سامر أبو هواش
الطريق جميلة من خورفكان إلى دبي. في البداية يلوح لنا المحيط، ثم يختفي لتحلّ محله الجبال والوديان. عبد الحليم حافظ يغنّي: "أنا كل ما قول التوبة". بين دمعة وأخرى يحلّل لنا أحد الأصدقاء ما حاول بليغ حمدي فعله في هذه اللازمة اللحنية أو تلك. لا أريد لهذه الجبال أن تنتهي. ولا الأغنية. مؤلم أن يكون اليوم التالي جميلاً إلى هذا الحدّ، مسالماً إلى هذا الحدّ، دافئاً ومضيئاً: "وحشاني عيونو السودا... ومدوّبني الحنين".
الطريق بين الجبال تصعد وتهبط، وعرة أحياناً، وناعمة أحياناً أخرى، كلازمات الأغنية. أحتاج إليك لكي تحلّل لي هذه الجبال. أحاول أن أتذكّر قصيدة عامية لك أمضينا سهرات وسهرات وأنا أطلب منك كلّ مرة أن تعيدها عليّ، وكلّ مرة كنت تعيدها بشغف أكبر ونفس مختلف: لا أتذكّر سوى بدايتها ونهايتها، الباقي يظلّ ضائعاً في تلك الأماسي الضائعة: "أربع حمايم ع راس الجبل راحوا... تعبوا... ومن كتر التعب طاحوا".
وهل تذكر كم غنينا "سرّ حبي" لأبي بكر سالم؟ وذلك الانتباه في كلّ تفاصيل جسدك، ولا سيما في عينيك، وأنت تعيد المقاطع المفضّلة عندك فيها: "لا تعذّبني وإلا سرت وتركت المكلا... لك إذا ما فيك معروف".
***
بالأمس واريناك الثرى.
كان ليلٌ وبرد. وكان إكرامك دفنك.
وكم كنتَ تحبّ الليل وتكره البرد. "نحن أبناء الصيف والحرّ، إذا هبّت نسمة علينا نمرض"، كنت تقول لي، ثم تختم: "إنه برد الصحراء!"، وكأنّها حقيقة راسخة، ومؤسفة في حدّ ذاتها، "متى سينتهي هذا الشتاء؟".
***
الوجوه تحملق في تلك الحفرة الأعمق من كلّ الحفر.
نعرف أنها لن تقول شيئاً، ومع ذلك بقينا نحملق. بعضنا حاول أن يقترب أكثر، أن يقف على أطراف الحفرة. ليرى فحسب؟ بدونا كمن نقف حول سرير مرضك؟ كأننا نعوّض لحظات وداع لم نعشها. لحظات يكون بمقدورك أن تقول فيها شيئاً، ولو بإيماءة أو نظرة. "ألا يبدو أطول قامة؟"، يقول أحد الأصدقاء. "كانت تعلو وجهه ابتسامة الرضى"، يقول آخر. "أساطير"، يحسم ثالث. ونتوقّف قبل أن نفرط في التعليق على هذا النصّ، نصّ الموت، الأكثر امتناعاً على التعليق بين كلّ النصوص، المقفل على المناورات الكلامية والعاطفية. الأكثر نهائية وحسماً. كيف نعلّق فقط على نقطة في آخر الجملة. نقطة كبيرة إلى درجة أنها، في تلك اللحظات، تبدو أنها تمحو كلّ ما سبقها. وكل ما يمكن أن يأتي بعدها.
***
واريناك الثرى. كأننا نقول: خبّأناك عن الحياة.
***
لا أذكر أننا تكلمنا كثيراً على الموت. يروي لي صديق جالسك في مكانك المفضّل للكتابة وللقاء نوع آخر من المجالسين والأصدقاء، ذلك "الكوفي شوب" في فندق الدانا، أنك ذات مرة كدت تجلس على أحد الكراسي فبادرك قائلاً: "لا تجلس على هذا الكرسيّ، فمنذ عام كان يجلس عليه أحدهم وتوفي، ثم جلس عليه آخر بعد شهرين عليه وتوفيّ، وتبعه ثالث بعد بضعة أشهر". أتخيّل رنة ضحكتك بعد هذه "السالفة". أن ترى الموت في كرسيّ مجاور يعني ببساطة أن تقصيه إلى أبعد نقطة ممكنة التي هي أقرب نقطة ممكنة. يكفي ألا نجلس على كرسيّ معين لنراوغ الموت، لنجعله حكاية، طرفة، "سالفة" تروى لا أكثر، ثم يصرف كإبعاد فكرة مزعجة بإيماة يد.
لا أذكر كذلك أننا تكلمنا كثيراً بشأن الحياة، بالمعنى المباشر أو التأملي أو الفلسفي أو حتى بمعنى التذمّر والشكوى. لكنك كنت تكرّر كثيراً حلمك بالتقاعد، "خلاص كافي... يتقاعد المرء... يجلس ويكتب..."، كنت تقول، فالتقاعد من الوظيفة هو بداية أخرى لحياة الكتابة.
أما "الثقافة"، أيضاً بمعناها المباشر أو "الثقيل" الوطأة، فلماماً ما تكلمنا عليها. كنت تحبّ الحكايات، االطرف أو النوادر، وإذا حضرت "الثقافة" بيننا فمن هذه الزاوية فحسب. "هل تعرف ماذا حصل مع الكاتب الفلاني حين جاء إلى هنا؟ هذا يا سيدي...". وتبدأ بسرد "سالفة" لابدّ من أن يليها الوافر من الضحك، أو أن تقترب منه على الأقلّ، جنباً إلى جنب التعليق المرير الساخر أحياناً على وضاعة بعض المشتغلين بالثقافة العربية. السخرية كبلسم ضدّ كلّ شيء، ولاسيما ضدّ أن نصدّق ما نقوله نحن أنفسنا عن أنفسنا، أو الآخرين، أو الكتابة أو الحياة.
***
أما حين نتكلم على الشعر فالأمر مختلف تماماً. تصمت. تسمع باهتمام تام. تلتمع عيناك، وفي بعض الأحيان يكون قلبك ممتلئاً بما كتبت توّاً فلا تطيق صبراً وتسارع إلى قراءته بنفسك، لأنك لا تحبّ تلك اللحظات الثقيلة التي ينكبّ فيها الآخر بصمت على أوراقك، بينما أنت تنتظر فحسب. لا تطلب في الغالب مديحاً أو نقداً أو ما شابه. في مثل هذه الحالات يبدو وكأنك تبوح بسرّ شخصي، أو تروي حكاية أخرى. ربما مغامرة. وتريد أن تعرف وقع ذلك على من يقرأ أو يستمع. تلك اللحظات تكاد لا تنفصل عن لحظة كتابة القصيدة نفسها. عن فرحة كتابتها بالأحرى. بعد ذلك، في اليوم التالي أو اللقاء التالي، لا تأتي البتة على ذكر تلك القصيدة، ولا في أيّ يوم آخر. تضعها في مكان ما وتحاول أن تنساها قبل أن تقرّر في يوم ما أنه آن أوان العودة إليها وإجراء ما يلزم من تعديلات عليها، ربطاً بنصّ أكبر وأكثر اكتمالاً تعمل عليه ويشكّل شاغلك الحالي.
***
بالأمس، أيها الصديق، أكرمناك بدفنك.
فجأة، في طريق العودة، تصدمني الفكرة، الإحساس: إننا في اليوم الأول لموتك. ألا يشبه هذا قولنا: إنه اليوم الأول من حياة فلان أو فلانة. أليس من روزنامة للموت كما للحياة. اليوم الأول: شيء يمكن أن تلمسه، تحيط به، تحدّده، قبل أن يغدو الموت كتلة صمّاء من الأيام المتراكمة. ومع ذلك لا يختلف مثل هذا الموت عن المجزرة. قاصف، قاس، وعبثيّ كالمجزرة تماماً. حين يرحل فجأة قريب منك، حين تدفن فجأة قريباً منك، تشعر أنك شاركت بدفن جماعي، ويغدو مكان دفنك أشبه بمقبرة جماعية. كم كنتَ كثيراً يا أحمد!
***
كثير كنت كالأمواج، لا كالموج. أسألك يوماً وأنا أقرأ مخطوط أحد آخر أعمالك: "لماذا تجمع موجة على أمواج؟ لمَ لا تجمعها على موج؟"، تبتسم بظفر وفرح سريين: "لقد تقصّدت ذلك... أمواج تمنحني ذلك الإحساس بالوفرة والاتساع... كلمة موج ضيقة ومقفلة... أعرف أنها تبدو ثقيلة في بعض المواضع، لكنني أريدها كذلك... أمواج أجمل من موج". لم أفهم ذلك الإحساس بالوفرة والشساعة والاتساع في كلمة "أمواج" إلا هناك في خورفكان. هناك حيث المحيط لا البحر، لكنني لا أحسبك كنت تحبّ كلمة محيط، ربما لأنه أكثر شساعة ووحشية ومجهولاً مما يحتمل قلبك أو نظرك. كان دائماً البحر، كاحتضان، ودائماً أمواج البحر، كاحتضان لا ينتهي.
***
أما أنت يا صديقي فلم تكن إلا موجة مفردة، يتيمة، وحيدة، حنونة ودائمة الحنين، مادة ذراعها وقلبها إلى تلك الأمواج المتبدّدة، الغائبة، الراحلة، وإلى تلك الجبال المقضومة بذلك الإحساس الفاجع بالغياب. كان قاسياً أحياناً ذلك اليأس المتسرّب منك، لا من الحياة، بل من أوهام الحياة التي نصنعها بأنفسنا ونغذّيها بأوهام أخرى حتى نضيّع أثر الأوهام الأصلية. كان قاسياً وضوحك، صرامة نظرتك إلى الحياة وإلى الكتابة التي غدت في النهاية كلّ شيء لأنه الزمن الذي تعرفه أفضل مني والذي لن ينتظر. ثمة قصيدة على الطاولة، ثمة نصّ، ثمة حلم بنص وقصيدة، ثمة انتظار لحلم بنص وقصيدة. لا تملك الموجة ترف الانتظار أو التأجيل. قصير وعابر هو عمر الموجة،. لعلها كانت الحقيقة الأكثر نصوعاً بالنسبة إليك، وأنت تقفز من نصّ إلى نصّ ومن قصيدة إلى أخرى.
***
الأشجار ليست عارية. من بعيد يختفي جذع شجرة وأغصانها. تبدو الوريقات معلّقة وحدها في الهواء. عبد الحليم حافظ يغني. "ولا قادر طول غيبتكو يا بوي... يشرب من بحر تاني يا عين". تلك الوريقات ستظلّ معلقة هكذا في الهواء. ربما تطير. ربما تتحول طيوراً على الشرفات. ربما تسقط، لكنها لن تبلغ الأرض يوماً.