب ثم يعاودُ ذلك المكان ورزقُه ثمانون دِيناراً ولا يأخذ إلا نصفه، ولا يأخذه إلا قمحاً، فلولا أن مع قَدَم هذا الجنديِّ ضروباً مما يهزُّه وينجِّده ويدعو إليه ويُغْريه - ما كان يعود إلى موضعٍ قد قطعت فيه إحدى يديه، أو فقئت إحدى عينَيه.
ولِمَ وقع عليه إذاً اسمُ شيطان، وماردٍ، وعفريتٍ، وأشباه ذلك? ولِمَ صار الإنسانُ يُسمَّى بهذه الأسماء، ويوصَف بهذه الصفات إذا كان فيه الجزء الواحد من كلِّ ما همْ عليه?.

وقالوا في باب آخر من الطّعن غير هذا، قالوا في قوله تعالى: "وَأنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقَاعِدَ للِسّمْعِ فَمَنْ يسْتَمعِ الآن يَجدْ لَهُ شِهاباً رصداً" فقالوا: قد دلَّ هذا الكلام على أن الأخبار هناك كانت مُضَيَّعةً حتّى حُصِّنت بعد، فقد وصفْتُم اللّه تعالى بالتَّضييع والاستِدْراك.

قلنا: ليس في هذا الكلام دليلٌ على أنهم سمعوا سِرّاً قط أوْ هجموا على خبر إن أشاعوه فسد به شيءٌ من الدين، وللملائكةِ في السَّماء تسبيحٌ وتهليلٌ، وتكبيرٌ وتلاوة، فكان لا يبلغُ الموضعَ الذي يُسمَعُ ذلك منه إلا عفاريتُهم.
وقد يستقيم أن يكون العفريتُ يكذب ويقولُ: سمعت ما لم يَسْمع ومتى لم يكن على قوله برهانٌ يدلُّ على صدقه فإنما هو في كذبه من جنس كلِّ متنبئٍ وكاهن، فإن صدقه مصدقٌ بلا حُجَّة فليس ذلك بحجّةٍ على اللّه وعلى رسوله صلى اللّه عليه وسلم.

المحتجون بالشعر لرجم الشياطين قبل الإسلام:
 وذهب بعضهم في الطّعن إلي غير هذه الحُجّة، قالوا: زعمتم أن اللّه تعالى جعل هذه الرَّجومَ للخوافي حُجّة للنبي صلى اللّه عليه وسلم، فكيف يكون ذلك رَجْماً، وقد كان قبل الإسلام ظاهراً مرْئيّاً، وذلك موجودٌ في الأشعار، وقد قال بشر بن أبي خازم في ذلك:
فجأجأها مـن أول الـرِّيِّ غُـدوة= وَلَمَّا يسَكّنْهُ من الأرْضِ مَـرْتـعُ
بأكْلـبةٍ زُرْقٍ ضـوارٍ كـأنّـهـا= خطاطيفُ من طول الطريدة تلمعُ
فجال على نَفْر تعرُّضَ كـوكـبٍ= وقد حالَ دُون النّقْعِ والنّقْعُ يسْطَعُ
فوصف شَوْط الثّور هارباً من الكلابِ بانقضاض الكَوكب في سُرعته، وحُسْنه، وبريق جلده، ولذلك قال الطّرِمّاح:
يَـبْـدُو وتُضْمِرُه البلاد iiكأنّهُ سيفٌ علَى شَرَفٍ يُسَلُّ ويُغْمَدُ
وأنشد أيضاً قولَ بِشْر بن أبي خازم:
وتـشُـجُّ بـالـعير الفلاة iiكأنّهَا فـتْخاءُ كاسِرةٌ هَوَتْ من iiمرْقبِ
والعير  يُرْهِقُها الخبَار iiوجَحشُها ينقضُّ خلْفهُما انْقِضاض الكوكبِ
قالوا: وقال الضّبّي:
يَـنَالها  مهتك iiأشْجارها بذي غُروب فيه تحريبُ
كـأنّه  حيِنَ نَحَا iiكوكبٌ أو  قبَسٌ بالكفِّ iiمشبوبُ
وقال أوس بن حَجَر:
فانقضَّ كالدّريءِ iiيَتْبَعُهُ نَـقْع يثُورُ تخالُه iiطُنُبَا
يَخفى وأحياناً يلوح كما رفع  المشيرُ بكفِّهِ iiلهبَا

ورووا قوله:
فانقضَّ كالدّرّي من مُتَحدِّر لَمْعَ العقيقةِ جُنْحَ لَيل iiمُظْلِمِ
وقال عَوْف بن الخرِع:
يردُّ علينا العَيْرَ من دون أَنْفه أو الـثَّوْر كالدُّرّي يتْبَعُهُ الدَّمُ
وقال الأفوه الأودي:
كشِهاب  القَذفِ يَرمِيكُمْ iiبه فارسٌ في كفِّه للحَرْبِ نارُ
وقال أُميَّةُ بن أبي الصّلْت:
وترى شياطيناً تَرُوغُ مُضافةً ورَواغُها  شتّى إذا ما iiتُطْرَدُ
يُلْقى  عليها في السَّماء iiمذلَّة وكـواكبٌ  تُرمى بها iiفتعرِّدُ
قلنا لهؤلاء القوم: إن قَدَرتم على شعرٍ جاهليٍّ لم يُدرِكْ مَبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا مَولِده فهو بعضُ ما يتعلَّق به مثلُكم، وإن كان الجوابُ في ذلك سيأتيكم إن شاء اللّه تعالى، فأما أشعار المخضْرمين والإسلاميّين فليس لكم في ذلك حُجَّة، والجاهليُّ ما لم يكن أدرك المولد، فإنَّ ذلك ممَّا ليس ينبغي لكم أن تتعلَّقوا به، وبِشرُ بنُ أبي خازم فقد أدرك الفِجار، والنبي صلى الله عليه وسلم شهِد الفِجار، وقال: شهدتُ الفجار فكنْتُ أنبل على عمومتي وأنا غلام. والأعلام ضروب، فمنها ما يكون كالبشارات في الكتب، لكون الصِّفة إذا واقفت الصِّفة التي لا يقع مثلها اتفاقاً وعرضاً لزمتْ فيه الحجة، وضروبٌ أُخَرُ كالإرهاص للأمر، والتأسيس له، وكالتعبيد والترشيح، فإنَّه قلَّ نبيٌّ إلاّ وقد حدثت عند مولده، أو قُبيلَ مولِده، أو بعد مولده أشياءُ لم يكنْ يحدُث مثلُها، وعند ذلك يقول الناس: إنّ هذا لأَمرٍ، وإنّ هذا ليراد به أمرٌ وقع، أو سيكون لهذا نبأ، كما تراهم يقولون عند الذوائب التي تحدث لبعض الكواكب في بعض الزمان، فمن التّرشيح والتَّأسيس والتَّفخيم شأنُ عبد المطلب عند القُرعة، وحين خروج الماء من تحت رُكْبة جملة، وما كان من شأن الفيل والطيرِ الأبابيل وغير ذلك، مما إذا تقدم للرّجل زاد في نُبله وفي فَخامة أمره، والمتوقَّع أبداً معظّم.
فإن كانت هذه الشهب في هذه الأيام أبداً مرئيّة فإنما كانت من التأسيس والإرهاص، إلا أن يُنْشِدونا مثل شعر الشعراء الذين لم يدركوا المولد ولا بعد ذلك، فإنّ عددهم كثير، وشعرهم معروف.

وقد قيل الشِّعر قبل الإسلام في مقدار من االدهر أطولَ ممّا بيننا اليوم وبين أوّل الإسلام، وأولئكم عندكم أشعرُ ممن كان بعدهم.
وكان أحدهم لا يدع عظماً منبوذاً بالياً، ولا حجراً مطروحاً، ولا خنفساء، ولا جُعلاً، ولا دودة، ولا حيةً، إلا قال فيها، فكيف لم يتهيأ من واحدٍ منهم أن يذكر الكواكب المنقضّة مع حُسْنها وسُرعتها والأعجوبة فيها، وكيف أمسكُوا بأجمعهم عن ذكرها إلى الزَّمان الذي يحْتَجُّ فيه خصومُكم.
وقد علمْنا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين ذُكر له يوم ذي قار قال: هذا أوَّلُ يومٍ انتصفَتْ فيه العربُ من العجم، وبي نُصروا.
ولم يكن قال لهم قبْل ذلك إنّ وقْعةً ستكون، من صِفَتها كذا، ومن شأنها كذا، وتُنصرون على العجَم، وبي تنصرون.

فإن كان بشرُ بن أبي خازمٍ وهؤلاء الذين ذكرتُم قد عايَنُوا انقضاض الكواكب فليس بمستنكرٍ أنْ تكون كانت إرهاصاً لمن لم يُخبر عنها ويحتجُّ بها لنفسه، فكيف وبشر بن أبي خازم حيّ في أيّام الفِجار، التي شهدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بنفسه، وأنّ كنانة وقُريشاً به نُصروا.

وسنقول في هذه الأشعار التي أنشدتموها، ونُخبِر عن مقاديرها وطبقاتها، فأما قوله:
فانقضَّ كالدُّرِّي من متحدِّرٍ= لمْعَ العقيقةِ جُنْحَ ليل مُظلمِ
فخبّرني أبو إسحاق أن هذا البيت في أبياتٍ أخر كان أسامة صاحب رَوْح بن أبي هَمَّام، هو الذي كان ولَّدها، فإن اتَّهمت خبر أبي إسحاق فسمِّ الشّاعرَ، وهات القصيدة، فإنَّه لا يُقبل في مثل هذا إلاّ بيتٌ صحيح صحيح الجوهَرِ، من قصيدةٍ، صحيحة لشاعر معروف، وإلاّ فإن كلَّ من يقول الشِّعر يستطيعُ أن يقول خمسين بيتاً كل بيتٍ منها أجودُ من هذا البيت.

وأسامة هذا هو الذي قال له رَوْحٌ:
اسقِني  يا iiأُسامَهْ مِنْ رحيق مُدامَهْ
اسْـقـنيها فإنِّي كـافرٌ  iiبالقيامَهْ
وهذا الشعر هو الذي قتله، وأمَّا ما أنشدتم من قول أوس بن حجر:
فانقضَّ كالدريء يتبعه نَـقْعٌ يثُور تخالُه طُنبا
وهذا الشّعر ليس يرويه لأوسٍ إلاّ من لا يفصِل بين شعر أوس بن حجر، وشُريح ابن أوس، وقد طعنت الرُّواة في هذا الشِّعر الذي أضفْتموه إلى بشر بن أبي خازم، من قوله:
والعير يرهقها الخبارُ وجَحْشهـا = ينقضُّ خلفهما انقضاض الكوكبِ
فزعموا أنه ليس من عادتهم أن يصِفوا عََدْو الحمار بانقضاض الكوكب، ولا بَدَن الحمار ببدن الكوكب، وقالوا: في شعر بشر مصنوعٌ كثير، مما قد احتملتْه كثيرٌ من الرُّواة على أنَّه من صحيح شعره، فمن ذلك قصيدته التي يقول فيها:
فرجِّي الخيرَ وانتظِري إيابي إذا مـا الـقارِظُ العَنَزِيُّ iiآبا
وأما ما ذكرتم من شعر هذا الضَّبِّي، فإنَّ الضّبيَّ مخضرم.
وزعمتم أنَّكم وجدتُم ذِكْر الشُّهب في كتب القُدماء من الفلاسفة، وأنّه في الآثار العُلْوية لأرسطاطاليس، حين ذكر القول في الشُّهب، مع القول في الكواكب ذوات الذوائب، ومع القول في القَوس، والطَّوق الذي يكون حول القَمَر بالليل، فإن كنتم بمثل هذا تَستعِينونَ، وإليه تفزعون، فإنّا نوجدكم من كذب التَّراجمة وزيادتهم، ومن فساد الكِتاب، من جهة تأويل الكلام، ومن جهة جهْل المترجِمِ بنقل لغةٍ إلى لغة، ومن جهة فَسادِ النَّسخ، ومن أنه قد تقادمَ فاعترضَتْ دونه الدُّهورُ والأحقاب، فصار لا يؤمن عليه ضروبُ التّبديل والفساد، وهذا الكلام معروفٌ صحيح.

وأما ما رويتم من شعر الأفوه الأوديّ فلعمري إنّه لجاهليّ، وما وجدْنا أحداً من الرُّواة يشكُّ في أن القصيدة مصنوعةٌ، وبعد فمِنْ أين علم الأفْوهُ أنّ الشهب التي يراها إنما هي قذْفٌ ورجْم، وهو جاهليٌّ، ولم يدَّعِ هذا أحدٌ قطُّ إلا المسلمون? فهذا دليلٌ آخر على أن القصيدة مصنوعة رجع إلى تفسير قصيدة البهراني ثم رجع بنا القولُ إلى تفسير قصيدة البهرانيّ: وأما قوله:
جـائـباً للبحار أُهدي iiلِعِرْسي فُـلفلاً  مجتنًى وهَضْمة iiعِطْر
وأحلّي  هُرَيْرَ مِنْ صدف iiالبَحْ ر وأسْقي العِيال من نيل مِصرِ
فإن الناس يقولون: إن السَّاحر لا يكون ماهراً حتَّى يأتى بالفلْفُل الرّطب من سرنديب، وهُريرة: اسم امرأته الجنِّيّة.

وذكر الظِّبي الذي جعله مَرْكبه إلى بلاد الهند، فقال:
وأجـوبُ  الـبلاد تحتيَ iiظبيٌ ضـاحـكٌ سِـنُّه كثيرُ iiالتَّمرِّي
مُـولـج  دَبْـرَهُ خَـوَايَة iiمَكْوٍ وهو باللَّيل في العفاريت يَسْري

يقول: هذا الظَّبي الذي من جُبْنِهِ وحذره، من بين جميع الوَحْش، لا يدخل حَراه إلا مستدبِراً، لتكون عيناه تلقاء ما يخاف أن يغشاه هو الذي يسري مع العفاريت باللَّيل ضاحِكاً بي هازئاً إذا كان تحتي.

وأما قوله:
يحسَبُ النَّاظِرُون أني ابنُ ماءٍ ذاكـرٌ عُـشَّـهُ بـضَفّةِ iiنَهْرِ

فإن الجنّيَّ إذا طار به في جوِّ السماء ظنَّ كلُّ من رآه أنّه طائر ماء. 

*زهير
21 - فبراير - 2006
رد مطاعنهم في الآية فمثله كمثل الكلب    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 

وقال في الحيوان (ص 119)

وسنذكر مسألة كلاميَّة، وإنَّما نذكرها لكثرة من يعترض في هذا ممَّن ليس له علم بالكلام، ولو كان أعلمُ الناس باللغة، لم ينفعك في باب الدين حتّى يكون عالماً بالكلام، وقد اعترض معترضون في قوله عزّ وجل: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبأ الَّذي آتيناهُ آياتنا فانسلخَ منها فأتبعه الشيطانُ فَكَانَ من الْغاوين، وَلوْ شئنا لَرَفَعناهُ بِهَا وَلكنَّهُ أخْلدَ إلى الأرض واتَّبَع هَوَاهُ فمثُلهُ كمثل الكلب إنَ تحْمِلْ عَلَيه يَلهثْ أو تَتْركْهُ يلهثْ ذلك مَثلُ القومِ الَّذين كذَّبوا بآياتنا" فزَعَموا أنَّ هذا المثَلَ لا يجوزُ أن يُضرَب لهذا المذكور في صدر هذا الكلام، لأنه قال: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنا فَانْسَلَخَ مِنْهَا"، فما يُشبَّه حالُ من أُعطي شيئاً فلم يقبله - ولم يذكر غير ذلك - بالكلب الذي إن حملتَ عليه نبح وولى ذاهباً، وإن تركته شدَّ عليك ونبح، مع أنّ قوله: يلهث، لم يقع في موضعه، وإنما يلهث الكلب من عَطشِ شديد وحرٍّ شديد، ومن تعب، وأما النُّباح والصِّياح فمن شيء آخر، قلنا له: إن قال "ذلكَ مَثَلُ القَومِ الَّذين كذَّبوا بآياتنا"، فقد يستقيم أن يكون الرادّ لا يسمَّى مكذباً، ولا يقال لهم كذَّبوا إلا وقد كان ذلك منهم مراراً، فإن لم يكن ذلك فليس ببعيد أن يشبَّه الذي أوتي الآيات والأعاجيب والبرهانات والكرامات، في بدء حرصه عليها وطلبه لها، بالكلب في حرصه وطلبه، فإنَّ الكلبَ يُعطي الجِدَّ والجُهْد من نفسه في كلِّ حالةٍ من الحالات، وشبَّه رفضه وقذفه لها من يديه، وردَّه لها بعد الحرص عليها وفرط الرغبة فيها، بالكلب إذا رجع ينبح بعد إطرادك له، وواجبٌُ أن يكون رفض قبول الأشياء الخطيرة النفيسة في وزن طلبهم والحرصِ عليها، والكلب إذا أتعب نفسه في شدَّة النُّباح مقبلاً إليك ومدبراً عنك، لهث واعتراه ما يعتريه عند التَّعب والعطش، وعلى أنَّنا ما نرمي بأبصارنا إلى كلابنا وهي رابضةٌ وادعة، إلا وهي تلهث، من غير أن تكون هناك إلا حرارة أجوافها، والذي طُبعت عليه من شأنها، إلا أنَّ لهث الكلب يختلف بالشدَّة واللِّين.

*زهير
21 - فبراير - 2006
رد مطاعنهم في أجنحة الملائكة    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
قال في الحيوان (ص 240):
وقد طعن قومٌ في أجنحة الملائكة، وقد قال اللّه تعالى: "الحَمْد للّه فاطرِ السَّموَاتِ والأرض جَاعلِ الْمَلاَئكَةِ رُسُلاً أُولي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ في الخَلْقِ مَا يشَاءُ". وزعموا أنَّ الجناحين كاليدين، وإذا كان الجناح اثنين أو أرْبَعَة كانتْ معتدلة، وإذا كانت ثلاَثة كان صاحبُ الثَّلاثةِ كالجادِفُ من الطَّير، الذي أحدُ جناحَيه مقصوص، فلا يستطيع الطّىران لعدم التعديل، وإذا كان أحدُ جناحيه وافياً والآخرُ مقصوصاً، اختلفَ خَلْقُه وصار بَعْضُه يذهب إلى أسفْلَ والآخر إلى فوق.
وقالوا: إنَّما الجناحُ مثل اليد، ووجدنا الأيديَ والأرجل في جميع الحيوان لا تكون إلاَّ أزواجاً، فلو جعلتمْ لكُلِّ واحدٍ منهم مائَة جَناحٍ لم نُنْكِرْ ذلك، وإن جعلتموها أنقصَ بواحدٍ أو أكثرَ بواحدٍ لم نجوِّزه.
قيل لهم: قد رأينا من ذوات الأربع ما ليسَ له قَرن، ورأينا ما له قرْنَان أملسان، ورأينا ما له قرنان لهما شُعَبٌ في مقاديم القرون، ورأينا بعضَها جُمّاً ولأخَواتِها قرون، ورأينا منها ما لا يقال لها جُمٌّ لأنَّها ليست لها شكلُ ذواتِ القرون، ورأينا لبعض الشاء عِدَّةَ قرون نَابتةٍ في عظم الرَّأس أزواجاً وأفراداً، ورأينا قرُونًاً جُوفاً فيها قرون، ورأينا قروناً لا قرونَ فيها، ورأيناها مُصمََتَة، ورأينا بعضَها يتصُل قَرْنُه في كلِّ سنة، كما تسلخ الحيَّةُ جلدَها، وتنفضُ الأشجارُ ورقها، وهي قُرون الأيائلِ، وقد زعموا أنَّ للحِمار الهنديِّ قرناً واحداً.
وقد رأينا طائراً شَديدَ الطيران بلا ريشٍ كالخُفاش، ورأينا طائراً لايطير وهو وافي الجَناح، ورأينا طائراً لا يمشي وهو الزَّرزور، ونحن نُؤْمن بأنَّ جعفَراً الطَّيارَ ابنَ أبي طالب، له جناحان يطير بهما في الجِنان، جُعِلا له عوضاً من يديه اللتين قطعتا على لواء المسلمين في يوم مؤتة، وغير ذلك من أعاجيب أصناف الخلق.
فقد يستقيم - وهو سهلٌ جائزٌ شائع مفهوم، ومعقول قريبٌ غير بعيد أن يكون إِذا وُضع طباع الطائر على هذا الوضع الذي تراه ألاّ يطير إلاّ بالأزواج، فإذا وُضع على غير هذا الوَضع، وركِّب غيرَ هذا التَّركيب صارت ثلاثة أجنحة وَفُوق تلك الطبيعة، ولو كان الوَطواط في وضْعِ أخلاطه وأعضائه وامتزاجاته كسائر الطير، لما طار بلا ريش.
الطير الدائم الطيران وقد زعم البَحْريّون أنّهم يعرفون طائراً لم يسقط قطّ، وإنما يكون سقوطه من لدُنْ خروجهِ من بيضه إلى أن يتمَّ قصبُ ريشه، ثم َّ يطير فليس له رِزق إلاّ من بعوض الهواء وأشباه البَعوض؛ إلاّ أَنَّهُ قصيرُ العمر سريعُ الانحطام.
بقية الحديث في أجنحة الملائكة وليس بمستنكر أن يُمزَج الطائر ويُعْجَن غيرَ عجْنه الأوَّل فيعيش ضعفَ ذلك العُمر، وقد يجوز أيضاً أنْ يكونَ موضعُ الجَناح الثالث بين الجَناحين، فيكون الثالث للثاني كالثاني للأوّل، وتكون كلُّ واحدةٍ من ريشةٍ عاملةً في التي تليها من ذلك الجسم فتستوي في القوى وفي الحِصص.
ولعَلَّ الجَناح الذي أنكره الملحدُ الضَّيِّقُ العَطَن أن يكونَ مركزُ قوادِمِهِ في حاقِّ الصُّلب.
ولعَلَّ ذلك الجناح أن تكون الريشة الأولى منه معينة للجنَاح الأيمن والثانية معينة للجناح الأيسر، وهذا مما لايضيقُ عنه الوهم، ولا يعجِز عنه الجواز.
فإذا كان ذلك ممكناً في معرفة العبد بما أعاره الربُّ جلّ وعزَّ، كان ذلك في قدرة اللّه أجوز، وما أكثر من يضيقُ صدرُه لقلَّة علمه.
وقد علموا أنَّ كلّ ذي أربعٍ فإنّه إذا مَشى قدّم إحدِى يديه، ولا يجوز أن يستعمل اليَد الأخرى ويقدِّمها بَعْدَ الأولى حَتّى يستعمل الرِّجل المخالفة لتلك اليد: إنْ كانت اليدُ المتقدّمة اليمنى حرَّكَ الرِّجْلِ اليسرى، وإذا حَرّك الرجل اليسرى لم يحرِّك الرِّجْل اليمنى - وهو أقْرَبُ إليها وأشبه بها - حَتَّى يحرِّك اليَدَ اليسرى، وهذا كثير.
وفي طريقٍ أخرى فقد يقال: إنَّ كلَّ إنسانِ فإنما رُكْبَته في رِِجله، وجميعَ ذوات الأربَع فإنَّما رُكبها في أيديها، وكلُّ شيء ذي كفِّ وبَنان كالإنسان، والقرد، والأسد، والضَّبّ، والدُّب، فكفُّه في يده، والطَّائر كفّه في رجله.
استعمال الإنسان رجليه فيما يعمله في العادة بيديه وما رأيتُ أحداً ليس له يَدٌ إلاّ وهو يعمل برجليه ما كان يعمل بيديه، وما أقف على شيء من عمل الأيدي إلاّ وأنا قد رأيتُ قوماً يتكلّفونه بأرجلهم.
ولقد رأيتُ واحداً منهم راهنَ على أن يُفرِغ برجليه ما في دَسْتيجة نبيذ في قنانيَّ رِطليَّات وفقَّاعِيّات فراهنوه، وأزعجني أمرٌ فتركته عند ثقات لا أشك في خبرهم، فزعموا أنّه وَفَى وزاد، قلت: قد عرَفتُ قولَكم وفى فما معنى قولكم زاد قالوا: هو أنّه لو صبَّ من رأس الدّستيجة حوالي أفواه القنانيّ كما يعجِز عن ضَبطه جميعُ أصحاب الكمال في الجوارح، لما أنكرنا ذلك، ولقد فرَّغ ما فيها في جميع القناني فَما ضيّعَ أوقيَّةً واحدة.
قيام بعض الناس بعمل دقيق في الظلام وخبَّرني الحزَاميُّ عن خليل أخيه، أنّه متى شاء أن يَدْخُلَ في بيِت ليلاً بلا مصباح، ويفرغ قربة في قنانيّ فلا يصبُّ إستاراً واحداً فعله.
ولو حكى لي الحزاميُّ هذا الصَّنيعَ عن رجل وُلِد أعمى أو عمي في صباه، كان يعجبني منه أقلُّ، فأمّا من تعوّد أن يفعل مثل ذلك وهو يبصر فما أشدَّ عليه أن يفعله وهو مغمَض العينين، فإن كان أخوه قد كان يقدر على ذلك إذا غمَّض عينيه فهو عندي عجب، وإن كان يبصر في الظلمة فهو قد أشبه في هذا الوجه السِّنّورَ والفأر، فإنَّ هذا عندي عجبٌ آخر وغرائب الدُّنيا كثيرة عند كلّ من كان كلفاً بتَعرافها، وكان له في العلم أصلٌ، وكان بينه وبين التبَيُّنِ نَسَب.
وأكثر الناس لا تجدّهم إلاَّ في حالتين: إمّا في حالِ إعراض عن التبيُّن وإهمال للنّفس، وإمَّا في حالِ تكذيبٍ وإنكارٍ وتسرّع إلى أصحاب الاعتبار وتتبُّعِ الغرائب، والرغبةِ في الفوائد، ثمَّ يرى بعضهم أنَّ له بذلك التكذيب فضيلةً، وأنّ ذلك بابٌ من التوقِّي، وجنسٌ من استعظام الكذب، وأنّه لم يكن كذلك إلاَّ من حاقِّ الرَّغبةِ في الصِّدقِ، وبئس الشيء عادة الإقرار والقبول، والحقُّ الذي أمر اللّه تعالى به ورغب فيه، وحثَّ عليه أن ننكر من الخبر ضربين: أحدهما ما تناقَضَ واستحال، والآخر ما امْتنع في الطِبيعة، وخرج من طاقة الخلقة، فإذا خرج الخبرُ من هذين البابين، وجرى عليه حكم الجواز، فالتدبير في ذلك التثبت وأن يكون الحقُّ في ذلك هو ضالّتك، والصِّدق هو بُغيتك، كائناً ما كان، وقَع منك بالموافقةِ أم وقع منك بالمكروه، ومتى لم تعلم أَنّ ثوابَ الحقِّ وثمرَة الصِّدق أجدى عليك من تلك الموافقةِ لم تقَع على أن تعطِي التثبتَ حَقّه.
*زهير
21 - فبراير - 2006
رد مطاعنهم في ملك سليمان    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 

قال في الحيوان (ص 320):
ثمَّ طعَن في مُلك سُليمانَ ومَلِكةِ سبإ، ناسٌ من الدُّهريَّة، وقالُوا: زعمتم أنَّ سُليمان سأل ربَّه فقال: "رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ منْ بَعْدِي" وأنَّ اللّه تعالى أعطاه ذلك، فملَّكه على الجنِّ فضلاً عن الإنْس، وعلَّمه منطِق الطَّير، وسخَّر له الرِّيح، فكانت الجِنُّ له خَوَلاً، والرِّياحُ له مسخرة ثمَّ زعمتم وهو إمّا بالشَّام وإمَّا بسَوَادِ العِراق أنَّه لا يعرف باليمن مَلِكَةً هذه صفتُها، وملوكُنا اليومَ دونَ سليمانَ في القدْرة، لا يخفى عليهم صاحب الخَزَرِ، ولا صاحبُ الروم، ولا صاحبُ الترك، ولا صاحبُ النُّوبة، وكيف يجهل سليمانُ موضِعَ هذه المِلكة، مع قرْبِ دارِها واتِّصَالِ بلادها وليس دونَها بحارٌ ولا أوعارٌ؛ والطريق نهجٌ للخُفِّ والحافر والقدَم، فكيف والجنُّ والإنسُ طوعُ يمينه، ولو كان، حين خبَّره الهدهدُ بمكانها، أضرَب عنها صفحاً، لكان لقائلٍ أن يقول: ما أتاه الهدهدُ إلاّ بأمرٍ يعرفه، فهذا وما أشبهَهُ دليلٌ على فساد أخباركم.
قُلنا: إنّ الدُّنيا إذا خلاّها اللّه وتدبيرَ أهلها، ومجاريَ أمورِها وعاداتها كان لعمري كما تقولون، ونحن نزعمُ أنَّ يَعْقوبَ بنَ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ كَانَ أنبَهَ أهْلِ زمانِه؛ لأنّه نبيٌّ ابنُ نبيٍّ، وكان يوسُف وزير مَلِكِ مصر من النَّباهة بِالموضع الذي لا يُدفَع، وله البُرُدُ، وإليهِ يرجع جوابُ الأَخبار، ثمَّ لم يعرِفْ يَعقوبُ مكانَ يوسُفَ، ولا يوسفُ مكانَ يَعقوبَ عَليهما السلام - دهراً من الدُّهور، مع النَّباهةِ، والقُدْرةِ، واتِّصال الدار وكذلك القولُ في موسى بنِ عمرانَ ومَنْ كَانَ معه في التِّيه، فقد كانوا أمَّةً من الأمم يتَكَسَّعُونَ أربعين عاماً، في مقدارِ فراسخَ يسيرةٍ ولا يهتدون إلى المخرج، وما كانت بلادُ التِّيه إلاّ من ملاعبهم ومُنْتَزَهاتهم، ولا يعدم مثلُ ذلك العسكرِ الأَدلاّءَ والجَمَّالين، والمُكارِينَ، والفُيُوجَ، والرُّسلَ، والتّجار، ولكنَّ اللّه صَرَفَ أوهامَهم، ورفع ذلك الفَصْلَ مِن صدورهم.وكذلك القول في الشَّياطين الذين يسترِقون السّمْعَ في كلِّ ليلة، فَنَقُولُ: إنَّهم لو كان كلما أراد مُريدٌ منهم أن يصعَدَ ذَكَرَ أنَّه قد رُجم صاحبُه، وأنَّه كذلك منذ كان لم يصل معه أحدٌ إلى استراقِ السَّمْع، كان مُحالاً أن يرومَ ذلك أحَدٌ منهم مع الذِّكر والعِيان.
ومثل ذلك أَنّا قد علمْنا أنّ إبْليسَ لا يزالُ عاصِياً إلى يومِ البَعث، ولو كان إبْليسُ في حال المعْصِيَة ذَاكِراً لإخبارِ اللّه تَعالى أنَّه لا يزالُ عاصياً وهو يَعلم أنّ خَبرَه صِدقٌ، كان محالاً أنْ تدعُوَه نفسُه إلى الإيمانِ، ويطمَعَ في ذلك، مع تصديقِهِ بأنّه لا يختار الإيمانَ أَبداً.
ومن المحال أن يجمَع بين وجودِ الاستطاعة وعدم الدَّواعي وجواز الفعل. ولو أنّ رجلاً عَلِم يقيناً أنّه لاَ يخرُج من بيتِه يومَه ذلك، كان محالاً أن تدعُوَه نفسه إلى الخروج، مع علمه بأنّه لا يفعل، ولكِن إ بْليس لما كانَ مصروفَ القَلبِ عن ذِكْر ذلك الخبر، دخل في حَدِّ المستطيعين، ومثل ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لَمّا بشره اللّه بالظّفرِ وتمام الأمر بشرّ أصحابَه بالنَّصر، ونزولِ الملائكة، ولو كانوا لذلك ذاكرين في كلّ حالٍ، لم يكن عليهم مِنَ المحاربة مؤونة، وإذا لم يتكلفوا المؤونة لم يؤجَروا، ولكِنّ اللّه تَعالى بنظره إليهم رَفَع ذلك في كثيرٍ من الحالات عن أوهامهم؛ ليحتملوا مشقَّة القِتال، وهم لا يعلمون: أيغلِبُون أم يُغْلَبون؛ أو يَقْتُلُونَ أم يُقتلون،ومثل ذلك ما رفع من أوهام العَرب، وصرف نفوسهم عن المعارَضَةِ للقرآن، بَعْدَ أنْ تحدَّاهم الرَّسولُ بنظْمه، ولذلك لم نَجِدْ أحَداً طمِع فيه، ولو طمِعَ فيه لتَكلفه، ولوتكلف بَعضهُمْ ذلك فجاء بأمر فيه أدنى شُبهة لعظمت القصَّة على الأعْراب وأشباه الأعراب، والنِّساءِ وأشباه النساء، ولأَلقَى ذلك للمسلمين عملاً، ولطَلبوا المحاكمةَ والتراضي ببعض العرب، ولكثُر القيلُ والقال، فقد رأيتَ أصحابَ مُسيْلمَة، وأصحاب ابن النواحة إنما تَعَلّقُوا بما ألَّف لهُمْ مُسَيلمة من ذلك الكلام، الذي يَعلمُ كلُّ مَن سَمِعه أنَّه إنَّما عَدا على القرآن فسلَبه، وأخَذَ بَعضَه، وتَعاطى أن يُقَارِنَه، فكان للّه ذلك التَّدبيرُ، الذي لا يبلغه العِبَادُ ولو اجتَمَعوا له، فإنْ كان الدُّهريُّ يريدُ من أصحَابِ العِبَادَاتِ والرُّسُلِ، ما يريد من الدُّهريِّ الصِّرفِ، الذي لا يُقِرُّ إلا بما أوجَدَه العِيان، وما يَجري مَجرَى العِيان فَقَدْ ظَلَمَ.وقَد علم الدُّهريُّ أنّنا نعتقِد أنّ لنا رَبّاً يخترع الأجسامَ اختراعاً وأنّهُ حَيٌّ لا بحياة، وعالمٌ لا بعلم، وأنّه شيءٌ لا ينقسم، وليس بذِي طُول ولا عرْض ولا عُمق، وأنّ الأنبياء تحيي الموتى، وهذا كلُّه عنْدَ الدهريِّ مستنكَر، وإنَما كان يكون له عَلَيْنَا سبيل لو لم يكن الذي ذكرنا جائِزاً في القِياس، واحتجْنا إلَى تثبيت الرُّبوبيَّةِ وتصديقِ الرِّسالة، فإذا كان ذلك جائِزاً، وكانَ كونُه غيرَ مستنكَرٍ، ولا محالٍ، ولا ظُلم، ولا عيبٍ، فلم يبقَ له إلاّ أنْ يسألَنَا عن الأصْلِ الذي دعا إلى التَّوحِيدِ، وإلَى تثبيت الرسل،وفي كتابِنا المنزّل الذي يدلُّنا على أنّه صِدْقٌ، نَظْمُه البدِيع الذي لايقدِر على مثله العباد، مَعَ ما سِوَى ذلك من الدّلائِلِ التي جَاء بها مَنْ جَاء به، وفيه مسطورٌ أنّ سليمانَ بنَ داودَ غبَرَ حِيناً وهو ميّت معتمِداً على عصاه، في الموضع الذي لا يُحْجَب عنه إنْسِيٌّ ولا جِنِّيٌّ، والشَّياطينُ مهُمْ المَكْدُودُ بالعَمَل الشديد، وَمِنْهُمْ المحبوسُ والمستعبد، وكانوا كما قال اللّه تعالى: "يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجَوَابِي وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ" وقال "وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ في الأَصْفَادِ"، وَأَنَّهُ غَبَرَ كذلك حيناً وهو تُجاهَ أعيُنِهم، فلا هُمْ عرَفُوا سجيَّةَ وُجوهِ الموتَى، ولا هو إذْ كان ميِّتاً سقَط سُقوطَ الموتى، وثبتَ قائِماً معتمداً على عصاه، وعصاه ثابتةٌ قائمةٌ في يده، وهو قابضٌ عليها، وليستْ هذه الصِّفَةُ صفَة موتانا، وقال: "فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ المُهِينِ" ونحنُ دونَ الشَّياطينِ والجِنِّ في صِدْق الحسِّ، ونُفوذِ البصر، ولوْ كُنَّا مِن بعضِ الموتى بهذا المكان، لما خَفَي علينا أَمرُه وكان أدنى ذلك أنْ نظنَّ ونرتاب، ومتى ارتابَ قومٌ وظَنُّوا وماجُوا وتكلموا وشاوروا، لَقِنُوا وثُبِّتُوا، ولا سيَّما إذا كانوا في العذاب ورأوْا تَبَاشِيرَ الفرَج، ولولا الصَّرْفة، التي يُلقيها اللّه تعالى على قَلْبِ مَنْ أَحَبَّ، ولولا أنّ اللّه يقدِرُ على أنْ يشغَلَ الأوهامَ كيف شاء، ويذكِّر بما يشاء، ويُنَسِّي ما يشاء، لما اجتمع أهلُ داره وقصْره، وسُورِه ورَبَضِه، وخاصَّتُه، ومن يخدُمه من الجنِّ والإنْس والشَّياطين، على الإطباق بأنَّه حَيٌّ، كذلك كان عندهم، فحدث ما حَدَثَ من موته، فلمَّا لم يشعُروا به كانوا على ما لم يزالوا عليه، فعِلمْنا أنَّ الجنَّ والشّياطينَ كانت تُوهِم الأغبياء والعَوَامَّ والحُشْوَة والسِّفلة، أنَّ عندهما شيئاً من عِلْمِ الغيب والشياطين لا تعلم ذلك فأراد اللّه أَنْ يكشِف من أمْرهم للجُهَّال ما كان كَشَفَه للعلماء، فبهذا وأشباهه من الأمور نحنُ إلى الإقرار به مضطرون بالحجَج الاضطراريَّة فليس لخصومنا حِيلةٌ إلاَّ أن يواقِفُونَا، وينظروا في العلَّة التي اضطرتنا إلى هذا القول؛ فإن كانت صحيحةً فالصَّحيحُ لا يُوجِب إلا الصحيح، وإنْ كانت سقيمةً علِمْنا أنَّما أُتِينَا من تأويلنا، وأما قوله: "لأُعَذِّبَنَّهُ" فَإنَّ التعذيبَ يكون بالحبس، كما قال اللّه عزّ وجلّ: "لوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا في الْعَذَابِ المُهِينِ"، وإنَّما كانُوا مُخَيَّسِينَ،وقد يقول العاشق لمعشوقتِه: يا معذِّبتي وقد عذّبتني ومن العذَابِ ما يكُونُ طويلاً، ومِنْه ما يكونُ قصيرَ الوقْت، ولو خَسَفَ اللّه تَعالى بقومٍ في أقلَّ من عُشْر ساعة لجاز لقائل أن يقول: كان ذلك يومَ أحلَّ اللّه عذابَه ونِقمَتَه ببلاد كذا وكذا.

 

*زهير
21 - فبراير - 2006
رد مطاعنهم على الآية: إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
قال في الحيوان (ص 325):
وقد تكلم المخالِفُون في قولِهِ تعالى: "وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأتِيهِمْ كَذلكَ نَبلُوهُمْ بِمَا كانُوا يَفْسُقُونَ" وقد طعَنَ ناسٌ في تأويل هذه الآيَةِ، بغِيرِ علمٍ ولا بيانٍ، فقالوا: وكيف يكون ذلك وليس بين أن تجيء في كلِّ هلال فرقٌ، ولا بينها إذا جاءت في رأس الهلال فرقٌ، ولا بينَها إذا جاءتْ في رأس السَّنَةِ فرق.
هجرة السمك وهذا بحرُ البَصرةِ والأُبلّة، يأتيهم ثلاثةَ أشهرٍ معلومة معروفة من السنة السَّمكُ الأسْبور، فيعرفون وقتَ مجيئهِ وينتَظِرُونه، ويَعرِفون وقتَ انقِطاعِه ومجيءِ غيره، فلاَ يمكث بهم الحالُ إلاَّ قليلاً حتَّى يُقْبِلَ السَّمكُ من ذلك البحر، في ذلِكَ الأوان، فَلاَ يَزَالونَ في صَيْدٍ ثَلاَثَةَ أشهرٍ معلومةٍ من السَّنَةِ، وذلِكَ في كلِّ سنةٍ مرَّتين لكل جنس، ومعلومٌ عندهم أنه يكون في أحد الزمانين أسمَنَ، وهو الجُواف، ثمَّ يأتيهم الأسْبور، على حساب مجيء الأسبور والجُوَافِ، فأمّا الأَسْبور فهو يقطع إليهم من بلادِ الزِّنج، وذلِكَ مَعْرُوفٌ عند البحْريِّينَ، وأنَّ الأَسْبور في الوقت الذي يقطَع إلى دِجلةِ البصرة لا يوجَد في الزِّنج، وفي الوقت الذي يُوجَدُ في الزنج لا يوجد في دِجلة، وربَّما اصطادُوا منها شيئاً في الطريق في وقت قطعِهَا المَعْرُوفِ، وفي وقت رجوعها، ومَع ذلِكَ أصنافٌ من السمك كالإرْبيان، والرَّقّ، والكَوْسَج، والبرد، والبَرَستُوج، وكلُّ ذلك معْرُوف الزَّمانِ، متوقعُ المخرَج،وفي السَّمكِ أوابدُ وقواطع، وفيها سيّارةٌ لا تقيم، وذلك الشبَهُ يُصابُ، ولذلك صارُوا يتكلمُونَ بخَمْسةِ السنة، يهذُّونها، سوى ما تَعَلَّقُوا به من غيرها، ثمَّ القواطع من الطير قد تأتينا إلى العِراق منهم في ذلك الإبَّان جماعاتُ كثيرةٌ، تَقْطَعُ إلينا ثمَّ تَعُودُ في وقتها.
رد على المعترض
قُلْنا لهؤلاء القَوْم: لَقَدْ أَصبتم في بَعض ما وصفتم، وأخْطأْتم في بَعضٍ، قال اللّه تعالى: "إذْ تَأتِيهمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأتِيهمْ" ويومُ السبتِ يدورُ مَعَ الأسابيعِ، والأَسابيعُ تدور مع شهورِ الْقَمَرِ، وهذا لا يكونُ مَعَ استواءٍ من الزمان، وقد يكون السبتُ في الشتاء والصَّيف والخريف، وفيما بين ذلك، ولَيْسَ هذا من باب أزمان قواطع السَّمكِ وهَيْجِ الحَيَوان وطلب السِّفاد، وأزمان الفلاحَةِ، وأوقاتِ الجزْر والمَدِّ؛ وفي سبيل الأَنواء، والشجر كيْفَ يَنْفُضُ الوَرَق والثمار؛ والحيّاتِ كَيف تَسلُخُ، والأيائِلُ كَيف تُلقي قُرونَها، والطيرِ كيف تَنطق ومتى تسكت، ولو قال لَنَا قائل: إني نَبِيٌّ وقُلْنَا لَهُ: وما آيتك? وعلامتك? فقال: إذا كان في آخر تَشرين َالآخِرِ أقبل إليكم الأسْبُور من جهة البحر، ضَحكُوا منه وسخِروا بِه،ولو قال: إذَا كانَ يَوْمُ الجمعَة أو يومُ الأحَد أقبل إلَيكم الأسْبُور، حَتَّى لا يزالُ يصنع ذلك في كلِّ جمعة علِمْنا اضطراراً إذَا عايَنَّا الذي ذَكَرَ على نَسَقه أنّه صادق، وأنَّه لم يعلمْ ذلك إلاّ من قِبَلِ خالِق ذلك، تعالى اللّه عن ذلك، وقد أقرَرْنا بعجيبِ ما نرى من مطالع النُّجوم، ومن تناهي المدِّ والجزْر على قدر امتلاءِ القمر، ونُقصانه وزيادته، ومحاقه واستراره، وكلُّ شيءٍ يأتي على هذا النَّسقِ من المجارِي، فإنَّمَا الآيةُ فيه لِلَّهِ وحدَه على وحدانيَّته، فإذا قال قائلٌ لأهل شريعةٍ ولأهل مُرسًى، من أصحابِ بحرٍ أو نهرٍ أو وادٍ، أو عينٍ، أو جدولٍ: تأتيكم الحِيتانُ في كلِّ سبت، أو قال: في كلِّ رمضان، ورمضانُ متحوِّلُ الأزمانِ في الشِّتاءِ والصيف والرَّبيعِ والخريفِ، والسَّبتُ يتحوَّل في جميع الأزمان، فإذا كان ذلك كانتْ تلك الأعجوبةُ فيه دالةً على توحيد اللّه تعالى، وعلى صِدقِ صاحب الخبَر، وأنَّه رسولُ ذلك المسخِّر لذلك الصِّنف، وكان ذلك المجيءُ خارجاً من النَّسق القائم، والعادةِ المعروفة، وهذا الفرقُ بذلك بَيِّنٌ، والحمدُ للّه.
*زهير
21 - فبراير - 2006
رد مطاعنهم على الآية: فمنهم من يمشي على بطنه    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 

قال في الحيوان (ص 359):
إنَّ ناساً زعموا أنّ جميع الحيوان على أربعة أقسام، شيء يطير، وشيءٍ يمشي، وشيء يعوم، وشيءٍ ينساح. وقد قال اللّه عزَّ وجلَّ: "وَاللّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ، يَخْلُقُ اللّهُ مَا يَشَاءُ". وقد وَضَعَ الكلامَ على قسمة أجناس الحيوان، وعلى تصنيف ضروبِ الخلْق، ثمَّ قَصَّرَ عن الشيء الذي وضعَ عليه كلامَهُ، فلم يذكر ما يطير وما يعومُ، ثمَّ جعل ما ينساحُ، مثلُ الحيَّاتِ والدِّيدان، ممَّا يمشي؛ والمشي لا يكون إلاّ برجل، كما أنَّ العضّ لا يكون إلا بفمٍ، والرَّمْح لا يكون إلاَّ بحافر؛ وذكر ما يمشي على أربعٍ، وها هنا دوابُّ كثيرةٌ تمشي على ثمانِ قوائِمَ، وعلى ستٍّ، وعلى أكثرَ من ثمانٍ، ومَن تفقَّدَ قوائِمَ السَّرطانِ وبناتِ وَرْدَانَ، وأصنافَ العناكب عرَفَ ذلك.

قلنا: قد أخطأتم في جميع هذا التَّأويل وَحَدِّه، فما الدَّليلُ على أنَّهُ وضع كلامَهُ في استقصاءِ أصناف القوائِم? وبأيِّ حُجةٍ جزَمْتم على ذلك? وقد قال اللّه عزَّ وجلّ: "وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ" وتَرَكَ ذِكْرَ الشَّيَاطِينِ وَالنَّارُ لهُمْ آكَلُ، وعذابُهم بها أشدُّ، فَتَرَكَ ذِكرَهم من غير نسيان، وعلى أنَّ ذلك معلومٌ عند المخاطب، وقد قال اللّه عزَّ وجلّ: "خَلَقكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً" أخرج من هذا العموم عيسى ابنَ مريم، وقد قَصَدَ في مخرَج هذا الكلام إلى جَميعِ ولِد آدمَ، وقال: "هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً" أدَخَلَ فيها آدمَ وحوَّاءَ، ثمَّ قال على صلة الكلام: "إنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيه" أخرج منها آدمَ وحوَّاءَ وعيسى ابنَ مريمَ.

وحَسنُ ذلك إذ كان الكلامُ لم يُوضَع على جميع ما تعرفه النُّفوسُ من جهةِ استقصاءِ اللَّفظ، فقوله: "فَمِنْهُمْ مَنْ يَمشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمشِي عَلَى أَرْبَعٍ" كان على هذا المثال الذي ذكرنا، وعلى أنّ كُلَّ شيءٍ يمشي على أربع فهو مما يمشي على رجلين، والذي يمشي على ثمانٍ هو مما يمشي على أربعٍ، وعلى رجلين وإذا قلت: لي على فلان عشرة آلاف درهم، فقد خبَّرت أنّ لك عليه ما بين درهمٍ إلى عشرة آلاف.

وأمَّا قولكم: إنَّ المشي لا يكون إلاَّ بالأرجل، فينبغي أيضاً أنْ تقولوا "فَإذَا هِيَ حَيّةٌ تَسْعَى" إنّ ذلك خَطأ؛ لأنَّ السَّعي لا يكون إلاّ بالأرجل.
وفي هذا الذي جهِلتموه ضروبٌ من الجواب: أمّا وجهٌ منه: فهو قولُ القائل وقول الشَّاعر: ما هُوَ إلاَّ كَأَنهُ حيّة وكأنّ مِشيته مِشْيةُ حيّة يَصِفُونَ ذلك، ويذكرون عِنْدَهُ مِشيةَ الأيم والحُبَابِ، وذكورِ الحيَّات، وَمَنْ جَعَلَ للحَيّاتِ مَشياً من الشعراء، أكثرُ من أن نقف عليهم، ولو كانوا لا يسمُّون انسيابَها وانسياحَها مشياً وَسَعْياً، لكان ذلك مما يجوزُ على التشبيه والبدل، وَأَنْ قَامَ الشيءُ مقامَ الشيءِ أو مقام صاحبه؛ فمن عادة العرب أن تشبِّه به في حالاتٍ كثيرة، وقال اللّه تعالى: "هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ" والعذاب لا يكون نزُلاً، ولكِنّهُ أجراه مُجْرَى كلامهم، كقول حاتمٍ حينَ أمرُوهُ بِفَصْدِ بعيرٍ، وَطَعَنه في سَنامه، وقال: هذا فَصْدُهُ.

وقال الآخر:
فقلتُ يا عمرُو اطْعِمَنِّي تَمْرَا فـكـان تمْري كَهْرَةً iiوَزَبْرَا

وذمَّ بعضهم الفأرَ، وذكرَ سوءَ أثرِها في بيته، فقال:
يا عَجّلَ الرَّحْمنُ بالعقابِ لِعامرات البيتِ iiبالخرابِ

يقول: هذا هو عمارتُها، كما يقول الرّجُل، ما نَرَى مِنْ خيرك وَرفْدِك إلاّ ما يبلُغُنا منْ حَطبك علينا، وفتِّكَ في أعضادِنا.
وقال النَّابغة في شبيهٍ بهذا، وليس به:
ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفهم بِـهِنّ  فلولٌ من قِراعِ الكتائب
ووجهٌ آخر: أنَّ الأعرابَ تزعُمُ - وكذلك قال ناسٌ من الحوَّائين والرَّقائين - إنّ للحيَّة حزوزاً في بطنه، فإذا مَشَى قامت حُزُوزُه، وإذا تَرَكَ المشْيَ تراجَعتْ إلى مكانها، وعادتْ تلك المواضعُ مُلْساً، ولم تُوجَدْ بِعَيْنٍ ولا لَمْس، ولا يبْلغها إلاَّ كلُّ حَوَّاءٍ دقيقِ الحِسِّ.
وليس ذلك بأعجَبَ من شِقْشِقَةِ الجمل العربيِّ؛ فإنّه يظهرُها كالدَّلْو، فإذا هو أعادها إلى لَهَاتِهِ تراجَعَ ذلك الجلدُ إلى موضعه، فلا يقدِرُ أحدٌ عليه بلمْسٍ ولا عَين، وكذلك عروق الكُلَى إلى المثانة التي يَجْرِي فيها الحَصَى المتولِّد في الكُلية إذَا قَذَفَتْهُ تلك العروقُ إلى المثانة، فإذا بال الإنسانُ انضمّت العروقُ واتَّصلت بأماكنها، والتحمتْ حتى كان موضعُها كسائِر ما جاوز تلك الأماكن.
ووجهٌ آخر: وهو أنَّ هذا الكلام عربيٌّ فصيح؛ إذ كانَ الذي جاءَ به عربيّاً فصيحاً، ولو لم يكنْ قرآناً من عند اللّه تبارك وتعالى، ثمَّ كان كلامَ الذي جاء به، وكان ممّن يجهل اللَّحنَ ولا يعرفُ مواضعَ الأسماء في لُغته، لكان هذا - خاصَّةً - ممَّا لا يجهلُه.
فلو أنَّنا لم نجعل لمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فضيلة في نُبُوَّةٍ، ولا مزيَّةً في البيان والفصاحة، لكُنَّا لا نجد بُدّاً من أن نعلم أنَّهُ كواحدٍ من الفصحاءِ، فهل يجوزُ عندكم أن يخطئَ أحدٌ منهم في مثلِ هذا في حديثٍ، أو وصفٍ أو خُطبةٍ، أو رسالة، فيزعُمَ أن كذا وكذا يمشي أو يسعى أو يطير، وذلك الذي قال ليس من لُغته ولا من لغة أهله? فمعلومٌ عندَ هذا الجواب، وعند ما قبله، أنَّ تأويلَكُمْ هذا خطأ.
وقال اللّه عزَّ وجلَّ: "إنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُون" وأصحابُ الجنّة لا يوصفون بالشُّغُل، وإنَما ذلك جوابٌ لقول القائل: خبِّرني عن أهل الجنَّة، بأيِّ شيءٍ يتشاغلون? أم لهم فراغٌ أبداً? فيقول المجيب: لا، ما شُغُلهم إلاَّ في افتضاضِ الأبكار، وأكْلِ فواكه الجنَّة، وزيارةِ الإخوانِ على نجائب الياقوت .
وهذا على مثالِ جَوابِ عامر بنِ عبد قيس، حين قيل له وقد أقبل مِنْ جهة الحلبة، وهو بالشام: مَنْ سَبَقَ? قال: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قيل: فَمَنْ صَلَّى? قال: أبو بكر قال: إنَّمَا أسألك عن الخيل قال: وأنا أجيبك عن الخير.
وهو كقول المفسِّر حين سُئل عن قوله: "لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وعَشِيّاً" فقال: ليس فيها بُكرةٌ وعشيٌّ، وقد صدَقَ القرآنُ، وصَدَق المفسِّر، ولم يتَناكرا، ولم يتنافيا؛ لأنَّ القرآن ذهبَ إلى المقادير، والمفسِّرَ ذهبَ إلى الموجودِ، مِن دوَران ذلك مع غروب الشَّمس وطلوعِها.
وعلى ذلك المعنى رُوِي عن عمر أنَّهُ قال: مُتْعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أنا أنْهَى عنهما وأضربُ عليهما.
قد كان المسلمون يتكلمون في الصَّلاة ويطَبِّقُون إذا ركعوا، فنَهَى عن ذلك إمامٌ من الأئمَّةِ، وَضَرَبَ عليه، بعد أن أظهَرَ النَّسخ، وعرَّفهم أن ذلك من المنسوخ، فكأَنَّ قائلاً قال: أتنهانا عن شيءٍ، وقد كان على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيقول: نعم، وقد قدَّم الاحتجاجَ في النَّاسخ والمنسوخ.
ومن العجَب أنَّ ناساً جعلُوا هذا القولَ على المِنبرِ من عيوبه، فإن لم يكن المعنى فيه على ما وصفنا، فما في الأرضِ أجهلُ من عُمَرَ حين يُظهِرُ الكُفْرَ في الإسلام على مِنبر الجماعة، وهو إنَّما علاه بالإسلام، ثمَّ في شيءٍ ليس له حُجَّةٌ فيه ولا عِلة، وأعجَبُ منه تلك الأمّة، وتلك الجماعة التي لم تُنْكِرْ تلك الكلمةَ في حياته، ولا بَعْدَ موته؛ ثمّ تَرَكَ ذلك جميعُ التَّابعين وأتباعِ التَّابعين، حتَّى أفضَى الأمرُ إلى أهْلِ دهرنَا هذا.
وتلك الجماعة هم الذين قتلوا عُثمان على أن سيَّرَ رجلاً، وهذا لا يقوله إلاّ جاهلٌ أو معاند، وعلى تأويل قوله: "هذَا نُزُلُهمْ يَوْمَ الدِّين" قال: "جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهَادُ" وقال تعالى: "حَتَّى إذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هذَا، قَالُوا بَلَى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الْكَافِرِين" فجعل للنَّار خزائن، وجعل لها خزنة، كما جعل في الجنَّةِ خزائن وجعل لها خَزَنة. ولو أنَّ جهنَّمَ فُتحَتْ أبوابُهَا، ونُحّي عنها الخَزَنَة، ثمّ قيل لكلِّ لصٍّ في الأرض، ولكلِّ خائن في الأرض: دونَكَ؛ فقد أُبِيحَتْ لكلَمَا دنا منها، وقد جُعِل لها خزائنٌ وخَزَنة، وإنَّمَا هذا على مثالِ ما ذكرنَا، وهذا كثيرٌ في كَلاَمِ العَرَب.
والآيُ التي ذكرنا في صِدْقِ هذا الجواب، كلها حُجَجٌ على الخوارج في إنكارهم المنْزِلة بين المنزلتين.

*زهير
21 - فبراير - 2006
رد مطاعنهم على الآية: طلعها كأنه رؤوس الشياطين    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
قال في الحيوان (ص 543):
وقد قال الناس في قوله تعالى: "إنّها شَجَرةٌ تَخْرُجُ في أصْلِ الجحيمِ، طلْعُها كأَنَّهُ رُؤُوس الشَّياطِين"، فزعم ناس أنّ رؤوس الشياطين ثمر شجرةٍ تكون ببلاد اليمن، لها منظر كرِيه.
والمتكلّمون لا يعرفون هذا التَّفسير، وقالوا: ما عنى إلاّ رؤُوس الشياطين المعروفين بهذا الاسم، من فَسَقة الجن ومَرَدتهم، فقال أهل الطَّعن والخلاف: كيف يجوز أن يضرب المثل بشيء لم نرَه فنتوهَّمه، ولا وُصِفت لنا صورته في كتابٍ ناطق، أو خبر صادق، ومخرج الكلام يدلُّ على التخويف بتلك الصُّورة، والتفزيع منها، وعلى أنّه لو كان شيءٌ أبلغَ في الزَّجر من ذلك لذكَرَه، فكيف يكون الشَّأن كذلك، والناس لا يفزعون إلاّ من شيء هائل شنيعٍ، قد عاينوه، أو صوّره لهم واصفٌ صدوقُ اللسان، بليغٌ في الوصف، ونحن لم نعاينها، ولا صوَّرها لنا صادق، وعلى أنَّ أكثر الناس من هذه الأمم التي لم تعايشْ أهل الكتابين وحَمَلَة القرآن من المسلمين، ولم تسمع الاختلاف لا يتوهَّمون ذلك، ولا يقفون عليه، ولا يفزعون منه، فكيف يكون ذلك وعيداً عاماً?.
قلنا: وإن كنّا نحن لم نر شيطاناً قطّ ولا صوّر رؤوسها لنا صادقٌ بيده، ففي إجماعهم على ضرْب المثل بقُبح الشيطان، حتَّى صاروا يضعُون ذلك في مكانين: أحدهما أن يقولوا: لهو أقبح من الشيطان، والوجه الآخر أن يسمَّى الجميلُ شيطاناً، على جهة التطيُّر له، كما تُسمَّى الفرسُ الكريمةُ شَوهاء، والمرأة الجميلة صَمّاء، وقرناء، وخَنْساء، وجرباء وأشباه ذلك، على جهة التطيُّر له، ففي إجماع المسلمين والعرب وكلِّ من لقيناهُ على ضرْب المثل بقُبْح الشيطان، دليلُ على أنه في الحقيقة أقبحُ من كل قبيح.
والكتابُ إنَّما نزل على هؤلاء الذين قد ثبّت في طبائعهم بغاية التثبيت.
وكما يقولون: لهو أقبحُ من السحر، فكذلك يقولون، كما قال عمر بن عبد العزيز لبعض من أحسنَ الكلام في طلب حاجته - هذا واللّه السِّحر الحلال.
وكذلك أيضاً ربّما قالوا: ما فلانٌ إلا شيطان على معنى الشَّهامة والنَّفاذ وأشباه ذلك.
صفة الغول والشيطان والعامّة تزعم أنَّ الغول تتصوَّر في أحسن صورة إلا أنه لا بدَّ أن تكون رِجْلُها رجلَ حمارٍ.
وخبَّروا عن الخليل بن أحمد، أنّ أعرابيّاً أنشده:
وحـافـر  الـعَير في ساقٍ iiخَدَلَّجةٍ وجفنِ عينٍ خلاف الإنسِ في الطولِ

وذكروا أنّ العامَّة تزعم أنّ شقَّ عين الشيطان بالطول، وما أظنُّهم أخذوا هذين المعنين إلاّ عن الأعراب.
ردّ على أهل الطعن في الكتاب وأما إخبارهم عن هذه الأمم، وعن جهلها بهذا الإجماع والاتِّفاق والإطباق، فما القول في ذلك إلاّ كالقول في الزَّبانِية وخزنةِ جهنَّم، وصُورِ الملائكة الذين يتصوّرون في أقبح الصُّور إذا حضروا لقبْض أرواحِ الكفار، وكذلك في صور مُنكر ونكير، تكون للمؤمن على مثال، وللكافر على مثال.
ونحن نعلم أنّ الكفار يزعمون أنهم لا يتوهّمون الكلامَ والمحاجَّةَ من إنسان ألقي في جاحِم أتُّون فكيف بأن يُلَقى في نار جهنّم? فالحجّة على جميع هؤلاء، في جميع هذه الأبواب، من جهةٍ واحدة، وهذا الجوابُ قريبٌ، والحمد للّه.
وشقُّ فم العنكبوت بالطول، وله ثماني أرجل.
وتزعم الأعرابُ أن اللّه عزّ ذكره حين أهلك الأُمة التي كانت تسمَّى وبارِ، كما أهلك طسْماً، وجَدِيساً، وأميماً، وجاسماً، وعملاقاً، وثموداً وعاداً - أنَّ الجنّ سكنت في منازلها وحمتها من كلِّ مَنْ أرادها، وأنّها أخصبُ بلاد اللّه، وأكثرها شجراً، وأطيبُها ثمراً، وأكثرها حبّاً وعنباً، وأكثرها نخلاً وموزاً، فإن دنا اليومَ إنسانٌ من تلك البلاد، متعمِّداً، أو غالطاً، حَثوا في وجهه التراب، فإن أبى الرُّجوعَ خبلوه، وربّما قَتلوه.
والموضع نفسه باطل، فإذا قيل لهم: دُلُّونا على جهته، ووقِّفونا على حدِّه وخلاكُم ذمٌّ - زعموا أنّ من أراد أُلقي على قلبه الصَّرْفة، حتَّى كأنهم أصحابُ موسى في التِّيه، وقال الشاعر:
وداعٍ  دعا واللَّيلُ مرخٍ iiسُدوله رجاءَ القِرى يا مُسْلِمَ بن حمارِ
دعـا جُـعَلاً لا يهتدِي iiلمقيله مـن  اللؤم حتّى يهْتدي لوَبَارِ
فهذا الشاعرُ الأعرابيُّ جعل أرض وبارِ مثلاً في الضلال، والأعراب يتحدّثون عنها كما يتحدّثون عمّا يجدونه بالدَّوِّ والصَّمّان، والدهناء، ورمل يبرين، وما أكثر ما يذكرون أرض وبارِ في الشِّعر، على معنى هذا الشاعر.
*زهير
21 - فبراير - 2006
أدب الزنادقة ومصطلحاتها    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 

قال في الحيوان (ص 269) أثناء حديثه عن إنكار الرجل العامي ما لم يطرق سمعه من المعاني والألفاظ التي تمس الديانة:
(فإذا سمع أهل الكتاب يقولون: إنَّ عيسى ابن مريم أخَذَ في يده اليمنى غُرْفَةً، وفي اليسرى كِسرَةَ خبز، ثم قال: هذا أبي، للماءِ، وهذه أمِّي، لكسرة الخبز، استشنعه، فإذا سمعَ قولَ أميَّة:
والأرضُ نَوَّخَهَا الإله طَرُوقَةً لـلـماءِ حتَّى كل زَنْد iiمُسفَدُ

لم يستشنعه)

قال:
والأصل في ذلك أنّ الزّنَادِقَةَ أصحابُ ألفاظٍ في كتبهمْ، وأصحابُ تهويل؛ لأنَّهم حينَ عدِمُوا المعانيَ ولم يكن عندهم فيها طائل، مالُوا إلى تكلُّف ما هو أخْصَرُ وأيسرُ وأوجَزُ كثيراً.
ولكلِّ قَوْمٍ ألفاظٌ حظِيتْ عِنْدَهم، وكذلك كلُّ بليغٍ في الأرض وصاحِب كلامٍ منثور، وكلُّ شاعِرٍ في الأرض وصاحِبِ كلامٍ موزون؛ فلا بد من أن يكون قد لهجَ وألف ألفاظاً بأعيانها؛ ليديرَها في كلامه، وإن كان واسعَ العلمِ غزيرَ المعاني، كثيرَ اللَّفظ..
فصار حظُّ الزَّنَادِقَةِ من الألفاظ التي سبقتْ إلى قلوبهم، واتَّصلت بطبائعهم، وجَرتْ على ألسنتهم التناكحَ، والنتائِج، والمِزاج والنُّور والظلمة، والدفَّاع والمنَّاع، والساتر والغَامر، والمنحلّ، والبُطلان، والوِجْدان، والأَثير والصِّدِّيق وعمود السبح، وأشكالاً من هذا الكلام، فَصَارَ وإن كان غريباً مرفوضاً مهجوراً عنْد أهلِ ملَّتنا ودعوَتِنا، وكذلك هو عِنْدَ عوامِّنا وجمهُورنا، ولا يستعملهُ إلاّ الخَواصُّ وإلاَّ المتكلِّمون.

قال:
وأنا أقولُ في هذا قَوْلاً، وأرجو أن يكون مرضياً، ولم أقلْ أرجو لأني أعلمُ فيه خللاً، ولكنّي أخذتُ بآدابِ وجوهِ أهلِ دعوتي وملَّتي، ولغتي، وجزيرتي، وجيرتي؛ وهم العرب، وذلك أنّه قيل لصُحَارٍ العبديّ: الرجل يقول لصاحِبه، عنْدَ تذكيره أياديَه وإحْسانه: أما نحنُ فإنّا نرجو أن نكونَ قدْ بلغْنا من أداءِ ما يجبُ علينا مبلغاً مُرضِياً، وهُوَ يعلم أنّه قَدْ وفّاه حَقّه الواجبَ، وتفضّل عليه بما لا يجب، قال صُحار: كانوا يستحبُّون أن يَدَعُوا للقول متنفَّساً، وأن يتركوا فيه فضلاً، وأن يتجافَوا عن حَقٍّ إن أرادوه لم يُمنَعوا منه.
فلذلك قلت أرجو، فافهَمْ فَهّمَكَ اللّه تعالى.
فإنَّ رأيي في هذا الضّربِ من هذا اللفظ، أنْ أكونَ ما دمتُ في المعاني التي هي عبارتها، والعادَة فيها، أن ألفِظ بالشّيء العتيد الموجود، وأدَعَ التكلّفَ لِما عسى ألاَّ يسلس ولا يسهلَ إلاَّ بعد الرِّياضة الطويلة.
وأرى أنْ ألفِظ بألفاظِ المتكلمين ما دُمتُ خائضاً في صناعة الكلام مع خواصِّ أهل الكلام؛ فإن ذلك أفهمُ لهمْ عني، وأخفُّ لمؤنتهمْ عليّ.
ولكل صناعةٍ ألفاظ قد حَصلت لأهلها بَعدَ امتحان سواها، فلم تَلزَق بصِناعتهم إلاَّ بَعدَ أن كانَتْ مُشاكَلاً بينها وبين تلك الصناعة.
وقبيحٌ بالمتكلم أنْ يفتقر إلى ألفاظِ المتكلِّمين في خُطبةٍ، أو رسالة، أو في مخاطبةِ العوام والتجار، أو في مخاطبةِ أهله وعبْدِهِ وأمته، أو في حديثه إذا تحدثَ، أو خبره إذا أخبر.
وكذلك فإنّه من الخطأ أن يجلِبَ ألفاظ الأعرابِ، وألفاظ العوامّ وهو في صناعة الكلام داخل، ولكلِّ مقامٍ مقال، ولكلِّ صناعة شكل.

*زهير
21 - فبراير - 2006
ليس على الدين في الإقرار بالعلم مضرة    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 

قال في الحيوان أثناء كلامه عن تولد الذبان من الباقلاء: (وقد أنكر ناسٌ من العوامِّ وأشْباهِ العوامِّ أن يكونَ شيءٌ من الخلق كانَ من غير ذكرٍ وأنثى، وهذا جهلٌ بشأن العالَم، وبأقسام الحيوان، وهم يظنُّون أنَّ على الدِّين من الإقرار بهذا القول مضرَّةً، وليس الأمر كما قالوا، وكلُّ قولٍ يكذِّبُه العِيان فهو أفحش خطأ، وأسخَفُ مذهباً، وأدلُّ على معاندةٍ شديدة أو غفْلة مفْرطة.
وإنْ ذهب الذَّاهبُ إلى أن يقيس ذلك على مجازِ ظاهر الرَّأي، دونَ القطْعِ على غيب حقائق العِلل، فأجْرَاه في كلِّ شيء - قال قَوْلاً يدفعه العِيانُ أيضاً، مع إنكار الدِّين له.
وقد علمنا أنَّ الإنسانَ يأكُلُ الطّعامَ ويشرَبُ الشَّرابَ، وليس فيهما حيَّةٌ ولا دودةٌ، فيُخْلق منها في جوفِه ألوان من الحَيَّات، وأشكالٌ من الدِّيدان من غير ذَكرٍ ولا أنثى، ولكن لابدَّ لذلك الوِلادِ واللِّقاحِ من أنْ يكون عن تناكح طِباع، وملاقاة أشياءَ تشبه بطباعها الأرحامَ وأشياءَ تشبه في طبائعها ملقِّحات الأرحام).

 

*زهير
21 - فبراير - 2006
سبب نزول الآية: (يسألونك ماذا أحل لهم)    ( من قبل 1 أعضاء )    قيّم
 
قال في الحيوان: (ولما قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام لزيدِ الخيل مِن الخير ما قَال، وسمَّاه زيدَ الخير، ما سأله زيدٌ شيئاً، ولا ذكر له حاجة، إلاّ أنَّه قال: يا رسول اللَّه، فينا رجُلان يقال لأحدهما ذَرِيح، والآخر يكنى أبا دُجانة، ولهما أكلب خمسة تَصِيد الظباء، فما ترى في صيدهم? فأنزلَ اللَّه عزَّ وجلّ:"يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لُهمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعَلّمُونَهُنّ مَّما عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ"، فأوَّلُ شيءٍ يعظِّم في عينِك شأنَ الكلب، أنَّ هذا الوَافدَ الكريمَ الذي قِيل له ما قيل، وسُمِّي بما لم يسمَّ به أحد لم يسأَلْ إلاّ عن شأن الكلب، وثانية وهي أعظمها: أنَّ اللَّه تعالى أنزل فيه عند ذلك آياً مُحْكماً فقال: "أُحِلّ لَكمُ الطَّيِّبَاتُ" فسمَّى صيدَها طيّباً، ثم قال: "وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ" مخبراً عنْ قَبولها للتعليم والتأديب، ثم قال: "مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّه" ولولا أنَّ ذلك البابَ من التعليمِ والعلمِ مَرْضيٌّ عند اللَّه عزَّ وجلّ، لَمَا أضافه إلى نفسه، ثم قال: "فَكلُوا ممَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكمْ وَاذْكُروا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ" فأوَّلُ شيءٍ يعظُم به في عينك إمساكُه عليك، وهكذا يقول أَصحابُ الصَّيد، إنَّ كلِّ صائدٍ فإنَّما يُمسِك على نفسه إلاّ الكلبَ فإنّهُ يُمسك على صاحبه، ولو كان الجوابُ لزيد الخيل سُنَّةً من سُننَ النبي صلى اللَّه عليه وسلم لَكانَ في ذلك الرِّفعةُ، فكيفَ والكتابُ فوقَ السُّنّة، وقد روى هشام أنّ ابنَ عبَّاس سمَّى كِلابَ ذَريحٍ هذه وكلابَ أبي دُجانة فقال: المختلِس، وغلاَّب، والقَنيص، وسَلهب، وسِرْحان، والمتعاطِس..
*زهير
21 - فبراير - 2006

 
   أضف تعليقك